يشدد الباحث على أن جبران هو أحد وجوه الحداثة الأدبية العربية الريادية، ولايزال أديباً يكتنف الغموض أفكاره وفلسفته. ويطرح السؤال: هل في منجز جبران الأدبي ما سمح فعلاً بإعادة تأسيس الأدب العربي، خاصة أن جمهور جبران الواسع ليس من محترفي الأدب، أم أننا بإزاء فرضية مفتوحة للجدل!؟

جبران وإعادة تأسيس الأدب العربي

بطـرس حـلّاق

 

على الرغم من شهرة جبران خليل جبران، فإن صورته لاتزال غامضة، فهو بالنسبة لبعض النقاد فنان متصوّف، قرأ سيرة النبي العربي محمد عليه الصلاة السلام، ورأى في السيد المسيح تعبيراً عن الخير والمحبة والجمال، وانجذب إلى الفلسفات الشرقية مثل الفلسفة الهندية القديمة.

جبران بالنسبة إلى آخرين أديب رومانسي، مفتون بالطبيعة وغموض الكون والإنسان المتمرّد، والتطلع إلى زمن مستقبلي يعمّ فيه الخير. وهذه الرومانسية هي التي أقامت علاقة بينه وبين الشعراء الرومانسيين، والألمان منهم بخاصة، ودفعته إلى رفض الأدب القائم على المحاكاة والتقليد، معتبراً أن الإبداع الحقيقي يصدر عن القلب والبصيرة.

وعلى خلاف ذلك هوّن نقاد آخرون من نزعته المتصوّفة، التي توحي بفنان منعزل عن الواقع والمجتمع، وقدّموا صورة أديب مرتبط بالقضايا الاجتماعية والوطنية، نقد الإقطاع والكنيسة المتحالفة معه، ودعا إلى التحرر القومي والاجتماعي. بل إن بعض هؤلاء توقف أمام إيمان جبران بأفكار التقدم والارتقاء، وانجذابه إلى كل جديد في زمنه، سياسياً كان أو فكرياً. ويعمدون من أجل ذلك إلى الكشف عن معنى الإنسان عنده، من حيث هو امتداد للطبيعة والتعبير الأرقى لجوهرها، الأمر الذي يضعه بين القائلين بـ«وحدة الوجود»، الذين يرون الله في عالمي الإنسان والطبيعة.

يأخذ جبران، في التصورات السابقة، صورتين مختلفتين: يكون في الأولى منهما متصوفا غامضا، ويكون في الثانية واقعيا ومتمرّدا. ينسحب هذا التقويم، الذي لا اتفاق عليه، على إنجازه الفكري والأدبي أيضاً. فالذين يعتبرونه فناناً منعزلاً لا يرون في كتاباته إلا جملة من المواعظ الأخلاقية البسيطة، كتبت بلغة إنشائية، ترضي القارئ العام، في حين يقول المدافعون عنه إنه أديب طليعي مجدّد، أسهم في نهوض الأدب العربي الحديث، وأعطاه أسساً جديدة، بعيداً عن التقليد والمراوحة.

تأمل بطرس حلاق، الأستاذ في جامعة باريس، الموقفين السابقين، والتزم بالموقف الثاني، معتمداً مادة أرشيفية واسعة، تعاملت مع السياق الاجتماعي والتاريخي الذي عاش فيه جبران، ومع العناصر الفكرية المتعددة التي تأثر بها.

