ينسج القاص العراقي قصته من جحيم الحرب الأهلية العراقية الطائفية التي اشتعلت في أعوام 2005-2006 والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب الواحد عن معاناة شاب مقترن بفتاة من طائفة أخرى تعرضا للتهجير كل في مناطق الطائفة الأخرى، يحاول الوصول إليها شوقا وحبا فيموت بانفجار سيارة قريبة لتحكي لنا الجثة رحلتها الجحيمية في ظروف مرعبة لا رحمة فيها.

روميو العراقي

مـيـثم سلمان

 

كالعادة وفي طريق عودتي من عملي أبدأ بمراسلة ليلى من خلال الموبايل. نترقب الساعة كي تستقر على الثانية بعد الظهر كل يوم لنتواصل.

أنتظر هذه اللحظة على أحر من فرن المخبز الذي أعمل فيه. دائما ما نخطط في مراسلاتنا ونبحث عن سبل تتيح لنا اللقاء وسط غبار الحرب الأهلية التي انفجرت بعد ثلاث سنوات من الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. صارت ممارسة حياتنا هذه الأيام أشبه بالمغامرة فعندما نغادر بيوتنا علينا أن نودع أهلنا فربما لا نعود أبدا. الموت في بغداد بات يحدث لأي سبب؛ إنفجار سيارة ملغمة، إختطاف ثم الذبح على يدي إحدى الجماعات المسلحة، قتل بنيران "صديقة!" من قبل القوات الأمريكية وغيرها.

وصلت رسالة جديدة من ليلى ردا على طلبي ترتيب اللقاء هذا اليوم، "تعرف بابا ما يخليني اطلع خارج منطقتنا. باسم آني مشتاقتلك حيل بس الطلعة كلش خطرة". فكتبت لها، "اني اجي لمنطقتكم حبيبتي. هسه عندي هوية مزورة مال واحد سني".

  • لا تجازف بحياتك ارجوك. اذا فتشوك

وشافو هويتك الاصلية تعرف زين شيسوولك.

كنت أرتجف غضباً وأنا أضغط بأصابعي على الهاتف لكتابة الرد: "يمتة نخلص من هذا الطاعون مال المليشيات والاحزاب والاحتلال. خرة عليهم واحد واحد" ثم أردفتها برسالة ثانية: "عطشان لشوفتك ليلي. راح اموت من الجفاف. اريد بوسة حتى اعيش. احس اني في منفى وصارلي قرن ما شافايك. راح أجي وشيصير خلي يصير".

كنا قد عقدنا قراننا قبل أحدى عشر سنة بعد التخرج مباشرة عام 1995 ولم نتمكن من الزواج حينها. دائما يكون هناك سبب ما للتأجيل. وها نحن قد تجاوزنا الثلاثين عاما من عمرينا ولم نتزوج بعد. آخر تأجل كان بسبب الحرب الأهلية التي أنتشرت كوباء لعين مزقت العراق وسممت حياتنا. هُجر أبرياء السنة والشيعة من بيوتهم. كانت عائلتي قد تلقت تهديدا من أحدى المجاميع المسلحة لنغادر المنطقة التي ولدت ونشأت فيها فقط لأننا محسوبين على الشيعة. بذات الوقت عائلة ليلى تلقت تهديدا مشابها لمغادرة منطقة سكناها لأنها محسوبة على السنة.

"اني هم مشتاقة لعيونك العسلية لحظنك الحنين لسوالفك لضحكتك. مشتاقة احط ايدي بديك. اريد اشوفك حبي بس ما اريدك تخاطر اروحلك فدوة"، قرأت ما كتبته ليلى ثم نظرت خلل شباك الباص على يميني. وصل الباص أخيرا إلى المجمع الرئيسي لتجمع الباصات. بعدها كتبت لها بينما ألحظ السيدة المسنة بجانبي وهي تلملم عباءتها وتضع حقيبة من الخوص في حجرها متأهبه للنزول عندما يقف الباص بعد دقائق،"راح أكون حذر. اوعدك".

