يعود القاص المغربي إلى موضوع الحب من طرف واحد، وهو حالة إنسانية تتكرر في كل الأزمنة، يتعلق إنسان بآخر لا يبادله المشاعر ويظل يحلم ويجهد ويحرق روحه ويسهد ويكتب رسائل ويفعل ما لا يخطر على البال من أجل لفت الانتباه دون جدوى، كما هو الحال في السارد "الطالب الجامعي" الذي تعلق بزميلته اليونانية التي تحب أخر.

اليونانية

أيمن قشوشي

 

كانت اليونانية جميلة من غير تكلف، لا يمكن أن يكون لك رأي غير ذلك. كانت بعينين ناريتين، هادئتين عميقتين تقذفانك بلهيب يسمرك في مكانك ويعزلك وحيدا. انتابتني رهبة وهيبة أول مرة رمقتها بنظري، مرت أمامي سريعة. لم أستطع أن أطيل أو أ دقق في تفاصيلها، كانت كشمس بيضاء في صباح ممطر، مؤلمة ألما خاصا تدمع العين لرؤيتها.

كنا ندرس في نفس الجامعة . تَحَدّْث اليونانية الجميع باقتضاب من غير أنفة زائدة وتمضي في طريقها، هادئة ترقص على نغمات دقات قلوبنا السريعة وتدوس على تأوهات أجسادنا المكبوتة. أتكلم بصيغة الجمع، فأنا على يقين تام بأن كل من جاورها لا بد وأن تمتص رحيق روحه بأهدابها الناعمة. كنت أتبعها وهي عائدة إلى منزلها، لها أم وأخوات لم ترث منهن غير اسم العائلة. هي الوردة الوردية التي تنبث في جدار من الإسمنت كدليل على أن للطبيعة ناموسها الخاص.

غيَّرتُ مجموعة دراستي لألتحق بها في نفس الفصل. كانت أقرب إلى البله أو لنقل أنها كانت غبية. كانت جميلة بليدة لا تفقه في أمور العلم والأدب إلا ما يحفظ لها احمرار وجنتيها أمامنا، وكنا لا نقدر أن نثقل عليها في مثل هاته الأمور. كان يكفيني منها برودة ملمسها الذي يشبه الرخام المصقول.

كانت خفيفة تتقاذفها الرياح. تبتسم فيتلألأ الكون زمردا متناسقا مصفوفا بعناية تنعكس على حباته أشعة الشمس. رموش كأمواج البحر، ينكسر الهواء على حافَّاتها، ليفسح المدى لعينين قريبتين حتى لتظنهما عيناك وبعيدتين كعيني الاله. كانتا بألوان تتدرج مع زوايا الرؤيا ومع اختلاف انكسار الضوء، لكن مهما تعدد هذا اللون حافظ على هدوئه. ذلك الهدوء الذي يعم ساحات الحروب بعد الدم والنار، هدوء ما بعد الجنازات، هدوء الجوامع ما قبل الفجر، هدوء ما قبل البعث حين يدور الزمان على نفسه، هدوء لا سواه في اللحظة يحبس الزمان ويخنقه، هدوء أبيض لا ضد له، أبيض. تمنيتُ أن أجمد في هاته العينين وأن أذوب في ملوحة الدمع أو أن أكون جزءا من الاحمرار الموجود في أسفل عينيها. كانت أحلامي كثيرة وبلا ذاكرة ولا سُمْك. هكذا صورا تتحرك أمامي ومضلعات خاوية باردة.

كنت سعيدا بها حتى وهي تتجاهلني وتغازل بشَعْرها آخرا. كانت كإلهة يونانية كلما أطلتُ النظر فيها تًمَلَّكت روحك وعقلك. اكتفيتُ منها بالرؤيا وعبادة المسافة إلى أن تذبلَ كوردتها التي تُتْقِن الاعتناء بها وتجفيفها ثم وضعها داخل كتاب.

