يكشف الكاتب السوري في هذه الدراسة لأربع رحلات لكتاب كبار: تشيخوف وجراهام جرين وجان جينيه وألبرتو مورافيا، على اختلاف جغرافيات الارتحال، قدرة الأدب على الغوص إلى قلب أوجاع الإنسان الجوهرية، وتعرية العار الذي يقترفه البشر في حق الكثيرين من أبناء شعوبهم وأبناء الشعوب الأخري معا.

أدباء يغوصون إلى قلب الوجع والعار

في رحلات استكشاف حول العالم

محمد منصور

كتب الرحلات تتفاوت قيمة، وتختلف هدفاً، كما تتنوع دوافعها واسبابها. وقد قام عدد من الأدباء المشاهير برحلات الي مناطق مختلفة من العالم، فوقفوا علي أشكال من الظلم، ومظاهر من الشقاء، كما رصدوا معالم من الحقيقة فندت بعض الصور او الافكار المعلبة عن الآخر. نتناول أدناه اربع صور لرحلات تحولت الي شهادات مؤثرة: القاص الروسي انطون تشيخوف يتوغل في جزيرة ساخالين بسيبيريا، والروائي الانكليزي غراهام غرين يتنقل في رحلة بلا خرائط بين ادغال افريقيا، والأديب جان جينيه يشد الرحال الي صبرا وشاتيلا والمأساة ما تزال طازجة، والروائي الايطالي البرتو مورافيا يتجول بين السعودية والكويت والامارات وقطر وايران منقباً عن الصورة الحقيقية لـ العربي الثري! والتحديق في اعمال الانسان، والنفاذ الي ما فيها من اهوال ورعب، هو ما قد يجمع بين هذه الرحلات. 

1ـ تشيخوف: جزيرة ساخالين
الكاتب الروسي أنطون تشيخوف (1860 ـ 1940) كان أحد هؤلاء، ورحلته إلي جزيرة ساخالين، أثارت أصداء واسعة في روسيا وخارجها آنذاك. قام تشيخوف برحلته تلك عام 1890 في وقت ذاق فيه طعم الشهرة الأدبية، حيث نال قبل ذلك بعامين أكبر جائزة أدبية في روسيا، وبعدما تخرج من الكلية الطبية في موسكو ومارس مهنة الطب بإخلاص لسنوات عدة. قرر ـ وهو الطبيب الأديب المشهور ـ القيام برحلة إلي الشرق الأقصي في روسيا، لتفقد ظروف المنفيين في جزيرة ساخالين. استغرق طريق الذهاب فقط، واحداً وثمانين يوماً في ظروف مناخية وجغرافية بالغة السوء. حيث الصقيع والجدب والأمطار والرياح، ودخان حرائق الغابات، وعبور أنهار في غاية من الخطورة. وقضي تشيخوف في ساخالين، أكثر من ثلاثة أشهر. أجري بمفرده استفتاء دقيقا لسكان الجزيرة، بمن فيهم السجناء والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة. ثم استعرض نتائج أبحاثه الطبية والاجتماعية في كتاب وثائقي عنوانه (جزيرة ساخالين)، ظل منذ صدوره في ذلك الحين، شهادة علي قدر لا يطاق من أذي الإنسان وإهانة كرامته.

والحق أن رحلة تشيخوف إلي ساخالين قد ساعدت علي تفتح اهتمامه العميق بالحياة الاجتماعية، وقد جاءت في الوقت نفسه، كأول تعبير عن الظهور البليغ للعزيمة الاجتماعية التي صحت وتأصلت في شخص الكاتب، وكانت مشهودة في أدبه ومسرحه وسلوكه علي حد سواء. جاء عمل تشيخوف الأساسي جزيرة ساخالين من يوميات السفر نتيجة مباشرة للانطباعات السخالينية، وقد عمل في هذا الكتاب طويلا منذ 1890 حتي 1894، ونشر لأول مرة في مجلة (الفكر الروسي) ثم صدر كتاب (جزيرة ساخالين) في طبعة مستقلة عام 1895 وبدا تشيخوف راضياً كل الرضا، وهو ينهي عمله في الكتاب، وقد عبر عن ذلك ذات مرة بالقول: «إن الطب لا يستطيع أن يعيرني بالخيانة: لقد وفيت حرمة العلم حقها، وقمت بالواجب نحو ما كان الكتّاب القدامي يسمونه تحذلقا. وأنا مسرور لأن ركن تعليق الملابس في نثري، سوف يضم هذا المفصل الخشن، مفصل المساجين». كان لبحث تشيخوف المتعدد الجوانب والعميق الرؤية، صداه الاجتماعي الكبير، وقد حظي بتقدير رفيع من أولي الاختصاص، فالكتاب من ألفه إلي يائه، مشبع بالاحتجاج علي التعسف والقهر الذي يمارس علي شخصية الإنسان، وهو احتجاج في الوقت ذاته علي السياسة الظالمة للحكومة لإن نظام السجن يجثم بوطأته علي الجميع من فلاحين ومستوطنين ومعهم زوجاتهم وأطفالهم الأحرار، وحالة السجن تحاكي حالة الحرب بتدابيرها الاستثنائية الصارمة، وبالوصاية الحتمية من جانب الرؤساء. وهي مثلها تفرض عليهم جواً من التوتر والخوف الدائمين، فإدارة السجن تنتزع منهم لمصلحة السجن، المروج وأفضل الأمكنة لصيد السمكيسيئون إليهم. جلاد السجن الذي يتنزه في الشارع يثير الفزع في نفوسهم، المراقبون يفسدون زوجاتهم وبناتهم، والأهم من كل ذلك أن السجن في كل لحظة يذكرهم بماضيهم، وبحقيقتهم: من هم وأين يكونون. تلك هي الشروط التي كبلت حياة السكان المدنيين في الجزيرة، أما حياة المعتقلين فهي كما ينبغي أن نتوقع، أمرّ وأشد هولاً منها. 

