يصور القاص المصري بتفصيل يومي يبدو عابراً للوهلة الأولى عن رجل يخرج لنزهة على شاطئ البحر تنفيذا لتوصية صحية فيلتقي بصديق صدفة، فيأخذه إلى عالم السياسية الحاضر كاشفاً طبيعة المؤسسات السياسية التي قامت على أنقاض أحزاب ومؤسسات أحرقها الثوار المصريين في ثورة 2011 لنكتشف أن الأحزاب الجديدة التي ظهرت لا تختلف عن تلك التي رفضها الثوار، بل أكثر رداءة من خلال عرض ماضي رئيس حزب والصديق الذي يأخذه لحضور اجتماع.

على مَيَّـا بِيضـا

رجب سعد السيّد

 

لم ألتفتْ إلى توقُّفِ السيارة أمامي مباشرةً، يفصلُ بيننا رصيفُ كورنيشِ الشاطئ، بجوار نَفَـقِ (جليم). اعتدتُ أن أعبرَ النفقَ من الناحية الأخرى للطريق، ثم أتريَّثُ قليلاً، ألتقطُ أنفاسي، جالساً على سور الكورنيش، قبل أن أعودَ للمشي الحَثيثِ، البحرُ عن يساري، ووجهتي (سان استيفانو)، محطةُ التريث التالية، يكونُ بعدُها: إما النضالُ للوصول إلى محطةٍ ثالثة (فندقُ المحروسة، غالباً)، أو الاكتفاءُ بمسافة جليم/ سان استيفانو، وجرعةِ الأكسجين العظيمة التي افترشتْ جدرانَ رئتيَّ.

كنتُ أجلسُ، لا أُعطى أدنى انتباهٍ للحركة من حولي، لأنَّ البحرَ ممتدٌّ إلى الخلف مني، وحين أكونُ إلى جواره أطمئنُّ إلى أن الحياةَ دائرةٌ في مسارِها الطبيعي، ويكفيني منه أن أشعرَ بهوائه الرطبِ يصافحُ وجهيَ ويمرُّ فوقَ رأسي، وصوت أمواجه الصغيرة، في نهاية سباقها إلى رمال الشاطئ، لا تكف عن التتابع.

توقفَ أمامي صبيٌّ، وأشار دون كلمةٍ إلى السيارة الواقفة بحذاء الرصيف. كان بابُها مفتوحاً، استطعتُ أن أرى من خلاله رأسَ "زكريا السيد"، وكانت يدُه اليمنى تتحرك، وسمعتُ صوتَه: (يا عم باشوات مصر!)، فتأكد لي أنه هو، لأن أحداً لا يناديني بهذه التسمية المتفكهة إلا هو.

غادرتُ جلستي واتجهتُ إليه، فطلبَ مني أن أدخل إلى السيارة بسرعة، قبل أن يضبطَ شرطيُّ المرور مخالفتَه. دخلتُ فانطلقت السيارةُ، ورحنا نتبادلُ كلاماً يُجيدُ هو خلطَ الجدّ فيه بالهزل. قال: (عازمك على لقاء سيمتص منك كل المتراكم من طاقة سالبة!). وضحكَ عالياً. حاولتُ أن أعتذرَ بضرورة التزامي ببرنامجي التريضي العلاجي، فلم يأبه. أسكتني بقوله إنه بحاجة لوجودي إلى جانبه، لدعمه عند الضرورة، ففي هذا المساء تتحددُ الأسماءُ التي يختارها الحزبُ لتخوضَ معركة انتخابات مجلس النواب المقبلة. صحتُ: (حزب؟!)، وقد هالني أن يدعوني لاجتماع حزبي خاص، وهو الذي يعرفُ عزوفيَ عن العمل السياسي المباشر، ورأييَ في الأحزاب القائمة، التي لا يزيد وزنُ أيٍّ منها عن اتحاد طلاب مدرسة ثانوية. أمَّا عن زكريا، فأنا أعرف – وهو لا يُمارى- أنه أبعدُ الناس عن الانغماس في أي شأن سياسي، فهو لا يجيد إلا إدارة أسطول (البلانصات) التي ورثها عن أبيه، وتحصيل عائدات صيدها، لينفقها على الخمر والنساء، وعلى دعم ميزانية الحزب ليظل محتفظاً بموقعه القيادي في فرعه بالإسكندرية.

