تبدأ الكاتبة قراءة رواية «وصايا الغبار» اعتباراً من شرك العنوان، لتنتقل إلى كيفية تقاطع السرد بالمكان الواقعي والروائي، وتعشيقه بالممكن والفانتازيا الغرائبية، وما تمثال الزعيم الذي يتضخم بصورة ثم يتضاءل إلا صورة عن العالم الذي يعيش فيه الشرق المنذور للخراب.

السرد بين الممكن والفنتازيا

في رواية «وصايا الغبار»

نجاة عبد الصمد

 

تمهيد
صدرت رواية "وصايا الغبار" لمازن عرفة، عام 2010، وقد يكون الزلزال السوري الذي بدأ عام 2011 هو الذي أعاق انتشارها أو التعريف اللائق بها، الأمر الذي تأخّر حتى عام 2017، موعد إصدار روايته الثانية "الغرانيق" عن دار (هاشيت أنطوان) في بيروت. وهي العمل الذي لاقى قراءات ومقالات وأصداء لافتة، حفّزت جمهور المهتمين على البحث عن الأخت الكبرى لـ"الغرانيق"، أي "وصايا الغبار"، وإعادة قراءتها وملاقاتها بالاحتفاء المستحق، وإن جاء متأخراً نسبياً.

شرك العنوان والفاعل النَّصي:
"وصايا الغبار"، هذا العنوان شَرَك؛ ما هي صورة الغبار في الأذهان عموماً؟ وما هو الغبار لتكون له وصايا؟ وما هي الوصايا التي قد يترك؟... هذا الغبار المنتشر والحائم والموزّع في كل مكان، يُشَمُّ ولا يرى، يُغيّب، فيعود ويتراكم، وفي كل مرة بحلّةٍ جديدة، بنكهة مرارة لم يكن عليها من قبل، لا يكتسب صفاته الجديدة إلا حين يتراكم طبقةً قابلةً لأن تكون مرئية. عندها يمكن رؤية حجم التغيير الذي طال المكان حتى بدت آثاره غباراً قابلا للرؤية وقادراً على التغيير، رغم هشاشته، ورغم الاعتقاد الأكيد أن طرده سهل، فيما قوّةُ كثيرٍ من الأشياء، بما فيها الغبار، تكمن في ضعفها!

بهذا المعنى تراءى لي أن هذا العنوان هو (عنوانٌ مكانيّ). لكن بالمعنى الملموس هنا؛ فالغبار هو القادم من صحارى النفط، منذ سبعينيات القرن الماضي، محملاً بفتاويه الإسلامية القروسطية المتخلِّفة، كمقدمة لخراب الأسلمة القادم في عالمنا العربي، مقابل انهيار الحركات القومية وفشل مشاريعها، بعد تحولها إلى نظم قمعية استبدادية لشعوبها. ومقابل الغبار ووصاياه، تنهض تيمة "المطر"، التي تجلل الأحداث في الرواية بالشاعرية والحلم في محاولة لمواجهة خراب "الغبار"، ومنح بصمة أمل في وجه "الوصايا الغبارية".

وإذا كنت قد نسجتُ بعضاً من تصوراتي عن الرواية عبر عنوانها؛ فكيف لي في مساحة الكتابة هنا أن ألخص محتوى رواية من 664 صفحة؟! هنا يكمن الشرك الثاني: رواية طويلة. ثمة فئة من القرّاء، ولا أعتقدها كثيرة، لا تتذمّر من طول الكتاب الذي تقرأ، تمضي فيه ما دامت تستمتع حتى لو كانت صفحاته تكاد لن تنتهي. شخصياً أكملتُ قراءتي الأولى في أيامٍ ثلاثة، لم تكن بداية القراءة على وفاق مع مزاجي الخاص كقارئةٍ واقعيةٍ جدا، لكنها لم تلبث أن أخذتني إليها حدّ الاستلاب، وتأخرتْ بالإفراج عني بعد إكمالها.