  • باسم، أرجوك لا تجي. وروح امي اذا صار بيك شي، ألا احرق روحي.
  • ما راح يصير بيه شيء اطمأني. ارجوك لا تتهورين.
  • زين لعد اتصل بيه كل خمس دقايق حتى اتطمني. واذا ما وصلت لبيتنا بعد ساعتين اتلاثة ثق راح اقتل نفسي.

أعرف أن ليلى شخص عنيد وهي تعني ما تقوله. لذا عدلت عن فكرة الذهاب إليها تحسبا لأي مكروه. كتبت لها، " إلى متى ذولة خوات الكحبة يحرموني من شوفتك. يله ما راح اجي اليو..."، لكنني لم أستطع إكمال عبارتي حيث طار الموبايل من يدي عند سماعي لصوت إنفجار هائل صم آذاني كأنه (الإنفجار العظيم) جاء من ناحية اليمين حيث أنفجر باص آخر. أرتج باص (الكيا) الذي أقله بقوة جراء عصف الإنفجار مما تسبب بارتطام رأسي بالشباك على يميني لحق ذلك رطمة أخرى على الكرسي الذي أمامي. كل هذا حدث خلال لحظات. من شدة الارتجاج طارت قبعتي ليتكشف رأسي الأقرع. كنت قد حلقته بالموسى قبل أسبوع تلبية لنصيحة ليلى لتفادى تساقط شعر أكثر.

أخذت أشعر بعدها بخدر في كامل جسدي النحيف. قدماي مثبتتان على أرضية الباص ونصف جسدي العلوي ممدد على المقعد الأخير. خدر يشبه الجيثوم حيث حاولت الصراخ طلبا للمساعدة لكنني لم أستطع تحريك لساني.

كل ما أستطيع فعله هو المشاهدة والسماع لكنني مشلول تماما.

راح الركاب يتزاحمون للنزول من الباص مرعوبين من إحتمالية أن يحدث إنفجار آخر. بعضهم كان يردد، "لا حول ولا قوة إلا بالله". عجوز تردد، "احضرنا ياعلي، احضرنا ياعلي". آخر صرخ بهستيريا، "وين الله؟ ما يشوف ذوله الأرهابية؟". صوت غاضب يبدو أنه لشاب، "الله ينتقم منكم، الله ينتقم منكم". بكاء طفل مر وسيدة تصرخ بحرقة، "وينها الحكومة وينهم حرامية الخضراء بس ملتهين يبوكَون". آخر يصحيح، "كلها من ورة الأمريكان الجلاب. كلها من وراهم".

سائق الباص المسن أخذ يرجو الركاب بصوت يائس وحزين، "لا تدافعون الله يرضى عليكم. الله يخليكم أنطوا مجال للعجوز خلي تنزل. خل المرة أم الطفل تنزل. أبني سد الباب وراك." ثم قاد الباص بعيدا.

سمعت سائق الباص يتحدث خلال هاتفه النقال ويبدو أنه يتحدث الى أمرأة، ربما زوجته. قال لها إنه راجع إلى البيت بسبب حادث إنفجار في محطة الحافلات. معظم سائقي الحافلات عادة ما يعملون إلى وقت المغرب عندما تحين ساعة حظر التجوال في مدينة بغداد.

فهمت من محادثة السائق أن الإنفجار بسبب إنتحاري كان قد فجر حزامه الناسف في باص يتحرك مغادرا المحطة. أنفجر الباص بعد إمتلاءه بالركاب الذي قتل من قتل منهم وأصيب من أصيب إضافة لبعض المواطنين القريبين وبعض الدكاكين والبسطات المنتشرة في وسط المحطة.

إنه ليس الإنفجار الأول وحتما سوف لايكون الأخير الذي يحدث وسط الجموع البشرية البريئة. فقد تعودنا على ذلك في ظل ضعف أمني وفساد أداري طال كل شيء حتى المؤسسة الأمنية فصارت العصابات الإرهابية والجماعات المسلحة بشتى أشكالها وغاياتها تصول وتجول في العراق.