قال إن لقاءً مفتوحاً سيسبقُ الاجتماع المُغلق لاختيار المرشحين، وهو مشاركٌ رئيسٌ في الإثنين، وسوف يُلقي كلمةً في اللقاء الجماهيري. وسحب ورقةً مطوية من جيبه، قدَّمها لي لأقرأها في طريقنا إلى مقر الفرع. غلبني ضعفي إزاء خُلصائي الذين أصطفيهم، وأغفرُ لهم ما قد يطرأ عليهم من تبدلات بشرية صغيرة في مساراتهم، طالما بقي الجوهرُ محتفظاً ببريقه الماسي تحت طبقة من عوالق وأتربة.

لم أستطع متابعة قراءة ورقة زكريا، وشعر هو بذلك، فاستردَّ الورقة وقال: على أي حال، ستسمعها مني بعد دقائق. أكدت له على حقي في التسلل مغادراً إن لم يعجبني الحال، فوافق.

فوجئتُ بأن مقر حزب زكريا هو نفسه أحد المقرات الفرعية لحزب سياسي تم حلُّه بعد ثورة يناير 2011، وكانت نيران الثورة قد طالته في ذروة أحداثها؛ ولكني وجدتُ آثار الإحراق قد أزيلت، بل إن البناية كلها قد تجدد مظهرُها؛ ولما صعدنا إلى المقر بالطابق الأول منها، فوجئتُ بالبذخ في التأثيث والإضاءات؛ وكانت القاعة المتسعة مزدحمة بملصقات ولافتات مثقلة بشعارات ومقولات. وتركني زكريا وانضمَّ لرفاق حزبه، فاخترتُ مجلسي قرب باب الخروج، وكان معظم المقاعد مشغولاً؛ ولم يلبث اللقاء أن بدأ فور أن احتل المتحدثون مقاعدهم.

لم أهتم بالإنصات إلاَّ إلى الكلمة التي ألقاها زكريا، فأحسستُ بالذنب لعزوفي عن مراجعتها وتصحيحها، وعلى أي حال، فإن أحداً لم ينتبه للغتها المهترئة. وتهيأتُ للمغادرة قبل أن يبدأ آخر المتحدثين، الذي قدمه منسق اللقاء بصفته السيد الأستاذ الدكتور أمين عام الحزب؛ غير أنني – حين بدأ يتكلم - انتبهتُ إلى صوته. لم يكن غريباً عليَّ. تراجعتُ عن فكرة المغادرة لأتأكد من أن ذاكرتي لا تزال تحتفظ في ركن قصيٍّ منها بملامح هذا الصوت؛ فهل يمكن أن يكون (ح) هو الأمين العام لحزب سياسي؟. هو الصوت الذي أتذكره الآن، تضطربُ فيه مخارج الألفاظ باضطراب حركة لا إرادية تُطيحُ بتوافقِ أداء اللسان والشفتين. لا تُفلح النظارةُ السوداء الكبيرة التي تغطي نصف وجهه تقريباً في إخفاء شاربه غير الكثيف، وإن فارقه التهدُّلُ وبدا مصبوغاً مُنمَّقاً. غير أن أهم مكونات التزييف التي طرأت على الهيئة العامة كان الشعرُ المستعار، الأسود الناعم اللامع، يغطي صلعة مبكرة كان معروفاً بها. كان يرتجل كلمته، ويخلط بين عامية فجة، وفصحى ضائعة، وكان يؤكد على كلامه بكثرة ترديد تعبير سوقي غريب (على ميَّا بيضا).

لا أنكر ارتباكاً حلَّ بي من شدة وقع المفاجأة!

الجندي المُجنَّد، أو "العسكري (ح)"، النموذج البشري غير الاعتيادي، القادم من مدينة في وسط خط الصعيد.

ظلت علاقتنا فاترة شهوراً طويلة، إلى أن تمت ترقيتي إلى (رقيب)، كمعظم المؤهلات العليا في ذلك الوقت، وأصبحت حكمدارا لفصيلة سطع كيما، أو الاستطلاع الكيميائي، وأضيفت إلى عهدتي العسكرية معدات (المختبر الميداني)، وكان من بينها (جمدانة) كحول إثيلي نقي.

جاءني ذات ليلة وطلب مني بعضا من (السبرتو)، لتضميد زميل جرح يده. أعطيته ما طلب، وبكرم شديد، حرصا على سلامة المجروح، بل وأبديت رغبتي في الذهاب معه، للمساعدة في الإسعاف، فأسرع يرفض، فقد كانت الليلة باردة جداً، ويطلب مني أن أبقى مستريحاً، لأنه سيقوم باللازم.

أحببتُ أن أطمئن إلى سلامة الزميل، فقررت الذهاب إلى (دشمته)، فوجدته وزميلين آخرين في نوم عميق. وتناهت إلى سمعي أصوات طبول وتصفيق وضحكات عالية، كان مصدرها (دشمة) (ح)، فانعطفت إليه، حيث وجدته واقفاً وسط حلقة من الزملاء، وبيده زجاجة مياه غازية غامقة (كانت من نوع اسمه سباتس)، وكان يؤدي حركات الراقصات المحترفات بمهارة تثير الضحكات والصيحات.

