ينطلق الكاتب في مقالته من السؤال: هل كان نجيب محفوظ فردا أم مؤسسة؟ وكيف أنجز في عمر واحد هذا الرصيد الإبداعي؟ لينتقل إلى تناول مراحل كاشفة من سيرة الأديب المصري وخصوصية أدبه وعلاقته مع زمنه وفلسفة الزمن، وطبيعة صلته مع المؤسسة الدينة والسياسية والثقافية، واللغط الذي أثير حوله وحول جائزة نوبل التي حصل عليها.

نجيب محفوظ درس الكتابة والحياة

سعد القرش

 

ربما يسأل قارئ بعد مئة عام: هل كان نجيب محفوظ فردا أم مؤسسة؟ وكيف أنجز في عمر واحد هذا الرصيد الإبداعي؟ وما تفسير قدرته على اختصار أكثر من ثلاثمئة عام من مسيرة فن الرواية، منذ أن أطلقها ثربانتس؟ وماذا سيبقى من أعماله التي حقق بها قفزات حملته إلى الصدارة، ولا يزال؟

كاتب راهن على الزمن
ما يمكن الرهان عليه أن ما لا يقل عن خمسة عشر عملا لمحفوظ ستصمد في اختبار الزمن، وتحقق قول رالف والدو إمرسون (1803-1882): "ليس في العالم، في وقت واحد، أكثر من اثني عشر شخصا يقرأون أفلاطون ويفهمونه، وليس من بين هؤلاء من يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته، ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جيل إلى جيل من أجل هذه القلة من القراء، كأن الله يحملها لهم بين يديه".

ولكن أعمال محفوظ تمتاز بالجماهيرية، من دون التنازل عن عمق كاد يصيبه بالإحباط، والكفر بفكرة الكتابة، حين كانت أعماله تصدر فلا ينتبه إليها النقاد، وينصرف عنها القراء إلى غيره ممن لا تجد أعمالهم الآن من يعيد طباعتها مجانا، في حكمة بليغة لقسوة الزمن، وقدرته على الفرز والانتقاء.

تكفير الكاتب
رأيته للمرة الأولى، عقب فوزه بجائزة نوبل، رؤية لا لقاء. كان الدكتور مسعد صالح، زميلي آنذاك في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، قد هنأني "صاحبك فاز بنوبل". شعرت بالفخر، كأني الفائز. في كازينو قصر النيل صافحت نجيب محفوظ، مثل غيري، وخجلت أن أطلب توقيعه على كتاب غالي شكري "نجيب محفوظ: من الجمالية إلى نوبل".

تصورته في عنفوان أعماله وطلاقة لسان أبطاله، وفاجأني كلامه القليل، وضحكته المجلجلة، وتعليقه الذكي المقتضب حين ينقل إليه مصطفى أبوالنصر جملة قالها أحد على الطرف البعيد للطاولة. جاءت جلستي بجوار فرج فودة، وانفعلت عليه في حوار جانبي. كنت على "دين الإخوان"، رغم نشري قصصا قصيرة في مجلات ليبرالية وماركسية وصداقتي للكثير من رموز اليسار. اتسع لغضبي صدر فودة، وطلب أن نتكلم، وكتب على الصفحة الأخيرة في كتاب غالي شكري عنوانه ورقم هاتفه.

لم أذهب ولم أتصل، حتى فاجأني اغتيال فرج فودة، في 8 يونيو 1992، تنفيذا لفتوى أهدرت دمه، ولم أستوعب أن يدينه الشيخ محمد الغزالي، حين استدعته المحكمة للشهادة، فقال إن فودة "كافر ومرتد… ويجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان في هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليست عليه عقوبة".

وفي 14 أكتوبر 1994 كاد يلحق به محفوظ مغتالا أيضا بفتوى لعمر عبدالرحمن، ولكن الله سلم. وفي المستشفى زاره الغزالي، البطل المنتصر في قضية منع "أولاد حارتنا"، وفقا لرواية سليمان فياض، الذي كان يعمل بوزارة الأوقاف سكرتيرا للجنة "الدفاع عن الإسلام" مع الغزالي والسيد سابق. في المستشفى أدان الغزالي محاولة الاغتيال، وحضرت سيرة "أولاد حارتنا"، في الكلام، وقيل له إن المنع لم يحل دون انتشار الرواية، فعلق بخشونة "السموم والمخدرات أيضا تنتشر خلسة".

لم يتاجر محفوظ بمنع الرواية، ولم يسع لدى المستشرقين إلى التشهير بالسلطة أو المؤسسة الدينية. كان يراهن على الزمن، ويثق بأن من يريد قراءة الرواية سيبحث عنها، ويصل إليها، ويدرك أن موهبته أعز عليه من تبديد بعض منها في حروب يتمناها غيره، طلبا لشهرة لا تنقص محفوظ. “الذكاء المحفوظي” حدد ساحة معركته، الفن وحده، وكيف يتجاوز نفسه، ذلك الذكاء أنقذه كثيرا.

