حوارية صوفية ساكنة في أعماق ماء الشعر يقترحها الشاعر الفلسطيني المرموق، حيث النفس الأمارة بالعشق والساكنة في ثنايا ماء، وهي تتدفق شريانا من المعنى، وفي مقام الصوفي يعبر الشاعر بسكنه وحلوله الى أبعد ما يرى، حيث تتحول الحياة الى نطفة تلم الكائن وصداه.

على النَّهر

المتوكل طه


حوارٌ مع الشيخ الخبّاز، الذي أدرَكَ سرَّ العشقِ

 

يأتيكَ البسطاميُّ على النّهرِ،
يُحَدِّثُ قلبَكَ، ويجيبُ بأسئلةٍ حارقةٍ؛
مَنْ أنتَ لتسألَ،
هل تعرفُ نفْسَكَ؟
لن تطهوَ حتى تُطْهى.
كُنْ لا شئَ لتصبحَ شيئاً،
مثل السنبلةِ، ستُعطي ما فيها
وتغيبُ مع النارِ غباراً أبيضَ..
أنتَ العائقُ في دربِ السِرِّ.
اهزِمْ ذاتَكَ كي تنتصرَ على النَّفْسِ الأمّارةِ
بالعشقْ..
والعشقُ الهَمُّ .. دواءٌ للهَمّْ،
كُنْ مثلَ القمحِ،
لقد وصلَ إلى سرِّ النار.. وما زِلتَ هنا..
قلتَ: كبرنا مع رائحةِ الخبزِ وصوتِ النار؟
فأين الحزنُ لنبلغَ مَنْ نهوى؟
مَنْ بحثوا وجدوا.. واصبرْ
فالصبرُ رغيفُ الدرويشِ..
اجعلْ نارَ الموقدِ في قلبك تتطايرُ
كي لا يقتلكَ الثلجُ.
-
اللّهٌبُ صديقُ العاشقِ-
مَنْ يعترِضُ فلا موقدَ في كفّيه..
ووَخْزُ الأشواكِ هو الرائحةُ الورديَّةُ ..
شئٌ ينبضُ خلفَ الصمتِ؛ كلامٌ
ريحٌ، نَشْرٌ، عَبَقٌ ، أرَجٌ ..
وانظُرْ في كلِّ الأشياءِ، ولكن
سترى بالقلب لتعرفَ مَنْ أنتَ ..

