يرسم القاص المغربي في نصه متأملا قضية الحب كموضوع، راسماً علامات وواصفاً أطياف محبين بأجسادهم الحية غير المرئية إلا للسارد، متنقلا في الأمكنة والأزمنة والمصائر في عالم يفتقد للحب ويلهث خلفه.

حب مسروق

أيمن قشوشي

 

  • تمشي كراقصة باليه، تنثر العطر هنا وهناك. وكان هو يلتقطه قبل أن تدنسه الحياة. كانا يمسكان ببعضهما، جميلين جدا كأنياب جدتي. خفيفان يسيران، لا يلتفتان لأحد. كنت أنا من يلتفت لأعلن أنهما لي. كانا يمران من الشوارع دون أن يلحظهما أحد، لا سيارة تتوقف وتفزعهما بأضوائها الكاشفة، لا تماثيل أمام المقاهي تخبئ القطع الأثرية وتستحضرها أيام القحط. لا أعين لتتلصص على حبهما الرضيع. لا كرة تطيش لتصيب رأسه، لا أهل لها يترصدون ظله ليقتطفوه، وهي لا حبيب قديم يقتفي أثر وجودها على الأشياء ليرميها مع ولاعة في جيب سرواله.

كنت أنا فقط من يراهما، من يراقبهما ويحميهما. كان يلف كفه حول معصمها الأيسر، يتركها عن يمينه ويبقى هو من جهة الشارع الكبير الخالي. كان يمسك بها وكل مرة يضغط بقوة، تتحرك يده وتخنق كفها الصغير.يقترب أكثر من جسدها ليزاحم رائحتها الجريئة، يحاول أن يلف ذراعه حولها، فتهرب بغنج المومسات أيام أعياد الميلاد وتنثني كقوس قزح غير مكتمل. يحاول مجددا، فتنظر إليه بجدية الأخوات وصرامة الغربان وتبعد يدها قبل أن يمتص كل مائها وترميه القطة إلى الحافة.

يتأبطها الآن ويمتطي ذراعها. يتوقف فجأة وتنفلت منه .تتقدم سريعا كأنها لم تضيع نصفها في الطريق. لا يستمر الأمر طويلا، تنظر خلفها، تتحرك شفتاه فتبتسم مجيبة. تعود خطوتين إلى الخلف وتحمله فوق حصانها الأبيض.

ينظر العاشق إلى الحرف المتسخ على الحائط، يقبل حبيبته ويقول: سبـَقَنا اسمانا، نجمتان في السماء. انه القدر يا فراشتي وتصدقه الفراشة بغباء الفئران. يعانقها ويلتصقان كطابعين بريديين. يضع كفه على الحائط ليشكل ذراعه مع جسده زاوية قائمة ويقول لها: انظري إلى السماء، إنها الوحيدة التي تعلم بقدري، سأخبرك عن أحلامي هذا المساء.

هذا التكرار البئيس، حفر في دماغي مسارات لا تتغير، كل مرة يحاولان فيها إبداع قصة حب بتفاصيل جديدة بكلمات منحوتة، يعيشان الاختلاف لمدة ثم ينزلقان في أحد أخاديد ذاكرتي ليضيعا مع الآخرين. كنت أنا فقط من يخلق، من يصنع النهاية، وهي لا تتكرر. أبتسم وأبصق على الأرض المتسخة.

كنت عندما أنتهي من وجبة العشاء الدسمة، أرمي رجلي على كرسي مقابل وأتخيلني مكانه، لن أبحث عن الجديد، سأعيش البؤس بتفاصيله، بلهفة البداية وألم الفراق. امتهنت هاته الحرفة زمنا طويلا الى أن أصبحت أقسمهم: أن تحب امرأة بنفس عمرك تحد خاسر للزمن تكرار بئيس لنفس الذكريات. أن تحب امرأة أكبر من سنك كفر بإبداع الخلق. أن تحب امرأة أصغر من سنك إيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.تعلمت أن لا أسأل أي امرأة عن عمرها فالزمن جلاد الحب، إن أخطأها أصابني ومن يريد أن يحب لا يسأل عن تاريخ الميلاد.