كان سكراناً بالخمر محلية الصنع التي توصل إليها: مياه غازية ممزوجة بالكحول النقي.

جاءني في اليوم التالي، واعترف لي بأنه كان يسرق السبرتو من المسئول السابق عن المختبر الميداني، ولكنه آثر أن يكون أميناً معي، وأن يطلبه مني. فأفهمته أنني أعطيته الكحول لإسعاف زميل، وليس للمسخرة. وكنت متجهماُ، فانسحب من أمامي. ويبدو أنه قرر أن يعود لسرقة الكحول، فقد كنت ألاحظ تناقص حجمه في الجمدانة.

وفوجئت بأن كل من في السرية يعلمون بحكاية سكره. وكان الأمر يصل أحياناً إلى حد الخطورة، فقد سكر ذات ليلة، فقرر أن يلبس (الشَــدَّة) الميدانية، بينما استغنى عن كل ملابسه، وربط حول وسطه (القايش) وبه جرابندية الماء، كما لبس البيادة، ووضع على رأسه الخوذة، ولم ينس قناع الوقاية من الغازات، وعلق البندقية الآلية على كتفه، وخرج إلى الصحراء يتطوح. واكتشف القريبون منه غيابه في الصباح، فخرجت مجموعة تبحث عنه، حيث وجدته في موقع وحدة عسكرية أخرى، يبعد عن موقعنا عدة كيلومترات، وكان نائماً في حفرة مدرعة، ومن حوله دائرة من كلاب، كان نباحها هو الذي لفت الأنظار لمكانه!

نشطتْ الذاكرة، وكان سُباتُها قد طال، فلم تكن تجد عبر سنوات طويلة من يوقظها. وها هي تستيقظ في هذه الأمسية، بفضل إصرار زكريا السيد.

وتساءلتُ وأنا أدخل إلى مسكني: لقد تذكرتُه وعرفته .. أتراه تذكرني؟

لم أكن أشك في ذكائه الفطري الذي عرفته فيه، فحدستُ أنه تعرَّف على شخصيتي، بالرغم من أن الدهر قد أزرى بيَ. وسرعان ما تحقق حدسي حين هاتفني زكريا وأنا أتهيأ لدخول الفراش. قال إن الرجل حزن بشدة عندما رآك تغادر القاعة، وهو يرغب في أن يلتقي بك. قلت له سأحدثك عندما أقابلك حديثاً طويلاً عنه، سوف يدهشك. قال: حدَّثني هو عن مغامرات وأفعال طيش شبابي، أيام الجندية.

لم أتمالك، ورحتُ أعنِّفُ صديقي: تتحدث عنه كأنك تسرد فيلماً لأحمد رمزي!.

فلما استمرَّ تشبُّثُه بأن اللياقة تفرض عليَّ الاستجابة لدعوة صديق قديم للقاء، انفجرتُ في حديثي التليفوني معه: لا تقل صديقاً. نحن أمام مسخ مزور، لم يكن يحمل أي شهادة تعليمية وعمره يقترب من الخامسة والعشرين. فكيف تحصَّل على اللقب الأكاديمي؟.

وأنهيت المكالمة بما أعتقد أنه قد أصابه بصاعقة، حين حكيت له عن واقعة اعترافه بأنه (مِثْلِيٌّ)، لما أعلن الجيش عن إجراءات لتطهير صفوف جنوده، قبل أكتوبر 73، من العناصر الشاذة، فسعى "العسكري (ح) "ليُعرض على لجنة التطهير المختصة، التي تيقنتْ من شذوذه، فطُرِد من الجيش قبل الحرب، بتقديرِ أخلاقٍ مُزرٍ، كفيل بإغلاق كل أبواب المجتمع في وجهه.

سألتُه: هل يمكنك أن تطلب من رئيس حزبك الاطلاع على وثيقة معاملته عسكرياً؟ لا أعتقد أنه سيسمح لأحد بتعرية مؤخرته، وإن كنت لا أستبعد أن يكون قد اشترى وثيقة مزورة ناصعة البياض!

ولم أفطن، من شدة انفعالي في محادثتي، أن صديقي القديم لم يعد معي على الخط، وتركني أتحدث إلى الهواء. ولم يكن عليَّ إلا الاستسلام للفراش، أملاً في إغماضة عين مستعصية على الدوام، وسيزداد عصيانها بعد أمسية عصفت بي عصفاً.