لتكرار الإنفجارات صرنا نتخيل ما سيحصل بعدها ونعرف طبيعة مخلفاتها وحجم آثاراها. فبعد هذا الإنفجار حتماً سيهرع بعض الرجال لمساعدة الضحايا قبل مجيء فرق الدفاع المدني. وسيحاول بعض المواطنين إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن بحذر شديد تخوفاً من حصول إنفجار ثان. بعضهم سيغادر فوراً المكان بأسرع وقت ممكن خصوصاً أولئك الذين يرافقون عوائلهم. ستكون هناك تحركات عشوائية في كل الإتجاهات. سيزدحم المكان حيث أن معظم الحافلات تريد المغادرة فوراً. بعد أن يصوب رجال الإطفاء خراطيم المياه إلى لهيب النار المنبعث من الباص سيخلفون بركة من سائل داكن وثخين. خليط من دم ورماد وقطع لحم بشري محترق وقطع متناثرة من السيارة المنفجرة وأوساخ الشارع. سيحاول رجال الإسعاف نقل الجرحى إلى سياراتهم متوجهين للمستشفيات أما الجثث فستنقل إلى دائرة الطب العدلي مستخدمين أحدى مركبات (بيك آب) التابعة للشرطة أو الجيش. ستتكدس الجثث في حوض المركبة وعندما تمضي ستخلف خيطا من السائل الداكن. سيتبرع البعض لمساعدة عناصر الدفاع المدني بتنظيف المكان من بقايا الإنفجار ودفع المياه قريبا من فتحات المجاري. سيكون هناك صراخ ونحيب يدمي القلب من نساء وأطفال وحتى رجال. سيتهشم زجاح شبابك المحال التجارية وتتبعثر البضائع في كل مكان. ستكون رائحة شواء الأجساد البشرية مثل غيمة تغطي المكان مخلوطة برائحة إحتراق عجلات الباص مع رائحة انصهار أجزاء الباص البلاستيكية وملابس وأحذية الضحايا. الرائحة قوية وكريهة لدرجة خانقة. رجال الأمن العراقي مع عناصر من الجيش الأمريكي سيصلون إلى المكان ليضربوا عليه طوقاً أمنياً في محاولة لمعرفة أسباب الإنفجار. وبمجرد وصولهم سيهتف بعض الشباب بغضب، "Fuck Bush, Fuck Bush".

ربما ستحدث أمور مختلفة هنا وهناك لكن هذا هو السيناريو العام بعد كل إنفجار.

بعد مرور أقل من ساعة من خروج الباص من المحطة توقف. يبدو أن السائق قد وصل إلى بيته. سمعته يفتح باب الباص ثم يغلقه. بعد دقائق يعود ليبدأ بتنظيف الباص. وبمجرد أن لمح جسدي قفز خطوة إلى الخلف وقال بصوت مرتجف فورا، "سلام قولاً من رب رحيم". تمعن في وجهي. رجل ستيني يبدو عليه الوقار والرزانة، من أولئك الناس الذين يطمئن لهم قلبك عند رؤيتهم لأول مرة. وجه أسمر مليء بالتغضنات. لحية وشوارب بيضاء مهذبة بعناية. من رواء نظاراته الطبية لحظت عينين غائرتين في محجريهما. ذكرني بأبي المتوفي منذ زمن طويل إلا أن لهذا الرجل أنف أدق من أنف أبي. تقدم نحوي ببطء وقال، "أبني، أبني أكَعد". ثم هز جسدي. حرك رأسي يميناً وشمالاً. تمعن كثيراً في وجهي ثم وضع رأسه على صدري. وقف وهو يردد، "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...". ثم وضع يده على عيني محاولاً إغلاقهما لكن بلا فائدة. حاول أكثر من مرة ولم ينجح. ظلت عيني مفتوحتين تحدقان في المجهول. يأس السائق من ذلك وتوجه بعجلة نحو باب الباص حتى كاد أن يتعثر بدشداشته البيضاء، ليرجع الى الباص مع شاب عشريني يحمل جهاز موبايل بيده ويرتدي (تي شيرت) لفريق ريال مدريد وبنطرون جينز أزرق يلتصق على ساقيه الطويلتين. تفرس الشاب في وجهي بحذر وقال بينما يتجنب النظر إلى عيني المفتوحتين، "يابة شفت هاي الضربة على راسه والدم اليابس"

  • بلي. خطية يمكن ضرب راسه بالشباك من رجة الانفجار.

