تضع تلك القصص أمام القارئ العربي أحد النماذج السردية الدالّة على اشتغال حِرَفيّ عال في صوغ الحكاية، والتلاعب الفني بعالمها المكاني، وإثرائها بالموضوعات الفلسفية والماورائية (الزمن، والمستقبل، واستغلال الألم، والهوَس بالدّرجات أو الموضة، الخ)، والتهكّم الخفيّ بمآلات الصراع السياسي الجاري في زمنه بأميركا اللاتينية.

قصص الكاتب الارجنتيني أدولفو بيو كاسارس… توغل في الغرائبية

انطوان ابو زيد

 

الكاتب الأرجنتيني أدولفو بيو كاسارس الذائع الصيت، والذي نال جائزة ثربانتس عن مجمل أعماله السردية العام 1991، أي قبل ثمانية أعوام من وفاته (1999) عن عمر ناهز الخمسة والثمانين عاماً، قد بدأ جمهور القرّاء العرب يطّلع على نتاجه مترجماً إلى لغة الضاد، ولكن حبّذا لو كانت الترجمة أجود مما طالعنا به كتاب "بطل النساء" الصادر عن دار منشورات الجمل، وترجمة رفعت عطفة، والصادر العام 2018.

ولمن يود التعرف الى الكاتب الأرجنتيني، وهو من مواليد العام 1914، من مدينة بوينس آيرس، مال منذ صغره إلى كتابة القصص التي اختلطت فيها الأحداث الواقعية بالمظاهر الغرائبية بل الخارقة. ولعل تأثره بالكاتب خورخي لويس بورخيس بيّن وماثل في مجموعات الحكايات الثلاث التي أنجزاها، وأهمها "ست مسائل لدون إيزيدورو بارودي (1943) وكان قد صاغها جميعها تحت اسم مستعار هو بوستوس دوميك. بيد أن إسهام كاسارس في الرواية والقصة القصيرة والرواية القصيرة ذات الطابع الغرائبي لم يقلّ أثره في الأدب الأميركي اللاتيني والعالمي من شريكه بورخيس. ولسوف يكون لنا وقفة للكلام لاحقاً على أهم الخصائص التي تميّز بها أدب كاساريس وافترق فيها عن بورخيس، وهو الذي أثرى مساره الإبداعي بعدد من الروايات والمجموعات القصصية، من مثل: رائعته الأولى "اختراع مورل" (رواية)، و"خطة الهروب"(رواية)، و"جانب الظل"(قصص)، و"يوميات حرب الخنزير"(رواية) و"نوم تحت الشمس" (رواية)، و"مغامرة مصوّر في لابلاتا" وغيرها.

قبل الدخول في عوالم القصص - الروايات القصيرة التي انطوت عليها مجموعة القصص "بطل النساء" أعرّج قليلاً على أهمّ كتاب عُرف لديه وهو رائعته رواية "اختراع موريل" الصادرة عام 1940، والتي مؤدّاها أنّ الراوي ينزل في جزيرة نائية، ولئن ظنّ نفسه معزولاً عن البشر فيها فإنه سرعان ما يتنبّه لوجود أشخاص عديدين من حوله، غير أنهم لا يتواصلون في ما بينهم على نحو قدَري، وذلك على الرغم من تواتر المشاهد نفسها، حيث يوجدون، تواتراً منتظماً على نحو مطلق. وقد أعدّت الرواية فيلماً سينمائياً عام 1967، على يد المخرج كلود جان بنّاردو، وكذلك فعل آلين ريسنيه إذ اقتبس فيلمه "السنة الأخيرة لمارياباد" عام 1961، من الرواية عينها. وبالعودة إلى القصص، أعرض ههنا حبكة كلّ منها بإيجاز، ليتسنى لي الكلام على نقاط العلاّم فيها والنوى المشعّة دلالات وتأويلات للقارئ النّبيه، إذ تستدعي كتابة كاساريس هذا النوع من القرّاء وتستفزّهم على نحو إيجابي كما سوف يتّضح للمتابعين.