بطل الرواية شابٌ عاد من "سلومانيا" في سبعينات القرن الماضي، بعد أن أنهى تعليمه فيها كطالب دراساتٍ عليا، ويلتحق بعمله موظفاً رسمياً في أهم مركز ثقافي في العاصمة. تبدو "سلومانيا" هذه برمزيتها تعميم لدول المعسكر الأوربي الشرقي الاشتراكي، التي ستنهار قريباً، بعد أن صدّرت أشكال قمعها الستاليني إلى عالمنا العربي، فتلقفته "عسكرة" الحياة اليومية فيها. ولهذا دلالته في عقلية الشاب الذي تحول إلى شخصية حالمة، يبحث عن الخلاص في أحلام يقظته، هارباً من سردية تاريخية فاشلة بطوباويتها الحالمة إلى واقع زائف، مستبد وفاسد. وفيما تتوسم الأجهزة الأمنية فيه عنصراً صالحاً للعمل معها، حين تفترض أنه عاد حباً بوطنه، فهو يعلن في دخيلته (متحدثاً بضمير المتكلم دائماً) أن ما جعله يترك تلك الـ "سلومانيا" مختاراً هو أنه لم يستطع ببساطة أن يحب نساءها ذوات "العيون الرمادية والزرقاء"، اللواتي لم يرَ فيهنّ حميمية الحب، وظلّ يشعر بخواء ووحدة ووحشة بعد كل وصال مع أية امرأةٍ منهن. عاد إلى وطنه باحثاً عن "العيون العسلية"، رمز الدفء الإنساني والحميمية، التي لن يجدها إلا في امرأة شرقية من بلاده. يتعرف بداية على شيماء الفنانة التشكيلية التي فيها كل مقومات المحبوبة المتخيلة: "العيون العسلية هي التي جعلتني أعود إلى هنا بعد أن أنهيت دراساتي العليا في "سلومانيا"، "ولذلك فاجأتني شيماء بالعيون العسلية التي تعيش في لوحاتها وتتنفس". إلا أنً شيماء تفاجئه بزواجها من رجل من طائفتها المنغلقة على نفسها، في مجتمع ما قبل حداثي يعيش بقوة علاقات عشائره وطوائفه. وبغيابها يستحضر الشاب من ذاكرته مجموعةً من الصبايا اللواتي مررن به في مراهقته بمغامرات عاطفية قبل أن يسافر إلى "سلومانيا"؛ إلهام وهند وسهير وجورجيت ورولا، وذلك عبر شخصية "ورد"، الجسد الذي ينسل من أحلام يقظته، ويتحول إلى أداة لممارسة الجنس معه بديلاً عن ذكرياته معهن، وخاصة بعد أن استقصى أخبارهن وعرف المآلات المختلفة، والمؤسفة عموماً التي انتهين إليها؛ وعلى سبيل المثال أضحت إلهام بنت الجيران عانساً، لكنها ارتقت في الحزب الحاكم كمخبرة نشيطة، وانشغلت بكتابة التقارير عن المعادين للحزب والثورة, وهند، سليلة العائلة الشيوعية، التي تزوجت تاجر ماشية يكبرها بـ 20 عاماً. وسوف يعود ويلتقي بهن لاحقاً في أسفار تهويماته الجنسية إلى مكان يشبه "الجنة الإسلامية"، مبني وفق المرويات الإسلامية، وقد أصبحن حوريات متخيلات فيها، ومن ثم من جديد إلى "الجنة الأمريكية"، المبنية أيضاً وفق نمط الحياة الاستهلاكية، التي تروج لها "عولمة، أو بالأحرى أمركة الحياة اليومية، وقد تحولن إلى ما يشبه بطلات الأفلام الإباحية.

