يشير الكاتب السوري المرموق إلى أن ما سطره دالي من سيرته، يندرج تحت السيرة الروائية، بل الرواية السيريّة، فعبقرية هذا الفنان تتجلى ككاتب، كما أكدت روايته (وجوه خبيئة). حيث يبتدأ باستذكار عهده في الرحم، لينطلق معمراً نصه بالوقائع والصور البديعة والجديدة، التي تعكس موقفه وفلسفته تجاه الحياة.

سلفادور دالي.. وقائع الحياة السريَّة

نبيل سليمان

 

بعد أكثر من خمسمئة صفحة من سيرته يكتب سلفادور دالي (1904-1989) أن الكتّاب يشرعون بكتابة مذكراتهم عادة في منتهى حياتهم. أما دالي القائل: «مع نقيصتي التي تملي عليّ أن أقوم بكل شيء بشكل مختلف عن الآخرين، بل بعكسهم»، فقد اعتقد أن من الذكاء أن يكتب مذكراته أولاً، ثم يعيشها، أي أن يصفي نصف حياته الأول ليعيش النصف الآخر حراً من سلاسل الماضي، ويفعل كما تفعل الأفاعي، فيسلخ جلده، ويحيا بلحم رغبته، بجلد جديد، ويكون أرضاً بكراً هي أرض الحرية، حيث تبدأ نهضته من غد اليوم الذي ستصدر فيه سيرته التي صدرت العام 1942.

يمكن وصف ما كتب دالي من سيرته، بالسيرة الروائية، بل وبالرواية السيرية، وحيث تتجلى عبقرية هذا الفنان ككاتب، كما أكدت روايته (وجوه خبيئة) أيضاً. ابتدأ سيرته باستذكار عهده في الرحم كما لو كان في الأمس، ففي ذلك الذي يسميه الفردوس الرحمي الذي بلون الجحيم، الناعم والثابت والدافئ والمتناسق والدبق والمزدوج.. كانت للجنين دالي ألعابه التي تقوم على جعل الدم يذهب إلى الرأس عبر الأرجحة. ويشبه دالي هذه الأخيولات بالأخيولات التي جدّت بعد الحرب العالمية الأولى، لا ينسى ما يطرد واحدنا بالولادة من الفردوس. وسيظل هو بعد الطرد يبلل فراشه حتى الثامنة، لمجرد إحساسه بالمتعة. وهذا الطفل الذي كان الملك المطلق في البيت، لمح شقيقته ذات السنوات الثلاث تحبو، فتردد لحظة ثم رفسها على رأسها كأنها كرة، وتابع طريقه مغموراً باللذة. كما دفع بطفل من على جسر قيد الإنشاء، فهوى المسكين من ارتفاع خمسة عشر قدماً، ثم جرى دالي إلى البيت ليعلن فعلته. ولئن كان في طفولته معجباً بالشيخوخة وبالضعف، فقد كان ممتلئاً أيضاً بالشعور الاستبدادي بالعزلة المطلقة، مع الإحساس بالسمو، والرغبة في البقاء في الأوج. وكان شغوفاً بالتخفي، كما كان الألم الفيزيائي يعزز (بلاغته)، وألم الأسنان يطلق العنان غالباً في داخله لفورة خطابية. وقد كان للكتب المصورة الصغيرة التي يهديها له والده أثر حاسم في حياته، كما جذبته صور العراة بخاصة. وفي غرفة الغسيل أسس استوديو للرسم، وكان يمضي فيه ساعات وحيداً.

صور بديعة وجديدة

لم تسم هذه الغرائبية طفولة دالي فحسب. ولكن قبل متابعة ذلك، لنا وعلينا أن نتأمل ما تحفل به سرديته السيرية من الصور البديعة الجديدة التي تعزز في هذه السردية أدبيتها الاستثنائية. فها هو يتساءل عما هو أكثر خفة وخيالية وحرية من (الإزهار الشجري) للعقيق، الذي ينشأ عن أشرس قيود البيئة الغروية، بحيث تكون نعومته وهوائيته وتشعبه الزخرفي، مجرد آثار لبحث ميئوس منه من أجل الفرار من عذابات الموت. وبذلك، ليست حالة العقيق حالة نبات تحوّل إلى معدن، بل حالة شبح طيفي لنبات، ولهلوسته المميتة.