الفقر والمرض والدعارة
من الطبيعي أن المستوي الأخلاقي لسكان القري السخالينية، كان متدنياً جداً في هذه الظروف، فالفقر والأمراض والسكر والانحلال والدعارة، كل هذا شاهده الكاتب بأم عينه، ومع ذلك كان الهدف من مساعيه أن يعثر في هذا الوسط المنهك مادياً ومعنوياً علي سمات الإنسانية الحقة، ولهذا الغرض نراه يوجه الاهتمام إلي الدور الخاص الذي يضطلع به الأطفال في ساخالين.

يحكي تشيخوف عن الآباء الذين يعاملون أطفالهم في الظاهر بجفاء وخشونة، ثم يضيف مستدركا في الحال:

ولكن، رغم كل شيء مهما قالوا وكيفما تقولوا فإن الأطفال هم العنصر الأهم في ساخالين، فمنهم أعظم النفع، وفيهم مبعث السرور، والمنفيون أنفسهم يدركون هذا جيداً، ويقدرونهم أرفع التقدير. يدخل الأطفال عنصر الرقة والوداعة والبهجة، إلي الأسرة السخالينية التي غرقت في القسوة والفظاظة وضنت أخلاقياً. وبغض النظر عن طهرهم فإن أكثر ما يحبون في الدنيا: الأم الفاسدة والأب اللص، وإذا كان المنفي الذي نسي في السجن طعم الملاطفة، يأنس إلي كلب، فلا بد أن حب الطفل سيكون غالياً وعزيزاً إلي قلبه أيما اعتزاز!.

لقد سبق قولي إن وجود الأطفال يشد أزر المنفيين أخلاقيا، أما الآن فها أنذا أضيف إلي ذلك، أن الأطفال غالباً ما يشكلون السبب الوحيد الذي لا يزال يربط المنفيين، رجالاً ونساء، بالحياة وينقذهم من اليأس. لقد كان كتاب (جزيرة سخالين) الذي تمخضت عنه هذه الرحلة، أكثر من دراسة متعددة الجوانب ومتقنة الأسلوب والأداء، إنه مؤلف إنساني يفيض بالخواطر عن الإنسان والألم والكفاح والقسوة والتخاذل والشجاعة، وعن الحياة الروسية في تلك الحقبة من نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

إن تشيخوف يتطرق إلي ذلك حتي في الرسالة التي أودعها انطباعاته عن طريق الرحلة، إذ يهتف قائلا: يا إلهي ما أغني روسيا بالناس الطيبين. لولا أن البرد ينتزع الصيف من سيبيريا، ولولا الموظفون الذين يفسدون الفلاحين والمنفيين، لكانت سيبيريا من أغني وأسعد بقاع الأرض! وتتردد التأملات ذاتها في الآثار الفنية والأدبية التي كتبها تشيخوف بعد الرحلة، إذ حاول أن ينقل إلي القارئ انطباعه الأعم عن الرحلة، وما لمسه من قسوة وجبروت فاضح، وما عاينه من تجاوزات لا إنسانية شكلت جوهر ما شاهده في جزيرة المنفي وما دوّنه عنها. ولم تكن رحلة تشيخوف التطوعية هذه بلا معني بالتأكيد. ولم تبق نتائجها حبيسة أفكار ومؤلفات الكاتب وحسب. فقد أثارت مذكرات الطريق صدي واسعاً في روسيا وخارجها، مما حمل الحكومة القيصرية آنذاك، علي اتخاذ سلسلة من التدابير الرامية إلي تحسين معيشة السجناء والمنفيين. وسعي الكاتب وقد هزه مصير أطفال ساخالين المهملين الذين ماتوا من الجوع والأمراض، سعي بعد عودته من الرحلة، إلي تخفيف هذا المصير ولو قليلاً، فراجع السلطات مطالباً بافتتاح دور الأيتام، ونظم التبرعات، وأرسل إلي الجزيرة كتباً مدرسية وغيرها. الرحلة إلي ساخالين، باعتراف تشيخوف نفسه، قد ساعدت علي نضوجه، وعمقت لديه الإحساس بدوره الاجتماعي الفاعل ككاتب. فهو إبان سياحته السخالينية، كان قد غاص في بحر الآلام الإنسانية، فبات ينظر إلي الواقع المعاصر، وإلي الأدب بحس جديد. 

