يبدو هذا الكتاب المرجعي، الفاتن والملهم على تماس مع الفلسفة بالتوازي مع الأدب، إن بلورة رؤية مختلفة لمفهوم الشر وطرق تجليه في الأدب هو الشغل الشاغل لجورج باتاي، يقدم تحليلاته النفسية والذهنية لكل كاتب مثلت فكرة الشر محوراً بالنسبة إليه سواء في الحياة الواقعية الحسية أو الأدبية.

المفكر الفرنسي جورج باتاي يلغي التخوم بين الأدب والفلسفة

لنا عبد الرحمن

 

"الأدب والشر" عنوان مغوٍ، وغامض، باعث على تساؤلات شتى، اختاره الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي (1897 - 1962) ليطرح من خلاله تأملاته عن التقاطعات الباطنية بين مفهوم الشر والإبداع، معتبراً أن الثورة هي عنصر أساسي لدراسته كلها، وأنها الجوهر الحقيقي للكتاب من أجل وضوح الوعي. وصدرت حديثاً ترجمة عربية للكتاب انجزتها رانية خلّاف عن داري الأزمنة والفراشة. فالأدب هو نوع من أنواع الاتصال، الذي لا يتسم دائماً بالبراءة. يقول: "أعتقد أن الشر- الشكل الخطر للشر- الذي يعبر عنه الأدب، يُمثل قيمة رئيسية بالنسبة إلينا، ولكن هذا المفهوم لا يستبعد الناحية الأخلاقية بل على العكس يتطلب أخلاقية مفرطة، لقد أردت أن أبرهن أن الأدب هو عودة للطفولة".

وفي مقدمتها للكتاب ترى المترجمة والشاعرة رانية خلاف أن هذا الكتاب قد مثل لها تحدياً خاصاً، حيث تقول: "لم تكن عملية الترجمة يسيرة مطلقاً. كان عليّ الخوض في متاهات ومصطلحات جديدة... كانت تجربة ممتعة بسبب مشقتها، مغوية بفضل تعددها".

امرأة واحدة، هي الكاتبة إيميلي برونتي، وجدت مع: بودلير، ويليم بليك، ميشليه، كافكا، بروست، ساد، وجينيه. واختيار برونتي فقط لتكون ضمن قائمة كتاب "الأدب والشر" يستحق التوقف عنده، إذ يعتبر باتاي أن برونتي من بين كل النساء تحمل لعنة مميزة، جعلتها تعيش بائسة على مدى حياتها القصيرة التي انتهت حين بلغت الثلاثين من عمرها. برونتي كان عليها أن تمر بخبرة عميقة لسبر غور الشر كي تحافظ على نقائها الأخلاقي سليماً، لذا كانت حياتها قائمة على الخيال والحلم، ولديها معرفة معذبة بالعشق وطرحتها بكل تجرد في روايتها "مرتفعات ويذيرينغ" من خلال بطلها "هيثكليف" وقصة حبه المعقدة لكاثرين. فالموت الذي ربط بين المحبين هو المعاناة المصاحبة للحب الخالص. باتاي يرى أن هذه الرواية تطرح مسألة الشر في علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة في فضح العاطفة حيث الشر وصل في رواية برونتي إلى شكله الأمثل، حيث السادية هي تجسيد للشر، كذلك الارتباط الحميمي بين خرق القانون الأخلاقي والأخلاقية المفرطة هو المعنى النهائي لرواية "مرتفعات ويذيرينغ". ولا يغيب عن الكاتب الربط بين شخصية إيميلي الحقيقية وشخصية بطلتها كاترين التي لم تتمكن من الشفاء من حبها لهيثكليف، إنها شخصية أخلاقية بشكل مطلق لدرجة أنها تموت لكونها لم تتمكن من الابتعاد عن الرجل الذي أحبته.

جان جينيه

في زمن لاحق، وعند كاتب مثل جان جينيه يبدو الالتزام بالشر الأسمى مرتبطاً بالتأكيد بالالتزام بالخير الأسمى، لذا اختار جينيه أن يكتشف الشر كما اختار آخرون أن يكتشفوا الخير، منح نفسه للشر واختار أن يتصرف بشكل سيء وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شروراً فحسب، ولكن أن تعلن عن ارتكابها، لذا كتب في السجن مبرراته التي دعته لممارسة الشر. تبدو حياة جان جينيه القاسية حافلة بمبررات للاحتفاء بالشر. يتوقف باتاي مطولاً عند دراسة سارتر حول جان جينيه ويرى أن سارتر حمل الكثير من التعاطف العميق مع جينيه مبرراً بأنه كان يبحث عن كينونة لوجوده، حيث الحياة والموت، الواقعي والمتخيل، الماضي والمستقبل، المرتفع والخفيض.

لا يتمثل الشر عند الكاتب والفيلسوف الفرنسي جوليس ميشليه في ذاك الفعل الذي يقوم على استغلال الأقوياء لنفوذهم للتحكم بالضعفاء بل إنه يمضي في اتجاه معاكس أي ضد مصالحنا الخاصة، إنه الشر الناجم عن رغبة جياشة في بلوغ الحرية.