وضع الشاب رأسه على صدري وقال، "بس ما معقولة هاي الضربة اتموته. لازم اكو شيء ثاني. رجة دماغية. سكتة قلبية. ما أدري".

  • أبني هاذ قدر الله ولا أعتراض على قدره. رحمتك يا رب العالمين.

سمعت صوت سيدة تقول بصوت مرتبك لا يخلو من خوف، "يا ستار يا حافظ. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا رب أرحمه برحمتك الواسعة وصبر أمه". قال الأب وهو يصفق بيديه، "علي، خابر الشرطة هسه". رد عليه علي بتلعثم، "يابة انتظر. أحنة ما نريد نتورط وية الشرطة. تعرف هذوله مجرد مليشيات مو شرطة".

  • ما يهمني رأيك هسه أبني. أحنة أنريدهم ياخذون هذا المسكين لأهله حتى يدفنوه.

قرأت السيدة في هذا الأثناء سورة الفاتحة مرددة بعدها بصوت دائفيء وحزين، "أرحمنا برحمتك الواسعة يارب العالمين". غدا صوتها كخلفية موسيقية للمشهد. ثم أمرت أبنها، "يمة علي، أسمع كلام أبوك مو وكت عنادك هسه".

  • يابه، أنت تعرف الشرطة راح تحجزك ويودون الجثة للطب العدلي. ويجوز ما يطلعونك إلا بعد نتيجة التشريح. ومثل ماتعرف هسه الطب العدلي مليان جثث.
  • آني مستعد لأي شيء من أجل هذا المسكين. أهله لازم يعرفون ولازم يدفنونه.
  • زين وأذا طلع هذا شيعي؟ منو يكَول عائلته راح أتصدكَ أنت مو القاتل؟! لا تنسى يابة احنة بحرب أهلية.
  • كَتلك ميت مرة آني ما أريد أسمع سالفة الحرب الأهلية الجايفة. أحنة ما جنا نعرف تفرقه بيناتنا لحد ما أجوي الأمريكان. الله ينتقم منهم. شنو نسيت أمك شيعية؟

سمعت صوت الأم من خلفهم وهي تقول بتوسل، "عمر، لا تعصب نفسك. أروحلك فدوة. أنت بيك سكر وضغط. لا يصير بيك شيء. هسه مو وكت هذا الحجي الله يرضى عليكم. شوفولنا صرفه لهاي المصيبة".

هذا الصوت الصادق والمغسول بالمحنة والخشوع يذكرني بصوت أمي. آه، يا أمي كيف ستتلقين هذا القدر. هل ستنبشين خديك بأضافرك كما فعلتي ذلك قبل سنين طويلة على أبي؟ ألا يكفيك بكاءا وجزعا؟ ألا يكفي السواد الذي يلفعك طوال عمرك؟ وهل سيفيدك بشيء إن قالوا لك إن أبنك مات شهيداً؟

قال علي لأبيه في محاولة لتهدئة الموقف، "ما كو غير صاحب، جيراننا، هو يحلها". رد عمر على أبنه بأنفعال وهو يرفع يديه أمامه، "هذا الرجال أكبر حرامي وانتهازي. مثل الغراب يعيش على المصايب. الله ابتلانا بيه وبامثاله". أجابه علي وهو ينظر في هاتفه النقال، "لا تهتم يابه. آني راح أتعامل وياه". وافق عمر قائلا قبل أن ينزل من الباص، "بس على شرط لازم يودي هاي الجثة للطب العدلي".