2 ـ غراهام غرين: رحلة بلا خرائط
رحلة الروائي الإنكليزي المعروف غراهام غرين (1904 ـ 1991) إلي أدغال أفريقيا حملت في طياتها ملامح البحث الإنساني عن الحقيقة في مجاهل الألم والعسف والجور.. إنها الرحلة التي اكتشف فيها الكاتب، إلي جانب قسوة العالم، ما يبدو نقيضاً لذلك تماما: إنه حب الحياة!.

فقد جاءت رحلة هذا الروائي المعروف في القارة السمراء تجسيداً عمليا لما أطلق عليه النقاد في توصيف جوهر اهتمام أعماله الأدبية مراقبته المركزة لتفاصيل البؤس والشقاء البشري، وقام غراهام غرين بالرحلة عام 1935 متنقلاً بين أدغال ليبريا وصولا إلي ما كان يطلق عليه (غينيا الفرنسية). ولدي عودته أصدر كتاباً حمل عنوان رحلة بلا خرائط، سجّل فيه وقائع تلك الرحلة ومشاهداته خلالها، جامعاً بين المعاينة الصحفية التسجيلية والحس الأدبي الرفيع، الممزوج بالدهشة والألم، مما حدا بالكثيرين إلي اعتبار (رحلة بلا خرائط) أجمل ما كتب في مجال أدب الرحلات في تلك الفترة. أما هو فقد اعتبر رحلته تلك «تمثل عدم الثقة في أي مستقبل مؤسس علي ما نحن فيه». مجسدا بذلك اهتمامه الدقيق في مراقبة تفاصيل البؤس والشقاء والرثاثة البشرية، وهو ما يمنحه ـ كما يري الناقد بريس جونز ـ تماثلاً معيناً مع الروائي جورج أورويل صاحب الرواية الشهيرة (1984) إذ أن الاثنين يتغلغلان في نقاط ضعف العالم الرأسمالي.

إن (رحلة بلا خرائط) لا تنحصر أهميتها علي ما تحتويه من مادة ذاتية عن المؤلف، ولا فيما تتضمنه من وصف مملوء بالحيوية للأشخاص والأشياء فحسب، لكن أهميتها تعود أساساً إلي ما تقوله عن مؤلفها في تلك الرحلة، أي عن الألفة التي أحسها نحو أفريقيا، نحو ذلك العالم البكر البريء الذي تستبيحه القوة الرأسمالية بكل تمدنها المصطنع والقاسي وحضارتها المجردة من الإحساس. كأنما كان غراهام غرين يكتب تحت تأثير التحليل النفسي عن ذلك الإغراء الذي وقع فيه، والتأثير الغامض الذي وقع في أسره لدي رؤيته القذارة والرثاثة التي تميز شاطئ أفريقيا الغربي، والإحساس العميق بالخيبة عندما تحتمت عليه العودة إلي القارة كما نعرفها نحن. 

طريق مضجر في الظلام
انطلق غراهام غرين من (فريتاون) في سيراليون والتي سيعود إليها خلال الحرب العالمية الثانية ليضع كتاب (لب المسألة) أو (جوهر القضية) مرتحلا إلي ليبريا بالقطار أولاً، ثم علي قدميه في النهاية. سافر نحو الداخل علي قدميه في رحلة امتدت عدة مئات من الأميال حتي بلغ غينيا الفرنسية. كانت خبراته متنوعة، مما أهله للمضي قدما في هذه الرحلة التي لا تخلو من مغامرة، ولم يصبح تحليل الذات حادا بالنسبة له، إلا حين سقط مريضاً. والمواجهات التي يصادفها في الغابة أو القري كانت فرصة لهذا الروائي ليكتشف ذاته، عبر عنها بالقول: «كنت أكتشف في نفسي شيئا لم أفكر أبدا أنني أمتلكه: حب الحياة».