ذاك هو العقيق في مخيلة دالي الذي يتحدث عن (العقيق المتشجر لعبقريتي الغريبة). وليس هذا إلا ذرة مما يُعدّ إدراك دالي المغرور لذاته، فتراه يتحدث عن ذكائه الاستثنائي الخاص جداً، وعن توافق كل شيء معه، وعن أن شيئاً لم يغيره وهو الطري الجبان المرن.

من السادسة عشرة تهمي على دالي صور السماء التي تتشح باللون الناري للشمس الغاربة، وصور الغيوم الهائلة التي تحتشد في هيئة فهد مرقط، بينما تتحرك المراكب الشراعية عشوائياً، ووجه دالي المقلوب مضاء بآلاف أضواء التمجيد، مغموراً بنشوة عمياء. وقد أثْرت الطبيعة الريفية مخيلة دالي الأدبية، كما الفنية، وهو من عاش في، وتعلق بكاداكيس وفيغوراس. فالأخيرة يصورها مغطاة بالكفن النموذجي الذي يدفن تحته الواقع اليومي. وفي الأولى يشبه البياض الفضي المبقع بالأصفر، لأشجار الزيتون النحيلة، بشعر عجوز داهمه الشيب، وتجعد في الفجوات الجافة. وهكذا، للسماء دماغها الزئبقي، وهو أصبح كالتمثال النوراني المصنوع من الملح، ومنزل والده يبدو له مثل قطعة سكر غارقة في المرارة. وفي (حماقة هلوسات حياة دالي) يحدثنا عن جناحي الجرادة إذ فتحها، فاتقدت الألوان المندرجة: الزهري والبنفسجي ولون السماوات الشفقية المبقعة بالأزرق.
تتقد كلمات دالي مثل ريشته: كل شيء أو حركة أو إحساس يتخلق في هيئة (داليّة) جديدة. فإذا ما نام في قيلولة، فالنوم ثقيل كالباص المسرنم ظهراً، والقمر أحمر مثل شرائح بطيخ أحمر، ولشهر أيلول نبيذه الأيلولي. أما أقمار أيلول فتتخلل (أيار) شيخوخة دالي التي تحصد عنب الشفق. ولأفكار دالي (هندباؤها) الخطيرة التي يزرعها في اتجاهات الريح جميعاً. لكن سخاءه مثل سخاء الجراثيم الخبيثة، لذلك يجزم: «لن يقلد أحد سلفادور دالي ويفلت من العقاب، لأن من يحاول أن يكون دالي، سوف يموت».

غالا.. العشق الاستثنائي

منذ ودع طفولته وأقبل على المراهقة، سكنته الأنوثة. وفي ذلك البرزخ يذكر مثلاً تلك التي سقطت من إبطها قطرة عرق، وأصابته في وسط جبهته كواحدة من قطرات المطر الدافئ التي تهطل في عواصف الصيف الحارة. إنها القطرة التي أنذرت بعاصفة الطبيعة المشتبكة مع عاصفة روح دالي. وحين يذكر زميلته في المعهد يكتب أن أنفه قد لامس حدود ثنية إبط الفتاة المتعرقة جرّاء ركضهما، وأنه تنفس الشذا العابق المركب من رائحة نبات لسان الثور مع رائحة خروف، وربما أضيفت لهما بعض حبات القهوة المحروقة. وقد عاش دالي خمس سنوات رومانسية، ملأها بالأكاذيب المثيرة عن اختراعات لم يخترعها، وكان يرتجل أكثرها: «لقد كان سحراً ممنهجاً مميتاً مطوقاً». ولئن كان واعياً بأن الحب هو استقبال السهم، وليس إطلاقه، فقد كان يريد لفتاته أن تموت، وصاح بها بقوة، بالأحرى صاحت به داليّته – نرجسيته، أنه لا يحبها، وأن عليه ألا يحب أية امرأة، لكي يعيش وحده دائماً.

