يقدم الناقد المغربي هنا قراءة مغايرة وربما صادمة، ولكنها مثيرة للتفكير وقابلة للجدل مع مخرجاتها، لمسرحية "الخادمات" لجان جينيه. وتقوم مقاربته النقدية على محاججة النص استناداً إلى الفلسفة النيتشوية والهيغيلية، وكيفية تناول جينيه لجدلية "السيد" و"العبد".

على مسؤوليتي: قراءة مغايرة لجان جنيه

آخر رموز الأدب النازي/ الفاشستي

عزيز قـنجاع

 

اعتبارات تمهيدية: قد تكون هذه القراءة صادمة للكثيرين من عشاق جون جنيه الأديب والإنسان والرجل الذي ساند الثورة الفلسطينية وكتب عن المهمشين والمنبوذين وشرف مدينة العرائش، مدينتي، باختيارها مرقده الأبدي، لكن أجدني في هذا المقال الذي لن يعجب الكثيرين مضطراً أن أقرأ جنيه من وجهة نظر أخرى تؤيدها أعماله المسرحية الكثيرة، وبهذا السبب لم أشارك في الندوة التي نظمتها جمعية ليكسا للمسرح في الندوة التي أقامتها بمناسبة عرض مسرحية الخادمات، حتى لا يعتبر الأمر تهجما على رجل كرمته جمعية ليكسا بعرض مسرحية الخادمات وكانت من توقيع المخرج الكبير جواد الأسدي، خلال مهرجانها الأخير.

تقديم: إن هذه القراءة لجان جونيه ومسرحية الخادمات هي قراءة نقدية من موقع نقدي إيديولوجي، نقول هذا حتى نميز ما سنقوم به من نقد، عن النقد المسرحي أو النقد الأدبي أو الفلسفي عموماً، لكننا طبعاً سنستعمل أدوات هذه المجالات في قراءتنا لنص الخادمات لجونيه، مع المحافظة على كل نوع في نطاقه الخاص – حتى لا يكون تداخل في الحكم، فكما أشرت إلى ذلك دائما، ليس لوسيان غولدمان مثلا ناقداً أدبيا رغم أنه كتب حول راسين ولوركا والقصة الجديدة في فرنسا، كما أن ماركس لا يعد ناقداً أدبياً لأنه كتب صفحات حول بالزاك في الأسرة المقدسة... والنقد المترتب على اللغويات الحديثة كما يمثله رولان بارث، يجب أن يعتبر نقداً فلسفياً، لا نقداً أدبياً منهجياً. أما النقد الذي نوده لهذا العمل فإنه يحاول أن يصل إلى النظرة المتحكمة في مجمل العمل في التصور والإحساس والكشف عن العوامل التي حددت هذه النظرة ومبررات وجودها وحضورها لدى جون جنيه، من هذا المنظور تبدو مسرحية الخادمات لجان جونيه صورة خامة تبين الأفق الفكري لجان جونيه وتحشره ضمن سياق نظري عام مخالف لما أجمعت عليه الدراسات التي تناولت جنيه وأعماله.

نيتشه، هيغل وجونيه: مسرحية الخادمات لجان جونيه وجدلية العبد والسيد.
السيدة في مسرحية الخادمات، ربة البيت، التي تعيش عيشة ارستقراطية في شقة فخمة، تعكس بأثاثها الطراز الأرستقراطي المخملي في الحياة، امرأة ترتدي ألبسة كلاسيكية وأفرشة غالية وتحرص على نمط عيشها باتباع طقوس منتظمة تكون الواسطة فيها أي في تلبيتها هما الخادمتان الشقيقتان "كلير" و"سولانج".

السيدة امرأة تعيش ضمن نظام واضح فمن طقوس هذه السيدة أنها كانت تستيقظ كل يوم من نومها القصير بعد الغداء فتدق الجرس وتدعو إحدى الفتاتين طالبة منها الشاي، فتأتى به إليها وتتناوله السيدة ببطء في فراشها، ثم تنهض متكاسلة إلى حمامّها الخاص وتعود لترتدي ملابسها التي أعدتها لها إحدى الخادمتين ومن ثم تشترك الشقيقتان في مساعدتها على ارتداء ملابس الخروج وتصفيف شعرها ووضع المساحيق التي تزيدها جمالاً، ثم تقدمان لها حقيبة يدها وتودعانها إلى باب المسكن.

