يتناول الباحث هنا من منظور فكري وفلسفي مسألة الهوية والغيرية ويدعو لضرورة أن نعيش معنى "الفكر في الفكر"، لا معنى" الإرث في الفكر". فعلينا أن نبدع قناعاتنا في كل شيء لنملك وضوح الرؤية، ونعرف ما نريد فالساحة مفتوحة للذين يقرروا، لا للذين ينتظرون من يقرر عنهم.

الهوية والغيرية وتموج الفكر الإنساني

بين الاصالة والاغتراب

باسـم عـثـمان

 

الهوية موضوع فلسفي بالأصالة، عالجه الفلاسفة المثاليون والوجوديون على حد سواء، المثاليون (ميتافيزيقيا)ً حولوه إلى قانون الهوية، والوجوديون (نفسيا)ً منعاً لانقسام الذات على نفسها وبالتالي إنكار الوجود الإنساني. وقد يصبح عند بعض الفلاسفة، مثل "فيشته"، القانون الأول في الفكر وفي الوجود. و(الغيرية) ليست قانوناً مستقلا بذاته ومغايراً بل هو نفي للهوية "اللا أنا"، ويكون القانون الجدلي الموضوع: "الأنا" نقيض الموضوع: "اللا أنا"، ومركب الموضوع "الأنا المطلق"، إنه تكرار لفظي للضمير المنفصل "هو" مثل معظم مصطلحات الفلاسفة ومشاكلهم". وكما يتداخل مفهوم "الهوية" مع مفهوم "الماهية"، فإنه يتداخل أيضاً مع مفهوم "الجوهر"، وتنتسب المفاهيم الثلاثة إلى جذر معنوي واحد، وليس جذراً لغوياً إلى مفهوم الأصل. وإذا كان مفهوما "الماهية" و"الهوية" مشتقين لغويين من نفس الجذر "هو"، فإن "الجوهر" استعارة من علم المعادن من الجوهر النفيس.

والهوية خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، هي موضوع إنساني خالص فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل، هو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى "اغتراب"، الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، فالهوية تعبير عن الحرية، الحرية الذاتية، الهوية إمكانية قد توجد وقد لا توجد، إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن غابت فالاغتراب.

قد يعتبر بعض الوجوديين أن الهوية هي البدن لرفضهم ثنائية النفس والبدن، "أنا جسمي" كما يقول (جابريل مارسل)، وعن طريق الجسم أتحرك وأنتشر في العالم، ويرفض (سارتر) مقولة ديكارت "أنا أفكر" ويفضل "أنا موجود"، والوجود هو البدن قبل أن يتخلق فيه الوعي. ولذلك كان أفضل منهج لتناول الموضوع هو المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي)، منهج تحليل الخبرات الشعورية، طالما أن الهوية ظاهرة إنسانية، وهو تحليل مباشر دون الاعتماد في مقدماته أو نتائجه على أدبيات الموضوع من أجل تجاوز منهج "قال ... يقول"، وتجميع أقوال السابقين.

وإذا كان صعبا تحديد الهوية إيجاباً فإنه من السهل تحديدها سلباً أي فقدان الهوية أو ما يسمى (بالاغتراب)، أن تخرج الهوية خارج الوجود، تتخارج وتصبح بديلا عنه، يرى فيها الإنسان وجوده، وينسى وجوده الأصلي، وقد تحدث الفلاسفة خاصة "الهيجليين" منهم عن الاغتراب أكثر مما تحدث الفلاسفة عن الهوية. ومصطلح "الهوية" لفظ تراثي قديم، موجود في كتب المصطلحات مثل (التعريفات) للجرجاني ومعناه أن يكون الشيء هو هو، وليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية، وهو موجود أيضاً في المعاجم والقواميس الغربية في مصطلح "آيدانديتي" وأحياناً في مصطلح "الآنية" مشتق من "أنا"، بنفس المعنى يستعمله الفارابي في كتاب "الحروف" في مقابل اللفظ الغربي "آلتريتي" ويعني (الغيرية) وهو على نقيض (الهوية).