وتتضح نبرة غرين الاحتجاجية في (رحلة بلا خرائط) بصورة مبكرة، إذ يكتب قائلا: «يبدو عالمنا عرضة للقسوة، خصوصا أن ثمة نوعاً من الحنين في السرور الذي ينتابنا من روايات العصابات، من الأشخاص الذين ارتضوا أن يبسطوا عواطفهم، إلي حد أنهم أخذوا يعيشون في مستوي أدني من المستوي العقلي، ليس الأمر بالطبع أن يرغب في هذا المستوي إلي الأبد، لكن حين يري الإنسان إلي أي شقاء وانطفاء أوصلتنا قرون التفكير، فربما تطلع إلي أن يكتشف إن كنا نستطيع، ونحن في هذا الوضع، ان نتذكر النقطة التي بدأ ضلالنا منها. ثمة أساس للعدمية، إذ يقول غرين هنا بأن المدينة عاجزة عن إخفاء الحقيقة حول الكائنات البشرية، إنها قادرة علي تشويهها. فقط بالانحدار أكثر نحو قاع البئر، وباختراق حاجز العدمية، يمكننا أن نأمل فهم الرعب الأسود الذي جعلنا ما نحن عليه، وفي إدراك الحقيقة الكامنة تحت عوائق التقدم.

في هذا الكتاب مزج بين المرضي والعاطفي فغرين يجب أن يسكن في الجوانب المريضة من المدينة، وتأتي هذه الجملة التي وضعها بين أقواس، في هذا السياق «أجد نفسي ممزقا بين اعتقادين: الاعتقاد بأن الحياة يجب أن تكون أفضل مما هي عليه. والاعتقاد بأنها أسوأ حقا، حين تبدو أفضل». هكذا يصف رحلته الطويلة خلال الغابة ماشياً بأنها رحلة متعبة، منهكة، مخيفة، إلا أنها في الوقت نفسه، طريق مضجر في الظلام. وفي مقطع مؤثر في يومياته (قافلة إلي غرب أفريقيا) يركز غرين علي ما يظهر أنه إرداف خلفي، أو لعبة لغوية لا تخلو من نبرة متعاطفة مع البراءة والعفوية في هذه المنطقة التي استباحها الإنسان المتطور: «بالنسبة إلي ستظل أفريقيا دوما، أفريقيا الأطلس الفيكتوري، القارة الخالية غير المستكشفة، علي هيئة القلب البشري». وهكذا يمكن أن نفهم فهما خاطفا كيف يأمل غرين أن يجد حقيقة أكثر مقاربة، وأكثر إنسانية في هذا القلب غير المستكشف. ولهذا فالعواطف المتصارعة أبقت التوتر قائما.

لكن الاستنتاج الذي توصل إليه غراهام غرين في رحلته هذه، كان خليطا من استجابات مجتمعة، فقد وجد غرين حياة ينبغي أن تكون أفضل مما هي، وهو لا يستطيع القول بأن مظهرا أفضل يعني أنها أسوأ حقا. لقد رأي القذارة والمرض والبربرية، ومألوفية أفريقيا، لكنه تعرف فيها إلي نداء الرثاثة العميق، ومظاهرها المثيرة للتعاطف. وهنا وقع غرين كما يري بعض النقاد تحت تأثير «رد فعل هروبي رومانتيكي، ليقلب قيم طريقتي حياة متعارضتين». قيم الحياة الطبيعية، وقيم الهيمنة التي يسحق فيها المتمدن عفوية الطبيعة وألفتها البشرية، ليبني حياة أفضل له، وأشد سوءا لأبناء المنطقة. ولهذا يؤكد غراهام غرين في استنتاجات رحلته هذه أن وهم التقدم أسوأ من القذارة الأصلية، لقد عاد الإنسان القهقري، أو ـ إن شئت ـ تقدم ثانية نحو المستوي الرث. وهذه الرحلة، ان لم تفعل شيئا، فإنها عززت الإحساس بما فعله الإنسان «المتطور». بالبدائي، وما فعله بالطفولة. آه إن المرء يريد أن يحتج. إنه لا يؤمن طبعا بـ «وميض الرؤية». والبهاء الذاتي، لكن ثمة شيئا في ذلك الرعب المبكر وخواء حاجات المرء. كان الإحساس بالمذاق ألطف، والإحساس بالفرح أنقي والإحساس بالقرب أعمق وأطهر.

