اعتبرت رواية "العالم السفلي" للكاتب الأمريكي دون ديلليللو من أهم ثلاث روايات صدرت في الربع الأخير من القرن الماضي. وهذه القراءة في رواية جاءت ردا على هجمات 11 سبتمبر، تكشف بداية نهاية مقولة البراءة عند الكاتب الأمريكي و راهنية إعادة التفكير، مخرجة إياه من نرجسية الرؤية.

فنان الفوضى يكتب عن سقوط أمريكا

في رواية «الرجل الهاوي»

إبراهيم درويش

بعد هجمات أيلول (سبتمبر) وجد الكتاب في أمريكا وبريطانيا أنفسهم إمام معضلة كبيرة، هي كيفية الرد علي هذا الحادث، خاصة أن قلة منهم تعرف كثيرا عن عالم المهاجمين، أخذنا ما كتبه الروائي البريطاني مارتن أيميس كإشارة عن صدمة الهجمات علي عالم الكتاب الروائيين فانه وان بالغ في الوصف إلا انه كان يعبر عن حرج اللحظة عندما كتب يقول انه بعد الهجمات فان كل كتاب الكرة الأرضية كانوا يفكرون بتردد بتغيير اهتماماتهم ووظائفهم. لكن الهجمات أثرت علي مفهوم الكتابة الروائية ونظرة الكاتب لإبطاله وأجبرت خاصة الأمريكيين علي الخروج من القوقعة التي مارسوا من خلالها لعبتهم الروائية والبحث ليس في أسباب الهجمات فقط ولكن في عوالم المهاجمين، وفي بحثهم عن هويات المهاجمين الـ 19 وقع بعضهم في اسر النمطية كما هو حال بطل جون اوبدايك إرهابي أو محاولة أيميس عن الأيام الأخيرة لمحمد عطا قائد المهاجمين، حيث ركز أيميس في تحليله ولعب علي وتر الإحباط الجنسي عند عطا وانتظاره لحوريات الجنة.

في إطار التعامل مع صدمة أيلول (سبتمبر) لم يقف الكاتب متفرجا ولم يغير وظيفته من كاتب إلي سمكري مثلا بل حاول أن يكيف إبطاله وعالمه الروائي، وهنا فان المسألة لا تتعلق فقط في الكيفية التي طور فيها الكاتب رؤيته الروائية ولكن بتنوع الردود، مثلا البريطاني أيان ماكيوان اختار يوما من حياة طبيب في لندن ليعكس من خلاله اثر الهجمات وموقفه من المظاهرة التي خرج فيها مليون بريطاني ضد الحرب علي العراق في روايته: سبت. وهو نفسه الذي كتب قائلا انه بعد الهجمات شعر بحاجة ملحة للعودة إلي المدرسة والتعلم من جديد والتثقف. أردت أن اعرف عن العالم، وشعرت إننا مررنا بمرحلة تغير كبيرة، في محاولة منه لشرح التعب الذي أصابه في محاولته لمواجهة شخصية روائية جديدة، معظم الكتاب في تعبير روائي أخر مروا بمرحلة إعادة التفكير بالنفس وكراهيتها في الوقت نفسه.

ومن هنا فان صدور رواية جديدة للكاتب الأمريكي دون ديليللو (الرجل الهاوي)، أو (الرجل الذي يسقط) كان في حد ذاته ردا علي الهجمات ولكنه رد متميز، خاصة أن دليللو كتب متحدثا عن نهاية زمن العزلة أو البراءة عند الكاتب الأمريكي، فقد كتب معلقا علي تدمير مركز التجارة العالمي قائلا كنا نحب أن نفكر أن أمريكا هي التي صنعت المستقبل، وأننا مرتاحون لهذا المستقبل، متعلقون به، ولكن هناك اضطرابات الآن، صغيرة وكبيرة، وسلسلة من إعادة التفكير، المشكلة إن الهجمات فتحت عين الكاتب الأمريكي علي العالم وأخرجته مما اسماه دون ديليللو النرجسية في قلب الغرب الذي كان من اكبر المتأثرين بهجمات أيلول (سبتمبر). ديليللو كتب عن وعيه بالتغيرات التي كانت تحدث في العالم، وقادت إلي كارثة انهيار البرجين، وكيف أن الاندفاع في السوق الرأسمالي ودخولنا عصر الانترنت إننا أصبحنا مجبرين علي العيش في المستقبل في الوهج اليوتيبي للرأسمال السايبري/ الفضاء شبكي. لكن هل يمكن النظر لهذا الأثر ومقاربته مع اثر تقدم الرأسمالية، والاندفاع الاستعماري في القرون السابقة، واثر الحربين العالميتين 1914، 1939 علي الكاتب الأوروبي، كما عبر عنها كتاب مثل هنري جيمس الذي كان في لندن عند بدء الحرب العالمية الأولي.