من البئر الأولى يتذكر دوليتا: الفتاة التي لم تخب نار ولعه بها، وإن يكن وجهها قد غاب عنه أبداً. وبعدما طرد عام 1926 من أكاديمية الفنون لفجور سلوكه، يكتب أنه عرف عدداً من النساء الأنيقات، لكن سخريته البغيضة أرادت «أن ترعى فوقهن العلف الإيروتيكي والأخلاقي». ولم يكن كل ذلك إلا بانتظار الصاعقة: اللقاء بغالا، لتبدأ قصة حب أسطورية.

إنها الروسية إيلينا ديما كونوفا (1897-1982) التي تكبر دالي بسنوات. وقد كان زواجها من دالي العام 1929. ومن حديثه الأول معها، سجل تعليقها على لوحة البراز: أنت تخاطر بإضعاف عملك إذ تجعله وثيقة نفسية مرضية. أما من جعل البومة تتوّج بالبراز رأسها، فيرد بأنه يتعامل مع البراز كما يتعامل مع الدم، أو مع رهاب الجراد الذي سكنه منذ سحقت ابنة عمه جرادة على عنقه، فظلت قشعريرة الرعب تسري على ظهره حتى كتابته لسيرته، وظل الاشمئزاز يظهر على فمه حتى ليبدو بالملامح التي ظهرت على وجه الجراد المسحوق.

مع إلواردو حضرت غالا إلى كاداكيس سنة 1929، فوقعت الواقعة، وخيّل لأوهام العاشق وهذيانه أن غالا التي صغّر اسمها تحبباً فصار غالوشكا، هي طفلة ذاكرته الزائفة، وقد تجدد حقده القديم على دوليتا، فمثلها، جاءت غالا لتدمر وحدته. لكن (الأنشودة الرعوية) لروحه كانت قد بدأت، والصاعقة التي صعقت، والواقعة التي وقعت، أعلنتا قصة الحب الوحيدة لسلفادور دالي.

يعترف دالي أن غالا – أو الأسد الصغير أو النحلة أو السنجاب أو غراديفا.. كما سيدعوها – قد فطمته عن الجريمة، وعالجت جنونه، فاختفت منه الأعراض الهستيرية، ولن يكون بوسعه ولا بوسعها ولا بوسع أحد أن يدرك هذا الحب كسيرة حياة أو كفن، كواقع أو كخيال: إذا تقيأت غالا، فهي لم تتقيأ سوى بضع قطرات نظيفة صفراء مثل روحها، وبلون يشبه لون العسل. وقد قال لها يوماً إنه يرسم لوحاته بدمها، وصار يوقّع أعماله باسمه وباسمها. ومثله، كان لغالا سرّ أن تبقى سراً داخل سره. ولماذا إذن لا يستطيع أن يقيس «الأعمدة النحيلة لكبريائها، وأعمدة الدرابزين الجامحة لطفولتها، والدرجات السماوية لابتسامتها»؟ ولماذا لا نصدق أن دالي يختم سيرته الذاتية، بعد سنوات مع غالا، فيقرر في لحظة تحوله إلى (دالي الغد) الزواج من جديد من غالا، سوى أنه هذه المرة سيمضي إلى الكنيسة الكاثوليكية لتثبت الزواج وتجعله مقدساً، وربما توّج ذلك نزوعه الديني في غمرة الحرب العالمية الثانية، ولما يبلغ الأربعين!

الفنان.. الإنسان

تدفع سيرة دالي إلى القول إنه جُبل فناناً. وقد قيض له منذ الطفولة ما يعزز الجبلّة، إذ يذكر أنه كان لعائلة بيشوت أثر كبير على والديه، مثلما كان لها دور كبير في حياته. فجميع أفراد هذه العائلة فنانون موهوبون، منهم الرسام رامون وعازف التشيلو وعازفة الكمان ومغنية الأوبرا. وفي الريف، في (برج الطاحونة) صار للطفل دالي مرسمه، وهو يرسم عجلان ويكدس رسومه. وقد بلغ به الأمر أن رسم على الباب –بعدما انتهت بكرة قماش الرسم– لوحة كانت قد استحوذت عليه زمناً: الحياة الباقية لكومة هائلة من الكرز. وقد أدهشت اللوحة كل من شاهدها. وعندما اقترح السنيور بيشوت أن يحضر والد دالي لابنه أستاذاً للرسم، غضب الطفل الفنان وصاح: أنا لا أحتاج إلى معلم لأنني رسام انطباعي، ولم يكن يعرف معنى كلمة انطباعي.