أخيرا ينبغي أن نذكر أن رحلة غراهام غرين إلي أدغال ليبيريا، لم تكن الرحلة الوحيدة من نوعها بالنسبة له، فها هو يذهب بعد ثلاث سنوات من هذه الرحلة إلي المكسيك، ليكتشف الفساد والعنف وغياب الاستقرار والعدالة، وليشهد أحداث الفتنة الدينية هناك، حيث أساليب القمع الوحشي للكاثوليك، التي صورها في روايته الأشهر (القوة والمجد) التي نشرت عام 1940، وذلك من خلال شخصية الكاهن الذي يقرر أن يتقرب من الفلاحين ليدافع عنهم حتي الاستشهاد، وعن روايته تلك قال غراهام غرين ذات مرة «منذ ذلك الزمن سكن داخلي نوع من الحرارة التي لم تنطفئ حقا، وهي رغبتي في أن أكون متفرجا علي التاريخ.. تاريخ أكتشف أنني ملتزم به». وقد كانت رحلات غرين إلي أفريقيا والمكسيك وفيتنام وسواها، خير تعبير عن التزامه بهذا التاريخ الإنساني الملطخ بالعنف والقهر، وبكل ما يحمله هنا وهناك من مآس وآلام وقسوة وحروب.  

3 ـ جان جينيه: صبرا وشاتيلا
حين أعلنت وسائل الإعلام في ذلك الخريف من عام 1982، عن تفاصيل ووقائع مذبحة مخيمي (صبرا وشاتيلا) التي استهدفت السكان العزل في اثنين من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت الغربية، كان الكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه أول المتحمسين لزيارة المخيم، وسرعان ما انطلق في رحلة خاصة إلي بيروت، ليدخل المخيمين ويري آثار المجزرة، وهي ما تزال حارة وطازجة، وماثلة وقائعها للعيان. كان علي كاتب (يوميات سارق) ومسرحيات (الخادمتان) و (الزنوج) و (الشرفة) و (السواتر) الذي كتب عنه سارتر كتابه الشهير (القديس جينيه: ممثل وشهيد) كان عليه أن يختزن تلك الوقائع والصور التي لم يستطع، أن ينسي فظاعتها، وخصوصا حين كان عليه أن يمارس لعبة (النطة) فوق الجثث كي يعبر في أزقة المخيم كما يقول. وحين نلقي نظرة علي جان جينيه في مواقفه وسلوكه وأدبه، قبل أن نستدل عليه في وقائع ومشاهدات هذه الرحلة، سنجد أن جان جينيه كتب نوعا من الرؤي، فهو لم يعلن التشرد هاربا من مقاعد الدراسة، كما فعل رامبو، ولم يعلن انتماءه إلي المجتمع بدعة كما فعل الوجوديون، بل كتب ما اعتنقه مذهبا وسلوكا وموقفا من قضايا النضال التي آمن بها علي الأقل. عاش إلي جانب الفهود السود في أمريكا، ووقف عنيدا ضد حرب الجزائر، كما عايش الفلسطينيين في عجلون.. حتي إذا ما كانت ليالي الرعب في صبرا وشاتيلا، كان ذلك الشيخ الثمانيني أول من دخل المخيمات صبيحة الخامس عشر من أيلول (سبتمبر) 1982 ليكتب ما رآه شهادة مرة للتاريخ عن إبادة شعب، وعن رائحة الموت البيضاء الكثيفة التي لا تلتقطها الصورة الشمسية، لأنها ستبقي ماثلة علي أرض المذبحة، وفي ذاكرة من عرفوا تلك الرائحة هناك.

يصدر جان جينيه شهادته الطويلة والمؤثرة عن (صبرا وشاتيلا) بعبارة فاضحة لمناحيم بيغن قالها أمام الكنيست الإسرائيلي: «في شاتيلا وصبرا ذبحوا أشخاصا غير يهود ففي أي شيء يعنينا ذلك؟!». يمضي جينيه بعد أن يسرد ذكرياته عن الثورة الفلسطينية، التي عايشها في الأردن بين عامي (1970 ـ 1971)، إلي الدخول في لحظة انبثاق الاسم والحدث مجددا فيقول: «مرت عشرة أعوام ولم أعرف عن الفدائيين شيئا سوي أنهم كانوا في لبنان، كانت الصحافة الأوروبية تتحدث عن الشعب الفلسطيني بوقاحة واستخفاف، وفجأة: بيروت الغربية». يحلل جان جينيه ذلك البعد المترامي لصور المذبحة التي طالعته في رحلته نحو صبرا وشاتيلا، مؤسسا ذلك علي المشاعر التي تتنامي في ظلال الرعب والموت والألم.

