العبور الى بوابة الأمل، العبور الى حياة أخرى، كما يشكلها الشاعر السوداني من رؤاه، العبور الى مجازات القصيدة واستعاراتها، عبور تحمل كينونة تتشظى في كل مرة بين ثنايا الغياب والحضور. وبينهما جسور تنتظر، ينبثق نص الشاعر أشبه بحالة خلاص، لعلها اللحظة الوحيدة التي تسعفه العبارة، وهي بوابة العبور الى حياة بديلة.

الجُسُورُ التي انتظرتُ عِندها

أنس مصطـفى

 

(1)

تُبَالِغِينَ فِيْ النَّدَىْ..

طِفْلةٌ تُبَعثِرُ ألْعَابَهَا في الكَوْنِ كُلَّ يَومْ،

تستَعصِيْ على الغَمْضِ

وتُزْهِرُ في وُجُومِ النَّاسِ كَالأحَاجِيْ؛

وَمِنْ رَحَىْ اللَّيلِ تُوقِدُ الآفَ القناديلِ فِيْ الشَّغَافْ.

 

(2)

تُزْهرينَ

مثل سِلالٍٍ من الفَجْرِ

في أكُفِّ الحَيَاةْ،

مثل عُشبةٍ في عَرَبَاتِ الجُنُودْ،

مثل أَبَدٍ يَتضُوَّعُ في الشَّوَاهِدْ.

.

(3)

أَعْبُرُ ذَلِكَ القَفْرَ الظَّنِينَ في اللَّيلْ،

مِثلُ يَتِيمٍ تَنْهَشهُ الجِهَاتُ فَيغمِضْ.

 

(4)

أَحْرُثُ لَيْلَ الصَّقِيعِ هَذَا بِكَفَّينِ عَارِيَتَينْ،

أبحثُ في رَمَادِهِ عَنْ جَمْرِ بِلادِيْ،

بِلادٍ مِنْ اللَّيْلِ والشَّظَايَا.

تُرَىْ كيفَ اسْتَحَالتْ عَلَى كَتِفيْ طِفْلَةً غَافِيَةْ،

أحمِلُهَا عبرَ الأَوْجَارِ وبينَ المَدَافِنْ،

لا نُبْصِرُ فِيْ الغَمْرِ غيرَ النَّجَاةْ.

 

(5)

منذُ سِنِينٍ أرعَىْ غِزْلَانِ شُرُودكِ في الوِهَادْ،

أورِدُهَا دَرْبَ الظِّلالِ وصَمْتَ اليَنَابِيعْ..

أعزِفُ لها البَاسنْكوبَ*

قَبلَ أنْ تَؤُوبَ بِصَوْتكْ..

مُنذُها خلَّفْتُ الحُدَاةَ ورائِيْ،

مُنْذُها لَمْ أعرفْ الأَدِلَّاَءَ أَبَدَاً.

 

(6)

هَيَّأتُ لَكِ التَقَاوِيمَ كلَّهَا،

قُلْتُ ستأتينِ مثل فَرْعٍ مِنْ البَانْ،

مثل شَمْسٍ تَخْتَرِقُ الوَحْشَةَ في اللَّيلْ،

تَخْتَرِقُ الصَّمتَ فيْ القَلبْ،

وبقيتُ مُنْتَظِِرَاً لألفِ ألفِ عَامٍ مِنْ أجْلِكْ،

ثمََّ اخْتَلَقْتُ لكِ الأعذَارَ والذَّرَائعْ،

كَيْ يَبْقَى النَّرجِسُ غَضَّاً طريَّاً..

أتفقَّدُكِ في البَيَاضِ العَميمِ كُلَّ يومْ،

في الطُّرُقاتِ التي كَفََّنتْهَا السِّنُونْ،

 

لا تَجِفُّ مَحَابِرُكِ أبَدَاً،

وَلا السُّهْدُ يَنْفَدْ.

 

(7)

صَوتُكِ المبلَّلُ بالأنَاشِيدِ والعُذُوبَةْ،

صَوتُكِ المُمْطرُ آنَذَاكْ،

كيفَ وَسِعَهُ أنْ يُحْرِقَ غَابَةً بأسْرِهَا،

ثمَّ يَمْضِى إلى حالِ سَبيلِهْ؛

غَافيَاً في الغِيَابْ؟

 

(8)

الجُسُورُ التي أشيِّدُهَا مِنْ سُهَادِيْ كلَّ لَيْلةْ

ثمَّ أغْفُو قبلَ أنْ أَعبُرُها إليكِ،

الجُسُورُ التيْ انتظرتِ عِندَهَا طَويلاً..

يَجتثُّها صَبَاحُ الحَطَّابينَ هَذَا.

 

(9)

مِثلُ نَصلٍ يُضِيءُ فِي عَتمَةِ الجُرحْ،

هُوَ ذَا الأمَلُ ثَانِيَةً،

يُهِيلُ كُلَّ هذا الجَمْرِ على تُرَابيْ.

 

(10)

لا مَنَاصَ أَبداً..

عليَّ أَنْ أعبُرَ النَّهرَ كَامِلاً،

عليَّ هذا الغَرَقْ..

 

*آلة عزف شعبية لدى قبائل البجا في شرق السودان