برهن المؤلف، اعتماداً على الوثائق، عن حداثة جبران الفكرية الشاملة، التي تجلّت في أشكال مختلفة: التزامه بالقومية العربية واقتناعه بضرورة تحرر العرب من السيطرة العثمانية عن طريق الثورة والجهد الذاتي دون التماس عون خارجي، مؤمناً بأن قدرة العرب على تحرير ذاتهم بذاتهم تضمن لهم عدم الوقوع تحت السيطرة الاستعمارية الأوربية. ولعل موقفه من السيطرة العثمانية هو الذي أدى بالسلطات في مصر ولبنان إلى منع كتابه «الأرواح المتمرّدة»، كما دفع الكنيسة إلى محاولة إقناعه بإتلاف نسخ كتابه، لأنه رأى فيها حليفاً للقوى الاجتماعية الظالمة، التي تسوّغ الاستغلال والاضطهاد. كان طبيعياً أن يكون جبران عدواً حاسماً للطائفية، التي تؤدي إلى التقاتل والكراهية بين أبناء «الديانات السماوية».

أصل واحد

آمن جبران بأن الديانات السماوية ذات أصل إلهي واحد، يحض على الخير وينهي عن الشر، مثلما اعتقد أن «إفساد الدين» صادر عن المؤسسات الاجتماعية المسيطرة، التي تستعيض عن القانون الإلهي بشريعة إنسانية متوارثة لاتلبي التعاليم الإلهية. يوزع جبران، بهذا المعنى، الدين على حقبتين مختلفتين: حقبة أولى غير سلطوية كان الدين فيها عادلاً ومتسامحاً وخيّراً كما أراده الله، وحقبة سلطوية تنكّرت للتعاليم الإلهية. وصل «الشاعر» إلى هذا الموقف عن طريقين: طريق عملي حياتي معيش، فقد لمس جبران، منذ طفولته في جبل لبنان، تواطؤاً بين الإقطاعيين وبعض رجال الدين، وطريق فكري له علاقة بأفكار الثورة الفرنسية بعامة وأفكار الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو بخاصة. ويظهر الطريق الثاني واضحاً في رسائله التي كتبها بعد وصوله إلى باريس عام 1908، وبقي فيها عامين لدراسة أصول الرسم. ففي هذه الرسائل يعيد ما قرأه في الكتب الثورية، ويعتمد أفكار روسو عن براءة الإنسان الطبيعي، وعن دور المجتمع في إفساد الطبيعة الإنسانية النقية.

ظهرت حداثة جبران الفكرية في دفاعه عن القومية، بديلاً عن الطائفية والنزعات الجهوية الضيقة، واقترابه الشديد من علمانية خاصة به، ترى في الإله صورة لكل ما هو خيّر وجميل، وإيمانه بنزعة إنسانية شاملة، لا تفرق بين البشر ولا بين الأديان. ولهذا يحتل مفهوم الفرد مكاناً واسعاً وحاسماً في فكر جبران، على اعتبار أن الفرد الراقي هو الطريق إلى المجتمع القومي المتحرر، وهو أساس المجتمع الإنساني المنشود، الذي لا بغضاء فيه ولا كراهية. ولعل العلاقة بين الإنسان المتحرر والفضيلة هي التي دعت جبران إلى الحلم بـ«الإنسان الكامل»، الذي هو صورة عن إرادة الله. وهذا الحلم هو الذي يجعل بعض دارسي جبران يقرن بين فكره و«وحدة الوجود»، التي تعني أن الله يتجلّى في جميع مخلوقاته، وأولها الإنسان. ومع أن جبران، المأخوذ بتأمل الكون وأسراره، صاغ أفكاره الأساسية منفرداً، فإن قراءاته المتعددة ساعدته في بلورتها، عربية كانت مراجعه أو غير عربية. فقد قرأ الشاعر الصوفي ابن الفارض وعرف أفكار ابن سينا، كما امتدت قراءاته إلى الفلسفة الهندية والفيلسوف الهولندي سبينوزا، إضافة إلى أشكال من «التديّن الفلسفي» أو «الفلسفة المتديّنة»، التي سمع عنها في بوسطن، المدينة الأمريكية التي رحل إليها مع عائلته، وهو لايزال صبياً.