في برج الطاحونة عرف دالي أغرب أفكاره وأخيولاته لما سيلي من حياته، وبخاصة ما يتعلق منها بالشخصية الإيروتيكية التي كتب عنها العام 1932، ونشر ما كتب في دورية (السيريالية في خدمة الثورة). وقد اشتبكت حياة الإنسان دالي بالفنان دالي منذ الطفولة، وكان مدركاً لذلك، لذا يكتب أن الفردانية الساخطة المبالغ فيها، مما أظهر في طفولته، تبلورت في مراهقته في ميول معارضة بعنف للمجتمع. وظهر ذلك في المرحلة الثانوية بالاهتمام الفائق بالأناقة التي تقوم على روح التناقض الممنهج اللاعقلاني المحير.

فتّش عن الفلسفة

لعل عليّ أن أسارع هنا إلى ما للفلسفة في تكوين وفن دالي. فهذا الذي تأثر عميقاً بفولتير وكانط ونيتشه –حتى أطال شاربيه كنيتشه- يكتب أنه، مدفوعاً برغبته المتعطشة لكل شيء، كان عليه أن يخترع عملاً فلسفياً عظيماً ويكتبه. وقد بدأ به، وسماه (برج بابل)، وسوّد منه 500 صفحة، وهو لما يزل في المقدمة. وفي تلك الفترة احتلت النظرات الفلسفية لذلك الكتاب /‏ المشروع جميع فراغات نشاطه النفسي، ومعه تلاشى قلقه الجنسي تقريباً. ومن التماعاته المذهلة قوله إن الإنسان، من بين كل الحيوانات والنباتات والتحف المعمارية والصخور، هو أكثر من يجد صعوبة في التقدم في السن.

يتحدث دالي عن (نطاف الفلسفة الدالية) في سياق (اكتشافه) للمعنى الأساسي لتواضع الطبيعة الذي أشار إليه هيراقليطس في عبارته الملغزة: (تحب الطبيعة أن تخفي نفسها). وتسري الفلسفة في نسغ ما يرسل الفنان في الفن، كما في حديثه عن (علم الشكل)، ابتداءً من أنْ ليس للحرية شكل، إلى اختراع غوته المجيد لـ (علم تشكل الجمال)، بما هو ميول فوضوية تقدم أعظم تعقيدات التناقضات. على أن دالي لا يمكن أن يهدأ على حال، لذلك تراه يعلن أن معركته هي ضد البساطة ومع التعقيد، ضد الجماعة ومع الفردانية، ضد الموسيقى ومع العمارة، ضد الشباب ومع النضج، ضد السبانخ ومع الحلزون، ضد النساء ومع غالا، و.. ضد الفلسفة ومع الدين. وفي مرحلة لاحقة، يعلن أنه لابد من العودة إلى التقاليد في الرسم وسواه، في الحياة، فالنميمة الفلسفية الزائفة في المقاهي، باتت كالفراغ، تنتهك العمل الشريف في المرسم وفي ورشة العمل.

