تستعيد الناقدة اللبنانية المرموقة ذكريات جمعتها مع المبدع المسرحي عصام محفوظ، وتسلط الضوء على شخصه كإنسان وأديب، كما تمر على الحوارات الدالة التي تبادلتها معه ومنجزه الشعري والفني الذي ترك بصمات لا تمحى في الثقافة اللبنانية والعربية.

عصام محفوظ ومسرح القول المضاد

يمنى العيد

 

كنا نناديه يا جارنا. وهو في الواقع جارنا، بيته يقع في بناية على بعد أمتار من البناية التي يقع فيها بيتنا. كأنّنا أهله، يقصدنا لأكثر من غرض. للحديث في أحوال الأدب، والبلد، والسياسة، وللتسلية بلعب “دق طاولة زهر” مع زوجي. وقد يسألني عن شقيقتي التي لا يعرف، ولكن التي عشق حلو "الرّز بحليب" التي كانت ترسله لي.

هذا وجه آخر لشخص عصام محفوظ، قلّة هم الذين عرفوه، وقد لا يكون عرفه أحد. إنه وجه الإنسان النبيل، الودود، المترفّع عن صغائر الدنيا.

أما الوجه الآخر المعروف فهو لعصام محفوظ الشاعر الحداثي، والمؤسس الرائد للكتابة المسرحيّة التي جعل منها معركة "ضدّ التقليديّة والخطابة والبلاغة، ضّد الكلمة الشعريّة والغنائية، ضدّ كل ما يقتل الحياة في اللغة المسرحيّة، ويجرّدها من خصوصيّتها".

من أجل هذه الخصوصيّة، وباعتبار محليّتها، كان عصام الكاتب المسرحي يحضُر احتفال عاشوراء في مدينة النبطيّة (جنوب لبنان)، وكان يقول لنا: "كنت أقف مذهولاً أمام ما يحدث".

اختار عصام أن يكتب نصوصه المسرحيّة باللغة المحكيّة، أو كما سمّاها "الفصحى الشعبيّة"، وهو باختياره هذا أراد أن يضع حداً فاصلاً، كما يقول في بيانه: "بين النصّ الأدبي والنصّ المسرحي". فالمسرح، كما يوضح، مشهد مرآتي للعامّة ولا بدَّ أن يكون قابلاً للفهم والحوار. شأن عصام في ذلك شأن كاتب ياسين الذي جعل، هو أيضاً، من لغة الشعب المحكيّة، أي من اللغة التي يتخاطب بها الناس في عيشهم، لغةً للحوار المسرحي.

يلتقي المثقفون في الفكر والمواقف، ويتمايزون في فنيّة التعبير والأسلوب.

كانت صداقتنا مع عصام جميلة وثريّة، وكان للجيرة دور في تمتين أواصرها، وتشعب أحاديثنا. أتذكر حواراتنا حول قضايا النقد ووظيفته. كان ذلك في ربيع العام 1982، قبيْل الغزو الإسرائيلي لبيروت. كان يقول: "إذا كان للنقد دور، فهو في كشف القول المضاد للأمر الواقع، منعاً للاستسلام له، أياً كان القائل، ومهما كان القول". وكان ينتقد المثقف الذي يقف في دائرة المراوحة "خارج إمكان القول المضاد" الذي يتطلب "جرأة مزدوجة: جرأة الكشف وجرأة التعبير".

مثقفاً جريئاً كان عصام، ومواطناً لم يخش العيش في حيٍ مسكون بالمسلحين. هكذا بقي في بيته وقد تحولتْ حرب الفصائل التي قاومت جيش إسرائيل وأخرجته من بيروت، إلى حرب أهليّة بين هذه الفصائل.