شكل العالم

تحكي القصة الأولى، وهي بعنوان "عن شكل العالم"، عن طالب جامعي في سنته الأولى بدراسة الحقوق يلتقي تاجراً وطبيب أسنان في الوقت نفسه، في طريقهما إلى جزيرة، وسط قارب يقلّهما من المدينة. فيتبيّن له أن الطبيب إن هو إلا مهرّب بضائع وأنه يوهم الطالب باختزال المسافة بين المدينة والجزيرة إلى الربع، ويقنعه بلزوم التعاون معه ولقائه على مدخل النفق تحت طائلة الخطف أو الاغتيال. ولما انصاع الطالب له، وحضر في الموعد المضروب، لم يجد التاجر بل أحداً آخر من جماعة مهرّبين آخرين، زجوه في مركبهم وأجبروه على أن يقودهم إلى الكهف حيث أودع التاجر بضاعته. وفي نهاية المطاف، استساغ الطالب كوريّا أمر التهريب واختزال المسافات وصار محامياً ونال الدكتوراه من دون أن يتخلّى عن لوثة التهريب، على ما يستدلّ إيحاء لا تصريحاً.

أما القصة الثانية وعنوانها "أمل آخر" فتحكي عن أحدهم، مجهول الهوية، يتّضح أنه طبيب أو ممرّض في مصحّ، يكشف عن مؤامرةّ يدبّرها نائب مدير المستشفى، طمعاً بالحصول على نسبة أعلى من الأرباح، وتقضي خطّته باستخلاص الطاقة الكهربائية من أجساد المرضى والممرضين على حدّ سواء، ما يؤدّي إلى تدهور صحة الممرضين، وحلولهم في القاعة رقم 1، وهي مخصصة لذوي الآلام الطفيفة.

القصة الثالثة التي عنوانها "حرب خاسرة "تدور أحداثها حول شخصيتين: الزوج الذي ينفصل عن زوجته ليلتحق بعشيقته ديانا، ويمتدح ولعها بدورات تثبيت الكثبان التي تشارك فيها. إلاّ أنه سرعان ما يسأم ميلَها المرَضي هذا، ما يحمله على العودة الى زوجته الأولى، فيكتشف أنها باعت منزلهما الأول واشترت آخر قريباً من البحر وأنها معجبة بكلّ من يهوى دورات تثبيت الكثبان، وأنها تستعيد كلاماً عنه قالته عشيقته (ديانا) بأنه "عديم القدرة على الحبّ أيضاً" (ص:71).

في القصة الرابعة ذات العنوان "المجهول يجذب الشباب"، يُحكى عن شاب من عائلة ريفية فقيرة يرغب في الانتقال إلى المدينة ليجد عملاً فيها، تسلّمه أمه رسالة توصية إلى أحد أصحاب الفنادق في المدينة روسّاريو، ويدعى السيد ليوبولدو. وكانت نصيحة الأم للشاب لويسيتو أن يتحلّى بالصّبر في البلدة التي يكثر فيها الأشرار. والحاصل أنّ مدير الفندق حيث تقوم فعاليات الملهى يوكل إليه العناية بالدواب في مزرعة تابعة للفندق. ولما انتبه الشاب إلى أنّ المال الكثير بأيدي الناس يجلب لهم السعادة، رأى أن يوافق صاحب الفندق على خطّة تكسبه المال الوفير، وتقضي هذه الخطة بأن يتولّى إبلاغ أحدهم، من معارف السيد ليوبولدو، رسالة لا يعرف فحواها. ولكن يتّضح، من سياق الأحداث أنّ ليوبولدو هذا لم يكن إلاّ واحداً من رجال المافيا، ويسعى إلى التخلّص من رجل المافيا الآخر الذي كلّف الشاب تسليمه رسالة فارغة ليكون مجرّد فخّ ينصب لذاك المافياوي فيسبب مقتله. غير أنّ إغفاءة لويسيتو لدى خالته يومين متتاليين هو ما نجّاه من الموت المحتوم.