بعد وهلة قصيرة صعد إلى الباص رجل أربعيني يرتدي دشداشة وعقال. ملامحة تشي بالصرامة والقسوة يتضح هذا من شاربيه الكثين الداكنين ونظراته الثاقبة. راح يتفحص في وجهي محركا رأسي بيده اليمنى بحرفية عالية وكأنه رجل أمن قديم. قبل أن يهم في تفتيش ملابسي حاول إغلاق عيني لكنه فشل أيضا. وجد في جيب قميصي علبة سجائر وفي جيب بنطروني محفظة نقودي التي تستقر فيها صورة قديمة لخطيبتي ليلى قبل أن تتحجب، مع هوية أحوال مدنية بأسمي الحقيقي وبجنبها ورقة نقدية بقيمة 25 ألف دينار، أجرتي اليومية. ثم عثر في جيب البنطرون الخلفي على هوية أحوال مدنية بأسم آخر.

حدق صاحب بصورة ليلى طويلا وتمتم مع نفسه، "كَيمر بنت الكلب، حقه هذا الأملح يحط صورتها بالمحفظة". هذه الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن أتفق بها مع هذا القميء. فعلا، ليلى مثل قطعة قشطة. وجه أبيض صاف ومشرق، عينان سوداوان واسعتان تبرقان سحرا يكفي لتحويل أي غراب إلى بلبل فتان، شعر عسلي متموج يضفي على وجهها رونقا على رونق. أما شفتاها الحمروان المرسومتان بمهارة فنان عظيم فهما كفيلتان بأن يذيبا حتى الصخر بمجرد ملامستهما له. كنت وعندما أجالس ليلى أظل محدقا بولع بشفتيها وهما يتحركان حتى حفظت كل حركة من شفتيها مع كل كلمة تنطقها. في المرات القليلة التي توفرت لنا فرصة التقبيل خلال هذه السنين الطويلة كنت أنصهر لحظة ملامسة شفتاي لشفتيها. أشعر حينها أن العالم يسيح من حولي. بعدها لا أشرب ولا آكل ولا أغسل فمي حتى لا يتبخر طعم قبلاتنا. أذكر أنني أخذت منها هذه الصورة في المرحلة الأولى من دراستنا الجامعية في قسم المحاسبة/كلية الأدارة والأقتصاد.

آه حبيبتي! أعرف أنك الآن تعيشين لحظات رهيبة من القلق والخوف متفحصة في هاتفك بأنتظار رسائلي. أرجوك ليلى لا تتهوري أرجوك.

بخفة الحرامي المحترف دس صاحب محفظتي في جيبه. لمح خاتم الخطوبة الذهبي في أصبع البنصر من يدي اليمنى المطوي وحاول أن ينتزعه بقوة لكنه فشل ونزل من الباص.

سمعته يقول لعلي، "لازم انحطه بكيس اسود وانحمله بسيارتي". وطلب منه أن يدس جسدي بين الخردة المتراكمة في حوض مركبة نوع (بك آب) وأن يضع قطعة من الخشب فوق جسدي تجنبا للكدمات التي ربما تحدث أثناء النقل. بعد أن غطيا رأسي بكيس بلاستيكي أسود وأدخلا رجليّ بكيس آخر حملاني إلى المركبة.

رغم أنني كنت محشوراً في الكيس إلا أنني تمكنت من سماع عمر وهو يقول، "تاخذه مباشرة للمشرحة. مفهوم؟".

  • الله يشهد عليَّ، راح آخذه كبل للطب العدلي. حجي عمر، آني بخدمتك.

من خلال سماعي لصوت حركة المركبة وتوقفاتها عرفت أنها توقفت في ثلاث سيطرات. وأنتبهت إلى أنه في كل مرة تتوقف مركبة صاحب تتناهى إلى مسامعي قهقهات عالية من صاحب ورجال آخرين. مما يجعلني أخمن أن له علاقات خاصة مع رجال الأمن في نقاط التفتيش تفيده في تسهيل نقل أي شيء يريده من منطقة إلى أخرى.