لا شيء في تصرفات السيدة خلال طول المسرحية ينم عن معاملة سيئة للخادمتين بل علاقتها بالخادمتين طيبة. وهنا إحدى المفارقات القوية في المسرحية، ففي الوقت الذي تغرق فيه الخادمتان في بحر الحقد والغل اتجاه السيدة، نجد أن "السيدة" التي تخضع إليها "الخادمتان"، لا تعاملهما أية معاملة تؤكد على الإكراه أو التسلط، وبقول فلسفي أوضح، لا تنفيهما. هي فقط بعملها اليومي وطقوسها الأرستقراطية تؤكد على تمايزها هي وتستمتع بهذا التمايز. فالنفي ليس حاضراً في الجوهر كمصدر تستمد القوة "السيدة" نشاطها منه بتاتاً. فعلى طول المسرحية يغيب أي حضور سلبي للسيدة، عكس ما هو الحال عليه في جدلية العبد والسيد عند هيغل في كتابه فينومينولوجية الروح حيث النفي ينبثق عن هذا النشاط، إنه حصيلة وجود قوة فاعلة وحصيلة تأكيد تمايز هذه القوة.

يستبدل جونيه العنصر المفارق في النفي، والتعارض والتناقض بعنصر عملي: التمايز، موضوع تأكيد واستمتاع. أليست هنا "نعم" السيد عند نيتشه تقف دائماً ضد "كلا" الجدلية والتأكيد ضد النفي الجدلي، والتمايز ضد التناقض الجدلي والفرح والاستمتاع ضد العمل الجدلي. فعلاقة السيدة بالخادمتين "كلير" و"سولانج" طيبة إلى حدّ ما، نفهم أن عنصر حسن المعاملة قائم، فهي رقيقة في التعامل معهما طوال الوقت حتى أنها حينما تهم مغادرة البيت للأوبرا أو المسرح أو حفلة غنائية، نلاحظ هنا مستوى الرقي والفرح والانسجام الذي يعيشه "السيد"- ويؤكده جنيه بخفة زائدة، فإنها تودعهما عند خروجها من البيت دائما وهي باسمة أو شاكرة، إذن فنظام القيم الأرستقراطي الذي تمثله السيدة يولد من خلال تأكيد منتصر للذات، زاه بنفسه، متصالح مع ذاته، لكن يبقى السؤال المطروح هو لماذا تضمر "كلير" و"سولانج" كراهية وحقد كبير للسيدة، المشكلة في المسرحية لا نجد جوابا لها، بل نجد إدانة لهذا الحقد باعتبار السيدة تمتاز بأخلاق ومعاملة جيدة لخادمتيها، فلا جواب لجنيه ولا إشارة، إنه ينطلق منه كمعطى طبيعي، مسلمة فلسفية، الحقد والكراهية مكون جوهري من مكونات قيم العبيد، لا مفر من صدقيتها، إنها فقط وبكل بساطة طبيعة أخلاق العبد، أن العبد إزاء سيده حاقد ناقم وهذه هي طبيعة العبد، وإن تساءلنا من أين استقى العبد هذه الأخلاق الحاقدة الناقمة فسيجيبنا نيتشه، إن نظام قيم العبيد هو بالدرجة الأولى رفض "كلا" لكل ما يقع خارجه، لكل ما هو مختلف عنه، لكل ما يشكل بالنسبة له اللاأنا، وهذا الرفض يشكل بالنسبة له فعل تكون. إن أخلاق العبد هو ما يشعر به الإنسان المستضعف المغلوب، كل ما يفكر به إنما هو قناع للانتقام من سيده المتسلط عليه.