في حيّنا، ومقابل البناية التي نسكن فيها، كان على عصام عند زيارته لنا، كما على كل زائر، أن يتجاوز موقعا لمسلحين ينتمون إلى تنظيم “المرابطون”، وكان وجود مثل هذه المواقع بين الأبنية السكنية أمراً مفروضاً علينا. هكذا كان عصام ما أن يجتاز عتبة بيتنا حتى يفرج عن ضحكته الهازئة ويقول: أليس مبرراً أن يتساءل البعض عن جدوى الكتابة وسط هذا السلاح وقد تحول، بسبب عجزه، من وسيلة إلى غاية؟ ثم يضيف: قد تقولون إن الكلمة هي السلاح البديل، ولكن ماذا يستطيع هذا السلاح البديل وقد عجز، قبلاً، عن الحيلولة دون الوصول بنا إلى الطريق المسدود؟

نعم، لقد بدا الطريق للكثيرين منا مسدوداً. ذلك أنه ما أن خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت، أو أُخرِجِت، إثر خروج الجيش الإسرائيلي منها، مهزوماً، حتى عمَّ الاقتتال بين الميليشيات المسلحة وبدا الأفق مسدوداً، والكلمة البديل بلا فائدة.

أقف اليوم أمام مكتبتي، مقابل الكنبة الكبيرة التي كنت تجلس عليها، أستعرض كتبك التي كنت تحملها إلينا تباعاً، يقع نظري صدفة على ديوانك الشعري “الموت الأول”، أقرأ إهداءك: "إلى جارتي في الفكر والنقد والأدب". الديوان بين يديَّ الآن، أفتحه على صفحة من صفحاته الأولى، بين ورقتين من بياض، هو بياض قلبك، أقرأ ما كتبتَه بخط يدك:

"أمضي إلى غايتي/ وأعيْني مغمضة/ أحمل في صرّتي/ خبزي ومجد أبي/ وسيفي الأبيضا.

أمضي بلا غاية/ متوجاً بالرماد/ تضيئني صورتي/ وشمسي الغاربة/ على جبين البلاد/ أرسم في غربتي/ مدينتي الغائبة/ وزرقة وحداد".

- لماذا أهملت كتابة الشعر يا عصام؟ ولماذا لم تعد تكتب للمسرح؟

- إنها الحياة فعل سوريالي فما العمل. تقول. ثم تقهقه قهقهتك الساخرة بمرارة من الحياة.

تحكي لنا حكاية الرجل الذي لا يعمل، وكيف جاء من ينصحه بالعمل، فسأل: ولماذا عليّ أن أعمل؟

- سوف تحصل على المال وتشتري كل ما تحتاج إليه، وتعيش مرتاحاً.

فابتسم الرجل وقال: ولكن ها أنا مرتاح.

كنت تروي لنا هذه الحكاية وتضحك كأنك تهزأ من هذه الحياة التي نعيشها، والتي لا توفر للمبدعين إمكانيّة الانصراف إلى كتابة ما يودون كتابته.

في العام 1966 انتقل عصام محفوظ من كتابة النص المسرحي إلى كتابة المقالة الصحفية في جريدة النهار. كنا ننتظر الجريدة صباح كل يوم سبت لنقرأ مقالاته الثقافية المتنوعة، فقد كان كاتب المسرحيات يحوِّل المقالة الصحفية إلى مشهد يثرينا بقدر ما يمتعنا.

بعد ثلاثين سنة من العمل، كاتب مقالة لصفحة كاملة في جريدة النهار، فُصِل عصام من عمله ليجد نفسه بلا راتب شهري يكفيه العيش بكرامة. لكن الكتابة بقيت سبيله إلى الحياة. هكذا كان يحمل إلينا بين فترة وفترة كتبه التي كانت تصدر تباعاً، بعد أن يبيع حقوقه لدور النشر. من هذه الكتب التي كان يهدينا إياها أذكر: حوارات "مع الملحدين في التراث"، "مع الشيخ الأكبر ابن عربي"، "مع متمردي التراث"، "مع رواد النهضة"، "مع متمردي الثقافة".

ما هذا يا عصام؟

يقهقه هازئاً ويقول: لم يبق لي سوى الكتابة كي أعيش.