بعد أقل من ساعة وصل صاحب الى نهاية رحلته. بعدها سحب الكيسين الأسودين ووضع جسدي بمساعدة رجل آخر على أرض ترابية تحيطها الأشجار والنخيل من الجانبين. شاهدت رجلين يتفرجان عليّ. أحدهما شاب عشريني مغبر الوجه بلحية وشوارب خفيفة ويبدو عليه التعب يرتدي بلوزة زرقاء طويلة الأكمام وبنطرون أسود أما الآخر فيسنه بما لايقل عن عشرة أعوام بلحية وشوارب كثة. عيناه تجدحان شرراً تشي بدهائه ومكره. يرتدي قميصا داكن اللون وبنطرون بني ، قال لهما صاحب، "أريد ست مية دولار هاي المرة. لأن الجثة ما بيها جرح. موت طبيعي الله شاهد". فسأله الرجل الكبير وهو يدفع بنصف المسبحة السوداء التي في يده بأبهامه لتبدو مثل عصا ليؤشر بها على جسدي:

  • وهاي الضربة بالراس، شنو؟
  • هاي ضربة بسيطة. أكيد ضربته حديدة من هاي الخردة بالسيارة. انزعوا ملابسه وشوفوا.
  • أذا موت طبيعي، زين انت منين جبت الجثة؟
  • هسه آني هم راح أسألك شراح اتسوون بيها؟ تشتروها لو لا؟ الله شاهد، ألف واحد موصيني.

برك الشاب على الأرض وتفحص رأسي ثم حاول إغلاق عيني لكن لا فائدة. ثم هم بخلع ملابسي حتى عراني تماما. توقف الرجلان فوق جسدي لتفحصه جيدا. قال الشاب، "إستاذي شوف هذا الوشم على صدره". أكد الرجل الكبير مشاهدته للوشم لكنه لم يقرأه جيداً بسبب الشعر الكث على صدري.

قال الشاب، "داكَ اسم ليلى على صدره". ضحك الرجل الآخر بسخرية قائلا، "هذا عاشق ولهان. يجوز هذا قيس بن الملوح. بس أخاف كَلبه يطلع مزرف". قهقه الشاب ببرود بطريقة تشىء أنه لم يفهم شيئا من النكتة ثم سأل الأستاذ، "منو هذا قيس بن الملوح؟". رد الأستاذ مستعرضا معلوماته وكأنه يلقي محاضرة، "هذا فد واحد شاعر عربي كان يحب وحدة اسمه ليلى وأهلها ما أنطوها أله وصار مخبل. قصته تشبه قصة روميو." سأله الشاب، "وهذا منو النوب؟". فأجاب الأستاذ وهو يحبس ضحكته، "نفس الضراط بس على أجنبي". ثم قهقه الرجال الثلاثة.

ألتفت الأستاذ إلى صاحب محركاً أصابعه مع كل كلمة ينطقها والمسبحة تتدلى من يده، "بس ست مية دولار هواي. أقسم بالقرآن الشريف، الشغل ضعيف هالأيام لأن منافسين هواي. أطيك أربع مية وخمسين دولار مثل كل مرة."

  • لا. لا. الله شاهد آني موزع على السيطرات أكثر من أربع أوراق. ما أقبل بيه أقل من ست أوراق.
  • أبن عمي، صلي على محمد. أخذلك خمس مية دولار وأتوكل على ألله.

أنتهى أخيراً التفاوض على بيع جسدي إلى الرجلين بخمسمئة دولار. شاهدت الشاب يضع ملابسي في أحد الكيسين ويركنه جانبا. ثم حاول أن ينتزع الخاتم من أصبعي لكنه لم يستطع أن يمد أصبعي المطوي. تركني لبضع دقائق ثم عاد وفي يده كماشه مثل تلك التي يستخدمها عمال الكهرباء وراح يعدل أصبعي حتى سمعت تكسر العظم. ثم أخذ الخاتم ووضعه في جيبه. هذه المرة الأولى منذ إعلان خطوبتي على ليلى التي يفارق فيها الخاتم معصمي. حيث قطعت وعداً على نفسي أن لا أخلعه إلا في ليلة الزفاف فقط لأضعه في بنصر يدي اليسرى.

