نجحت الروائية في رصد ما آلت إليه الأمور في غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، واستطاعت أن تلقي الضوء وبصورة جلية عن الآثار الناجمة عن سقوط غرناطة، فغرناطة صورة مصغرة عن صدمة ضياع الأندلس من أيدى المسلمين، مثلته خير تمثيل بتصويرها للحياة الاجتماعية للأسر المسلمة، وكيف انعكس عليها تخلى حكامها عنه.

قراءة في رواية الكاتبة المصرية رضوى عاشور (ثلاثية غرناطة)

خولة كامل الكردي

 

في روايتها «ثلاثية غرناطة» ألقت الكاتبة المصرية رضوى عاشور الضوء على الفترة التي تم فيها تسليم غرناطة آخر معاقل الحكم الإسلامي في الأندلس للقشتاليين، وكيف أن الأمير أبو عبد الله الصغير قد أبرم اتفاقا مع الملك فرنانديز والملكة إيزابيلا لتسليم مفاتيح غرناطة لهم، تاركا غرناطة وأهلها وحضارتها وبساتينها وحاناتها وبيوتها وشوارعها للقادم الجديد.

حاولت الكاتبة أن تبين أثر تسليم غرناطة لأولئك الغرباء القشتاليين الذين هيمنوا على كل ناحية وركن فيها، فسلطت الضوء على أبو جعفر صاحب الحانوت الذي يمتهن حرفة تجليد الكتب وتغليفها لتخرج في أبهى صورة، يساعده في ذلك نعيم صبي صغير في السن يلصق الكتب ويضعه في المكبس، وبعد أيام يخرج الكتاب من المكبس، يقوم أبو جعفر بكتابة العنوان واسم المؤلف واسم المالك ويخرجه في أجمل حلة.

أظهرت عاشور ذلك الصراع الذي حدث داخل بيت أبو حسن، متمثلة بالمشاكل الأسرية الاعتيادية كانعكاس لتأثير سيطرة القشتاليين على غرناطة، والخوف والترقب الذي قبع في قلب كل انسان في غرناطة، من اشتداد حدة التضييق على مسلمي غرناطة، ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية، واندلاع ثورة في جبل البشرات، وتصاعد الحملات القشتالية ضد الثوار، الذين تجمعوا لمناهضة القشتاليين في محاولة لاستعادة غرناطة من أيديهم، وتأثيره بشكل كلي على حياة الأفراد في غرناطة من زواج وإنجاب وعمل، فاختصرت الكاتبة ذلك التأثير في بيت أبو حسن، وكيف كانت وفاة أبو جعفر التأثير الكبير عليهم، إضافة إلى المشاكل التي تواجهها الأسرة في ظل التضييق من قبل الحكام الجدد، والذين فرضوا قيودا على ممارسة المسلمين لطقوسهم، فتم دفن أبو جعفر في سرية تامة، تفاديا للعقوبة التي قد تفرض عليهم كنتيجة لمخالفتهم للقوانين والتي تحظر على المسلمين، إظهار أي علامة قد تفصح عن عقيدتهم.

وقد أوضحت في روايتها كيف أن ابنة أبو حسن سليمة، وافقت على الزواج من سعد ذلك الشاب الصغير، الذي كان يعمل في حمام أبو منصور، ثم ما لبث أن عمل في حانوت أبو جعفر في تجليد وتغليف الكتب، فموافقتها جاءت في محل استغراب من أمها (أم حسن)، فكيف لابنتها سليمة حفيدة أبو جعفر الوراق صاحب الحانوت المعروف بإعداد الكتب من شتى صنوف العلم والأدب وزخرفتها، الزواج من عامل كان يشتغل عند جدها يتعلم منه فنون صنعة الكتب، وتعلق سليمة بظبية أحضرها لها سعد كهدية لها، ومراعاتها والاعتناء بها، في المقابل زواج أخيها حسن من مريمة، تلك الفتاة الصغيرة بالسن، والتي تمتاز بالفطنة والكلام المنمق والنباهة في تدبير أمور البيت.

وفي تصورها المميز حاولت الكاتبة عاشور التركيز على فكرة الموت، عن طريق التأمل في فكر سليمة وحبها الشديد للظبية، وحزنها الغير معتاد على موت تلك الظبية، وبحثها المستفيض بين الكتب عن سبب وفاتها، وكيف يمكن أن تجد دواء للمرض الذي تسبب في موت ظبيتها التي أحضرها لها سعد، تعالج الأفكار والتساؤلات المتزاحمة في رأسها، وزادت تساؤلاتها واستفساراتها بعد أن فقدت جنينها، فآثرت الانطواء والانعزال والبحث المتأني والحثيث في الكتب والموسوعات عن سر المرض، وكيف يمكن إيجاد علاج ناجع يشفي العليل من علته ويجنبه الوفاة، في حين ألقت الكاتبة الضوء على زوج سليمة سعد، الذي شعر بانشغال سليمة عنه، فنشبت الخلافات بينهما، على أثرها اختار سعد ترك بيت أبو حسن والذهاب إلى جبل البشرات لمساعدة الثوار في قتالهم ضد القشتاليين الغزاة.