وتعْرفني..
صوتُكَ نَفَسي، ووجودُكَ فَرحي،
أنتَ السِّرُ المفضوحُ بصدري.
هل تعرفُ نفسَكَ حتى تسألَ غَيركَ؛ مَنْ أنت؟
مَنْ يعرفُ لا يتكلَّمُ،
مَنْ أيقظَهُ السِرُّ.. سيعرفُ.
وأنا يحرقُني السِّرُّ، فكيف سأعرفُ؟
إنَّ سؤالَ العارفِ نقصٌ،
وأنا أكتملُ بِهِ ..
قال: اذهَبْ مثلَ الماءِ،
تدفَّقْ من نبضٍ لفؤادٍ،
وانْقُش نبعَكَ..
فالخِرْقَةُ تتجمَّلُ بالنَّقْشِ..
وليس لغزلانِ التفاحِ مرايا للحُسْنِ،
لكي تتباهى بالسُّكَّرِ!
وأنا الطالبُ عِشْقَ بيوتٍ لا دربَ لها،
وعلى الماءِ لأنْ يجدَ العطشان.
أنتَ -يقولُ الخبّازُ- الكونُ الأصغرُ؛
شَعْرُكَ شجرٌ، عظْمُكَ صخرٌ، لحمُكَ هذا الطينُ،
وشريانُك نهرٌ دفّاقٌ، وفؤادُكَ شمسٌ،
وعيونُك تلك الأنجُمُ،
أمّا روحُكَ فهي العَالَمُ ..
ستغيبُ وتُشرِقُ ..
وتغيبُ تماماً
مثل القمحِ،
إذا كان فؤادُكَ صوفيّاً،
فأنا ذو قلبٍ درويشٍ!
وستَكبُرُ للعشقِ،
الوَحْدَةُ ما يمتَحِنُ العشّاقَ،
فكُنْ وَحدَكَ في الخلوَةِ،
أيقِظْ مَنْ جَرَّحَهُ العشقُ، ولا تتوقّفْ ..
سافِرْ في خلوَتِكَ الواسعةِ،
وهل لمسافرِ عشقٍ أن يتوقّف؟
ستقولُ لك العاشقةُ الغائبةُ:
عُدْ مع راحِلَةِ الوَجْدِ،
إن امتلأَتْ هيبتُكَ بأوجاعِ الألمِ .. تعالَ ،
تنفَّسْ فيَّ .. ستلقَى الرّاحةَ فوق سواحلِ مائي،
وإذا جفّ الماءُ فَهَاكَ دموعي ..
وإذا لم تبلغْ ذاكَ الأزرقَ ..
خُذْ أجنِحَتي ..
خُذْها .. وارجِعْ بصديقي وبرائحةِ الثوبِ،
ومَنْ كان له ثوبٌ فلَهُ الجنَّةُ،
لا ثَوبانِ!
وكُن لوناً في الداخلِ والخارجِ،
لا ألوَان!
وكُن طيراً لا تُحرِقُهُ النارُ ولا
يُغْرِقُهُ الماءُ.
وإنْ غابَ الضوءُ كُنِ المصباحَ،
وكُنْ محجوباً ..
وتَجَافَ عن الأصحابِ،
فإنْ قبِلوكَ .. تعَلَّقْ،
أو رفضوكَ .. فليسوا أهلاً للسِرِّ.
تماهَ مع الرَّبِّ عن المربوبِ،
وإنْ فزِعوا لا تفزَعْ!
لا تتحدَّثْ للغابةِ فلِسانُكَ نارٌ،
واضرِم نارَكَ في طينِكَ ..
إنْ زالَ الصدأُ .. يهبُّ عبيرُ النارِ!
وإنْ كنتَ الظِلَّ فسيِّدُكَ الضوء،
والأقمارُ تكونُ بطِسْتِ الماءِ أمامَكَ، بين يديك!
لا تشغلْ قلبَكَ بالعينِ إذا لم تتغَيَّ العَرْشَ..
ولا تكتبْ بالحِبْرِ،
فأقلامُكَ شاهِدُ نفيٍ،
لا تصلحُ للعشقِ،
وليس لها أيُّ خرائطَ في الكون،
واعرِف سِرَّكَ .. تَنْجُ.
لا يصمتُ هذا السِّرُّ؛ أقول
يا ربَّ الصمتِ -يُناجي- أدعوكَ بلا
شفةٍ ولسانٍ ..
يا صاحبَ كلِّ الطرقاتِ ابعَثْني نحو الأحبابِ،
فماذا يفعلُ مَنْ وَجَدَ العشقَ بهذي الدُّنيا؟
-يُمتَحَنُ العاشقُ بالهجران-
واسمَعْ؛
كلُّ زمانٍ سيُنادي بالسِّرِّ سيعرفُ أين يكون..
فقلتُ: وأين أنا؟
غابَ ..
وما زلتُ على النّهرِ ..
وأسألُ: هل كنتُ أنا أم أنتَ هناكَ على كتفِ الأحلام؟
وجاءَ الهاتِفُ: ماذا اجترحَتْ كفّاكَ وراءَ البابِ
لتأتيَ من ريشٍ وغمامٍ؟!
طافوا -أعني العُشّاقَ- بلادَ العشقِ،
وما زلنا في المنعطفِ الأوّلِ ..
أسمَعُ غمغمَةَ الريحِ: لهذا ولدَتْنَا أُمُّ الأيامِ،
وجاءتْ بكَ روحُ الدّنيا ..
والعاشقُ في القالِ أو الحالِ،
وليس ينامُ،
وما زلتُ هناكَ على النهرِ ..