لم أعد أذكر المناسبة، مَشَيِنا كلنا مساء قرب مصب نهر هادئ، كنت أحاول الاقتراب منها كعَلَق مبتدئ أو ككهربائي مذعور. اصطدم كتفي بجانبها وصعقني التيار، أو لأكون دقيقا، انتشر وتمَدَّد التيار فيَّ وأحرقَ جوفي حتى صار داخلي فَحِيما. تشَمَّمْتُ رائحتها، زرقاء سماوية. كان فَوْحُها حَيِيًّا، عَرْفُها أكثره سكر لذيذ وباقيه رُقْية ألزمتني الفراش لمَّا أطلتُ النظر في وجهها الصافي.

تمنيتُ أن أحنِّط ذلك المساء وأن أُصَيِّره جليدا أخبئ فيه أزهارها الميتة. في كل ليلة والسواد يلون مقامي، أتذكر بياضها العفيف، ما جردتُها من ملابسها في حلمي يوما، كنت أنظر إلى أن ممارسة الجنس معها تشبه الختان، لا يمكن أن تتكرر ولن تتلوها إلا تشويه و ألم. ماذا كنتُ من غير اليونانية؟ كنتُ كغيري، أصَرِّف الزمن لأرميه في عدَّاد هاته الحياة. أقف، أمشي، أهرول، أجري، ألهث وهاته الأيام تأبى أن تصير عجينا ملونا، أكَوّْن منه كرة صغيرة وأرميها تحت قدمي أطلس التافه. كنت موجودا بلا بصمة، خاويا من المعنى، حتى هاته الروح الخفية المختفية، ما تلمستها فيَّ يوما. وفي سنة ما، اقتربت الشمس أكثر أو أصبح القمر أقل قتامة ورأيتُها في صباح بارد بيضاء من غير سوء، بلا نمش تضع يدا على يد كمنحوتة إيطالية، مكتفية بذاتها لا تتحرك إلا لماما ككسوف بارد، تُرْهب وتُبْهر. فصرت ككوكب تائه جذبه عنوة خط مدارها. غابت عني زمنا وما غابت ذكراها...

وجدتها وبياضها يلوّْن يد زنجي أسود، أفطس. كان ذا قامة تبحث عن آخر سلم فرعون، بجسد متناسق. جلده مشدود يكاد ينفجر ليعَري عن عضلات منحوتة. كان سواده لامعا بلا غبرة ولا اصفرار. كان نقيا خالصا كحجر كريم وهي كانت تقبله وتصقله بأصابعها الممتلئة. وأنا في ركن قريب من هذا الحاضر أرسم كل قطعة في جسدها، مرةً أبدأ بإبهام يدها الأيمن القزم الذي يذكِّرني بقصر الحياة ومرةً من سمرة داكنة تعلو منتصف شفتها السفلى ثم أنتقل إلى العينين فأضيع في سواد الزنجي.

كانت قمره وهو ليلها وأنا راعي الغنم في أعلى الجبل أناجي السماء أن تعيدني إلى زمن الرق. عزمت الأمر وأوقفتهما وقلت لها: أنا سيد هدا الزنجي، من يملكُها، أملكُها ولن يختلي بكِ إلا أن كنتُ معكما. مرَّت الدقائق ثقيلة كحبات المطر المتسخة والممتلئة التي تعلق في أغطية المقاهي. كان كلاهما أطول مني قامة. لم يكن الأفطس ليفهم ما أقول، انفتحت مناخيره واتسعت وبلغتني منها حرارة جسده الحارقة، لابد لهذا الرخام من نار تشعله. كانت صفعتُها لي هادئة، بها حنان وعزة نفس، ما بعد ذلك لا أذكر إلا السواد يحفُّني من كل جانب ودم يسقط على فستانها البنفسجي الطويل.