لا يتضح عبر مسار الرواية إن كان للراوي زوجة وأطفالاً، إذ يبدو أقرب إلى المواطن الأعزب الذي يمتلك وقته حراً، موزعاً بين عمله في المركز الثقافي وأحلام يقظته المستمرة. لكنه في الصفحات الأخيرة يستيقظ من نومه (كما في كل يوم) على صراخ زوجته التي تتذمر من غياب الحاجات الأساسية في البيت وضرورة تأمين المتطلبات اليومية لأولاده الأربعة. وهو ما يشكل صدمة للقارئ الذي يجعله يصحو من سلسلة أحلام اليقظة والمونولوجات الداخلية والاستيهامات الجنسية وتوهمات الفانتازيا الغرائبية، التي رافقت البطل طوال أحداث الرواية، ويعيده إلى واقع الخراب اليومي الذي تعيشه بلاده على وقع الفساد، وإلى الانهيارات المتتالية التي تصيب العالم العربي. وعبر صفحات قليلة أخيرة يظهر ترفعه في مسار الرواية، أي في أحلام يقظته، عن عروض الارتماء في فساد السلطة، أو عن عروض الاستخبارات الأمريكية بالمال السخي مقابل التعاون معها، وحتى برفضه وصال حوريات الجنتين، الإسلامية والأمريكية، مفضلاً انتظار ظهور "أم العيون العسلية"، الحبيبة المشتهاة في الحلم. وكأن الغلوَّ الشديد في إظهاره لنفسه في أحلام يقظته بطلاً عنيداً وأكثر صلابةً في مواجهة كل هذه الإغراءات ليس إلا تعويضاً عن القهر اللامحدود والمهانة التي يحياها في كل تفصيلة صغيرةٍ في حياته اليومية الواقعية أمام هيمنة مؤسساتية أمنية وتخلف ديني اجتماعي. وهو ما يبرر انسلال "ورد" الصبية من أحلام يقظة الشاب الجنسية، التي صحا فجأة في الصباح ووجدها في فراشه بعد أن يُخيَّل إليه أنه قضى معها ليلة جنسية. وسترافقه ورد طوال الأحداث كجسد لتفريغ شبقه الجنسي الشرقي المكتوم، كرد فعل على توتراته اليومية، في انتظار الوصول إلى "الحلم المشتهى، "أم العيون العسلية".

ومع أن ورد كانت تحضر جسداً مغرياً مع الحنين الشاعري الذي يثيره سقوط المطر، إلا أنها كانت في النهاية جسداً، تخاف ظهور "أم العيون العسلية"، كرمز حب صوفي يتعالى عن الشبق الجسدي، ويبعدها بالتالي عن الوجود. بدا أنه صراع بين الجسد والروح في خيال شرقي ملتهب، ينتهي بغلبة "أم العيون العسلية" بصوفيتها الروحانية الشرقية، وظهورها في غابة عذراء عبر مغارة سحرية في الجبل كملكة حلم عاشقة عابرة للتاريخ والأزمنة. لكن الملكة تطل على الحياة اليومية بجسد فتاة ناعمة ممشوقة هي "تالا"، مما كان يعني بالنتيجة اختفاء "ورد الجسد". ولا ينتهي انتصار "تالة" في النهاية على "ورد" فقط، وإنما أيضاً على "العيون الرمادية"، ذوات الأجساد الباردة، وهو ما تبدى عبر الصراع رمزياً بين الموسيقى الصوفية الروحانية الشرقية (رمز العيون العسلية) وموسيقى شوبان الكلاسيكية الأوروبية (رمز العيون الرمادية). لكن هذه الاستيهامات الجنسية-الروحانية تنتهي في صفحات أخيرة مفاجئة مع صراخ الزوجة الحقيقية المتذمرة والمتطلبة في جنون حياة أسرة يومية، لا يستطيع معيلها تأمين الاحتياجات اليومية في ظل الخراب والفساد الذي يعصف بالبلاد. لكن النهاية ليست حدية بالكامل، فها هو الشاب الحالم في الأسطر الأخيرة يلتجئ إلى مصح للأمراض النفسية، يدخله من أجل حلمه، فيما يظن أنه يغادر عالم المجانين في الخارج. وكأن الأحداث ستعود دورتها إلى بداية الأحداث وتتكرر، مع كل مواطن يعيش في البلاد المختنقة... ما لم يأتِ الانفجار ويحطم الدائرة.