لذلك، يتصور الكثيرون من الناس الأصالة فيربطونها بالزمن، أن يكون الماضي جذرك وعمقك، وبذلك تكون الأصالة لها معنى في علاقتنا مع الماضي، على اعتبار أن للزمن جذوره كما للمكان، وجذر الزمن هو كل ماض استهلكتها الحياة. لهذا - يخيل لهم البعض من الناس - أن الأصالة هي الدخول إلى الماضي لنغيب فيه، ونعتبر أن الماضي مؤصل في الشخصية ومعمق في الوجود، فيجب علينا أن نقدس الماضي، حتى أننا يجب ان نعتبر الأخطاء مقدسات. وعلى هذا الأساس، تحدث بعض الناس، عن الأصالة كما لو كانت تركيزا على التخلف، حيث أن الماضي يحتضن الكثير من التخلف في الفكر وحركة الحياة.

ونجد بعض الناس يتحدثون عن التغريب في الجغرافيا والمكان، تماماً، كما لو كان هناك فاصل في الخطوط الفكرية بين الشرق كمكان، والغرب كمكان آخر، لتكون المسألة وطنية الشرق أوعصبيته، مقابل وطنية الغرب أو عصبيته، وكأن هؤلاء يريدون أن يقولوا "الغرب شيء والشرق شيء ولن يلتقيا"، على أساس ان تستغرق المسالة في المكان وتتشكل عقدة ضد الغرب و لتنشأ كرد فعل عقدة في الغرب ضد الشرق، وهكذا، تضيع الاصالة في ضباب المفاهيم المتنوعة. أننا عندما نتحدث عن الأصالة، فإننا لن نتحدث عن ماض يحتضنه الزمن فيما يسمى تاريخاً، فقد لا يحمل هذا الماضي في بعض مواقعه وخطوطه شيئا يتأصل الانسان به، بل قد يكون شيئاً في السطح وفي الشكل، وقد نجد في الحاضر كثيراً من عناصر الأصالة، لأن الانسان يجد فيها نفسه ككائن حي تتجذر في مسؤوليته في الوجود.

قد نجد في الغرب قيماً إنسانية لا نجدها في الشرق، وقد نجد في الشرق قيماً انسانية سلبية - لا إنسانية - لا نجدها في الغرب، وذلك لسبب بسيط: وهو أن الفكر لا وطن له، حيث أنه يستوطن مكاناً لأنه ينطلق في وعي انسان مفكر يعيش في هذا المكان، وجاءت الظروف الموضوعية لتفرضه واقعاً في حركة الفكر في هذا البلد.

ليس هناك وطن للفكر، الفكر أعلى وأسمى من التاريخ ومن الجغرافيا، حيث أن الجغرافيا والتاريخ يكبران به، به يتقدس المكان والزمان ولا يتقدس الفكر بالزمان و المكان. إن المبادئ لا تدخل في عملية استيراد وتصدير لأنها ابنة الحياة عندما تحمل عمق الحقيقة، و ليست ابنة مكان معين. الانسان يصنعها ويبدعها، يستوحيها ويحركها، ثم لينطلق ليفعل بها الواقع في كل المظاهر الانسانية. إذاً، الفكر هو انساني، لأن الانسان هو الذي يبدعه عندما ينطلق به، قد تعطيك العروبة على سبيل المثال، بعض الخصائص التي تشجع حركة الفكر، ولكنها لن تعطيك الفكر بحد ذاته، لأن الفكر انساني، ليس قومي أو وطني، لذلك علينا أن نبتعد عن إعطاء الفكر المفاهيم التي تعلبه بالقومية أرضاً وزماناً، لأن الانسان عندما ينطلق ليفكر: فانه يبدع فكراً إنسانياً انطلاقاً من خصائصه الانسانية.