تبدأ المسرحية بتكثيف حضور الخادمتين على مستوى العمل، الدور الرئيسي للعبد في علاقته بالسيد إنه العمل أو الخدمة، نرى أن جونيه يوضح لنا هذا الدور في بداية المسرحية فكلما استيقظت السيدة قامت الخادمتان بالعمل الضروري لإشباع مطالب السيدة التي تستيقظ كل يوم من نومها القصير بعد الغداء، تدق الجرس وتدعو إحدى الفتاتين طالبة منها الشاي. فتأتي به إليها وتتناوله السيدة ببطء في فراشها، ثم تنهض متكاسلة إلى حمامّها الخاص وتعود لترتدي ملابسها التي أعدتها لها إحدى الخادمتين ومن ثم تشترك الشقيقتان في مساعدتها على ارتداء ملابس الخروج وتصفيف شعرها ووضع المساحيق التي تزيدها جمالا، ثم تقدمان لها حقيبة يدها ويودعانها إلى باب المسكن لتخرج السيدة الأرملة في زيارة لإحدى صديقاتها أو إلى المسرح أو إلى السينما وتودعهما باسمة شاكرة وتغيب. تبدو هنا السيدة شبيه بسيد هيغل في الكتاب المشار إليه آنفا حيث أنه ليس في وسع السيد سوى الاقتصار على الاستمتاع بالشيء أو الموضوع الذي أعده العبد. لكن هيغل يضيف أنه "وعندئذ لن تكون حرية السيد إزاء الطبيعة سوى مجرد ثمرة أو نتيجة للجهد الذي يقوم به العبد" وبالتالي كنا ننتظر أن تتطور العلاقة بين الطرفين إلى علاقة احتدامية يحتل فيها الحضور العملي للخادمات كشخصيات ينتقلن من مجرد إشباع لرغبات السيد إلى سيدات حقيقيات بواسطة العمل، فالعمل هو الذي يسمح للإنسان بالتحكم بالطبيعة وإعادة تشكيلها وفرض الطابع البشري عليها، ومعنى هذا أن العمل هو الذي ينتقل بالذات إلى دائرة الموضوع وهو الذي يخلع في الوقت نفسه على الموضوع طابع الذات حسب الجدلية نفسها في تعبير هيغل فالعبد عند هيغل حين يصطدم بالموضوع أو الشيء فإنه يكتشف عندئذٍ طبيعته أو بناءه بحيث أن عمله يصبح بمثابة المصدر الحقيقي لكل علم ومعرفة وهذا الكشف الطويل الأليم لقوانين الطبيعة وأسرارها المعقدة هو الذي سيسمح للوعي باكتشاف ذاته والتعرف على نفسه.

لا شك أن السيد الذي استطاع أن يفرض نفسه على العبد وأن ينتزع منه الاعتراف له بالسيادة لن يلبث عندئذٍ أن يجد نفسه إزاء "موضوع" سوى "العبد" نفسه الذي سيكون الأداة الفعالة في يد السيد من أجل العمل على تغيير الطبيعة. ومعنى هذا أن السيد لن تكون له علاقات بالطبيعة إلا من خلال العبد ونشاطه كعبد لأنه فقد كل علاقة إنسانية بالطبيعة ولم يعد يفرض عليها –عن طريق العمل– أية صورة كفيلة بإشباع حاجاته ومن ثم فانه لم يعد أمامه سوى أن يستمتع بالطبيعة دون أن يقوى على تغييرها مباشرة وهذا هو السبب في أن ترقي وعي السيد لا بد أن يتعرض لخطر التوقف، وبالتالي من يترقى إلى مرتبة السيد بواسطة العمل هو العبد، ولا تخفى عليكم هنا ارتباط المنظور العام بالفكر الماركسي على هذا المستوى، وإذا كان صراع البشر فيما بينهم قد عمل على ظهور مبدأي السيادة والعبودية فإن حركة الصراع الجدلي التاريخي لن تلبث أن تطيح بهذين المبدأين وأن تقلب الأوضاع رأساً على عقب وتؤدي إلى تحرير العبيد، أعتذر على هذا الاستطراد في محاولة تقريب الفهم الهيغيلي لعلاقة السيد بالعبد حتى يتسنى فهم الموقف الفلسفي لجنيه من العلقات القائمة بين السادة والمسودين والتي تحكم مجمل أعماله المسرحية.