كتابات روائية

أما حداثة جبران على المستوى الأدبي، التي تبدو لمؤلف الكتاب ريادية وطليعية، فتكشفت في كتابات غير مسبوقة باللغة العربية: فإضافة إلى موضوع الموسيقى، الذي أفرد له جبران بحثاً صغيراً عام 1905، هناك الكتابة الروائية التي كانت شبه غائبة باللغة العربية حين ظهرت رواية «الأجنحة المتكسّرة» عام 1912، سابقة بعامين رواية المصري محمد حسين هيكل «زينب». وكذلك «القصة القصيرة»، و«الشعر المرسل»، و«قصيدة النثر»، ذلك أن جبران عني عناية خاصة باللغة، وسعى إلى تحرير اللغة العربية من القواعد الجامدة، والكتابة بأسلوب ذاتي، يدع الأديب العربي حراً مع لغته، دون أن يستظهر لغة الكتب القديمة بشكل جامد ولا حياة فيه. وواقع الأمر أن اهتمام جبران باللغة هو الذي جعله يرى في «الموسيقى» مجازاً للإبداع الأدبي كله، على اعتبار أن العمل الموسيقي جملة من العناصر المتكاملة المتناغمة المتحاورة.. ولهذا وضع جبران في شعره كثيراً من النثر، ووضع في نثره كثيراً من الشعر، واستعاض عن النثر والشعر معاً بالرسم، وأضاف إلى هذا كله اهتماماً بالفلسفة. ولهذا تتكشّف حداثة جبران في ما يمكن أن يدعى بـ«تعددية الأجناس الأدبية»، التي تعني أن ميول الإنسان متعددة، وأن التعبير عنها يحتمل أساليب متعددة، وأن هذه الأساليب بحث متكامل عن معنى الحقيقة. وربما يكون كتابه الشهير «النبي»، الذي كتبه باللغة الإنجليزية عام 1923، صورة عن معنى الإبداع لديه، ذلك أن هذا الكتاب التأملي عصيّ على التصنيف، فلا هو بالرواية ولا هو بالمسرحية ولا هو بالشعر الخالص.

توسّع بطرس حلّاق، وهو يدرس جبران، في ثلاث نقاط رئيسية: الكشف عن مصادره الفكرية المتعددة التي شملت الشعر الرومانسي الإنجليزي، الممثل بـ«شيلي» ووليم بليك، مسّ ذلك «التصوّر الرؤيوي» الرسولي للعالم، أو موقف الشاعرين من الدين والجمال والثورة، اللذين يعيّنان الإنسان مركزاً للعالم. يضاف إلى ذلك الثقافة الفرنسية ممثلة في فلسفة برجسون، القائل بـ«التطور الخالق» و«الدفقة الحيوية»، وغيرهما من المفاهيم التي حاولت الجمع بين العلم والميتافيزيقا، وفلسفة جان جاك روسو، الذي قرأ الإنسان في علاقته الحرة على الطبيعة واغترابه، لاحقاً، في «العقد الاجتماعي»، الذي جعل من تنازل الإنسان الطوعي عن جزء من حريته مدخلاً إلى «حرية متمدنة»، هي مزيج من القيد والأمان معاً. أما علاقة جبران بالرومانسية الألمانية فقد احتلت جزءاً واسعاً من الكتاب، توقف أمام أفكار شليجل وشلينج ونوفاليس وغيرهم، الذين رأوا إلى مستقبل يصنعه الإنسان دون غيره، وإلى طبيعة هي امتداد للإنسان وتعبير عن قدرته الخالقة، وأعطوا «الصورة الشعرية» دوراً فاعلاً في إعادة صياغة العالم.. تأثر جبران بهؤلاء، كما يقول المؤلف، وعرف أفكار نيتشه وشوبنهاور، إذ الأول مزيج من الغموض و«تأليه الإنسان» والثاني صوت متشائم وبالغ التشاؤم، يساوي بين المصير الإنساني والتراجيديا.