ما هي الأصالة؟

هي العناصر الفكرية أو الروحية أو الأخلاقية التي تمثل الجذور الأساسية في انسانية الانسان، في انتمائه الذي ينطلق من قناعاته الفكرية، فالإنسان ذو أصالة فيما يحمله من فكر أو منهج ينتهجه، ويمثل هذا الفكر أو المنهج عمقاً في انسانيته في كل مواقعها وامتداداتها واعماقها، ان ينطلق الفكر من عمق، من عقل، من دراسة ومن حاجة الحياة ومن حاجة الانسان في الحياة. إذاً، أنت أصيل بقدر ما يمثل فكرك عمق وجدانك وعقلك، والفكر يكون اصيلا في الحياة بقدر ما يمثل حاجة الحياة في كل ضروراتها.

لذلك عندما نعالج مفهوم "التغريب" يجب علينا معالجته على أنه خط فكري تتحرك فيه الحضارة التي عاشت في الغرب وانطلقت فيه، ولهذا، يصبح هذا المفهوم خطا في الفكر والنهج ليكون حركة في الحضارة. فالقضية ليست انفعالاً ننفعل به، وليست انتماءً طائراً ننتمي إليه، بل هي حياتنا، وفكرنا هو حياتنا، لأن الحياة صورة لكل مفاهيمنا التي تفرض نفسها سلباً أو إيجاباً، تقدماً أو تخلفاً على الحياة، وذلك من خلال الوجدان الذي نحمله، لذلك، لا يكون الانتماء حالة طارئة في الانسان بل هو حالة ثابتة في وجوده، لأنك بما تنتمي توجد.

لا بد لنا من أن ننطلق لنفكر أولاً، لا الفكر الذي ينطلق ليدرس الانسان في خطوطه العملية في الحياة، أن ندرس إنسانيتنا؟! أن نفكر وأن يكون الفكر يساوي العقلانية والموضوعية، العقل الذي يقف مستنكراً ليلتقط ملاحظة هنا وأخرى هناك، فكرة هنا وأخرى هناك، ندرس كل انتماءاتنا لنعقلها ولنؤصلها في وجداننا، لأننا قد نكتشف أن كثيراً من انتماءاتنا كانت إرثاً ولم تكن فعلاً! والبيان الإلهي يؤكد على ذلك بقوله: "إنا وجدنا آباؤنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون"، والارث ليس بالضرورة أن يكون سلباً دائماً، لا بد لنا أن ندرس سلبياته وإيجابياته، لأن إرث ما تركه لنا آباؤنا قد لا يكون له دور في حساب حياتنا، لأنه إرث من زمن ماض انطلق من تجربة محدودة وتحرك في أفق محدود، لهذا ليس بالضرورة أن نقدس التراث بل علينا دراسته، لأنه كان فكر أناس جربوا، وتجربتهم خاضعة للظروف الموضوعية التي كان يمثلها زمنهم. لذلك: هم كسبوا فكراً وعلينا أن نكسب فكراً آخراً، يخضع للظروف الموضوعية والتي يمثلها زمننا: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم"، لها ما كسبت من فكر خاطئ أو مصيب، ولكم ما كسبتم، لكل جيل كسبه وليس بالضرورة أن يكون كسب الأجيال السابقة هو كسبنا من مسألة الإرث، وقد نكسب ما كسبوه لأننا اقتنعنا به ولأننا أردنا ذلك، لا لأن الآخرين تركوا لنا ذلك.

القضية في عالم الفكر والانتماء، ليست أن يكون لك شيء جديد دائماً، ربما يكون لك فكر الآخرين لكن على أساس أن يتحول ليكون فكرك بعد أن تقتنع به أنت، لا لأن الآخرين اقتنعوا به، وهكذا هي المسألة في عملية التفاعل: "لنفكر معاً" ولا تكون المسألة " فكروا لنا"، لأن "فكروا لنا" يلغي وجودنا، ولكن "لنفكر معاً" يمنحنا عمق هذا الوجود المتفاعل مع الوجود الآخر. فالإنسان الأصيل هو الذي اختار فكره، ولم يتبع غيره، وهو الذي جعل قضايا الحياة، قضايا هذا الفكر والانتماء، ليتأصل هذا الفكر في عمق الحياة، فالإنسان يؤصل انتماءه من حيث يؤصل فكره ليربطه بعقله ووجدانه وبكل ثوابت الحقيقة في الحياة.