في مسرحية الخادمات لجونيه نجد ومباشرة وبعدما أن تتأكد الشقيقتان "سولانج" و"كلير" من مغادرة السيدة للمنزل حتى تتركان كل ما بيديهما وتضعان العمل جانبا، لتبدآ في تقمص إحدى الشقيقتين شخصية السيدة، فترتدى ملابسها وتنام في فراشها وتدق الجرس وتطلب الشاي من خادمتها بلهجة ارستقراطية مفتعله، وتصدع الأخرى بأمرها... وتُمضى المساء في تلبية طلباتها ومساعدتها على خلع ملابسها وتدليك قدميها كما تفعلان مع السيدة الحقيقية حتى إذا حان موعد عودتها، أسرعت السيدة المزيفة بخلع ملابسها وارتداء ملابس العمل وتقف مع شقيقتها بجوار الباب تستقبلان السيدة بخنوع واحترام ، وفي اليوم التالي يتم تبادل الأدوار فتنام إحدى الشقيقتين في السرير وتقوم الأخرى بخدمتها وهكذا.

إن العبيد عند جونيه ملاعين يعيشون في كهف الغيرة والحقد ولا يمكنهم ان يفهموا أنفسهم والعالم إلا من خلال حلم التماثل مع السيد وليس باستطاعتهم الانفكاك عن أخلاق سادتهم وقيمهم، فجلّ ما لديهم من حلم هو أن يكونوا كالأسياد، وفي محاولتهم أن يكونوا كذلك يصيرون كائنات مسخة، كائنات بلا ملامح حقيقية. إن هذا الطموح أثناء تحققه في خفية من السادة ينتج مهرجين وملاعين وحاقدين ناقمين لكن أفقهم لا يتجاوز أسيادهم.

إن جونيه في الخادمات عندما يقارب القيم الأخلاقية والثقافية الحالية يعتبرها تعبيراً خالصاً عن غلّ ونقمة ضحايا الحياة، لهذا أبخست الحياة فوق هذه الارض الحياة الحقيقية ومجدت حياة خيالية نعيشها بعديا في السماء أو في عالم المرآة حيث تقضي "كلير" و"سولانج" كل يومهما في عالم وهمي يقلدان حركات وتأنق السيدة، عالم ليس لهما، عالم الأسياد، ويلتقي مع نيتشه في موقفه من جدل العبد والسيد الهيغيلي حين يمثل الخادمتان كقوة منهكة لا تملك القدرة على تأكيد تمايزهما، إنها قوة لم تعد تستطيع الفعل بل اكتفت برد الفعل على القوى التي تسيطر عليها، لذا اعتبر نيتشه أن الجدلية الهيغلية هي تنظير لنظام الرعاع، أي أنها تقتصر على منهج العبد الذي حين راح يخدم سيده، وحين يمضي ليعمل على تغيير الطبيعة، فإنه لم يلبث أن سار على درب التحرر الإيجابي، حيث يتحجر السيد ويتجمد في صميم موقف السيادة الذي توقف عنده، فلم يعد في وسعه أن يتقدم وأن يعلو على نفسه بينما استطاع العبد أن يتغير ويترقى فأصبح بعلمه وجهده هو السيد الحقيقي لسيده الأصلي.

جونيه بقي متحجراً في موقفه النيتشوي، عالم العبيد عالم الكراهية والحقد والغلّ والنقمة. والعجيب في مسرحية الخادمات أن جونيه يهشم جميع المعاني التي تحكمت في نظريات التاريخ المعاصر فـ"كلير" و"سولانج" الأختان، لا تحقدان على السيدة فحسب، بل إن علاقتهما مع بعضهما كأختان تشوبها احتدامية عميقة تفرز نوعاً ماكراً من الكراهية المتجذرة لبعضهما لا حدود لها، فلا قرابتهما الدموية "البيولوجية، العصبية"، ولا "المهنية الطبقية" استطاعتا أن تدعم حضوراً ايجابياً للخادمتين، فالكراهية متبادلة بينهما ولا انفكاك لهما عنها بل إنهما حينما تقلدان سيدتهما فإنهما يستحضران صورة السيدة المستغلة العنيفة القاسية، لا بسبب أن هذا هو طبع السيدة التي يشتغلان عندها، لا بتاتا، فالسيدة مشغلتهما والتي تعيشان في كنفها تترفق بهما لدرجة كبيرة، فصورة السيدة المتسلطة تحضر حين تمثل الخادمتان دور السيدة، فيمزجان حقدهما على بعضهما حين تقليد السيدة، حينها يستدعيان صورة لسيدة ليست حقيقية، بل سيدة وقد امتزجت بأخلاق العبيد.

