يعبر هاندكه عن الصعوبة التي تواجهه في عملية الكتابة عن والدته، من دون أن يلجأ إلى التعابير التقليدية، غير الذاتية، ومن غير أن يُفصح عن انفعالاته ومشاعره، فالمشاعر الوحيدة التي يجرؤ على قولها لا تتصل البتة بحزنه وحداده، وإنما بالمصاعب التي تعترضه في الكتابة.

بيتر هاندكه «الشقاء العادي»

نجـوى بركات

 

في روايته "الشقاء العادي" (ترجمة الشاعر بسّام حجّار، دار الفارابي، بيروت، 1991)، يتناول الكاتب النمساوي الحائز أخيرا على جائزة نوبل للآداب، بيتر هاندكه، حادثة انتحار والدته، وهي في الواحدة والخمسين من عمرها، في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1971، وقراره الكتابة عن حياتها وقرارها وضع حدّ لها. القصة كما تبدو بسيطة، لأنها قصة حياة فارغة، رتيبة، خالية من أي تطلّبٍ أو رغبة، حيث لا تجد الاحتياجاتُ حتى طريقَها إلى البوح، باعتبارها نوعا من الكماليات أو الترف، حياة انتهت في مطلع ثلاثينياتها، رغم أن صاحبتها كانت تحلم في صغرها بأن تحقق ذاتها، راجيةً أهلها "أن يسمحوا لها بأن تتعلّم شيئاً".

بيد أن مشروع الكتابة هذا سيتبدّى صعب التحقيق لصاحبه، بل شبه ممتنع عليه، لاحتوائه على ما يستحيل التعبير عنه بالكلمات والجمل، وهو ما دفع الكاتب إلى تأجيل مشروعه أكثر من مرّة، خشية وتردّداً، ثم إلى استجماع قواه، فالمباشرة بالكتابة بعد مرور عدة أسابيع على دفن أمّه.
ومع هذا، تُظهر الرواية بشكل إرادي ومقصود تلك الحيرة، بالتعبير عنها بشكلٍ مباشر تارة، وباختيار أسلوب كتابةٍ بعينه، تارة أخرى. أجل، يقول هاندكه الصعوبة التي تواجهه في عملية الكتابة عن والدته، من دون أن يلجأ إلى التعابير التقليدية، غير الذاتية، ومن غير أن يُفصح عن انفعالاته ومشاعره، فالمشاعر الوحيدة التي يجرؤ على قولها لا تتصل البتة بحزنه وحداده، وإنما بالمصاعب التي تعترضه، والتي يسخر الكاتب منها باعتبارها من أشكال التكبّر الثقافي، مع اعترافه بأنها تجربة عصيّة على القول، وغير قابلة للمشاركة مع آخرين. بالطبع، بمستطاعه أن يفعل كما يفعل الآخرون، أن يستخدم المصطلحات الجاهزة التي تستعملها الأكثرية، إلا أنه يرفض الأمر بشدة، لسبب أخلاقي: فذلك يلغي فرادة والدته، ويتنكّر لما هو فريد في تجربة الحداد على رحيل شخص غالٍ.
لذا، يبتكر الكاتب أسلوباً مغايراً، بسيطا ومعبّرا في آن، حيث لا يعمد إلى السرد بقدر ما ينحو إلى التعداد، أو لصق العبارات - المشاهد بعضها ببعض لتكوّن صورة، ديكورا، موقعا، أكثر منها جُملةً وصفية، فتأتي مشبعةً بالكآبة، وبحياد لن يتأخّر في أن يتحوّل إلى سخريةٍ من الشوائب التي تعتري طريقة إخبار الأحداث. هكذا يتراجع الحدث الأساسي الذي يشكّل دافع الكتابة وموضوعها، أي انتحار الوالدة، لصالح معاناة الكاتب لابتداع شكلٍ أو أسلوبٍ يتماشى واستحالة الكتابة عن مثل هذه التجربة، لا بل الفشل حتى في كتابتها.
"
أنا مفكّر اللحظة الفوريّة: حتى أنني لست سوى هذا. السرد لا يهمّني، وحبكاتي مستترة، مطمورة..."، يكتب هانكه، هو الذي ينجح، على الرغم من كل شيء، في تظهير بروفايل والدته، ولو على شكل نيغاتيف. "قطرات ماء على حبل الغسيل، ضفادع تتقافز عبر الدرب أمامك في الظلام، ذباب، حشرات، فراشات ليلية في عز النهار، ديدان وبنات وردان تحت حطبة في مخزن الحطب، لا سبيل إلا أن تحيا مع هذه الأشياء، إذ لم يكن هناك أي خيار آخر. رغبات، غالبا ما تنتابك وسعادة مبهمة، ولا رغبة واحدة تقريبا، وقرصة شقاء".
من هذا الديكور الموجز الوصف، بليغه، تخرج صورة الأم التي ستجيئها الحرب وهي بعد مراهقة، ثم تنتهي الحرب ويرحل هتلر من ألمانيا المدمّرة، المقلوبة رأساً على عقب. أما الرجل الذي لم تحبّه وتزوّجته، فهو الذي قبل راضياً أن يربّي ولداً ليس من صلبه. "لم تصبح شيئاً إذن، وما عاد في وسعها أن تصبح شيئا وكان عبثا أن يتنبّأ لها أحد بذلك. كانت تتحدث عن "سنواتها الماضية"، ولم تكن قد تجاوزت الثلاثين. لم تكن قد رضخت لأي شيءٍ حتى ذلك الحين، إلا أن ظروف الحياة كانت قد أصبحت بائسة جداً، بحيث كان عليها، ولأول مرة، أن تحكّم العقل في ما تفعله. رضخت للحسّ السليم من دون أن تفهم منه شيئاً"
لا يكتب هاندكه مرثيةً لوالدته، بقدر ما يتمرّن على كتابة ألم فراقها وتقفّي كآبة الأماكن إثر خلوّها من الحياة.

 

العربي الجديد