يرسم القاص العراقي شخصية مدمن مخدرات يلتقيه السارد في مراكز معالجة الإدمان، فهو الآخر أدمن على الخمر لأسباب مختلفة تماما كون عراقي لجأ إل أمريكا ويعيش وحيدا بعيدا عن بيئته الاجتماعية وأهله وأصدقائه، فتخلص القصة إلى أن شعور الإنسان بالوحدة السبب الجوهري العميق للإدمان، من خلال سرد حياة الأمريكي ومصيره التراجيدي في لغة رشيقة مثقلة بالأفكار والمشاعر وبناء محكم. والمشاعر.

الجيكانو

كاظم الحـلاق

 

التقيت ذات مساء في أحد اجتماعات الاستشفاء من الإدمان على الكحول برجل نحيف الجسم معتدل الطول من أصول مكسيكية في نحو الخامسة والستين من عمره يدعى" الجيكانو". كنت أينما ذهبت لحضور اجتماع ما؛ لا يهم إن كان ذلك في إحدى الكنائس بشمال المدينة التي أقيم فيها أو قاعة في جنوبها أو مركز في شرقها أو بناية في غربها كنت أراه يجلس هناك في الصفوف الأمامية رفقة زوجته بلحيته الخفيفة المحددة على شكل خطين شائبين رفيعين وقبعة القش فوق رأسه حيث تنسدل جديلة من شعره الأسود الطويل الكثيف الذي يتخلله بعض الشيب فوق أحد كتفيه. كان الجيكانو قد ولد في مركز مدينة لوس أنجلوس، ليس بعيدا عن منطقة المتشردين التي تدعى سكد رو Skid row ، وعاش طفولته ومراهقته في تلك المدينة الصاخبة الضاجة بالناس والسيارات والأحلام والرغبات والأماني أيضا.

ما أن بلغ الثالثة عشرة من العمر أنخرط الجيكانو في تعاطي المخدرات بأنواعها المختلفة؛ أي شيء تقع عليه يداه، لا يهم إن كان ذلك الكوكائين أو الكحول أو الهيروين أو المارايوانا، أو أنواع أخرى من العقاقير" المُعْلية" الباعثة على النشوة والجذل والانفصال عن واقع الحياة الذي لا يريد أن يتقبله ويرضاه يتعاطاه ويجربه. في السادسة عشرة طُرد من البيت ليمسي متشردا بين شوارع وأبنية "السكد رو" التي يعرف خباياها جيدا. كان يمضي أوقاته مع أي شخص تشاء الظروف أن تجمعه به رجلا أو امرأة. واذا ما استدعت ضرورة التعاطي أو الحصول على بعض المخدرات فانه لا يمنح أهمية كبيرة اذا ما وجد نفسه في سان فرانسيسكو أو بيركلي أو أوكلاند أو غيرهما من المدن الأميركية، من غير أن يعرف أو يتذكر كيف وصل إلى هناك.

بالنسبة لي فقد التجأت إلى تلك الاجتماعات بعد أن هاجمتني أظلاف الوحدة القاسية الفظيعة من جميع الجهات ناشبة مخالبها في كل جوانب حياتي لأجد نفسي ملتجئا الى الكحول حالما وآملا بأن ينسيني لوعة البعد عن عائلتي وأصدقائي ووطني الذي ولدت وترعرت فيه وخلفته ورائي. حاولت بشتّى الأساليب والطرائق التي في ميسور إنسان أن يتخيلها أن أقنن كمية الشراب التي أتناولها كي أسيطر على نفسي، لكني على الدوام كنت أخفق لتنتهي محاولاتي التي لا تحصى إلى الفشل الذريع لأمسي أكثر حيرة وتمزقا وبؤسا، وتغدو معاقرة الشراب سلوتي وعزائي الوحيد لتسكين آلامي وجراحي النفسية النازة لوعة وعذابا.

وعندما ذهبت ذات صباح شتائي لأطلب العون من جهة متخصصة نصحني المعالج بحضور تلك الاجتماعات كوسيلة علاجية، وهناك كنت قد التقيت الجيكانو وزوجته، وأشخاص آخرين من الرجال والنساء والشباب والشابات بأوضاع ومصائر تستدعي الحيرة والتعاطف الإنساني. كل ما يمكن للإنسان أن يتصوره بصدد تجاوز الخطوط الحمر أو القفز على أسوار الأخلاق الشائكة يجده هناك، من السرقات إلى الاغتصاب الى السطو وجرائم أخرى... إن أسماء اجتماعات مثل : " منزل الأمل"، " إنك لست وحيدا أبدا" ،" قن الحمام"، "قاعة الرفقة"، " الأصدقاء" الاستيقاظ الروحي" أصبحت مألوفة لدي مثل ألوان ثيابي أو أثاث شقتي التي أعيش فيها وحيدا منذ سنوات بعيدة، فضلا عن الأحياء والشوارع التي تقع فيها.