فكتاب أوروبا مثلا وجدوا أنفسهم أمام تحد لإعادة النظر في مفاهيم الحداثة والإيديولوجيات التي حكمت أو تسيدت أوروبا، وعلي خلاف الأوروبيين فان ما كان يحدث في أوروبا كان بعيدا عن جنة الأمريكيين الأرضية، حتى حرب فيتنام لم تجد كاتبا أمريكيا قادرا علي فهم تداعياتها وعبثيتها والرد علي سؤال لماذا نحن موجودون هنا في وحل فيتنام، وترك الأمر لكاتب بريطاني مثل غراهام غرين ليجيب عن هذا السؤال في الأمريكي الهادئ، مع أن عملية إعادة وفحص اثر فيتنام جاءت من كتاب صحافيين مثل ديفيد هالبرسترام. لا يعني هذا أن الكاتب الأمريكي لم يكن واعيا بالعالم لكن وعيه بهذا كان مشروطا بالدرجة الأولي بحسن الأمان الذي وفرته له فكرة أمريكا، مع أن كتابا عبروا في ذروة الحرب الباردة عن هذا الحس والخوف أيضا من أن قوة أمريكا وتوسع ثروتها قد تؤدي إلي سيادة حس إننا/ الأمريكيين محصنون من الإخطار. وكان هناك كتاب يعتقدون أن الجنة الأرضية الأمريكية معلقة علي جهنم عالم غير آمن.

ما حدث في 11/ 9 كان تصادم جنة أمريكا مع هذا العالم المضطرب. قبل الهجمات انشغل كتاب جيل التسعينات الشاب الأمريكي بالتركيز علي الإيديولوجيات الجديدة التي تمجد الربح والمادية، ولكن سقوط برج التجارة العالمي وضع أمريكا في قلب العالم المضطرب، أو بحسب ديليللو فعالمنا الذي هو عالمنا تحطم داخل نفسه، مما يعني إننا نعيش في مكان خطير وغاضب. لكن المشكلة أن هذا العالم المتداخل بفعل انسياب رأس المال والانترنت والناس في العالم الأخر الذين يشعرون بالنقمة علي انهمار الثروة والمال للعالم الأول، غير معروف للعالم الأول، ومن هنا فان ردود الفعل العادية في أنحاء متفرقة من العالم، من البرازيل إلي شوارع اسطنبول علي الهجمات جاءت لتشير إلي النقمة لا التشفي، ذلك الحس المفعم بالنقمة يستأهلون ما حدث لهم ذلك أن مضاربي المال والشركات المتعددة الجنسيات في مانهاتن وول ستريت لم تر في العالم الآخر المزدحم ببشره الا أرضا للربح ومراكمة الثروة وقضاء الإجازات والسياحة. بالنسبة للأمريكيين المتحوصلين في جنتهم الأرضية لا معني لتواريخ هؤلاء البشر ولا قيمة لحيواتهم. لكن الجنة الزجاجية التي تشبه سماء نقية صافية محاطة بستارة عليها خريطة العالم، مدنها بحارها سماواتها حدائقها المعلقة انهارت عندما اخترقتها الطائرات في ذلك اليوم الايلولي وكشفت عن عالم مليء بالحقد والكراهية، عالم مظلم ناس مضطهدين متعبين من انتظار التغيير الذي لن يأتي.