شاهدت شاحنة متوسطة الحجم ترجع نحوي حتى شعرت أنها ستدهسني. ترجل منها الأستاذ وفتح البابين في مؤخرتها. حملاني إلى داخل الشاحنة ووضعاني في جيب يشبه التابوت في الأرضية وغطياني بلوح حديدي حتى عم ظلام دامس. كان صوت محرك الشاحنة هائلا. بعد عدة توقفات قصيرة وصلت الشاحنة أخيرا إلى مكان ما لأسمع حينها صرير فتح بوابة حديدية. تحركت الشاحنة ببطء شديد وكأنها تدخل الى ممر ضيق. أزاح الشاب اللوح الحديدي من فوقي.

شاهدت شاب آخر يصعد الى داخل الشاحنة. كان في مقتبل العمر أملط وأنيق المظهر. شعره يلمع ومسحوب للوراء. لولا وجود المسدس المحشور بين حزامه وبطنه لقلت إنه في طريقه إلى حفلة راقصة. بعد أن وضع قفازات طبية في يديه راح يتفحص جسدي ثم حاول إغلاق عيني لكنه لم يتمكن.

سأل الشاب الأملط عن سعر جسدي وهو يخلع القفازات ويكورهما ويرميهما إلى داخل الشاحنة بلا أبالية فردَ عليه الأستاذ، "سبع أوراق ونص". رد الشاب الأملط بحزم، "و ربك الي خلقك ما أدفع غير ست مية". فلوى الأستاذ رقبته وقال وكأنه يتوسل، "والقرآن الشريف آني دافع بيه خمس أوراق ونص". أخيرا وافق الشاب الأملط على دفع ستمئة وخمسين دولارا.

سلم الشاب الأملط المبلغ للأستاذ وطلب منه أن يحملني مع مساعده إلى باب البيت. وهما يحملاني شاهدت بقع سماء زرقاء خلل عريشة عنب تغطي كامل الممر المؤدي من البوابة الرئيسية إلى العتبة. ومن هناك تلقفني رجلان آخران ليحملاني الى داخل البيت. كانا في الثلاثين من عمرهما. يرتديان بنطرونين جينز وقميصين نصف كم. لحظت أحدهما يضع قلادة فضية يتدلى منها سيف والآخر يضع ثلاث خواتم فضية في أصابعه. أنزلاني الى قبو كبير تتوسطه منضدة صغيرة يغطيها شرشف بلاستيكي ثخين. وهناك منضدة حديدية على طول أحد جوانب القبو. عليها معدات طبية من مقصات ومشارط وملاقط وشفرات وماشابه. تعلو المنضدة لوحة بأطار خشبي مكتوب عليها (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب). لمحت بقع دماء متخثرة على أرضية القبو الكونكريتية وعلى الجدران المكسية بالسمنت.

وضعني الرجلان على المنضدة. وعادا بعد قليل بصحبة الشاب الأملط وهم يجرجران رجلاً متوسط العمر يضع نظارات طبية بأطار معدني فضي. شعره أسود يخالطه البياض وكذا لحيته الكثة غير المشذبة. لحظت في عينيه التعب والخوف. أوقفاه قرب المنضدة الملقي عليها جسدي. أغلق الرجل عينيه وأطبق شفتيه. لمحت تفاحة آدم تصعد وتنزل في رقبته النحيفة والعرق يتصبب من جبينه. كانت لحظات من الصمت المطبق أنهتها صرخة من الشاب الأملط، "شنو منتظر، دكتور خرة. يلة شوف شغلك. طلع الكليتين بسرعة"، ثم وضع مسدسه وألصق فوهته على صدغ الدكتور وأكمل، "مفهوم؟".

دون أن يرد بكلمة أخذ الدكتور المشرط وراح يعمل بصمت رجل مقهور مستسلما لقدر أهوج قاده لأن يكون رهينة هذه العصابة. كنت أنظر إلى عينيه اللتين تقولان الكثير؛ غضب، حزن، ألم، ضياع، لا جدوى.