حينما كنت أذهب الى تلك الاجتماعات أرى " الجيكانو" يجلس في صف الكراسي الأولى وهو يتحدث بصوته ذي النغمة المنخفضة وملامح وجهه الحميمة الطيبة عن علاقته السلبية بأبيه وكيف أنه رآه آخر مرة في الرابعة عشرة، وآخر مرة سمع بها صوته بالتلفون كانت من أحد سجون كاليفورينا في الثامنة عشرة، ومن ثم انقطعت أخبار الأب تماما. علقت عليه في إحدى الأمسيات ونحن نقف في العتمة الشفيفة لموقف السيارات:

- "أين هو الآن؟".

قال بأسى وتردد:

-" لا أدري ما الذي حل به، لقد اختفى، لو كان راغبا بي أو بأخويّ اللذين يكبراني سنّا أو أمي لسأل عنا وجاء لزيارتنا".

توقف قليلا عن الكلام ثم أردف كأنه يريد أن يحاول إستعادة ذكرى محددة مؤلمة أخرى تخص الأب :

-"كان مدمنا على الكحول أيضا، وكما تعرف حينما تكون مدمنا على شيء ليس في مقدورك أن تتفرغ عاطفيا لأفراد عائلتك، لهذا السبب أنه اختفى ليواصل نمط حياته السابق".

كنت أضحك في سري من سلوك الجيكانو لافراطه ومواظبته الشديدة على حضور تلك الاجتماعات اضافة الى تكبده الجهود والطاقة والوقت فيما يقود سيارته الى مناطق عديدة نائية بأوقات مختلفة من الليل والنهار من أجل اللقاء بالناس والحديث معهم، لدرجة قلت في نفسي بأن الجيكانو لم يتشاف من السلوك الادماني تماما بل استبدل الكحول والمخدرات بالإدمان على حضور الاجتماعات. وبمرور الوقت بدأت أشعر بأن مراقبتي لسلوكه ومحاولة فهم شخصيته أخذتا تهيمنان على ذهني لدرجة الاستحواذ، كما لو أن لقاءاتي المتكررة به، وتوقي لسماع محطات حياته، وطاقة ماضيه الغرائبي راحت تنساب بخفاء متخللة جدران عالمي الذاتي واستحكاماتي المنيعة السابقة وتبث بها حياة أخرى جديدة غريبة عليّ كل الغرابة.

رحت أوافقه الرأي حينما يقترح علي أن أغير نمط ما من أنماط سلوكي، أو أتبنى فكرة جديدة كان هو قد طبقها في السنوات الأولى من استشفائه، أو أحضر اجتماعا جديدا، أو أستدعي أحداث ماضيي المؤلم والمبهج على حد سواء وأسجلها على الورق بالتفصيل من أجل الاعتراف به لنفسي أولا ثم للرب فإنسان آخر. أو أطيل شعري وأربطه بجديلة واضعا عليه قبعة من القش أو أحضر المزيد المزيد من الاجتماعات والحديث مع المدمنين الجدد القادمين من جحيم الإدمان توا خارج القاعات بنبرة صوت منخفضة، محاولا نصحهم وارشادهم، لأرى نفسي في نهاية المطاف قد أمسيت شبيها تماما بالجيكانو.

كانت زوجة الجيكانو صغيرة الجرم مثله، هادئة الطبع ايضا ولطيفة وتتحدث بصوت منخفض كما هو ولا تميل كثيرا للاطالة في الحديث، وتنحدر من أصول مكسيكية أيضا كما الجيكانو، وتوقفت عن تعاطي الشرب والمخدرات منذ سبع وعشرين سنة، وقد تعرف عليها قبل ثلاث سنوات في أحد الاجتماعات وتزوجا بعد أن انتقل الى مدينة فينيكس التي أعيش أنا فيها منذ مدة طويلة.

وفي أحد الأيام عقب اجتماع ما أقترح علي ومجموعة من الحاضرين أن نذهب معه الى لوس انجلوس لنحضر بعض الاجتماعات هناك في الهواء الطلق على بعض شواطئ المحيط الباسيفكي، فوافقناه الرأي واستأجر هو سيارة حديثة جدا نوع "جاكوار" وجلس وراء مقعد السائق وأنا وشخصان آخران في المقعد الخلفي. ذهبنا الى شاطئ فينسيا في لوس انجلوس والى شاطى ماليبو القريب منه، حيث التقينا برجال ونساء آخرين أغلبهم من المكسيكان وأميركا اللآتينية. جلسنا على الرمال فوق بطانيات صغيرة أو مناشف كنا قد جلبناها معنا، بينما الأمواج تتكسر على الشاطئ بالقرب منا ونحن نتحدث عن القوة العليا أو الرب والالتزام بمبادئ الانضباطات ومؤازرة أحدنا الآخر.

