يتناول الفيلسوف إدغار موران مفهومي "الجميل"، و"القبيح"، يسلط الضوء على نقط تلاقيهما وافتراقهما منذ المرحلة الإغريقية إلى يومنا الراهن، مرورًا بالنهضة، فالكلاسيكية الجديدة، ثم الحداثة؛ وذلك عبر تحليل مكثف مستحضِرًا تجارب مهمة في تاريخ الفن على مرّ العصور، تشكيلياً وسينمائيًّا.

استاتيقا الجميل والقبيح

إدغـار مـوران

ترجمة وتقديم: عز الدين بوركة

 

التقديم:
يُعدّ كلٌّ من مفهومي "الجميل" و"القبيح" من المفاهيم الجمالية الأكثر إثارة للجدل على مَرّ التاريخ، منذ أن بدأ الكائن البشري بالتفكير في وصف الأعمال الفنية وتأويلها وقراءتها وشرحها وتصنيفها، آخذًا هاتيْن "القيمتين" من المجال الأخلاقي والاجتماعي ليسقطهما على الأعمال الفنية، ومن ثم بِنيات تكوينها من ألوان وأشكال وأحجام وصيغ تركيبية… وعلى طول تاريخ الفن ظل أمر استحضار أحد هذين المفهومين يستدعي بالضرورة استحضار الآخر، وخاصة إلى حدود قبيل الفن الحديث؛ حيث ظل التفكير النقدي القائم على ثنائية المتناقضات حاضرًا بقوة: (الحياة/ الموت)، (الكون/ الفساد)، (الخير/ الشر)، (الرب/ الشيطان)، (الروح/ الجسد)... وبالتالي إذا تعاملنا مع مسألة "القبح" فمن المحتم طرح سؤال "الجمال". وكما كتب أدورنو: "يجب أن يشكل القبيح أو يكون قادرًا على تشكيل لحظة من الفن". أو كما يقول المثل الإنجليزي، "سلة المهملات هي كنز للآخر".

لا يكاد ينفصل "الجميل" عن "القبيح"، ولا "القبيح" عن "الجميل"؛ كأنهما وجهان لعملة واحدة، ألا وهي الفن؛ إلا أنه لم يكن "القبيح" مقبولًا فنيًّا طيلة قرون مضت؛ بل عُدَّ صفة تحقيرية لأعمال صُنِّفت خارج المعايير والمقاييس السائدة في كل عصر على حدة. باعتبار أن "القبيح يسبب شعورًا بالقلق والاشمئزاز"... لكن وفي زمن "الفن المعاصر" ستغدو هذه الصفة، أي "الشعور بالاشمئزاز"، صفة وميزة من ميزات الأعمال الفنية المعاصرة، من حيث إن هذه الأخيرة تسعى إلى استفزاز المتلقي، واختراق السائد والمنطبع، وقلب القيم القديمة كلها؛ إلا أن هذا الأمر لم يمنع مجموعة من الفنانين سابقين عن المعاصرة، من التمرد على "القيم الجمالية" التي كانت سائدة في عصرهم، إذ نجد هيرونيموس (جيروم) بوش قد أغرم بالقبح، ولننظر إلى عمله الشهير: "العقاب الأخير"... كما أن غويا قد اهتم كثيرًا بهذا البعد، جاعلًا منه أساسًا لرسم شخوصه في حالة رعب وفزع... بينما يصوِّر فرانسيس بيكون صورًا ذاتية (بورتريهات) يشوه فيها نفسه... ويقترح الفنان المعاصر Ludovic Levasseur منحوتات حيث التفاصيل التي تمنحها المادة بارزة وفوضوية للغاية. فتبرز للعين بشكل مثير للاشمئزاز… وإن ظل الاعتقاد سائدًا –لزمن طويل- بأن "الشيطان قائم في التفاصيل"؛ وبالتالي فـ"القبيح قائم في التفاصيل"؛ غير أنه في فترة محددة –في القرن الماضي بالتحديد- ستتغير هذه الرؤية بشكل كامل؛ حيث لم يعد القبيح يتسلل حصرًا من خلال التفاصيل؛ لهذا نجد بيكاسو قد قلب النماذج السابقة، والتي يأتي لإبرازها لاستفزاز المرئي واختراق الصور النمطية للجمال، وذلك عبر الأشكال المعقدة والمشوهة...