كان لواحد من هذه الكتب "عاشقات بيروت الستينات" حكاية. تبدأ من عمله، أواخر الستينات، سكرتير تحرير في مجلة الحسناء التي كانت قد اشترت امتيازها دار النهار. يقول عصام في مقدمة هذا الكتاب: "... كنتُ على احتكاك يومي بنماذج أنثويّة، مختلفة الأمزجة والأهواء، فأتحاور معها بحياديّة أحياناً وبتورط أحياناً أخرى...".

لكن مخطوطة هذه الحوارات التي جمعها عصام وكتب لها مقدمة بهدف نشرها ضاعت في حينه، ثم وجدها بالصدفة وكان لبنان قد غرق في حروبه، فلم يجد عصام نشرها في ذلك الوقت مناسباً، ولكن هل كان نشرها بعد وفاته مناسباً؟

عصام محفوظ الكاتب المسرحي الرائد والذي توقف عن كتابة المسرحيّات، نجده، هنا، في حوارياته المعبِّرة، لا عن قضايا تخصّ الواقع والإنسان ومسألة الحرية والسياسة، شأنه سابقاً، بل عن العشق والأنوثة والقلق، أي عمّا يحيل على سؤال الموت والحياة.

في "عاشقات بيروت الستينات" مشاهد مسرحية نابضة بالحياة مكتوبة بلغة عارية من الزخارف، قريبة من لغة التخاطب الشعبي، تشي بحنين عصام إلى الكتابة المسرحية، لكنه حنين لا يخلو من فلسفة ترى بأنَّ العالم سيصبح "ملجأ واحداً لعائلة واحدة لها عدو واحد هو الموت".

الموت...

الموت الذي جاءه فجأة. في غرفة في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت التي نُقلَ إليها بعد أن وجدوه وحيدا في بيته فاقدا قدرته على الكلام، زرته برفقة زوجي. انحنينا عليه وقبلناه تباعاً على جبينه. ابتسم دامع العينين، ثم أخذ يدي وقبلها، وكتب على ورقة وكأنما ليعزّي نفسه: "لقد أصابني ما أصاب عاصي" (يقصد عاصي الرحباني).

تركناه مبتسماً، تسكن عينيه ومضة أمل، لكنه الموت الذي لم يمهله، فأغلق عينيه على وحدته، على نضاله من أجل مدينته الغائبة عنه، من أجل "الرجل العجوز يكنس الشارع… ويبحث عن سيكارة"، من أجل "ماسح الأحذية الصغير يراقب الأقدام بعناية"، من أجل هذه الـ"ماذا" التي رسمها عصام كبيرة على غلاف كتاب من كتبه المسرحية: "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم فرج الله الحلو". بصمت كان يطرح أسئلته، ويترك لكتاباته المتنوعة الإجابة عليها. رحل عصام الجار والصديق.

لكن عصام الكاتب المبدع، والمثقف المناضل... بقيٍ صوتاً في أكثر من كتاب تركه لنا.

 

*عصام محفوظ (1/1/1939-3/2/2006)

* ولد في جديدة مرجعيون جنوب لبنان. نال دبلوم الدراسات العليا في معهد الدراسات العليا في باريس.

* شاعر حداثي، رائد مسرحي، عمل في الصحافة الثقافية وكان أحد أركان مجلة شعر التي كانت تصدر في بيروت.

*من نصوصه المسرحيّة: "الزنزلخت"(1968)، التي جعلت منه كاتباً مسرحيّاً بارزاً؛ "كارت بلانش"(1970)؛ "الدكتاتور"(1972).

* من دواوينه الشعرية: "أشياء ميتة"(1959)؛ "أعشاب الصيف"(1963)؛ "الموت الأول"(1973).

* من نصوصه النقديّة والثقافيّة: "أراغون الشاعر والقضية"(1974)؛ "الرواية العربية الطليعية"(1981)؛ "سيناريو المسرح العربي"(1981)؛ "حوار مع رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر"(1988)؛ "المسرح مستقبل العربيّة"(1991)؛ "رامبو بالأحمر"(2002)؛ "باريس السبعينات"(2018).

*ترجمت أعماله إلى عدة لغات عالمية.