ومثل الفلسفة، بل ومنها، هو العلم أيضاً لدالي. وها هو هذا الذي كانت له نظريته في بدء الكون، ومنذ التاسعة، لا يكتشف فقط ظاهرة التنكر البيئي، بل ما يسميه بالنظرية الكاملة العامة لظاهرة المحاكاة أو التشابه الذي تتخذه كائنات حية مع بيئتها، أو مع نوع آخر من الكائنات أكثر حماية. وبفعل هذا الاكتشاف المبكر، سوف تسكن لوحات دالي الصور الرهابية غير المرئية. وقد تفجر الفن في الخيال العلمي فقدم دالي من أجهزة الهاتف: هذا بلون النعناع أو الحليب المخفوق، وهذا ملفوف بالفرو من أجل مخادع السيدات، وهذا هاتف إدغار آلان بو مع جرذ ميت مخفي في داخله... ومما يدهش دالي أن أحداً لم يرسم (ساعة رخوة)، أما هو، فقد رمى في لوحة (إلحاح الذاكرة) بعدة ساعات مائعة ورخوة. وقد مارس مثل هذا الذي يبدو لعباً، كي يكسب المال، فقدم كاميرات تصوير على شكل أقنعة من أجل التقارير الإخبارية، ومستحضرات تجميل مركبة لإزالة الظلال وإخفائها، وأحذية مزودة بنوابض لزيادة المتعة أثناء المشي، وأظافر زائفة من مرايا صغيرة خفيفة يمكن للمرء أن يرى نفسه فيها، وسينما لمسية، وحشوات تخلق أنموذجاً أنثوياً يلائم الخيال الإيروتيكي الذكوري، وكاتولوجاً لتصاميم جديدة ومبسطة لسيارات ستسمى انسيابية، وسلسلة من أحواض الاستحمام برائحة مدهشة... ولا عجب إذن أن يقال، خاصة في أميركا: دالي خارق جداً، لكنه مجنون، وهو غير مقبول، مثل الطعام المتبل بعنف، ويكفي قليل من الدالية، سواء في المنظر الطبيعي أم في التخييل أم في النقاش. أما هو، فكان يرى أن الشذوذ العنيف للعقل يجذب الجنون بشكل غامض. ويروي أن المجانين والمنتحرين كانوا بانتظاره كحرس شرف، أينما ذهب، ويحدسون بأنه واحد منهم، بينما يعرف هو أن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون، أنه ليس مجنوناً.

إلى أكاديمية (سان فرناندو) للفنون الجميلة في مدريد، انتسب دالي العام 1921. وبعد طرده من الأكاديمية مضى إلى باريس. ومن تاريخه أنه كان يمضي ساعات في متحف البرادو، يتأمل اللوحات. وفي واحدة من مراحل بحثه – حياته، استخدم الحصى في الرسم والتلوين، فلرسم غيمة ساطعة أو حالة من التألق الكثيف، يضع حصاة على لوح الرسم. وفي لوحة غروب كبيرة بالألوان القرمزية، ملأ السماء بحصى من كل الأحجام، وبعضها بقدر تفاحة. وبصدد التكعيبية يكتب دالي أنه رسم بلون واحد أول لوحة تكعيبية متأثراً بخوان غريس، رداً على تأثره السابق بالفنانين المولعين بالألوان. وكان زملاؤه الطلاب في مدريد يصنفونه رجعياً، ومعادياً للتطور والحرية، ويصنفون أنفسهم ثوريين. لكنه كان يرى أنهم يهدرون الوقت بثورة الانطباعية التي مر بها في طفولته. ولم يكن رأي أساتذته به أفضل، إذ لم يعتبروه فناناً بالفطرة، بل في غاية الجدية، بارد كالجليد، وفنه كشخصيته بلا عاطفة، وربما يكون مفكراً، لكن الفن يجب أن يشع من القلب. وقد كانوا يسخرون منه، ويسمونه الموسيقي أو القطب، كما سخروا من طريقة لباسه المناهضة للطريقة الأوروبية، وكانوا يحكمون عليه سلباً وهم – كما يصفهم - المهووسون بمزيج من مذهب الداندية (الأناقة المفرطة) ومذهب السخرية، ولكن أفكاره سيطرت عليهم.

أما غالا، فكما كانت في حياته، كانت في فنه، وليست غاية ذلك أن يقضيا شهرين لا يغادران الفندق إلى أن ينجز لوحة (الرجل الخفي). وهذا (المتوحد) كان لفنانين آخرين أثر عميق في فنه، وعلى رأسهم بيكاسو وميرو وتريستان تزارا. لكنه كان أيضاً لاذع الهجاء لآخرين يراهم بشرات صفراء مخضرة شاحبة جراء المبالغات، ونتاج (الدمار الحشوي) لأجسامهم. ولا يوفر هجاء دالي عصره كله، لأنه يراه قد خلق العقول الميكانيكية وأجهزة الراديو- أجهزة البلادة المهنية المريبة. ولأنه عصر من الفراغ الروحي والشك الأخلاقي، تقع الحرب وتدمر الحضارة الميكانيكية، ولذلك يخاطب الشباب فيسميهم شباب الوثنية الجديدة المقادة بفكرة طوباوية وحشية دموية تدنيسية، ورفاق اللاشيء.