لذا يصورهما جنيه بكثير من السخرية حين يلعبان دور السيدات، فيصيران مهرجات فقط، فأخلاقهما الأصلية الحقيقية المبنية جوهرياً على الحقد والكراهية لن تدعهما يصيران سيدات ولو أوتوا كل أسباب السيادة، فالعبيد عبيد بالجوهر. إن السيد القاسي البغيض المستغل للآخرين لا يوجد وغير موجود إنه من صنع خيال العبد، إنها صورة صنعتها مخيلة العبد عن شكل السيد الذي يحلم العبد أن يتطور ليتطابق معه يوماً، إنها صورة تختصر العبد الوصولي البغيض الكاره لكل شيء، لا ننكر مدى الحقد الذي كنّه نيتشه لفلسفات التاريخ الحديث فالاشتراكية في نظره صورة أخرى من صور الغلّ والحسد الذي يشكل جوهر العبيد والضعفاء.

لهذا الاعتبار فالتاريخ عند نيتشه لا فرق فيه بين الإنسان والحيوان، فالإنسان حيوان، ليس عقلاً يتحكم في جسم، بل هو جسم يستعمل العقل كأداة طيعة للوصول إلى إهداف غريزية. والتاريخ الحقيقي هو تاريخ الأقوياء الذي أفسده غلّ الحاقدين العبيد. ولا يفتر نيتشه أن يعطي أمثلة تركزت أساساً حول روما التي مثلت العظمة، والمجد والدين المسيحي الذي عبر عن الضعف والمرض والمسكنة التي سكنت روح اليهود الذين غلبوا واستصغروا منذ قرون، وكل من يعتقد أن ارتباط جونيه بالقضية الفلسطينية من باب إيمانه بحركات التحرر الوطني لن يعرف أبداً أن الارتباط بالفلسطينيين كان نكاية في اليهود، ولا علاقة له لا من قريب أو بعيد بالثورة الفلسطينية، وأن أصول كرهه لدولة اسرائيل نابع من خط طويل من التنويعات الفلسفية التي أضافتها النازية للتضمينات النيتشوية لمعنى الأصل الصالح القوي والحقد الكبير الذي كنته لليهود في هذا الباب معروف.

إن قراءات متسرعة لجونيه والاستعمال المفرط للنقد الأدبي بعيداً عن نقد المضامين الايديولوجية للمحتوى الادبي هو ما زاغ بقراء جونيه إلى المحتويات الجمالية لرجل طوع اللغة الفرنسية بشكل ملفت، أخفت معها الأبعاد النيتشوية لأدب جونيه، فأدب جونيه إن لم تضعه ضمن أطره الايديولوجية، فإنك ستجد فيه ما تبحث عنه: لماذا، لأن جونيه لم يكن من رزمة أدباء ومفكري ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين تأثروا بالقراءات الجديدة لماركس وانجلز ولينين وشكلوا ما سمي باليسار الجديد بعد أحداث المؤتمر العشرين للأحزاب الشيوعية العالمية، ولكن جونيه خاطب نخبة متشككة تشك في قيم الليبيرالية والدينية والاشتراكية مستعملاً سلاح نيتشه الفلسفي الذي حارب الليبيرالية بسلاح الاشتراكية والاشتراكية بسلاح العلم الطبيعي وهكذا تستهوي كل الاتجاهات. يؤول القارئ عدو الدين نقد أوهام الدين بأنه شجب لمؤامرة الفقهاء، ويؤول القارئ المتشبع بالعلوم الحديثة قانون الحياة بقانون البيولوجية. ورجل الدين يرى في هذه الدعوة دليلاً على إفلاس العقل البشري وضرورة الرجوع الى رحمة الله.

الخادمات كإحالة نسوية للعمل جاءت قاسية في عمل جونيه إنه استمرار قاس لرؤية جاءت متضمنة في الأعمال الكلاسيكية للفاشية تجاه المرأة، ويتضمن كتاب إرادة القوة لنيتشه موقفاً سلبياً تجاه المرأة وحتى كراهية لها، فأقواله في كتابه "إرادة القوة" مثل هذه "المرأة! نصف البشرية الضعيف، المضطرب، المُتقلِّب، المتلوّن… إنها بحاجة إلى ديانة للضعف تقدس الضعفاء، والمحبين، والمتواضعين لقد تآمرت المرأة دوماً مع كافة صور الانحلال ضد الرجال الأقوياء". إن الخادمات "كلير" و"سولانج" جئن في أبشع صور رؤية جنيه لأنهن كن الوجه الآخر الكريه لجنيه، لا أفسر ذلك طبعاً بميولات جنيه الجنسية فقط وهو ما يلتقي فيه مع نيتشه الذي بقيت علاقته بالنساء ملتبسة وبأخته أكثر، ولكن بحقد دفين للمرأة يحتاج شرحاً مطولا قد نتطرق اليه في مقال آخر.