بين الممكن والفانتازيا:
يتبنّى بعض الأدباء، والنقاد على السواء، رؤيةً مفادها أن الرواية المعاصرة لم تعد تحتمل أن تكون مغرقةً في الواقعية، بل لا بد أن يخالطها الكثير من الخيال والفانتازيا الغرائبية. ويُعد مازن عرفة كاتب رواية "وصايا الغبار" من أنصار هذه الرؤية، حيث ينوس السرد لديه بين الخيال الفانتازي المبالغ فيه من جهة والخيال الممكن من جهة أخرى، كنوع من "واقعية سحرية عربية". ويعتمد في نسج روايته على تقنية أحلام اليقظة والمونولوجات الداخلية والاستيهامات والتوهمات وأسفار الرؤى، التي تبدو كرد فعل دفاعي عن النفس، ومحاولة مداواةٍ لها. لكن أحلام اليقظة التي تبدو من وجهة نظر نفسية محاولة هروبية من مواجهة الواقع، تتجلى في الرواية كشكل من أشكال التراكم القهري، سيدفع ممارسها في النهاية إلى الانفجار بوجه العالم الخارجي الذي يمارس استبداده عليه، سواء عبر سلطات أجهزته الأمنية أو مؤسساته الدينية، في تكامل واقعي مصلحي بينهما على انتهاك حرية الفرد فيه، كمواطن وإنسان في دولة قمعية أمنية متناغمة مع سيطرة ماورائية دينية. وتتجلى ماورائية عبادة تمثال القائد في فصل مميز، حينما يجعل التمثال عملاقاً يتضخم مع خوفنا منه، فيصل رأسه إلى أعالي الغيوم، فإذا ما اختفى الخوف منه عاد صغيراً "ليصل إلى حجم نملة، ما لبثت أن ضاعت في الأرضية، فتراجعت بضع خطوات إلى الوراء، حتى لا أدهسها بحذائي القديم".

يسافر الراوي في أحلام يقظته متنقلاً بين الأمكنة والأزمنة، الواقعية والمتخيلة باستيهامات مجنونة، كفعلٍ يمارسه اللاوعي، ومحاولة شفاء فردية وسط مجتمعٍ منتهكٍ حتى أعماقه، مفتقدٍ إلى الطبقة الوسطى، حاملة بنيانه ومؤسسة لهويته الوطنية والحضارية، والتي تم تدميرها من قيل المؤسسات القمعية، كما جُمّدتْ فيه أحزابه السياسية ونشاطه الفكري, [فلم يبق في هذا المجتمع قوةٌ فاعلةُ حقاً سوى التيار الديني، المنسجم مع المتطلبات السلطوية. هذا الدفاع الشرس بل المستميت عن كينونة الإنسان في أحلام يقظته ما هو إلا انتقامٌ لعجز الإنسان ومهانته أمام تغوّل حاكميه، ما هو في حقيقته إلا دفاعٌ وهميّ وشديد الضعف، لكنه لن يلبث أن ينهار مع تراكم أحلام اليقظة وإحكام حصار الطوق الواقعي حوله لينتهي الإنسان، والشعوب عموماً، إلى فصامٍ مكبوتٍ لن يتركها أمام أي خيارٍ سوى إعلان الثورة على هؤلاء القابضين على حنجرته والخانقين أنفاسه ـ الرواية صدرت قبل وقت قصير من اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" ، وكأنها تحمل شحنة تنبؤية بقدوم الانفجارات الاجتماعية والسياسية.

حول المكان والمكان الروائي:
في بحثه "الفضاء الروائي المضاد"، يُعرّف سمر روحي الفيصل المكان الروائي "هو لفظي تصنعه اللغة لحاجات التخييل وأهدافه الفنية، ويستطيع المتلقي إدراكه ومعرفة أبعاده إذا أجاد الروائي تشخيصه وإيهام المتلقي بحقيقته وصدقه". وفي بحثه "من المكان إلى المكان الروائي" يشير خالد حسين إلى أهمية المكان في الرواية كعنصرٍ لا يمكن الاستغناء عنه، كالعمود الفقري الذي يربط أجزاء الرواية بعضها ببعض، ويحوي الشخصيات والزمان والأحداث، أو كما وصّفه الناقد الفرنسي ”رولان بورنوف" "ليس عنصراً زائدًا في الرواية، فهو يتخذ أشكال ويتضمن معاني عديدة، بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل"، وإيحاءات المكان مثل المشروب السحري الذي ينتج ويقطر في البلدة الممتدة تحت ضباب الجبل، يفقد مفعوله المسكر ويصبح كالماء إذا شرب في المدينة المكتظة، التي لا مدى للأمكنة فيها.

