تشدد الباحثة على أن هايدغر حرر اللغة من الميتافزيقيا، ومن قيود النحو والمنطق؛ وكتاباته الفلسفية هي انزياح عن المفهوم التقليدي للغة، ذلك المفهوم الذي يتوافق مع التعريف "الحيواني" للإنسان ويحجب كل منها ماهية الإنسان ماهية اللغة. فالكلام الأصيل بيان وكشف، وكلام "الماهية" هو ما يطلق عليه هايدغر المقال.

في المقاربة الأنطولوجية للغة عند هايدغر

أمينة جلال

 

«يتصرف الإنسان كما لو كان مبدع اللغة وسيدها، في حين أن اللغة هي التي تهيمن عليه» (هايدغر)

«إن اللغة هي التي تتكلم والإنسان يتكلم فقط بقدر ما يستجيب للغة وهو يصغي لما تقوله» (هايدغر)

 

تتخذ مجاوزة الأفلاطونية مع هايدغر شكل تقصّ للأساس المنسي، من أجل تملك النسيان والإفلات من شباك الأنطوليولوجيا، بالانتقال من "السؤال الموجه" إلى "السؤال الأساسي"، أي من الحقيقة الأونطية إلى الحقيقة الأنطولوجية: حقيقة الوجود، اللأساس كمنبع لكل "يكون"، ولعبة الانكشاف والانحجاب التي تفلت من السؤال لماذا؟ كسؤال يتقصى السبب. ولا شك أن استعادة سؤال الوجود والعودة إلى "ماهية" الحقيقة أو أساس الميتافيزيقا هو أيضا دعوة لتجاوز نمط القول المنطقي إلى القول الذي يكون استجابة للكلام المتكلم أي لحقيقة الوجود أو القول الأكثر أصالة.

يتحدد الكلام في المفهوم المتداول، الذي ساد تاريخ الميتافيزيقا، كملكة وكخاصية إنسانية وكتعبير ويتأسس هذا المفهوم على تصور انتروبولوجي للغة، فهو يفترض وجود داخل يتخارج ووجود وظيفة تتمثل في الإخبار وتبليغ الأفكار والمشاعر. غير أن السؤال عن ماهية الكلام، سيأخذ في فكر الوجود معنى ومنحى آخر، ليصبح سؤالا عن موضع الكلام le site de la parole، وعن المنبع الذي يمنحه كينونته ويٌملِّك الإنسان خاصية التكلم. إن سؤال الكلام عند هايدغر لا ينفصل إذن عن السؤال الأول (سؤال الوجود) وقوة المقاربة الأنطولوجية للغة، تكمن في سعيها للعودة بنا إلى معنى أكثر أصالة للكلام: الكلام المحض والخالص أو «الكلام من حيث هو كلام»[1] la parole en tant que parole.

أن نحدد الكلام انطلاقاً من الكلام، لا يعني بالنسبة لهايدغر سوى العودة به إلى "الماهية". فالكلام من تحديدات الوجود الذي وهو يتكلم، يعطي الإنسان القدرة على التكلم، لذلك فهو يقول في عبارة يعتبرها العبارة الموجهة له، في تلمسه لدرب الكلام «ماهية الكلام: كلام "الماهية"»[2]. تؤخذ كلمة ماهية في الشطر الأول من العبارة في حمولتها الميتافيزيقية، التي تدل على ما به يقوم الكلام أي جوهره quiddité (essentia)، الذي يعبر عنه في المفهوم Concept. أما في الشطر الثاني فتؤخذ كلمة "ماهية " wesen بمعنى الدوام والبقاء والاستمرار، غير أن هذا الذي يستمر ويدوم ليس هو ما تصورته الميتافيزيقا من خلال تأويلاتها المختلفة، بل هو الفعل الذي يمنح ويعطي باستمرار.

وحين يحمل الكلام على "الماهية" محددة على هذا النحو، يعني ذلك أن التكلم من صميم الوجود، غير أنه لا يكون ضجيجاً من الأصوات وتخريجاً لداخل يزخر بالأفكار والمشاعر، بل قولا dire «القول dire والتكلم parler ليسا مثيلين، يمكن للمرء أن يتكلم ويتكلم إلى ما لا نهاية، من دون أن يقول شيئاً وعلى العكس من ذلك يمكنه أن يلوذ بالصمت، أن لا يتكلم ولكن وهو لا يتكلم يكون بإمكانه قول الكثير»[3].