تكون لنا الأصالة حيث تكون لنا الإرادة وحيث يكون لنا الاختيار، وعندها تكون الأصالة في مواجهة التبعية العمياء، أن تكون مجرد حركة تابعة لحركتهم، تتمثلهم لكنك لا تعيشهم، وجودك التابع هو الوجود في الظل، وليس الوجود الحقيقي، هو الصدى والشبح، لا الحقيقة. لذلك نواجه كل الذين يريدون أن يفرضوا علينا أن نكون تابعين لهم - لا إرادة لنا ولا اختيار- عندها المسالة تتمثل في معركة الحرية في أن نريد أو لا نريد، أن نكون أو لا نكون، لذلك: لا نواجه مفهوم "التغريب" من موقع "العقدة" بين الشرق والغرب، على أساس أن الغرب استعمره وفرض عليه ثقافته ومناهجه وذهنيته وعاداته، أي عقدة الضعيف من القوي، لأن القوي قد يفرض عليك شيئاً جيداً، وليس بالضرورة أن يفرض عليك القوي شيئاً سيئا، لذلك، علينا أن لا نواجه الغرب في المسألة الفكرية أو الحضارية من موقع عقدة الشرق من الغرب، لأننا حينها لن نفهم الغرب ولن نفهم انفسنا، لن نفهم إلا ضعيفاً يريد أن يصارع قوياً ويسترد كرامته، لهذا، نرى بعض الناس يدعون إلى المحافظة على التراث حتى لو كان متخلفاً، وإلى رفض كل جديد حتى لو كان متقدماً.

محمد عبده والأفغاني

وها هو محمد عبده أحد رواد الفكر العربي في عصر النهضة، دعا إلى تقليد أوروبا في مدنيتها الحديثة، وليس التقليد بالشكل، كما أنه دعا إلى تعلم اللغات الأجنبية للأخذ بالعلوم الحديثة عن الغرب، وهو من اعتبر ذلك أصل من أصول الإسلام، والأفغاني يحذر من التقليد الأعمى ويعتبره خيانة، لأنه برأيه يؤكد واقع التبعية والشعور بالنقص، مما يؤدي إلى الانحلال الخلقي والسياسي. لذلك، نواجه التغريب من خلال دراسة القاعدة الفكرية والفلسفية والأخلاقية – وهي في تداخل مع بعضها – للمسألة الفكرية للغرب، أن ندرس قاعدته الفكرية ثم ندخل في مقارنة مع ما نلتزمه فكرياً، لتكون المسألة قاعدة فكرية تحاور قاعدة فكرية أخرى أو تصارعها إذا أردنا أن نعطي للصراع الفكري معنى "العنف".

أمامنا ركام هائل من الأفكار والتقاليد والأوهام، لنحاول أن ندخل في حوار مع ذلك كله، حوار يرتكز على العقل، حوار ينطلق من موضوعية ولا ينطلق من انفعال، أن يكون هناك فكر يحاور فكراً، لا أن تكون هناك ذات تحاور ذاتاً، لأن مشكلتنا هي الخلط بين الفكر والذات، فكرنا هو الشيء الذي اخترناه وليس شيئاً خُلق معنا، والتنازل عنه إذا كان خطأً ليس تنازلاً عن الذات بل هو تجديد وحماية لها، والانتقال إلى فكر آخر ينطلق من القناعة هو عملياً تأصيل للإنسانية.

لنحاول أن نعيش معنى "الفكر في الفكر"، لا أن نعيش معنى" الإرث في الفكر"، لا تقليد في الفكر، علينا أن نبدع قناعاتنا في كل شيء لنملك وضوح الرؤية، نعرف ما نريد ونقرر ما نريد، الساحة مفتوحة للذين يقرروا، لا للذين ينتظرون من يقرر عنهم.