لم يتاجر محفوظ بمنع الرواية، ولم يسع إلى التشهير بالسلطة أو المؤسسة الدينية، بل كان يراهن على الزمن

كان الرجل عبقريا في الوعي بقدراته، وإدراكه أن الموهبة وحدها لا تكفي أن يكون المبدع عظيما، وإنما يلزمها دأب متواصل، وفهم عميق لقانون اللحظة التاريخية التي يريد الكتابة فيها أو عنها. كان يجد في نفسه الشجاعة على الصمت، حين يرتبك هذا القانون، أو يستغلق فهمه بسبب ضباب الرؤية، كما حدث في السنوات السبع التالية لثورة 23 يوليو 1952.

حارة الصبر
لم يزعم محفوظ أنه معاد للسلطة، أي سلطة، ففي الأربعينات كتب عن مجتمع بلا خيال، يتعرض للتآكل، ويجب أن ينهار، وظل يستشرف تغييرا ينتظره، هو والذين تابعوا مصير سي السيد. من القيادة الصارمة في "بين القصرين" إلى الانزواء والتهميش في "السكرية".

وفوجئ محفوظ الليبرالي بتحرك الجيش، وتغييره من أعلى وفي لمح البصر ما تمنى أن تغيره الكتابة، فكان صادقا مع نفسه، والتزم الصمت، احتراما لشرف الكتابة. لم يسع إلى كتابة "رواية اشتراكية" كما أعلن غيره، بل انتظر حتى يختبر ما تسفر عنه المقولات النظرية البراقة.

وبعد خيبة أمله، عاد بإبداع أثمره قانون اللحظة المرتبكة، فكانت "أولاد حارتنا"، ثم روايات "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"ثرثرة فوق النيل" وغيرها. لا يكتب الكاتب الحق إلا حين يفهم قانون اللحظة، حيث تكون الكتابة ضرورة. الصدق مع النفس، صمتا أو كتابة، درس محفوظي لا يعيه من لا يجدون الشجاعة على التوقف عن الكتابة في الوقت المناسب. ولو كان محفوظ قصير النفس، لاستغنى عن الأدب بغيره من فنون الكتابة، السيناريو مثلا.

محفوظ الذي شغلته فلسفة الزمن، انشغل بالآتي، وترفع عن ذهب أي "معز"، ولم يكن لسان أيّ سلطة، وكاد يتورط في "الكرنك".

لا يبارى محفوظ في قوة الاحتمال، والصبر على مكاره بدأت بالصمت النقدي الأول، ثم التطاول ممن كانوا في مقام المريدين، أحدهم وصف كتابته في منتصف الثمانينات بأنها ثرثرة عجائز، وآخر قال إنه تجاوز محفوظ ويوسف إدريس معا، وثالث استهان بمنجزه، وأسمعه بعض الشعراء سبابا صريحا بسبب آرائه السياسية. ضغوط نفسية عصيبة تؤدي إلى انهيار عصبي، ولكن محفوظ احتملها، كما احتمل مارلون براندو الحصار النفسي والفني بسبب آرائه السياسية. تسجل الصحفية الفرنسية ماري تيريز جينشار في كتابها عن عمر الشريف "الرجل الخالد" رأيها في براندو، وكيف كادت آراؤه السياسية المخالفة للاتجاه العام "تقضي عليه سينمائيا".

أما محفوظ فأنصفته، في وقت مناسب، نوبل. أنقذته شخصيا، وأعادت الاعتبار إلى أعماله، كما صارت لمن استعلوا عليه في السابق مشروعا استثماريا؛ يتحدثون باسمه، وينسبون إليه آراء، ويصدرون عنه الكتب.

محفوظ الذي شغلته فلسفة الزمن، انشغل بالآتي، وترفع عن ذهب أي "معز"، ولم يكن لسان أيّ سلطة، وكاد يتورط في "الكرنك"، وهي من أعماله قليلة القيمة فنيا، وأنجاه حل لئيم، فهي الرواية الوحيدة التي سجل في نهايتها تاريخ الانتهاء من كتابتها، "ديسمبر: 1971"، رغم نشرها عام 1974، قبيل انفتاح أكاذيب الهوس الساداتي لإغراق تجربة جمال عبدالناصر.

بوفاة محفوظ سقط اللغط حول آرائه، وهدأت أضواء نوبل، وقل الطلب على بضاعة المريدين الذين طال بهم العهد في استثمار الجائزة وصاحبها، وبقيت أعماله، وقد منحته مكانا بجوار مبدعين في تاريخ الإنسانية تسري مقولاتهم عابرة للأجيال واللغات، من سقراط "تكلم حتى أراك"، إلى المتنبي وشكسبير وكازانتزاكيس، وسارتر، ومحفوظ ... حتى لو كانت "آية حارتنا النسيان".

حين اندلعت ثورة 25 يناير 2011 استدعينا رد الشيخ عبدربه التائه في "أصداء السيرة الذاتية"، على سؤال: متى ينصلح حال البلد؟ بقوله "عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة". والآن، ونحن نمضي في هذا التيه المصري، نستدعي السطر الأخير في "أولاد حارتنا"، قبل يوم الخلاص الموعود، وقد بدأ بعض الشبان يختفون تباعا، وفرض ما يشبه حالة الطوارئ، "حتى باتت الحارة في جوّ قاتم من الخوف والحقد والإرهاب".