ارتبط الجميل دائمًا بمعايير محددة ومقاييس مدروسة، بينما ارتبط القبيح باختراق هذه المعايير والمقاييس كلها، "فلا حدود للقبيح"... لهذا اهتمت الفنون المعاصرة كثيرًا بهذا المفهوم، باعتباره مفهومًا "استتيقيًّا"، يُمْكن التعبير عبره عن رؤى فنية واجتماعية وسياسية وفلسفية متعددة... فطُوِّر بالتالي مفهوم "استتيقا القبح"، و"استتيقا القبيح"؛ حيث تغدو المعايير "المنبوذة" معاييرَ لإقامة أعمال فنية تحمل في طياتها تعدد القراءات والتأويلات.

لهذا يتناول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران مفهومي "الجميل"، و"القبيح" في نصه هذا –أسفله- محاولًا القبض على نقط تلاقيهما وافتراقهما على مر العصور، بدءًا من زمن الإغريق ووصولًا إلى يومنا هذا، مرورًا بحقبة النهضة والعصر الكلاسيكي وفترة الحداثيين (الانطباعيين…)، وذلك عبر تحليل مكثف مستحضِرًا تجارب مهمة جدًّا في تاريخ الفن على مر العصور، صباغيًّا وبصريًا وسينمائيًّا...

النص:

ظلت حضارتنا الغربية تعتقد أن شرائعها حول الجمال شرائع كونية، سواء من حيث مواد النحت والتصوير الصباغي؛ إذ عَدَّ براكسيتيليس(1) الجمالَ الإغريقي المصوّر معيارًا للجمال كله، ومن ثم واعتمادًا عليه أنتَجَ كلٌّ من فناني حقبة النهضة والعصر الكلاسيكي منجزاتهم الفنية.

لقد اعتقدنا بكونية المفهوم الكلاسيكي للجمال وانتشاره، الذي ينهض على الانسجام والتناسق، والذي يبدأ بالتعبير عن ذاته في حسن المظهر، ويمكنه أن يبلغ حدّ البهاء، ويستثني أنواع الشوائب كلها، وكل تشوّهٍ، وأنواع القبحِ كله. ويوجد في هذا المفهوم الكلاسيكي تناقضٌ مطلق بين الجميل والقبيح.

بمعنى من المعاني، قد بدأ تنفيذ عملية تغريب العالم، منذ العصر الكوكبي(2)، ويتم تأكيد هذه العملية عن طريق نشر وتثبيت وأَقْلَمَة إنتاجات الغرب الخاصة من جمال وتصوير صباغي [الرسم] وموسيقى وأدب، في القارات الأخرى؛ إلا أنه وإن عُمِّمت استتيقا الجمال الغربي، وذلك بجعل المرء يُعجب بالموناليزا في طوكيو، فإن هذا التعميم لم يلغِ الأنواع اليابانية الخاصة عن الجمال.

جعلتنا العملية الكوكبية نفسها نكتشف ونتعرف على جمالية الأعمال التي تختلف معايير جمالها تمامًا؛ فجمَّلْنا الفن الإفريقي عن طريق تجريد الأقنعة والتماثيل من غايتها، ليُنظَر إليها مثلما يُنظرُ إلى باقي الأعمال الفنية ولكننا في الوقت نفسه، صنفنا كل ما كان غريبًا وعجيبًا، وحتى قبيحًا، على أنه جميل.

كان فريديريك شليغل Schlegel أول من أشار إلى مسألة القبح باعتبارها مشكلة مركزية في علم الجمال (الاستتيقا)، خاصة في الأدب الحديث؛ فكتب: "القبيح هو الميزة الغالبة والكلية للطابع، للفرد، للمثير للاهتمام، للبحث الذي لا يَقنع ولا يَرضى بأي جديد، للّاذع، وللمذهل".

