يرى الناقد المصري أن مفتاح هذا الكتاب كله في أنه يوسع مادة التاريخ لتشمل كل ما يتعلق بالإنسان، وفى أنه ينقل مركز الثقل إلى المؤرخ ومنهجه وقدراته، وليس إلى حشد المصادر المكتوبة، إلى الكيف وليس الكم، هو بالتأكيد لا يدعو إلى نبذ الوثيقة المكتوبة، ولكنه لا يراها مصدرا مقدسا، ولا وحيدا، يطبق بمهارة وسائل نقد المصادر الشفوية أو المرئية والمسموعة، مثلما يطبق وسائل نقد الوثائق المكتوبة أو الرسمية

«تاريخ آخر لمصر» .. اكتشافات بلا ضفاف

محمود عبد الشكور

 

سعادتي بصدور هذا الكتاب المهم مضاعفة، ليس فقط لأنه من تأليف مؤرخ وأكاديمي معتبر هو الدكتور محمد عفيفي، ولا لأنه يوسع آفاق مصادر التاريخ عموما، ويجعله بحق تاريخ الناس الحى، لا تاريخ الممالك والأبطال والدول، ولكن لأنه يرد الاعتبار للفن والأدب والمأثور الشعبي، ويفتح أمام دارس التاريخ وقرائه آفاقا واسعة للاكتشاف والتأمل.
تاريخ آخر لمصر، الصادر عن دار بتانة، يطرح فيه عفيفي رؤيته اللامعة حول استفادة التاريخ من الأدب والفن والفولكلور، وكلها مصادر قد تكون أكثر دلالة وأهمية من الوثائق المكتوبة، التى ما زالت تمتلك قداسة مبالغا فيها لدى مؤرخي المدرسة التقليدية، مع أن الوثائق المكتوبة يمكن تزويرها، ومع أن كبار المؤرخين من «هيرودوت» إلى «الجبرتي»، كانوا يلجؤون إلى مصادر شفاهية وغير مكتوبة، وكانوا يقومون بدور الصحافة قبل ظهورها؛ يستقصون ويسألون الشهود، ويكتبون عنهم ما لم يشاهدوه.
لطالما قمت بنشر مقالات نقدية عن الدلالات الخطيرة لمرايا الفن والأدب، فهل يمكن مثلا الكتابة عن وضع المرأة المصرية أوائل القرن العشرين، دون تسجيل ظهور أول ممثلة مصرية مسلمة على المسرح والسينما، بعد أن كانت الأدوار النسائية للشاميات ولليهوديات؟
وهل يمكن الحديث عن صعود وسقوط دولة الموظفين في مصر، دون قراءة ما سجلته السينما العظيمة عن الموظف كـ«قيمة ومركز ووظيفة ميري» في اسكتش فيلم «عنبر»، ثم بحث الموظف عن العمل الحر في فيلم «معلهش يا زهر»؛ لأن دخله لا يكفى، وصولا إلى تحول الموظف إلى مختلس صريح لتزويج ابنته في فيلم «أم العروسة»، وتحايل الدراما لمنع سجنه، وكأن الفن يستر ما عرته الوظيفة، وانتهاء بتحول انحراف الموظف إلى جزء من شبكة فساد فى فيلم «العيب»، ولجوئه صراحة إلى التسول في فيلم «الموظفون في الأرض»؟
أسعدني في الكتاب أنه لم يكتف بالفروض النظرية، وإنما استخدم نماذج تطبيقية لما يمكن أن يستفيد به المؤرخ، إذا نظر إلى مصادر جديدة غير تقليدية؛ محللا ومـتأملا، فمنح كتابه طزاجة حقيقية، جمع فيها بين ذائقة ممتازة في قراءة الروايات والأفلام، والحس التاريخي المرهف، بوضع العمل في سياقه، وربطه الذكي بسياقه الزمنى.
يتوقف، مثلا، عند دلالات تاريخية بعينها في «ثلاثية» نجيب محفوظ، ويثمن رؤية محفوظ التاريخية فى كتاب «أمام العرش»، ويرى في رواية «بنت من شبرا» لفتحي غانم دلالات مهمة عن مجتمع الأجانب فى مصر، مثلما يرى في رواية «شبرا» لنعيم صبري رصدا يستوقف المؤرخ لظاهرة هجرة الأجانب، من شبرا ومصر عموما، في سنوات الخمسينيات.
فى السينما يكتب عن التوظيف السياسي للأفلام، عن مشروع فيلم لم يتم عن أسرة محمد على، عن يوسف شاهين ابن ثقافة البحر المتوسط، وفى الموسيقى يتابع ثنائية «البلدي» و«الإفرنجى» ودلالاتها الاجتماعية، ويتوقف عند ظاهرة محمود شكوكو المدهشة، وظاهرة الأغاني الوطنية بين تمجيد الوطن، وتمجيد الحكام، قراءات ممتعة تعمقها ثقافة كاتبها، واتساع رؤيته، وإدراكه للفروق بين نظرة المؤرخ، ورؤية الناقد الأدبي أو الفني أو باحث الفولكلور.
يمكن القول إن مفتاح الكتاب كله في أنه يوسع مادة التاريخ لتشمل كل ما يتعلق بالإنسان، وفى أنه ينقل مركز الثقل إلى المؤرخ ومنهجه وقدراته، وليس إلى حشد المصادر المكتوبة، إلى الكيف وليس الكم، هو بالتأكيد لا يدعو إلى نبذ الوثيقة المكتوبة، ولكنه لا يراها مصدرا مقدسا، ولا وحيدا، يطبق بمهارة وسائل نقد المصادر الشفوية أو المرئية والمسموعة، مثلما يطبق وسائل نقد الوثائق المكتوبة أو الرسمية.
من الأمثلة الشعبية إلى الحروب الفكرية؛ مثل أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي»، يبدو التاريخ أعمق بكثير، وأكثر اتساعا مما يدرسه الطلاب، ومما يفهمه بعض المؤرخين التقليديين، هذا الكتاب يرد الاعتبار لمعنى التاريخ الحقيقي، الذى بهت وتضاءل فصار دراسة جافة، لا تزيد على زعيم تولى السلطة، وآخر مات، ولا نجد فيه إلا دولة قامت، وأخرى سقطت.
أتفق تماما أنها نوافذ جديدة للرؤية، ليت د. عفيفي يواصل هذا المنهج في كتب قادمة، ويعيد صياغة أدوات المؤرخ وفقا لهذه القراءة الشاملة، التى تحتاج مثقفا حقيقيا، وليس مجرد دارس للتاريخ وللحوادث.
وليت من يضعون المناهج التاريخية للطلاب يعيدون إلى التاريخ روحه بهذه الرؤية الواسعة، بدلا من أن تكون كتب التاريخ، مجرد توابيت للموتى وللأحداث الغابرة.

جريدة الشروق