أما الأقصوصة الخامسة التي صاغها الكاتب بأسلوب المناجاة، أو الحوار الداخلي، والتي كانت بعنوان "مسافرة الدرجة الأولى"، فكانت محاجّة كاملة في ما يكون عليه صاحب الامتيازات التي يخشى من فقدانها خشيته من الموت، ولكنه يأبى التخلّي عنها باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من كينونته. تلك هي حال المسافرة التي يعرف القراء أنها عجوز، وأنها من الطبقة العليّة، وهي ممن يعتقدون أنهم "ملوك آخرون متوّجون يزورون الأحياء الفقيرة"(ص:110)، وقد راحت تبيّن سيرورة الدرجة الثانية في السفر عبر الطائرة، وهمّة المسافرين فيها على النفاذ إلى الأولى، في مقابل انكماش ركاب الدرجة الأولى وتقهقر أعدادهم، وفقدان الدرجة الأولى كلّ امتيازاتها السابقة. وعلى الرغم من ذلك، تعلن المسافرة العجوز أنها لن تقبل أن تتحوّل "الى مسافرة في الدرجة الثانية" (ص:111).

نمر الغابة

القصة الثامنة والتي كان عنوانها "بطل النساء" مفادها أنّ ثلاثة أشخاص هم: السيد نيقولاس برونا وزوجته لاورا والمهندس الشاب لارتيجا اتفقوا على خوض مغامرة نشأت من مزاح وانقلبت جدّاً، تقضي بالتثبّت من وجود النمر في الغابة، فنصبوا خيمتهم هنالك وانتظروا أن يمرّ النمر. إلاّ أنّ الأحداث تمخّضت عن اختطاف لاورا من قبل النمر، وعلى ظهر حصانه، والذي اتّضح أنه لم يكن سوى برونو ملاّك الأراضي والمنازل المهجورة في تلك المناطق القصية ونموذج الرجل التقليدي المتزمّت، وقد ارتدى بزّة النمر.

أياً يكن من أمر حبكات القصص الثماني (وهي في أصل المجموعة 11 قصة) التي شكّلت الكتاب المترجم إلى العربية فإنه وضع أمام القارئ العربي أحد النماذج السردية الدالّة على اشتغال حِرَفيّ عال في صوغ الحكاية، والتلاعب الفني بعالمها المكاني، وإثرائها بالموضوعات الفلسفية والماورائية (الزمن، والمستقبل، واستغلال الألم، والهوَس بالدّرجات أو الموضة، الخ)، والتهكّم الخفيّ بمآلات الصراع السياسي الجاري في زمنه بأميركا اللاتينية، حتى لتُحسب له الكثافة والإيجاز والإيحاء الذكيّ والربط بين الواقع والمتخيّل في أقصى حدود الإمكان من الخصائص التي تميّز أدبه بعامة، وتفرقه عن أدب بورخيس زميله بصورة خاصّة.

أما الترجمة الى العربية التي قام بها رفعت عطفة عن الإسبانية (أو الإنجليزية) مشكوراً، فإنّ القارئ الناقد يلاقي صعوبة في متابعة مجريات الأحداث والحوارات الجارية بين شخصيات القصص، وفي استيعاب الإشارات التهكّمية المبطّنة التي يرسلها الكاتب بين ثنايا الأحداث، وذلك يعود إلى عدم تمييز المترجم الترجمة الحرفية من ترجمة المعاني إلى لغة الضاد وما تقتضيه من قواعد التقديم والتأخير والإضمار والتصريح والتناسب في الأفعال وغيرها. بحسبه أنه أدّى لجمهور القراء العرب تحفة يحسن الاحتفاء بها.

 

اندبندنت عربية