في القرن التاسع عشر، بدأ التصوير الصباغي الغربي في تجاوز النموذج الأكبر للجمال؛ فأبرز غويا في أعماله "الرسومات السوداء" Pinturas negras (1819-1823)، الرعبَ؛ لكنه خاضع للجمالية؛ أعمال تشير إلى أن الحدود بين الجميل والقبيح يمكن أن تنهار في الحيّز نفسه.

من ثم سيكشف الانطباعيون: فان غوخ وسيزان... عن أنواع من الجمال المختلف عن الشرائع الكلاسيكية، وبعد ذلك سيعمل كلٌّ من التصوير الصباغي والموسيقى على تفكيك الأشكال، وفي الوقت نفسه إبراز حساسية جديدة، نوع جديد من الجمال الكامن في عدم الاتساق. كتب رامبو في مؤلفه "موسم في الجحيم": "في إحدى الأماسي، أجلستُ الجمال على ركبتي –ووجدته مريرًا- وحَقَرْتُه".

هل يميل الجمال الكلاسيكي إلى الاختفاء من الفنون؟ أو بالأحرى، أليس هنالك، كما هو الحال في العالم القديم، لكن بطريقة جديدة ومختلقة، عدم مبالاة بالجمال في الأعمال التي تعبّر في الوقت نفسه عن رؤية وحقيقة ورسالة؟

توقف كِلا الجمال والقبح عن كونهما نقيضين؛ فنجد الجمال في القبح والقبح في الجمال، بحيث لا يُقصَى الجمال، بل يكون متضمنًا في مُركّب يحمل نقيضه.

يُقال إن البحث عن الأصالة يسبق البحث عن الجمال؛ لكن ألم تكتسب الأصالة جودة جمالية من أجل المولعين بها؟ هنالك أيضًا ما هو أبعد من الجمال، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة؛ حيث يمكن للانفعال أن يبرز من رعب استتيقي.

أدرك أرسطو أن التراجيدية اليونانية، التي أثارت الرعب والشفقة، قد بعثت في المتلقي شعورًا عميقًا بميزة محررة والتي أطلق عليها اسم تطهير purgation، أو تنفّس catarsis. سوف نعود إلى هذه الميزة الخاصة للجماليات، والتي تسمح بتغيير شكل المعاناة والشقاء والموت إلى مشاعر سعيدة دون إلغائها –على العكس من ذلك تجعلها بارزة. المسرح الإليزابيثي élisabéthain(3) الشيكسبيري، ومسرح كونيل Corneille، وراسين Racines، والدراما الرومانسية مثل هيرناني Hernani، والأوبرا المأساوية بطبيعتها، وأخيرًا أفلام العنف والتعذيب والمعاناة تُسْعِدُنا تارة وتُؤلِمُنا تارة أخرى؛ إذ يغلّفُ الخيرُ الشرَّ ويدجّنُه.

غالبًا ما كانت الحرب مجّملة esthétisée في لوحات المعارك؛ لكننا دخلنا في عصر تمكّن فيه مقاتلون من إضفاء طابَع جمالي عليها، مثلما يقول أبولينير في هذه العبارة الجريئة: "يا الله! كم هي الحرب جميلة"، في الحين الذي ظهرت(4) فيه للمحاربين، خاصة الذين عانوا منها، مثل جُملة(5) من الرعب. خلقت السينما استتيقا الحرب، التي في الوقت ذاته شنيعة ومثيرة للإعجاب، وهو ما يمدنا بانفعالات كبرى: ليست مشاعر الفزع أو الرعب أو الشفقة فحسب؛ ولكن أيضًا متعة، وحتى لذة استتيقية محضة. تحرضنا الأفلام الكبرى على لعنة الحرب، بينما تمدنا بدهشة جمالية، منذ أفلام: "لا شيء جديد في الغرب"(6)، و"أربعة من جند المشاة"(7)، و"صلبان الخشب"(8)، مرورًا بفيلم "اليوم الأطول"(9)، وصولًا إلى الفيلم الرائع والرهيب "الخط الأحمر"(10)، لـتيرونس ماليك Terrence Malick.