فيشير بداية إلي البعد المفقود في صورة المذبحة، يقول: «للصورة الشمسية بعدان، وكذلك لشاشة التلفزيون. إلا أنهما، كليهما، لا يمكن أن يعبرهما الإنسان أو يطوف داخلهما. من جدار لجدار، داخل زقاق، الأرجل مقوسة، أو مدعمة تدفع الحائط، والرؤوس متكئ بعضها علي بعض، والجثث المسودة المنتفخة، التي كان علي أن أتخطاها، كلها كانت جثث فلسطينيين ولبنانيين. بالنسبة لي، كما بالنسبة لمن بقي من السكان، التجوال في صبرا وشاتيلا يشبه لعبة النطة، أي القفز بواسطة الإمساك بظهر الآخر، علينا أن ننط فوق الجثث، وقد يستطيع طفل ميت أحيانا، أن يسد الأزقة لأنها جد ضيقة، والموتي كثر. ولا شك في أن رائحتهم مألوفة لدي الشيوخ، فهي لا تضايقهم، لكن ما أكثر الذباب. كنت إذا رفعت المنديل أو الجريدة العربية الموضوعة فوق رأس ميت، أزعجه. فكان ـ وقد أغضبته إشارتي ـ تأتي جماعاته فوق يدي، محاولة أن تقتات منها». 

المذبحة وسط الهمسات؟
ورغم امتلاء المخيم بالجثث، فإن صورة الجثة الأولي تستوقف جان جينيه في شهادته، كأنما هي دهشة الانطباع الأول، ودهشة الفظاعة والرعب، وصدمة الموت المجاني الذي يستطيع أن يحفر في المخيلة البشرية نقاط علام، رغم اكتظاظه بالعلامات المتشابهة، المنبعثة مما تثيره في النفس ـ علي الأقل ـ من صور الإثم وبراهين العار وسط الصمت المطبق الذي تمت فيه المجزرة: «أول جثة رأيتها كانت لرجل في الخمسين أو الستين من عمره. وكان مهيأ ليكون له إكليل من الشعر الأبيض، لولا أن شرخا (ضربة فأس فيما يخيل لي) قد فتح جمجمته، جزء من النخاع المسود كان طرح أرضا قرب الرأس. وكان مجموع الجسد مسجي فوق بقعة من دم أسود ومخثّر. لم يكن الحزام مشدودا. والبنطلون ممسوكا بصدفة واحدة. كانت رجلا الميت وساقاه عاريتان، سوداوان، بنفسجيين وخبازيي اللون، ربما فوجئ في الليل أو عند الفجر. هل كان بصدد الهرب؟ لقد كان مسجي في زقاق صغير، مباشرة علي اليمين من مدخل مخيم صبرا وشاتيلا المواجه لسفارة الكويت».

ويتساءل جينيه هنا معلقا علي مزاعم إسرائيل بانعدام مسؤوليتها علي المجزرة: «هل تمت المذبحة وسط الهمسات أو في صمت مطبق؟ ما دام الإسرائيليون جنودا وضباطا، يزعمون أنهم لم يسمعوا شيئا، ولم تثر ظنونهم شكوكا، بينما كانوا يحتلون المبني ذاك منذ ظهر يوم الأربعاء. إن الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء الكثيفة. إنها لا تقول لنا القفزات التي يتحتم القيام بها عندما ننتقل من جثة إلي أخري».

ويمضي جان جينيه في شهادته التسجيلية التي يكتشف من خلالها، عالما غريباً، يكشف القيم الجديدة التي تقولها آثار ووقائع المذبحة. عالماً من الموت والحب، الذي كان عليه أن يرتحل إليه ليعاين معانيه، ويرصد لحظات ولادته وأفوله وإشاراته وعلاماته: «لقد تحتم عليّ أن أذهب إلي شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت. فالأجساد في الحالتين معا، لم يعد لها ما تخفيه: وضعية الأجساد، تشنجات العضل، الإشارات، العلامات، وحتي الصمت. كلها تنتمي إلي عالمي الموت والحب. ففي أطلال شاتيلا لم يعد يوجد شيء. بعض العجائز صامتات، أغلقن علي أنفسهن وراء باب علقن عليه خرقة بيضاء، وفدائيون جد صغار، سأقابل بعضهم فيما بعد في دمشق. ويخلص جان جينيه من خلال ذلك إلي البحث عن معني الحب والانتماء، في موازاة حالة لا ننتمي إليها بالولادة، وإنما بدافع يتحرك فيه الإحساس بالظلم ليخلق انتماء تضامنيا ودفاعيا من نوع خاص، لا يري نفسه مطالبا أن يبرر أحكامه: «إن اختيارنا لعشيرة بشرية نؤثرها علي غيرها بغض النظر عن مولدنا، وبينما يكون الانتماء لذلك الشعب بالولادة، فإن الاختيار يتم بفضل انتماء غير مفكر فيه. ولا يعود ذلك، إلي كون العدالة ليس لها قسطها من الانتماء، إنما لكون تلك العدالة والدفاع عن تلك العشيرة، يتحققان نتيجة انجذاب حسي وشهواني، إنني فرنسي غير أنني كليا ودون حكم، أدافع عن الفلسطينيين. إنهم محقون فيما يطالبون به ما دمت أحبهم. لكن هل سأحبهم لو أن الظلم لم يجعل منهم شعبا مشرداً؟!».