وقد يعتمد توصيف المكان في العمل الروائي على الثنائيات الضدية (واقعيّ/ متخيل)، (إقامة/ انتقال)، (مفتوح/ مغلق). ووفق هذا التوصيف فالمكان الواقعي ما كان له وجود حقيقي في جغرافية الإنسان الطبيعية المعروفة والمتداولة بأناسها المقيمين فيها على نحو دائم وشامل، بينما المكان المتخيل هو العكس من ذلك تماماً، وهو الذي لا يمكن تأكيد مرجعية محددة له، سواء لا من حيث اسمه ولا من حيث صفاته. وبهذا المعنى يمكن أن تنطبق على "وصايا الغبار" صفات المكان الواقعي تماماً كما المتخيل حين ربط الكاتب نبش المكان كله بتقنية أحلام اليقظة، فأضحى المكان هلامياً بقدر ما هي أحلام اليقظة هلامية. المكان هلام ينفلش ويتوسع ليكون ممكناً وينطبق ليتلقى جميع أحداث أحلام اليقظة المريحة والشافية مؤقتا، هنا هو واقعي بقدر ما يشد أصحابه حتى الاختناق، ومتخيَّل حتى ليحلّق الراوي بأحلام يقظته إلى أن يقاوم رجل الأمن ورجل الدين ورجل الاستخبارات الأمريكية. وهلامية المكان هذه هي التي تنفلش وتتوسع أيضاً على أي مكان يتخيله القارئ العربي في بلاده. إنَّ المكان في "وصايا الغبار" هو البطل الروائي الذي عاش فيه أهل البلدة الريفية ببساطة انتمائهم وتآلفهم معه كمكان مفتوح للتحولات الاجتماعية بقفزات سريعة في نهايات القرن الماضي، مقابل المدينة التي تضمحل إلى مركزية فساد تخترق جميع مؤسساتها. لكن توسع المكان الريفي بإفراز طبقة وسطى جديدة، ستواجه بـ"تزييف سلطوي" مع "عسكرة قمعية" إلى جانب " ترييف ديني محافظ" يستمد قوته من فتاوى صحارى النفط، التي تصله على شكل "وصايا غبار".

يصطدم الشاب بالعائدين من بلاد النفط الصحراوية حاملين أفكارهم الجديدة الهجينة كمقدمة لدخول الفكر الديني المتطرف إلى مجتمع البلدة، والنواة التي بدأت بتخريب المعنى الأصيل للأساطير ولحكايات المكان الشعبية، وتشويشها وتحميلها برؤى وفتاوى صحراوية قروسطية متخلفة. ويكمل المتطرفون الدينيون، في جميع أشكالهم "المتشددون السود والمتشددون الخضر" في إشارة مستقبلية لمستقبل قريب حابل بانفجارات الصراعات الدينية تحت غطاءات مذهبية وطائفية، تشوه الحكاية الشعبية وتفرغها من محتواها كونها جزءاً أصيلاً من روح المكان، وصولاً إلى إبراز مفهوم "الجنة الإسلامية" نفسها بدفقات حسية شبقية لمجتمعٍ شرقي بطريركي بعيد عن الروحانية.

المكان والشخصيات:
وفي هذا المكان تتعدّد الشخصيات وتتنوع، وهذا ما يمثل الغنى الفني للرواية، في مواجهة شخصية "الأنا" المركزية التي تتحدث بضمير المتكلم، وتنسل الأحداث من ذاكرتها وأحلام يقظتها المذرة" ليست إلا جنية طيبة تريد أن تستحوذ على رجال القرية لتتسلى معهم وتطرد ضجرها"، وهي رمزية الحكايات الشعبية المتمردة، التي تخافها المؤسسة الأمنية وتستعين بفتاوى المؤسسات الدينية للسيطرة عليها "تمهل يا "أبو رعد" أنت قتلت الضباع والأفاعي وما شابهها من وحوش في البراري، ولكنها لا زالت حية في الخيال والذاكرة الشعبية، يجب أن تدمر الخيال الشعبي فتموت عندئذٍ هي وحكاياتها إلى الأبد".

خدوج البكر، التي منحت جسدها لمتعة "أبو حسين" مع الحفاظ على عذريتها، لم ينفعها كل احتراسها وحملت منه فيما هي عذراء. وتأخذ صفة القديسة التي يتبارك بها أهالي البلدة، فيما يجزم رجال الدين أن جنياً كافراً تغلغل إليها دون أن يخلَّ بعذريتها، وجعلها تحمل منه لتنتهي حياتها، تحت ضربات الشيخ الذي يريد إجبار الشيطان على الخروج من جسدها.