لا أدري كلما شرعت في هذا التمرين الذهني إلا ووجدت الجو باردا جدا. هل لأن الحب يبدأ ساخنا وحارقا ككأس شاي شمالي ثم يحتضر ببطء ويتجمد كمكعبات الثلج الشفافة؟

كانت تنظر إليه بفرح وباعتزاز، وكأنها هي من يحصل على راتبها الأول. لم تكن تحبه، اعتبرته امتدادا لأصابعها الرقيقة، مكانا اقتطعته من فضائها، تشكله ، تجزئه، تسكنه وتهجره. تعيد رسم تضاريسه ومنحدراته كيفما أرادت. كانت تجزم أن لا اختيار ممكن غير الذي تقرره. كان ايمانها به ليليا، تخبو ناره صباحا، وتدفئه تحت ضوء القمر. تفكر له، تحميه من المطر وتمنع عنه الغول ليلا وتمسك بيده في الارتفاعات الشاهقة وتهمس في أذنه وتضمه بقوة ككماشة إن رحلت الشمس. وكان لا يمانع، كان مستسلما كالمملوك.

كان يتحسس في كل لحظة محفظته، وأخيرا امتلأت، اتسعت، كأصابع أمه. وأخيرا انتفخ جيبه ومعه امتلأ جسده. كان كتوما، هادئا رماديا كبومة، عيناه تتسعان لجميع ذرات العالم لينتقي منها ما يشاء، مقتصدا في كل شيء، لا يتحرك كثيرا، لا يتكلم طويلا، لا يقرأ بالمرة. لم يكن كسولا أو من دون طاقة. آمن بأنه منذور لأمر عظيم واستثنائي سيحتاج فيه لكل حبة رمل وشعاع شمس اختزنهما. لم يستطع تحديد أو تسمية هذا الموعود لكنه يعرف يقينا أنه سيأتي ولو بعد حين.

كانت هي فرصته واختباره، محنته التي تحجب عنه الوحي. اعتاد أن ينصت لها بصمت الناسك، وأن يترقب بهدوء الصنارة لحظة التجلي. لم يكن يهمه لا جمالها ولا أفكارها أو ما تخطط له، كانت موجودة لغاية وفقط. كان يرى في معارضتها أو مناقشتها هدرا غير مبرُّر لإمكاناته. لم توجد الا لتؤمِّن له حياة بسيطة وآمنة ، انتظر معها وبها الموعود . لم يحبها ولم يفكر أبدا في أن يحبها.

في يومه الأول من العمل، تغير شيء ما. شيء ما تحرك، ريشة سابحة، قبلة صامتة زعزعت توازنه الرتيب. اعتقد أن الموعود سيأتيه بغتة، سيقتحمه، سيصيبه بالدوخة والغثيان، سيسقطه مغشيا لأسبوع ويوم.لا شيء من هذا حصل، لكنه أحس أنه يعيشه. حياة تختفي ببطء وتزيح أخرى. تدفعها ببطء وتمحو وشومها.

اقتربتُ منه ببطء وتباث، اصطدم كتفي بجسده. نظرتُ إليهما ورأيتُ ملامحهما. كانا كالآخرين وكانا متشابهين، نفس الحاجبين كأنهما من شجرة واحدة.

أحس أن جيبه انبسط. لم ينتفض، لم يصرخ ولم يركض. انتقلت إلى الشارع المقابل واختفيت في الأيام.عرف موعوده وعاشه وسيؤجله للشهر المقبل.أما أنا فحياة واحدة لا تكفيني لترويض الزمن، لذا كل يوم أعيش موعودي من دون إيمان.