لقد كتب مترجم سيرة دالي إلى الإنجليزية أن مخطوطتها ربما تكون أكثر الوثائق تعقيداً وتخييلاً، فهي مكتوبة بخط غير مقروء وبلا علامات ترقيم تقريباً، وبلا تبويب. لكن غالا وحدها لم تفقد التوازن في متاهة المخطوطة: هكذا يكتب دالي الذي مهد لسيرته بتحديده لفكرتها على أنها قتل ما يستطيع من الأسرار، مصنفاً ما يرى فيها على أنه خطأه الشخصي. ولكنه سيفضل من بعد أن يحتفظ ببعض الأسرار إلى طبعة جديدة تكون نسخة معدلة، وفي منتصف سيرة دالي ما يؤشر إلى أنه كان يعدها رواية، ولئن كان ذلك يعزز تصنيف السيرة الذاتية لسلفادور دالي كرواية سيرية أو كسيرة روائية، فهي على أية حال بئر، لا تفتأ ينابيعه تتفجر، ليظهر دالي طالباً جامعياً متطرفاً، ديدنه أن يقوم بعكس ما يقوم به سواه، أو ليظهر متوحشاً وحيوانياً يتغنى بسحق جمجمة طائر صغير في فمه، أو جليساً لفرويد يكتشف سره المورفولوجي الذي سيؤثر على اللوحة التي رسمها دالي له. ومن مثلية الطفل في علاقته بزميله باخوس، إلى نسبه العربي الذي يعود به إلى سرفانتس، إلى تشبيه أخيولاته بانطلاق الخيول العربية، والتي تنتظر دوماً لسعة من المهماز الفضي لهوس دالي بالكذب، إلى (جنون عظمتي) كما يردد، إلى سجنه ومشاركته في مظاهرة وفوضويته (على طريقته)، إلى إدراكه أنه شخص استثنائي نزوي، إلى عمق تحليلاته النفسية لحكايات وأحداث وأشخاص، إلى نهمه في قراءة الرواية بخاصة، ومن فيلم الكلب الأندلسي، إلى فيلم العصر الذهبي، إلى (خبز دالي)، إلى تأثره بكلود مونيه، إلى علاقته بأندريه بريتون، إلى الرضّ النفسي إثر وفاة والدته العام 1924، إلى مساهمته الجذرية في السيريالية ومقته للسياسة.. من كل ذلك، يشمخ دالي مبدعاً يعبر العصور، محفوفاً بلوحات (انطباعات أفريقيا) و(لغز هتلر) و(المرأة النائمة) و(الأسد الخفي) و(الحصان) و(برج الرغبة) و(الحلم) و(اللعبة الحزينة) و(فتاة على النافذة) و... وبكل هذا الذي يكتنزه المتحف الذي أنشأه دالي لنفسه بنفسه، وفيه قبر غالا وقبره.

مشغول بالأحذية

تحفل نشأة دالي بالصور المقرفة والمرعبة، كما يروى عن قن الدجاج والقنفذ الميت فيه، وعن الصندوق الذي يودعه في القن، ويحتوي على الفأر الرمادي الذي سيصبح موديل لوحة. وفي قصة تفيض بالحب والخوف، هي قصة العكاز وقطاف براعم الزيزفون، يروى أن العكاز كان وسيبقى رمزاً للموت، ورمزاً للقيامة والبعث: رمزاً لموت دوليتا وغالوشكا ويدفيفا ولبعثهن. وقد كان دالي طوال حياته مشغولاً بالأحذية التي استخدمها في لوحات عديدة وفي مواضيع سيريالية. وفي العام 1936 مضى أبعد، إذ وضع الأحذية في اللوحات على الرؤوس. ويكتب أن الحذاء بالنسبة له هو العنصر الأكثر امتلاءً بالمزايا الواقعية، على العكس من الآلات الموسيقية التي كان يرسمها في هيئة متاع أو مسحوق، مثل آلات التشيلو التي ظهرت في هيئة لحم متعفن. وفي تعقيب على لوحة زوجي الأحذية التي قضى شهرين في رسمها، يقول إن من المفيد جداً أن يُلحَظ أنه في كذبة مرتجلة جاءت في ظروف روائية للغاية، تنبأ «بصيغة منصة فلسفية مدمجة مستديمة، تبلورت مع الوقت».