ليس الكلام إذن ضجيجاً من الأصوات والكلمات. الكلام في معناه الأصيل بيان وإظهار وكشف، وكلام "الماهية" هو ما يطلق عليه هايدغر المقال la dite (die sage) «المقال إظهار montrer، الإظهار وهو يهيمن في كل الأنحاء، يسمح بتجلي ما يأتي إلى الحضور ويسمح باختفاء ما يغادر الحضور»[4]. المقال يحيل إلى الفسحة l'éclaircie كمجال للعبة الانكشاف والاحتجاب، القدوم والانسحاب. في الفسحة ينقال بمعنى يظهر كل حضور وكل غياب. القول كإظهار هو ما يصفه هايدغر من خلال الفعل approprier، الذي يفيد إعطاء الخاصية لما يأتي إلى الحضور-ولما يغادره-، بحيث يظهر بما هو عليه وفي تمام ماهتيه وإعطاء الخاصية appropriement يتجاوز كل فعل لأنه «العطاء ذاته»[5].

وإذا ما كان الإنسان هو الكائن الذي يتكلم، فذلك لأن نمط كينونته وإقامته تعود إلى الفعل الذي يهب ويعطي الخاصية، فالوجود هو الذي يحمل الإنسان لملاقاة الكلام والإجابة عنه بترديده أي «بحمل المقال الصامت إلى رجع الكلام»[6]، والإنسان يتكلم إذن لأنه يقيم في الكلام، وهو يتكلم بقدر ما يصغي إلى تكلم الكلام. وإذا ما كان يقيم علاقة مع الموجود، فذلك لأنه يسمح للمقال بأن ينقال، هذا السماح هو أصل كل تمثل بشري للموجود. الكلام البشري ترديد وهذا يعني أنه حين يتكلم يكرر أي يقول ثانية redire وفي ترديده للأنشودة الصامتة تكمن حظوته باعتباره قريب الوجود.

الإنسان يتكلم لأنه الموجود المعني «بالكلام المتكلم» la parole parlante، أي أنه الموجود المنادى عليه من قبل الوجود، بيد أن كلامه لا يكون كلاماً إلا بمقدار ما يكون إصغاء أصيلاً للكلام الأصلي واستجابة له وتوافقا معه «يتكلم الإنسان بمقدار ما يجيب عن الكلام. أن نجيب معناه أن نصغي. يكون هناك إصغاء حيث يكون الانتماء إلى إيعاز الصمت»[7]. هذا ما كان يقصده هرقلطس وهو يتحدث عن الإنصات للوغوس، بمعنى الانخراط فيما قيل وتحمل الإقامة في الانكشاف وفي قلب حقيقة الوجود. إن المقال وبالرغم من أنه هو منبع الكلام البشري، يظل وإلى الآن لا متكلماً وقلة هم من دون شك هؤلاء الذين ينصتون حقاً: المفكرون والشعراء فهم «يسهرون على المأوى وسهرهم هذا إنجاز لانكشافية الوجود، من حيث إنهم، من خلال قولهم، يحملون هذا الانكشاف إلى اللغة ويصونونه داخلها»[8].

تحمل المقاربة الهايدغرية للغة، خلخلة لفلسفة اللغة واللسانيات ولكل علم يجعل من اللغة ملكة إنسانية ونسقاً من العلامات وأداة للتواصل. لقد انتهى التأويل الميتافيزيقي للغة، من خلال المنطق والنحو والعلوم، إلى إفراغ الكلام من ثرائه وإلى تحول اللغة في الأزمنة الحديثة، وفي عصر التقنية وبفعل الفكر الحسابي وعبر عملية الصورنة Formalisation، إلى أداة للسيطرة على الكائن، ليفقد الكلام القدرة على التكلم وليغدو مجرد ثرثرة وضجيج من الكلمات، وهو ما يعني بالنسبة لهايدغر أن ماهية اللغة تظل تفلت من إنسان الميتافيزيقا وأن تجربة الكلام تظل تمتنع عن العقل الحاسب.