الشيخ حسني والشيخة حسنية، ممثلا المؤسسة الدينية، والمتنافسان على تطبيق فتاوى "وصايا الغبار" في استلاب العقول بالترويع من عقاب وتعذيب المخالفين لأحكام الشريعة، حتى أصبحت النساء مثل عدادات للتعويذات واللطيفيات خوفاً من العقاب الماورائي. لكن ما يلبثا أن ينكشفا عميلين لأجهزة الأمن.

الحاج خليل العائد من بلاد الصحراء ليبني مملكة تجارته في وسط البلدة بشراء محل أحد أبنائها الذي أصبح يسميه "كتابياً" لأنه مسيحي. ويقوم بكسر زجاجات الخمر في ساحة البلدة التي وجدها في المحل بطريقة احتفالية على مرأى أهل البلدة ليثبت انتماءه لفتاوى الصحراء. إلا أنه ما يلبث أن يندم على خسارته المالية بتكسيرها، فيعوض ذلك بسرقة زبائنه برفع الأسعار.

المدير بهلول ـ كشخصية كاريكاتيرية غبية ـ من الحزب الحاكم، وهو يمارس فساده المؤسساتي بشبق جنسي كفحلٍ لا يشق له غبار منذ استلامه منصبه بتوصية أمنية. وهو يرى نفسه، بمقدراته الجنسية الخارقة المرتبطة بسلطوية زائفة تدار أمنياً من خلف الستار، إلهاً كليّ القدرة برمزية الخلق في سبع أيام، وهو يمارس الجنس مع سكرتيرته، عين الأمن الساهرة عليه، في سبع جولات جنسية يومية، مقابل توظيف أقاربها وجيرانها وأبناء طائفتها.

رجل الصحراء بمزيته الذي يأمر بحرق جميع الكتب لأنها إباحية "لأنّ كتب الطبخ إباحية، مهيجة للجنس، والطعام يستتبعه الجنس، وكتب البحار إباحية، يخلع الناس ملابسهم أمام الشيطان، وكتب الفنون التشكيلية تتعدّى على مهنة الإله في الخلق، وكتب السيارات والدراجات إباحية بسبب الاهتزازات".

لا يتعب الكاتب من التركيز على الجنس الذي ينخر عقل الرجل العربي ويفصمه ويلغي من رأسه ملكة التفكير! تبدو وكأن الرواية تتجه إلى ذروة انفجار التوهمات الجنسية بالوصول إلى "الجنة الإسلامية" الحسية، مقابل دعوة الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم ويقتلون الآخرين طمعاً في الحوريات الأبكار إلى "الجنة الأمريكية": تعالوا وادخلوا في نعيم هذه الجنة من دون أن تقتلوا أحداً!! هنا نسفٌ للمقدّس الديني حول مفهوم "الجنة"، فإذا كنتم موعودين بها، ولم يعد أحد من هناك ليخبرنا عنها، فها هي الجنة الأمريكية تفتح أبوابها ونساءها لكم دون أي شرط، تعالوا الآن واستمتعوا بالأبكار من دون أن تقتلوا أحداً.

لكن مقابل هذا الشبق الجنسي تظهر صانعة الحكايا تالة، ذات العيون العسلية، هي أميرة الحكاية التي غدروا بحبيبها الحطاب بعد أن أنقذها من الوحش، فتقمصتْ أحاسيس العشاق كلهم لتبقى عاشقةً مدى الحياة: "وإذا كنت تعشقني فاجعل عوالمك الداخلية تتحول إلى حكاية، والحكاية إلى حياة حقيقية، ولكن "إذا ما حولتني إلى عالم ما ورائي حيث الأوهام فستفقدني، لأن الحكاية والوهم لا يلتقيان".

أخيراً؛ ما يميز اللعبة السردية في (وصايا الغبار) هو هذا التحرك بين الممكن والفنتازيا، وهي ما يمتاز به النص السرديّ في المجال الأدبي؛ إذ تغدو الفانتازيا الاستراتيجية التي تتيح الكشف عن العوالم الواقعية في الجغرافيا التي ترسم عوالم (وصايا الغبار)، وما تمثال الزعيم الذي يتضخم بصورة أسطورية ثم يتضاءل في الوقت ذاته إلا صورة عن العالم الذي يعيش فيه الشرق المنذور للخراب.