راقبتُهما طويلا، اهتمامي الأوحد ملاحقتهما بين الأزقة والدروب وانتظارُهما حتى يخرجا من عرض مسرحي أو فيلم سينمائي. كان الأجرب للأمانة ذا ذوق فني رفيع، تغيظني ملابسه الأنيقة، ساعته الصفراء والمطاعم التي يرتادانها. كنتُ أراها سعيدة، تبتسم بثبات وتقبل كل مرة عظمه الوجْني الناتئ كذئبة برية بيضاء. كنت على يقين بأن عظامه سوداء وإلا لما كانا على هذه الدرجة من التناغم. لستُ عنصريا لكني كرهتُه و جورج ويَّا ولاعبي كرة السلة الأمريكية وكرهتُ سيزير وماكيبا ومانديلا ومورغان فريمان، وبائع الزريعة بحينا وقطتنا السوداء. لم أكن أَغِيرُ منه بالمطلق، لم تمر هاته الفكرة في رأسي، فالأحاسيس تبتدئ بفكرة وأنا كنت متأكدا بلا ريبة أن اليونانية ستضع قدميها على رمال شاطئي وإن تأخر الزمن وإن جرَّبَتْ كل أعراق الرجال والنساء فهي في النهاية لي ما دامت لن تختف عن الرؤيا. فالرؤيا تملك وامتلاك. كان عبدا وحده و كانا إلهين معا.

رأيتُ معهما زنجية أخرى، بشعر أشعث تلتحق بهما وتكلمهما بحميمية، فوجدت فيها ضالتي. كتبت لها شعرا أتغزل فيه بلونها الإلهي ومفاتنها المستترة وراودتُها باجتهاد ومثابرة طالب في فترة التدريب. وأصبحت لي بعد سبت، حبيبة تتكلم الفرنسية بطلاقة وتصرخ بلهجة محلية شهية، وتغدق علي بتوابل لها مفعول دم الحصان والأسد والديناصور، لكنها كانت تدوخني بصنانها كلما طوتني تحت ذراعيها.

وجاء اليوم الذي تحملت من أجله القرف والخيانة ، أقنعَتْ حبيبتي اليونانية بأن نلتقي جميعا في شقتها. وكنت أطمع في أن يتحرك كل مثيل إلى مثيله، وتصحح الطبيعة هاته القسمة الضيزى، أحسست بقرب المراد ورأيته في عينينها الواسعتين ككرتين بلوريتين. أرى المستقبل البعيد في اليمنى، وأشعر بالماضي قريبا في اليسرى. كانت أهدابها حادة كسنان الرماح مستعدة للانقضاض وأظافر أصابعها التي تخفي تحتها جيرا أبيض تتمرن بحركات مدروسة لتنهش اللحم وتعري الروح ورقة ورقة. أما الظلام فكان يتكلم لهجته الغريبة المثيرة، وأنا أتحرك في مكاني، أشتعل وأنطفئ مرات ومرات. اليونانية أمامي وهي لي وحدي.

وجدت نفسي مرميا أمام العمارة قرب قطط تبحث في حاوية الأزبال وهذا الليل يأتي سريعا ومريعا كالملاريا وأنا جالس تحت عمود الإنارة، أكتب لها رسالة لأودِّعها لكنها لا تريد أن تغادرني. أرى جبهتها الناصعة في بياض الورقة وأرسمها من جديد، تملأني معنى. المطر يهطل ضبابيا وأحس أن الوجود كله يبكي معي ويدفعني إلى الأمام وأنا لا أريد إلا هذا الحاضر الخانق. أعلم أنه لو كان الحب وحده كافيا ما غادر آدم الجنة وكنت أعلم أن هاته الحياة لا تكفي لنعيش مع كل الذين نحبهم وهي لا تكفي لأن أحب من جديد غير اليونانية. سأبيت ليلتي أنتظرها إلى أن تخرج فجرا لتشتري شوكولاتة فرنسية سوداء ثم أنقدها وأحررها من عبودية سيدها الزنجي، فهي لي وحدي. ستبتسم لي وستلفني بشَعْرها العربي الأسود المسدول. إما أن نهرب معا أو نموت معا حبيبين...