مضى ميشليه في اتجاه معاكس للقيم التي يؤمن بها علماء اللاهوت، دافع عن الساحرة معتبراً أنها استنساخ للمعاناة الإنسانية، يقول باتاي: "لقد كان ميشليه منقاداً بنشوة الشر مسحوراً بها... لقد آمن بأن تقدم الحقيقة والعدالة والعودة إلى قانون الطبيعة هي أمور حتمية".

عند اقتراب باتاي من عالم بودلير، يتوقف بطبيعة الحال عند قصائده "أزهار الشر"، معتبراً أن إنكار الخير في شعر بودلير هو بشكل أساسي إنكار ليقينه بأولوية المستقبل، وفي الوقت ذاته "ينطوي التأكيد على الخير على عنصر النضج الذي نظم تعامل بودلير مع الإروتيكية".

أما الشاعر الإنجليزي ويليام بليك فقد استطاع بعبارات بسيطة قاطعة ومن خلال عالمه الذي احتفى بالعزلة أن يخفض من قدر الإنسانية ويلخصها في الشعر، ومن ثم يلخص الشعر في الشر. رأى باتاي في بليك أن كتاباته ولوحاته فيها غموض مدهش "إنها تدهشنا بعدم اكتراثها بالقوانين العامة، هناك شيء ما منحرف وأصم ينتهك حدود الآخر". تبنى بليك صخب التناقضات واضطراب الموت، وهذا ملموس في قصائده كأن يقول في قصيدة النمر ما يعبر عن رد فعله إزاء الرعب: "في عربات ذهبية مستعرة وعجلاتها الحمراء تنقط دماء/ تمدد النمور أجسادها في استرخاء على الضحية وتمتص المياه الحمراء".

تبدو صورة الماركي دو ساد عند جورج باتاي منذ السطور الأولى، شخصية مميزة وشريرة، يبدو مقطباً مثل عملاق مروع ومهيب. إن أعمال كما حياة ساد متصلة بالأحداث التاريخية، ولكن بأكثر السبل الممكنة غرابة. كان لاقتحام سجن الباستيل في يوليو (تموز) 1798 دور في حياة ساد، بعد أن سجن فيه مدة عشر سنوات وكان واحداً من أكثر الرجال تمرداً وغضباً، كان وحشاً مهووساً بفكرة الحرية المستحيلة. لكن اقتحام السجن لم يؤد سوى إلى تأجيل إطلاق سراحه مدة تسعة أشهر بسبب اكتشاف علاقته مع المتمردين ومساندتهم. ارتبط ساد بفكرة التدمير الذاتي والعدم والموت حتى أنه كتب في وصيته التعليمات المتعلقة بقبره والتفاصيل التي ينبغي أن يكون عليها القبر. عاش ساد حياته مهووساً بطرح السؤال عن فكرة الخير والشر وطرح نفسه كمجدف حيناً، وكرجل ورع في حين آخر، لنقرأ كلماته: "هل لك أن تخبرني ما هو الخير وما هو الشر؟ هه تريد أن تحلل قوانين الطبيعة وقلبك، قلبك حين حفرت تلك القوانين فوقه، إن قلبك هو نفسه أمر ملغز لا يمكن أن تقوم بتفسيره".

في المقابل يرى باتاي أن بروست كان أكثر قدرة من ساد، فقد كان متشوقاً للحصول على لذته، وهكذا "فقد ترك للرذيلة لونها البغيض- إدانة الفضيلة... لم يعرف بروست أبداً بهجة الشعور الأخلاقي الذي يمنح أفعالنا الآثمة تلك النكهة الإجرامية والتي من دونها ستبدو طبيعية... إن الأشرار وحدهم يعرفون الفوائد المادية للشر".

أما كتابات كافكا فإنها تكشف عن سلوك طفولي تماماً، إذ كلما قرر أن يعبر عن أفكاره في يومياته أو في مذكراته المتنوعة صنع فخاً في كل كلمة. كتب كافكا: "لو أنني أخفيت إحدى خصوصياتي سينتهي بي الحال إلى كراهية ذاتي أو مصيري، وسأعتبر نفسي شريراً أو ملعوناً".

يبدو هذا الكتاب المرجعي، الفاتن والملهم على تماس مع الفلسفة بالتوازي مع الأدب، إن بلورة رؤية مختلفة لمفهوم الشر وطرق تجليه في الأدب هو الشغل الشاغل لجورج باتاي، يقدم تحليلاته النفسية والذهنية لكل كاتب مثلت فكرة الشر محوراً بالنسبة إليه سواء في الحياة الواقعية الحسية أو الأدبية، وتجلت على الورق في تبني آراء قد تبدو مناقضة لمسيرته اليومية، كما نجد مثلاً مع إيميلي برونتي. لا ينشغل باتاي في تقديم تأريخ معين لكل كاتب أو سرد متسلسل لمراحله الإبداعية، بل يقفز مباشرة إلى جوهر الفكرة التي يود الاستدلال عليها، من هنا ينبغي على القارئ الشغوف القيام برحلات معرفية أخرى لاكتشاف ما يود معرفته عن أحد الكتاب المذكورين في "الأدب والشر"، أو من جانب آخر للقيام بالمقارنة أو رفض ما جاء به باتاي من تحليلات تتوغل في سراديب حياة كل مبدع اختاره ليجسد أنموذجاً عن الأدب في علاقته مع الشر، ومع الثورة أيضاً.

 

اندبندنت عربية