الاعتراف بوجود عالم أخر خارج أمريكا لا يعني أن الكاتب الأمريكي قدم معرفة جديدة عن هذا العالم، فقد وجد نفسه أما يعيد أكليشيهات جاهزة عن هذا العالم أو يقدم مواقف مغلوطة، مثال ايميس وابدايك، وحتى ديليللو، الذي لم يجد في بحثه عن تواريخ المهاجمين إلا خلية هامبورغ التي تعرف علي نشاطاتها من القراءات الصحافية المجتزأة، فهو هنا يحدثنا عن الأمير محمد عطا وحمد القادم من شط العرب والحامل معه ذكريات قنابل الخميني البشرية أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، كما انه لم يكن بقادر علي تجنب الكليشيهات عن المهاجمين الذين يتجنبون الكلاب والنساء، مع أن حمد أو حماد الذي قد يشير إلي زياد الجراح، لم يكن متحرجا من إقامة علاقات مع رفيقاته في الجامعة. وحتى فكرة الاستعاضة بالنعيم الجسدي في هذه الحياة، وجدت تحويرها عند الحديث عن الحوريات virgins وكيف أن الترجمة الانكليزية لمعاني القرآن خلطت بين المعني الأول واصل الكلمة السرياني الذي يشير للعنب المجفف الزبيب raisins وكأن المهاجم الحالم بالسبعين حورية سيجد أمامه في الحياة الآخرة علبا من ماركة الزبيب المجفف سلطانة من مزارع كاليفورنيا. هذه الكليشيات وردت عن اوبدايك ولم يفلت منها ديليللو. عدم المعرفة والهروب من إمكانية تحليل حيوات المهاجمين بطريقة يتعاطف معها المؤلف جعلت عددا من كتاب أمريكا في مرحلة ما بعد الهجمات يهربون من البحث في تواريخ المهاجمين ودوافعهم والتأكيد علي المحلية باعتبارها قد تكون آمن طريق لتسجيل اثر الحدث.

وعليه فرواية (الرجل الهاوي) هي عن اثر الهجمات علي حياة ناجين من البرجين، وهو هنا يفتتح الرواية بمشهد قوي لبطل روايته كيث نيوديكر وهو يصل ملطخا بالدم بعد نجاته من انهيار البرجين أمام شقة زوجته المنفصل عنها، ليان التي تعيش مع ابنهما جاستين، وهو مشهد لا ينسي يحسن تقديمه كاتب معروف في الأدب الأمريكي بأنه فنان الفوضى. وصول كيث لشقة ليان قد تكون فرصة لإعادة بناء العلاقة من جديد وتجديد الحب العتيق، كما أن وصوله يعني العودة لتحمل مسؤوليته الكاملة تجاه ابنه، لكن كيث يجد أن هناك أشياء لا يستطيع مشاركتها بها، أو التواصل معها، فباستثناء علاقة عابرة وقصيرة مع امرأة أفرو ـ أمريكية، فلورنس جيفون، الناجية هي الأخرى من دمار البرجين، حيث حمل حقيبتها بالخطأ في فوضي الانهيار، ويقوم بإعادتها لها. وفي احد الأيام في محل بيع الوسائد ميسي يكون كيث مع فلورنس وتحاول أن تجرب راحة الأسرة والفراش، حين يسمع كيث تعليقا من احد المتسوقين يتعلق بفلورنس، مما يدفعه لكي يوجه لهذا المتسوق لكمة. كان من المتوقع أن كيث الذي قدم نفسه كمدافع عن فلورنس أن يواصل معها العلاقة، ولكنه يقرر تركها بدون أن يقدم لها أي سبب.