بعد عام وقد عاد جان جينيه إلي فرنسا، سيقول في إحدي المحاضرات التي دعي لتقديمها، ما يبدو انتقادا مؤلماً وعميقاً لذاكرة إنسانية تنسي بسرعة، وخصوصا حين يكون الدم المراق دماً عربياً، وعلي أرض عربية.. قال جينيه: «اليوم سنة علي المجزرة، أصبح الحادث منسياً تقريباً، كم من الوقت سيذكرون المذبحة لو أن الإسرائيليين قاموا في اقترافها في فيينا، وليس في بلدة عربية؟». 

4 ـ البرتو مورافيا: النفط والعرب
في مطلع سبعينيات القرن العشرين، كانت صورة العربي الذي يمتلك منابع النفط والثروة، قد بدأت تتشكل في أذهان الكثيرين من الذين باتوا يتحدثون عن العـرب في العالم الغربي. ومع موجة الأفلام الهوليوودية العنصرية والمسيئة، كانت الكثير من الظلال السوداء المشوهة تتشكل لتعطي لصورة العربي بعدها. إنه البعد المرتبط بنظرة عدوانية مسبقة تلغي أية ميزة حضارية وإنسانية حقيقية يمكن أن يتحلي بها العرب ماضياً أو حاضراً. لم يشأ ألبرتو مورافيا الكاتب الإيطالي الشهير (1907 ـ 1990) ومبدع روايات (اللامبالون ـ الطموحات الخائبة ـ اللعبة الخطرة ـ الوباء ـ السأم ـ الاحتقار ـ المتفرج) وسواها، لم يشأ أن يظل أسير تلك النظرة المسبقة، ولم يترك لنفسه أن ينساق وراء مشاعر عدوانية تلغي أصالة اكتشاف الصورة الحقيقية التي قد نتسلح في لحظة ما، بفضول المعرفة الذاتية، لكي نعيد رسم ملامحها الدقيقة والموضوعية، ولذلك ما إن وقع هذا الكاتب الإيطالي الكبير، علي فرصة إنتاج التلفزيون الإيطالي لفيلم عن العرب بعنوان (النفط والحياة الجديدة) عام 1977، حتي رأي فيها ضالته المنشودة لتمويل رحلة المعرفة الذاتية والفنية في آن معاً، فانطلق إلي شبه الجزيرة العربية ليستكشف ماضيا عريقا، وواقعا معاشا، محاولا أن يمتلك حقائقه الذاتية من عشرة البشر والترحال عبر طيف التاريخ وأفق الجغرافيا.

وها هنا ربما جاء تعبير مورافيا عن الحقيقة وتفاصيل اكتشافها إثر رحلته تلك، أبلغ ما يكون موقفا وانصع ما يجود به نزاهة وموضوعيا في النظر إلي الآخر وتفهم مزاياه وإشكالاته وخصائص اختلافه في آن معاً. ربما كانت واقعية ألبرتو مورافيا في كتاباته الروائية التي شرّح فيها مجتمعه، خير تعبير عن رؤيته التي نظر من خلالها إلي واقع الحياة العربية ما قبل النفط وبعده، ولذلك جاء تعبيره عن مشاهداته في تلك الرحلة، نابضا بالرؤية التسجيلية المشبعة بالتجليات الحية، ممسكا بمفاصل الحياة العربية وإشكالياتها وأزماتها الحائرة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الروحانية والاستهلاكية. كان ألبرتو مورافيا أكثر من مسرور من رحلته إلي شبه الجزيرة العربية، كما وصفته الصحافة العربية حينذاك، ومع انه شعر عند عودته إلي روما أنه دخل عالما آخر، فإن العالم العربي «يثير البهجة إلي قلبه». وفي جولته التي زار فيها السعودية والكويت والإمارات وقطر وإيران واجتمع مع الشاه بطلب من هذا الأخير، تحدث مورافيا بداية عن أثر النفط في تغيير نمط الحياة فقال:

إن النفط ساهم في عملية تركيبية خارقة، من أعظم عمليات هذا العصر، عجل في الجمع بين حياة مؤمركة إلي أقص حد، وبين حياة متدينة «من الدين». إلي أقصي حد. الإسلام في الماضي استطاع أن يتجاوز كثيرا من التحديات وأن يمتصها ويتمثلها ويجعلها عنصرا من عناصر تراثه، لكن المجتمع الاستهلاكي الحديث الذي يجابهه الإسلام هو لقمة كبيرة، فهل سيستطيع الإسلام الحديث ابتلاعها ثم هضمها؟