لقد تجرأ جان بودريار J. Baudrillard على التعبير عن استتيقا تدمير برجي مدينة مانهاتن Manhattan؛ الأمر الذي أُخفيَ تحت هول رعب المجزرة الإنسانية. إني أخفيت استتيقا هذه الصورة غير المصدَّقة، التي رأيناها وأعدنا رؤيتها بهوس على الشاشات، لقد أخفيتها في الانفعال الإيتيقي؛ لكن إنه لأمر حقيقي، وجود استتيقا الكارثة في عرض spectacle هذين البرجين الضخمين اللذين فجرتْهما -كأنه حلم- طائرتان ظهرتا فجأة من لامكان، من ثم استولت عليهما ألسنة اللهب لتنصهرا. تستعمل السينما وتُخدِع بجماليات الكارثة؛ لكن في خيال واقعي، وليس في الواقع réel مثلما وقع في الحادي عشر من شتنبر 2011.

كما تطوّرت أيضًا، استتيقا المحارب، الذي يناضل من أجل جمال القتال وليس من أجل قضية ما، سواء في فيلم "عواصف فولاذية"(11) لإرنست يونغر Ernst Jünger، الذي يصف الاندهاش الذي خلفته الحرب العالمية عليه، أو أيضًا في فيلم "المنبوذون"(12) لإرنست فون سالومون Ernst Von Salomon، الذي يمجد ملحميًّا حربَ الفيالق الحرة(13) الألمانية في البلطيق، أو أخيرًا في رواية "الفاتحون"(14) لأندري مالرو André Malraux؛ حيث يختلط الثوري بالمغامر الجمالي.

جعلت التراجيديا الإغريقية والدراما الإليزابيثية والأدب، وأخيرًا السينما، من الرعب والإرهاب جماليًّا، وإن كانوا فعليًّا يُفزعوننا؛ لكن الوعي بكوننا في خضم عرض فرجوي يجعل التعذيب أو الموت غير مؤذييْن.

المصدر:

Edgar Morin, Sur l’esthétique, éd. Robert Laffont et La maison des sciences de l’homme, Paris, 2016, P. 23-27.

الهوامش

(1) عاش ما بين 395 و326 قبل الميلاد، وهو أحد أشهر النحاتين الإغريق في القرن الرابع قبل الميلاد. كان أحد أوائل النحاتين الذين أضفوا على المعبودات الوثنية الإغريقية صفات بشرية، مبتعدًا عن الأشكال الصارمة، البعيدة، المهيبة التي اهتمّ بها النحاتون الإغريق السابقون. وقد برع براكسيتيليس في نحت جمال الشكل الإنساني. (الإحالات كلها من المترجم).

(2) حسب إدغار موران؛ فقد بدأ العصر الكوكبي منذ القرن 16، وتطور بفعل الاستكشافات والرق (=العبودية)، والتدمير الكبير للقيم الإنسانية، ما تولد عنه تلك الحملات الاستعمارية الغربية. وهو ما يصفه موران بـ"التاريخ المظلم". ويرى أنه اليوم يتمثل في "العولمة الاقتصادية".

(3) مجموعة من المسرحيات الدرامية المكتوبة خلال فترة حكم الملكة إليزابيث الأولى من إنجلترا (حكمت من 1558-1603)، وخصوصًا عمل وليام شكسبير(1564-1616).

(4) يعود الضمير على الحرب.

(5) يُشير إلى ويلات الحرب.

(6) فيلم أمريكي من إخراج Lewis Milestone، سنة 1930.

(7) فيلم ألماني من إخراج Georg Wilhelm، سنة 1930.

(8) فيلم فرنسي من إخراج Raymond Bernard، سنة 1932.

(9) فيلم أمريكي من إخراج مجموعة من المخرجين، سنة 1962.

(10) فيلم أمريكي-كندي، تم إخراجه سنة 1998.

(11) أخرجه سنة 1920.

(12) أخرجه سنة 1930.

(13) بالألمانية Freikorps، قوات شبه عسكرية، مهمتها مباغتة ومضايقة العدو، أي مد يد العون للجيش، عبر تكتيكات حرب العصابات لمضايقة العدو في نقاطه الأقل دفاعًا، والكر بعيدًا إلى أماكن أخرى لمساعدة فيالق أخرى من الجيش.

(14) عنوانها الأصلي بالفرنسية Les Conquérants، صدرت أول مرة سنة 1928.

(نقلاً عن معنى)