بالنسبة لليان فهي تحاول بناء العلاقة من جديد وتقويتها ودفعه للتشارك معها في أشياء أصبح من النادر عليهما مناقشتها، لكن يرد عادة بكلمة واحدة حسنا. قبل الهجمات، كان كيث عضوا غير رسمي في ناد للقمار كان يلعب فيه أسبوعيا، وكانت هذه المشاركة هي ما تعطي معني لحياته، تنتهي الرواية وقد أصبح كيث لاعب بوكر محترفا يعيش في غرفة فندق، يمارس تمارينه علي اللعب، أصبح كيث مجهولا لنفسه، فلعبة البوكر تقدم له العزلة التي يريدها والابتعاد عن العلاقات البشرية، تتجادل قصة كيث مع ليان، التي تتعاون في وقتها الحر مع دار نشر وتقوم بتحرير كتب وتصحيح أخطائها، وابنها الذي يخاف من بيل لوتون وهو تحوير لاسم بن لادن. وتقوم بالتطوع أيضا لمساعدة الأشخاص الذين تظهر عليهم الإعراض المبكرة لمرض الزهايمر، حيث تساعدهم من اجل كتابة ذكرياتهم ومذكراتهم، ووالتغلب على فقدان الذاكرة التدريجي. ليان تندفع للمساعدة من اجل أن تنسي ما فعله والدها بنفسه عندما أطلق النار علي نفسه وانتحر خوفا من أن يفقد ذاكرته كليا، وينسي أنها ابنته عندما تكبر، والدة ليان نينا، هي أكاديمية وباحثة في تاريخ الفن لها علاقة جيدة مع تاجر لوحات فنية في أوروبا،،اسمه مارتن. بعد الهجمات يتحدث مارتن مع نينا عن السبب الذي يجعل شبابا لقتل الناس باسم الدين، لكن مارتن يريد أن يتحدث عن الاحتلال، النفط، الدول الفاشلة، القلب النرجسي للغرب، ولأنه في نظر ليليان يعرف الإرهابيين بشكل جيد، ربما كانت له علاقة مع جماعات إرهابية هامشية مثل حركة بادر ماينهوف. وتتساءل قائلة انه ربما كان نفسه إرهابيا لكنه واحد منا، ولكن هذا التفكير جعلها تشعر بالخجل من نفسها، مما يعني انه واحد منا أي انه ملحد إرهابي.

(الرجل الهاوي) هي حفر في قلب العالم يقوم فيه المتشددون و الإرهابيون بالادعاء أنهم هم الذين يعرفون حقيقة الأشياء. قبل الهجمات شاهد كيث رجلا يسقط من مركز التجارة العالمي، والصورة التي التقطت للرجل الهابط علي خلفية مخططة لمركز التجارة العالمي أعطت ديليللو الفكرة لكي يصف أن الرجل الهاوي هو مجاز عن العالم حيث كان العالم يسقط معه بدون سترة أمان أو أمل أو إمكانية للنجاة.. فبالنسبة لديليللو فهجمات أيلول (سبتمبر) يمكن أن تكون مجازا متوحشا عن حضارتنا، فمنظر الأوراق، والسير الذاتية وطلبات التأمين التي طارت مع انهيار المبني وسقطت في نهر بروكلين هي تعبير عن سقوط الكثير من المفاهيم. تظهر رواية (الرجل الهاوي) كيف استخدم الروائي الأمريكي الهجمات كخلفية مسرحية من اجل أن يعكس من خلالها الحياة اليومية وتشققاتها، مشاكل الزواج ومشاهد داخلية عن الحياة الأمريكية كما في رواية جي ماكليرني الحياة الجميلة، وكين كلافوس فوضي تصلح للبلد، وكلير ميسود أطفال الإمبراطورية وبول اويستر تفاهات بروكلين.

وتعترف كل هذه الأعمال بأن الحياة كما هي لم تعد كما كانت قبل الهجمات ولن تعود. تقوم الرواية الأمريكية بدور تحليل ورصد اثر الهجمات علي الوعي الأمريكي ولكن القصة لم تكتب بعد، فنحن لم نبتعد كثيرا عن أيلول (سبتمبر) إلا سنة أو سنتين عندما قرر جورج بوش فتح جبهة جديدة في العالم، وتدميره للعراق، ومن هنا لم يعد السؤال المطروح عن علاقة الانتحاريين وكرههم لأمريكا، لماذا يكرهوننا؟ والواجب أن يطرح الأخر السؤال علي أمريكا لماذا لا نفهم العالم؟، رواية (الرجل الهاوي) مثيرة من ناحية تداخل أحداثها ومصائر إبطالها التي تطرح أسئلة عن اليومي والمعاش والمنغصات اليومية، فموسيقي صاخبة من شقة في الطابق العلوي تثير حساسية من هم تحتهم، وتؤدي للكمة موجعة توجهها ليان لجارتها المزعجة، كل هذا يشير الي تغير المزاج والعلاقات البشرية في بوتقة الصهر، فعندما انهار البرجان سقطت معهما أسطورة أمريكا، فهل نجح بن لادن ورجاله إذن في مهمتهم؟ سؤال ستتولى أجيال أخري من كتاب الرواية الرد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ دون ديليللو، مؤلف لأربع عشرة رواية بما فيها الصخب الأبيض، ليبرا، اللاعبون، ماو الثاني، و رسام الجسد. وحاز علي العديد من الجوائز.