التكلم بمعنى القول الذي يظهر هو أنشودة العطاء الصامتة و«اللغة هي مسكن الوجود الذي يقيم الإنسان في كنفه»[9]، فالإنسان يقيم في الكلام وأن يتكلم يعني ذلك أن يصون المأوى وأن يردد الأنشودة بحملها إلى رجع الكلمات وفي الشعر العظيم نعثر، حسب هايدغر، على هذا المعنى الأصيل للكلام. إن القول الشعري يسمي الأشياء، غير أن التسمية هنا، لا تكون مجرد كلمات أو نعوت نضيفها على الأشياء أو مجرد علامات لسانية للدلالة على الموجودات «أن نسمي يعني ذلك أن ننادي بالاسم. للتسمية نداء ودعوة تجعل المنادى أكثر قربا»[10] إن التسمية في مناداتها للأشياء، تتوجه إليها في بعدها وفي غيابها لتدعوها إلى الحضور وفي استجابتها وقدومها ينعكس «العالم». إن الشاعر الشادي حين يسمي الشيء أو الموجود، يدفع به لأن يكون ما هو عليه ولأن ينكشف في تمام ماهيته. فهو ينشد الأنشودة أو يردد الكلام كقول وإظهار Montrer، لذلك يقول هايدغر عن الشعر إنه «تأسيس الوجود من خلال الكلام»[11]، وهو حين يدعونا إلى تجربة الكلام يكون المقصود بذلك، أن ندع الكلام الذي يعنينا يأتي إلينا، يصيبنا وأن نتحمل الإقامة فيه وأن نتعاطاه بأن «نحمل إلى الكلام من حيث هو الكلام»[12].

لا شك أن عملية تحرير اللغة من التأويل الميتافزيقي ومن قيود النحو والمنطق، تستدعي جهدا ومثابرة وعملاً لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، وهذا ما تكشف عنه كتابات هايدغر نفسها في سعيها للانزياح عن المفهوم التقليدي للغة، ذلك المفهوم الذي يتوافق مع التعريف "الحيواني" للإنسان ويحجب كل منهما ماهية الإنسان ماهية اللغة، «إننا نرى في الصوت أو الكتابة جسم الكلمة ونرى في اللحن والإيقاع النفس كما نرى في الدلالة عقل اللغة. نحن نفكر عادة في اللغة في توافق مع ماهية الإنسان وقد تم تمثله كحيوان عاقل. غير أنه مثلما يظل الوجود المنفتح Ek-sistence محتجبا في إنسانية الإنسان الحيواني... كذلك التأويل الميتافيزيقي للغة على النمط الحيواني يحجب ماهيتها التاريخية الأنطولوجية»[13]. غير أن تجاوز التعريف المتداول للغة، لا يعني استبداله بتعريف آخر أو تعديله وتصحيحه أو تنفيذه، فهو يظل ضرورياً ضرورة الميتافيزيقا، باعتبارها قدر الوجود وتاريخه، فما يهدف إليه هايدغر وهو يسائل اللغة، هو العودة بها إلى أساسها الماهوي، وإلى منبع حصولها التاريخي الأصيل وذلك لأن أفول اللغة وإفراغ الكلام من ثرائه في عصر اكتمال الميتافيزيقا يحيل إلى الخطر الذي يتهدد ماهية الإنسان والذي يكمن في اغترابه عن مواطنه. إن كل إنجازات الإنسان الثقافية، لم تمكنه إلى الآن من الإقامة الحقة فوق هذه الأرض. يتجلى ذلك في «انسحاب الآلهة وتخريب الأرض وتدجين الإنسان وانتشار كل ما هو رديء ومبتذل»[14]. إن مشكلة الإقامة لا تكمن في أزمة السكن التي يشهدها عصرنا هذا، والمتمثلة في قلة المشاكل، بل في كون الإنسان لم يبلغ بعد ماهية الإقامة «إن أزمة السكن الحقيقية لا تكمن في نقص المساكن... الأزمة الحقيقية للسكن تقوم في أن البشر مازالوا يبحثون عن ماهية الإقامة وأنه يتوجب عليهم بدء تعلم الإقامة»[15].

الهوامش
[1] - Heidegger : "la parole" in Acheminement vers la parole, p18 , Gallimard 1976.

[2] - Heidegger: "le déploiement de la parole" in Acheminement…, op cité, p. 185.

[3] - Heidegger: "le chemin vers la parole" in Acheminement…, op cité, p. 239.

[4] - Ibid, p. 244.

[5] - Ibid, p. 246.

[6] - Ibid, p. 249.

[7] - Ibid, p. 36.

[8] - Heidegger: lettre sur l'humanisme, p 68 (rec question 3 et 4 Gallimard 1996).

[9] - Ibid, p67.

[10] - Heidegger: "la parole" in Acheminement…, op cité, p.22.

[11] - Heidegger: Approche de hôderlin, p.52, Gallimard 1973.

[12] - Heidegger : "le chemin vers la parole" in Acheminement…, op cité, p. 228.

[13] - Heidegger: lettre sur l'humanisme…, op cité, p. 91.

[14] - Heidegger: introduction à la métaphysique, p. 54 Trad G.Kahn .P.U.F 1958.

[15] - Heidegger: Bâtir Habiter penser… in Essais et conférences, p. 193, Gallimard 1958.