ولأن غلّ العبيد على الأسياد غلّ لا حدود له، غلّ متأصل، فإنه يتصاعد حتى يصل إلى أن تقرر الشقيقتان قتل السيدة من خلال وضع السمّ لها في فنجان الشاى، وفي اليوم المحدد تستيقظ السيدة من نومها وتطلب الشاي الخاص بها كالعادة، فتُقدم لها إحدى الشقيقتين الفنجان المسموم، في نفس اللحظة تتلقى السيدة مكالمة تليفونية مفاجئة تضطر معها للمغادرة دون أن تشرب شايها.

نهاية المسرحية: جدل هيغل، جدل العبيد
على الفور وبعد خروجها كالعادة تبدأ "كلير" و"سولانج" في تقليد سيدتهما، ما يهمنا في آخر هذا المقال هو استمرار الخادمة أخت كلير في اللعبة رغم معرفتها أن كأس الشراب المعد للسيدة مسموم، فترتدى ملابس السيدة وتنام في فراشها وتدق الجرس فتأتي الخادمة فتشير إليها بترفّع إلى كوب الشاي الموضوع في مكانه وتأمرها بتقديمه لها، تحاول شقيقتها أن تنبهها أن هذا الفنجان مسموم وأنها تعلم هذا من قبل، وتنبهها إلى ضرورة إيقاف اللعبة الآن، لكنها تتمادى في الدور حتى النهاية.

لن تتوقف اللعبة ولم تتوقف، إن "سولانج" كانت في موضع لا يسمح لها بالتنازل عن موقعها عن سيادتها، إنه دورها وكل ايقاف للعبة هو تخلي عن حقها في حصة سيادتها، ولأنهما مضطرتان الى أن يرفعا الى مستوى الحقيقة يقينهما الذاتي، يقين وجودهما لذاتيهما، كل منهما عليها أن تمتحن هذا اليقين في نفسها وفي الأخرى. فقط بالمجازفة بحياتها تنتزع الحرية، هذا الصراع يدل على أنه لا يوجد شيء في الوعي ليس بالنسبة له لحظة فانية –الفرد الذي لم يجازف بحياته يمكن بالتأكيد أن يعترف به كشخص، ولكنه لم يبلغ حقيقة هذا الاعتراف كوعي، ذات مستقل. كذلك كل وعي ذات عليه أن يلاحق موت الآخر، ما دام يجازف فيه بحياته الخاصة. مادام الآخر ليس قيمة بالنسبة له بقيمته هو، جوهر الآخر يظهر له بوصفه آخر، بوصفه خارجياً، وعليه أن يتجاوز هذه الخارجية، الآخر هو وعي يوجد فقط ويؤخذ في المتعدد، لا يستطيع أن ينظر إلى كينونته الأخرى إلا بوصفها محض كائن لذاته بوصفها نفياً مطلقاً.

إننا في قلب الجدل الهيغيلي جدل العبيد وقد حلموا وتاقوا إلى أن يكونوا أسياداً، ورغم أن أختها تكرر نداءها لها باللهجة الأرستقراطية الآمرة: الشاي وتعاود شقيقتها تنبيهها، لكن الأخرى كانت قد مضت بعيداً في التماثل الوهمي مع سيدتها فلا تتنازل عن أرستقراطيتها ولا عن المطالبة بالشاى. إن جونيه في هذا المشهد الأخير يدين موقف هيغل من جدل العبد والسيد ويعتبره كما أسلفت سابقاً جدل العبيد أنفسهم، إنه جدل لا يستقيم إلا في فكر العبيد، فجدل السيد والعبد كما هو مطروح عند هيغل يختزل وجهة نظر العبد ويقوم على فرضية أن القوة لا ينظر اليها كإرادة قوة بل كتمثيل للقوة، كتمثيل للتفوق، كاعتراف من قبل أحد الطرفين بتفوق الطرف الآخر. إن ما تريده الإرادات عند هيغل هو الحصول على الاعتراف بقوتها "تمثيل قوتها". وبذلك ينتقد نيتشه مجمل هذا التصور الهيغيلي لأنه يشوه إرادة القوة وطبيعتها ويراها من وجهة نظر العبد. إنها هي رؤية العبد.