شاهدت كليتيَّ بيدي الدكتور وهو يضعهما في صندوق أبيض ليتلقفه منه الرجل ذو الخواتم. أمره الشاب الأملط، "وديه لنفس المكان بسرعة. لا تنطيه الصندوق قبل لا يسلمك خمس وعشرين ورقة. مفهوم؟"

بعدها أمر الشاب الأملط الدكتور، "شوفلنا أذا عنده سن ذهب لو فضة". أخذ الدكتور كماشة وراح يبحث في فمي وعيناه الحزينتان مصوبتان نظرهما في وجهي. ثم نطق أخيراً بصوت متهدج، "اسنونه صفر من التدخين. ماكو ذهب،" وأضاف بعد أن تنهد، "شتريدون بعد من هالمسكين؟".

  • اخرس ولا كلمة. صرخ الشاب الأملط.

تركوني لوحدي في القبو لوهلة حتى عاد الشاب الأملط مع رجلين ملتحيين وبلا شوارب. يرتديان ملابس داكنة. أمرهما الشاب بأن يأخذا جسدي ويتخلصا منه. ومقابل هذا دفع لهما مئة وخمسين دولارا. حشراني الرجلان في شوال كبير وحملاني. بعد وهلة سمعت ثغاء ومأمأة. يبدو أن الشاحنة التي سيضعني فيها الرجلان كانت مليئة بالخراف والمعز. من بين هذه الأصوات المتواصلة تناهى لسمعي صوت أحد الرجلين قائلا، "وين أنخليها؟ بعد ماكو مكان". رد عليه الرجل الثاني، "أقسم بذات الله أكو مكان. بس فتح عينك وأشتغل عدل". ثم تعاونا على رفعي إلى حوض الشاحنة.

ظلام رهيب مرة أخرى لكنني كنت أسمع صوت ثغاء ومأمأة لفترة طويلة من الزمن لحين وقوف الشاحنة أخيراً. عندما أخرجني الرجلان من الشوال لم أر أي شيء حولي عدا رجال ملثمين بملابس سوداء. شاهدت بقربي أجساداً كثيرة أنزلها الرجلان من شاحنة نقل الماشية. عندما تحركت الشاحنة بعيداً خلفت وراءها هالة عظيمة من الغبار حجبت الرؤية وكأن الكون أصبح مغبراً بلمح البصر. وما أن أنقشع الغبار حتى تكشف الملثمون عن وجوه مغبرة متجهمة. كانوا يتحدثون بلغة عربية فصيحة فيما بينهم. أمر قائدهم الذي يسمونه الأمير بأن يدسوا في كل جثة عبوة ناسفة.

برك أحدهم على جسدي وهو يحمل عبوة ناسفة ليحشرها في بطني بينما يردد: "اللهم انصرنا على القوم المشركين، اللهم دمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والشيوعيين والعلمانيين. اللهم انصرنا على الكفرة والرافضة وجميع الزنادقة والملحدين .اللهم نسألك عزا وتمكينا ونصرا للإسلام والمسلمين".

حضرت سيارات عدة وبأحجام وأنواع مختلفة. أصدر الأمير أوامره للجماعة بأن تأخذ كل سيارة بعض الأجساد إلى منطقة مختلفة من مناطق بغداد ليلقوها على قارعة الطريق. عندما رفعوا جسدي لمحت الأجساد الراقدة على الأرض. شاهدت نساء ورجالا وأطفالا بأعمار وملامح مختلفة يصعب التعرف على هوياتهم القومية أو العرقية أو الدينية. عرايا وعيونهم مفتوحة تنظر إلى السماء.

رموا جسدي في أحد الشوارع الفارغة. أمضيت ليلتي أحدق في سماء بغداد المظلمة حيث لا قمر ولا أعمدة كهرباء تعمل. كنت طوال الوقت أفكر بليلى. هل أنتحرت عندما لم تسمع أي خبر مني لساعات طويلة؟

قبل أن يدسوا العبوة الناسفة في جسدي كل ماكنت أتمناه هو أن يعثر أهلي عليَّ كي يودعونني الوداع الأخير ولأرى ليلى وتراني للمرة الأخيرة. تمنيتهم أن يقطعوا أي أمل في العثور عليَّ. حتى لا يعانوا من لوعة إنتظار مالا يأتي. لكن الآن كل ما أريده هو ألا يقترب أي أنسان مني.