رواية التعلم

أمّا النقطة الثانية التي أدار حولها السيد حلاق حديثاً طويلاً فتخصّ ما يدعى: «رواية التعلّم»، أو «رواية البناء، التي لازمت البدايات الروائية في أكثر من بلد أوربي. والمقصود بذلك سرد سيرة شاب اختبرته الحياة واختبر الحياة، حتى أصبح قادراً على الوقوف على قدميه، كان ذلك في رواية الألماني جوته «فيلهلم مايستر»، أو دانييل ديفو «روبنسون كروزو» أو «التربية العاطفية» لفلوبير.. تؤمن هذه الرواية، في أشكالها المختلفة، «بفكرة التقدّم» ذلك أنها تقتفي آثار إنسان يكوّن شخصيته من خلال التجربة، وينتظر المستقبل في مكان ما. أما السبب الذي دعا حلاّق إلى الوقوف الطويل أمام «رواية التعلّم» نحو ثلث الكتاب تقريباً فمرتبط برواية جبران: «الأجنحة المتكسّرة»، التي رأى المؤلف فيها «رواية تعليم» بامتياز، فقد سردت قصة الشاب الرومانسي، الذي أفرحته الحياة وأبكته وتركته، لاحقاً، يبحث عن معنى الزمن والكون والطمأنينة.

ترتبط النقطة الثالثة بالجهد الذي بذله المؤلف ليؤكد أمرين: أولهما أن ريادة الرواية العربية الحديثة لا تعود إلى المصري محمد حسين هيكل في روايته «زينب»، بل إلى جبران في روايته «الأجنحة المتكسرة». ليس المقصود بالريادة دلالتها الزمنية، فقد كتب الأديبان عمليهما في وقت واحد تقريباً 1912 بل البُنية الكتابية للعملين، ذلك أن المصري اخترع «ريفاً مصرياً»، توّهمه النقّاد واقعاً، واخترع له ما شاء من الشخصيات المطابقة مختصراً الرواية إلى «حكاية ذهنية»، بينما أقام جبران عمله على أسس موضوعية وأمدّه بتصور روائي واقعي. يكون جبران، بهذا المعنى، ريادياً مرتين: مرة أولى وهو يكتب الرواية بعناصر روائية، ومرة ثانية حين أنجز رواية واقعية مكتملة. بنى الباحث وجهة نظره على «استقصاء نظري» جدير بالإعجاب، من ناحية، وقصد إنصاف جبران، من ناحية ثانية، وأعاد إليه «حقه المختلس». والسؤال هو: ما هي أهمية الريادة، بالمعنى الضيّق، إذا كانت ولادة الرواية العربية محصّلة لجملة «ريادات» متكاملة، وإذا كان العملان معاً «زينب والأجنحة المتكسّرة» يحملان كل سمات البدايات الروائية التي تشكو من نقص وأكثر؟

تأسيس الحداثة

وسواء كان جبران (1883-1931) أحد وجوه الحداثة الأدبية العربية الريادية، أو كان الرائد الكبير الذي أعاد تأسيس الأدب العربي الحديث، كما يذهب المؤلف، فقد كان صاحب كتاب «النبي»، ولايزال، أديباً يكتنف الغموض أفكاره وفلسفته. وربما يكون في كتاب بطرس حلّاق، الذي استفاد من جميع الدراسات التي سبقته، ما يلقي ضوءاً جديداً على هذا الأديب اللبناني الذي «أراد أن يكون نبياً»، وتصرّف في أواخر حياته القصيرة على أنه كذلك. السؤال الأخير الذي لا بدّ منه: هل في منجز جبران الأدبي ما سمح فعلاً بإعادة تأسيس الأدب العربي، خاصة أن جمهور جبران الواسع ليس من محترفي الأدب والمهتمين بقضاياه، أم أن حلّاق قدّم فرضية أدبية اقتنع بها، وشاء أن يقتنع بها غيره أيضاً؟.

(المصدر مجلة العربي، الكويت)