وإذا كانت العلاقة بين السيد والعبد تستعير الشكل الجدلي بحيث أصبحت النموذج السائد لكل الهيغيليين والماركسيين، فمرد ذلك إلى أن هيغل يعطينا صورة عن السيد هي من صنع خيال العبد، إنها صورة صنعتها مخيلة العبد عن شكل السيد الذي يحلم العبد أن يتطور ليتطابق معه يوما، إنها صورة تختصر العبد الوصولي. فتحت ستار التصور الهيغيلي للسيد يطل دائما العبد براسه. فنهاية المسرحية جاءت لتعطينا جونيه وهو يعبث بالرؤية الفلسفية لهيغل ويسخر منها، وعندما أقول هيغل فإنني أعني كل الموقف الحديث المبني على منطق التطور، ولا يمكن استثناء الماركسية بجدلها الذي ينتهي بسيادة العبيد البروليتاريا على الأسياد الراسماليين من هذه السخرية. فنجد أن "كلير" رغم تنبيه أختها بأن كاس الشاي مسموم، إلا أن "سولانج" تكرر نداءها لها باللهجة الارستقراطية الآمرة: الشاي وتعاود شقيقتها تنبيهها، لكن الأخرى كانت قد مضت بعيداً في التماثل الوهمي مع سيدتها فلا تتنازل عن أرستقراطيتها، ولا عن المطالبة بالشاي.

إننا نجد أنفسنا مرة أخرى إزاء ضرب من الازدواج، الوعي بالذات لدى الخادمة سوف يواجه هذا الموقف الحيوي على نحوين مختلفين: وآية ذلك أنها ستمضي بعملية الصراع حتى نهاية الشوط، أعني لدرجة المخاطرة ومواجهة الموت مؤكدة بذلك وعيها الخالص بذاتها في سبيل إشباع رغبتها في انتزاع اعتراف أختها بها، لكن في منطق جدل العبيد وفي التعبير الفني لجونيه، فكل وعي يسعى إلى موت الآخر، وفي هذه الفاعلية سلفا حاضرة فاعلية الذات – إذ أن السعي إلى موت الآخر يفترض أن الساعي يجازف بحياته الخاصة. ليس بإمكانهما تجنب هذا الصراع ، فالصراع البشري هو الصراع الذي يقوم به طرفان يريد كل منهما أن يثبت ذاته ويؤكدها باعتبارها فوق مستوى الحياة الحيوانية الصرفة، ومن ثم فإنه يضع حياته نفسها موضع الخطر آخذاً على عاتقه مواجهة الموت، "سولانج" لن تتنازل عن حقها في السيادة، لذا كان عليها أن تمضي بعملية الصراع واثبات أحقيتها في السيادة حتى نهاية الشوط، أعني لدرجة المخاطرة ومواجهة الموت مؤكدة بذلك وعيها الخالص بذاتها، فنحن هنا إزاء موقفين مختلفين: موقف السيد "أعني موقف الوعي الخالص بالذات"، وموقف العبد "أعني موقف الوعي الذي رفض المخاطرة بحياته في سبيل إشباع رغبته في انتزاع اعتراف الآخر به وبالتالي اقتصر على اشباع رغبة الآخر". لذا تنجرف "كلير" إلى منطق الطبيعة هي الأخرى، وتقدم الشاي لأختها، فتتناوله "سولانج" وتموت وبموتها تنتهي المسرحية.

إن رجلا مثل جونيه، الرجل الذي حقد على فرنسا كان أفقه الفلسفي موافقاً لذاك الأفق الذي أذل فرنسا باحتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية، وجنيه الرجل الذي لاقى الإهانة من ذويه وجلاديه الذين تفننوا في إذلاله كانوا من فئات وضيعة لكنهم لعبوا دور الأسياد حين احتقروه.