لو استطاع العرب أن يجيبوا علي هذا التساؤل الاستنكاري لربما عرفوا كيف يتم التحديث من دون الوقوع في الفخ الاستهلاكي، لكن مورافيا لا يطرح أسئلة حول المستقبل فقط، بل يعود إلي الماضي، ليكتشف سر الحس الديني الذي يمتلكه العرب، ولماذا أوحي الله بدياناته الثلاث في بلادهم، وهو يفسر ذلك من خلال مشاهداته الحية في رحلته فيقول: «في الربع الخالي شعرت ولأول مرة في حياتي بروعة الوجود ورهبته المطلقة. في الصحراء استطعت أن أفهم الحس الديني الذي يمتلكه العرب. هناك فهمت لماذا أوحي الله بدياناته الثلاث في بلادكم. الفكر يسرح ويتجنّح ويتعمق في أسرار الوجود، بينما تضطر العين في أوروبا إلي الراحة علي ما حولها فلا ينطلق الفكر ولا تسرح الروح». 

تقنية دون مرجعياتها
رأي مورافيا بوحي من ذلك الإحساس برهبة المكان والكثافة الروحية التي تنطوي عليها المنطقة، أن الماضي كان عنصرا مهما من عناصر الأصالة، وأنه كان جديرا بالاحترام، ولذلك أطلق صيحة احتجاج هادئة، تبدو في نبرتها أقرب إلي البوح والأسي حين رأي كيف تمت التضحية بذلك الماضي في سبيل العمران والتحديث وكانت تلك ذكري أليمة عبر عنها بالقول: «لم يعرف العرب التوفيق بين الماضي والحاضر. من أجل التقدم هدموا ماضيهم، بل ان أكثرهم يخجل من ذلك الماضي. إن في السعودية مناطق قديمة رائعة مثل نجران ومثل الرياض القديمة وغيرها من المدن ذات الطراز العربي الرائع، لكنهم ـ كما في الإمارات وقطر ـ تهدم معظمها. العمارات والشوارع والمشافي والمدارس أمر أكثر من رائع، لكن بناءها لا يعني بالضرورة تهديم الماضي، كما لو أن روما تهدم أسوارها من اجل بناء شوارع جديدة، بينما يمكن بناء الشوارع في غير أماكن الأسوار».

التناقض بين الماضي والحاضر الذي لمسه مورافيا في نمط البناء، والتضحية بالطراز العربي القديم، لمسه أيضا في السلوك ونمط التفكير، لكنه عبر عن ذلك بنوع من النقد الذي ينطوي علي اكتشاف المفارقة انطلاقا من موقف إنساني أصيل ومنسجم، بعيدا عن أية رؤية هجائية تستهدف التشهير. ولهذا رأي أن العرب يأخذون بالتقنية الحديثة من دون إدراك مرجعياتها الثقافية: «إن العرب يتمسكون بالتقنية الحديثة لكنهم لا يريدون القبول بالثقافة الكامنة. وربما لأنهم يريدون مزج التقنية الحديثة بثقافتهم وبعقليتهم المخضرمة أي الحالية. لا تنس أن العرب يتسابقون مع الزمن، في السعودية قالوا لي أن النفط سينفذ عاجلا أو آجلا، لذلك لا بد من تدارك الأمر والوصول إلي تنمية تكفل المستقبل».

تمخضت رحلة ألبرتو مورافيا إلي شبه الجزيرة العربية عن فيلم في خمس حلقات وخمس ساعات، تصور الحياة العربية قبل النفط وبعده، وتولي مورافيا وكاتب إيطالي آخر التعليق علي اللقطات خلال التصوير، وقد عبر مورافيا في رحلته تلك عن تفهمه الإنساني العميق لخصوصية هؤلاء البشر المختلفين في التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين، وسعي إلي تلمس أثر كل هذا علي شخصيتهم ونمط سلوكهم بعيدا عن إطلاق أحكام القيمة الظالمة التي ترفض الاختلاف وتهزأ بالخصوصية، فاحترم ماضيهم وأطلق صيحة أسي حين رآهم يضحون بذلك الماضي علي حساب الحاضر، لكنه في كل الأحوال عبر عن موقف نزيه يستقرئ الواقع بعيدا عن الرؤي المسبقة والأكاذيب. وفي ذلك كان مثالا يحتذي للأديب الذي يساهم من خلال رحلته في بلورة موقف منصف ونزيه، يحاول امتلاك المعرفة، وتسجيل الشهادة الحية، ودفع الآخرين لرؤية حياتهم، والتفكير بتشابك منظومة الماضي والحاضر والمستقبل، علي نحو أكثر أصالة وانسجاما. 

كاتب من سوريا