أمضينا بضعة أيام في المدينة ، وفي اليوم الذي سبق عودتنا اقترح علينا الجيكانو ان نذهب معه الى مقبرة " سانتا مونيكا" التي لا تبعد كثيرا عن لوس أنجلوس حيث قبر عرّابه الذي أمضى الخمسين سنة الأخيرة من عمره ممتنعا عن الشرب والمخدرات، وكان قد سأله اذا ما قد فارق الحياة فانه يتوق بشدة الى أن تعقد بعض اجتماعات الاستشفاء عند قبره، فذهبنا بعد أن اشترينا باقة زهور كبيرة من أحد المحال في شارع "مونتوبيلو" ووضعناها على رخام القبر وجلسنا هناك ساعة كاملة تحدثنا فيها عن الميلاد والموت وحياة اليقظة والصحو والمساهمة الفعالة الإيجابية في حياة المجتمع تحيط بنا شواهد القبور الغارقة في العشب والصمت. ثم عدنا الى مدينة فينيكس في المساء وأخذنا نستأنف أنشطتنا اليومية السابقة.

سألته ذات مساء بعد أن فرغنا من أحد الاجتماعات وخطونا لنقف في باحة البناية حيث يجلس بعض الشباب والشابات على مصاطب ويتبادلون الحديث فيما بينهم أو يدخنون السجائر:

-" كم مضى على زواجكما؟"

-" ثلاث سنوات مكثفة وجميلة جدا". رد الجيكانو بحبور ورضا.

عندما كان يعيش في لوس انجلوس التقى الجيكانو بامرأة أثناء التحاقه ببرنامج علاجي في منظمة " جيش الخلاص" عام 1989ونشأت بينهما علاقة عاطفية حارة وأنجبت له بنتا وحيدة جميلة جدا أسماها سوزانا ، ثم افترقا لتعيش الفتاة بينه وبين أمها. كبرت سوزانا، وطفقت تنمو مثل شجرة نضرة معافاة لا يعيقها أيما شيء. كانت ناجحة جدا في حياتها، وتعمل في إحدى شركات الكمبيوتر في سان فرانسيسكو، ولا تشرب أو تدخن أو تتعاطى المخدرات، لأنها لا ترغب ولا تريد أن تسلك الطريق المتعرج الخطير والمؤذي الذي اتخذه أبوها، في الحقيقة أنها كانت مخطوبة وعلى وشك أن تتزوج من شاب تحبه ويحبها. راحت سوازنة والجيكانو يمضيان أوقاتا طيبة سارة، يتحدثنا لأوقات متأخرة من الليل حينما تزوره في شقته، يسافران معا الى مدن مختلفة داخل أميركا، يذهبان الى المطاعم والحفلات ودور السينما، لكن تلك العلاقة الجميلة المنعشة للطرفين لم تدم، إذ في أحد الايام تعرضت الفتاة لحادث سيارة ونقلت الى المستشفى وأجريت لها عملية لكن الجراح أخطا وقطع أحد الشرايين الرئيسة مما آثر ذلك على الدماغ وسبب الشلل للفتاة.

بقيت سوزانا ثلاثة أشهر في أحد المراكز العلاجية في كاليفورينا، ليس في وسعها القيام بعمل أي شيء عدا التمشي قليلا بين ممرات البناية والتحديق في الجدران أو الزهور ، حتى الكلام كان يصعب عليها إلى أن توفيت.

شعر الجيكانو بأسى وألم شديدين تعجز اللغة عن وصفهما، كان غاضبا ومستاءا جدا من المستشفى والأطباء، ولم تبد أمامه أدنى بارقة أمل. كان قانطا تماما فعاد الى الشرب ثانية لكي ينسى مصيبته. أخذ ينوح على فراق ابنته بشدة، مرددا: يا حزني على سوزانا الجميلة، يا مصيبتي لفراق سوزانا الرائعة. استسلم للشراب مرة ثانية ليل نهار، ويبدو كأنه غائب الوعي منفصلا تماما عما يحيط به من أشياء ومخلوقات وأحداث. لم يكن يولي أهمية لأدنى شيء. وخلال شهر تقريبا لا أكثر انتهت حياته، استغرق في نوبة شرب ثلاثة أيام متتالية. وفي اليوم الأخير من نوبة انغماسه سمعت زوجته اطلاقة نارية تنبعث من مكان قريب، فخرجت من المطبخ متلفتة حواليها، لكنها لم تجد أحدا هناك فأخذت تفتش غرف البيت باحثة عن مصدر الصوت، وحينما فتحت خزانة الثياب رأت الجيكانو يجلس متكئا على الجدار، رأسه متدليا على صدره وثمة اطلاقة تخترق جبهته والدم يسيل على ثيابه نازلا على قنينة الويسكي الفارغة التي أمامه.