وقد أفردت الكاتبة شرحا وافيا لما آلت إليه أحوال الناس في غرناطة من المسلمين، من تضييق وتشديد عليهم وسجن المخالفين للقوانين التي أقرت بحق كل مسلم يظهر دينه، واخضاعهم لتعذيب شديد ينتهي بالقتل حرقا بتهمة الهرطقة أو السحر، فأجبر أهل غرناطة على فتح بيوتهم من الصباح حتى المساء، وتجريم الصائم والمصلي ومن يقتني القرآن في بيته وتغسيل الموتى وتكفينهم على الطريقة الإسلامية، واجبار الغرناطيون على الذهاب إلى الكنيسة وتغيير أسمائهم واعتماد أسماء قشتالية، ومع توالي الأحداث في الرواية بطريقة متسلسلة ودقيقة، رصدت فيها الكاتبة عاشور شرحا تفصيليا، الأوضاع التي يعيشها أهل غرناطة في ظل حكم متسلط وكاره لكل ما هو مخالف لعقيدته، وكيف أن سليمة كانت ضحية لتلك القوانين!

فربما مقصد الكاتبة في إبراز شخصية سليمة، لتعبر بشكل أو بآخر عن فقدان غرناطة، فبحثها المستفيض عن دواء يعالج المرضى ويشفيهم ويقيهم شر عوارض الداء، دفعها إلى شراء واقتناء كتب كثيرة بعض منها كان لوالدها أبو حسن، والاحتفاظ بها في بيتها، بمساعدة زوجة أخيها حسن مريمة، وفي انهماكها بالبحث والتقصي ومع تقطع زيارات سعد لها للاطمئنان عليها، حدث ما لم يكن بالحسبان، حملت سليمة وانجبت مولودة أنثى أسمتها "عائشة"، بالمصادفة مع عودة سعد وابتهاجه بالطفلة، لم تكتمل سعادته بعائشة، فقد وجدها ولم يجد سليمة!

سليمة أصبحت ضحية لقانون يجرم اقتناء الكتب ويتهمها بممارسة السحر والكفر، لكنها في الحقيقة كانت تطبب الناس بالأدوية التي كانت تصنعها من الأعشاب، فحكم عليها بالموت حرقا، حزن سعد عليها كثيرا ومات حسرة وكمدا عليها. كبرت الصغيرة عائشة وتزوجت من ابن خالها هشام وانجبت مولودا ذكر أسمته "علي"، لم تعش عائشة كثيرا فماتت تاركة طفلها يرعاه جديه مريم وحسن، كبر علي وعلمه جده حسن الطاعن في السن أصول اللغة العربية والقرآن، وأوصاه بالحفاظ على الكتب الموجودة في أسفل البيت في قبو قديم، بعيدا عن أعين القشتاليين. توفي جد علي حسن وبقي مع جدته مريم التي ربته، ولم يعرف والده يوما، الذي كان على خلاف شديد مع جده حسن الذي طرده من البيت وحرم من رؤيته حتي وفاته، بقي علي مع جدته ملازما لها وقلبها كله أمل برجوع غرناطة يوما ما إلى أهلها والخلاص من أولئك الغزاة، توفيت مريم بين يدي حفيدها علي، وهي في طريقها إلى مدينة أخرى بعيدا عن غرناطة مع العديد من الغرناطيين المسلمين، فقد فرض عليهم الرحيل وترك غرناطة، فقد علي جدته وأصبح وحيدا. واجه سلسلة من الأحداث، وانتابته مشاعر الحنين والشوق لمسقط رأسه غرناطة، رفض الترحيل الثاني وعاد أدراجه إلى غرناطة مرة أخرى، عساه يلحق بجدته مريمة، ويعيش مع ذكرياتها بقية حياته التي فقد أي معنى لها.

وفي الفصل الأخير من الرواية، آثرت الكاتبة اسدال الستار على رجوع علي إلى غرناطة ورفضة الرحيل الاجباري إلى خارج الأندلس، واختياره العيش في غرناطة، بالرغم من العواقب التي سيواجهها نتيجة قراره العودة.

لقد عكست الكاتبة رضوى عاشور مأساة سقوط غرناطة، على جميع نواحي حياة الغرناطيين، فسقوطها يمثل سقوط لأحلام وتطلعات العديد منهم، فلم ينج منهم سوى الأموات، ومن حيث أرادت الكاتبة أن تظهر إصرار الجيل الثالث من الأحفاد، متمثلا بشخصية علي الذي عانى من الوحدة والتشتت والحنين الجارف لمدينته غرناطة، فهو سقوط للقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية، وبمفارقة غريبة بالتمسك بعادات وتقاليد لم يكن من السهولة في مكان التخلي عنها، في ظل أوضاع صعبة مع احكام سيطرة القشتاليون على تلابيب الحكم، حيث تجلى ذلك بقتل كوثر وأختها بسبب الشرف.

وعلى نفس السياق، فقد وفقت الكاتبة في رصد واضح وقوي لما آلت إليه الأمور في غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، واستطاعت أن تلقي الضوء وبصورة جلية عن الآثار الناجمة عن سقوط غرناطة، فغرناطة صورة مصغرة عن صدمة ضياع الأندلس من أيدى المسلمين، مثلته خير تمثيل بتصويرها للحياة الاجتماعية للأسر المسلمة، وكيف انعكس عليها تخلى حكامها عنها، وتركهم تحت رحمة مستعمر أراد فرض فكرته وممارسة القهر والظلم عليهم، ومحاربة عقيدتهم ولغتهم وطقوسهم وتراثهم العلمي والفكري، وتهميشهم وتوظيف كافة الوسائل لأجل ذلك. ومع الأمل الذي رسخ في قلوب الغرناطيين وجميع المسلمين في الأندلس، بمجيء يوم يرحل فيه القشتالين وعودة الأندلسيين لديارهم، ظنا منهم أن الخلاص والنصر سيأتي على يد إخوانهم من المسلمين في البلاد الأخرى، فرحل من رحل ومات من مات يحملون في أيديهم مفاتيح دورهم وحوانيتهم، على أمل قد يبزغ من جديد.