ينشئ الروائي العراقي في روايته عالماً هو مزيج من أقوام وأزمنة تمتد إلى طفولة البشرية وبقاياها البكر في غابات الأمازون إلى ذروة ما توصلت إليه الحضارة في الغرب ماراً بشريط الأزمنة والأمكنة في حانة تشبه العالم حيث تجري الحوارات المعلقة بالوجود والعالم والبشرية والرؤى والفلسفة في خلطة ممتعة.

عشبة الملائكة (رواية العدد)

حسن الفرطـوسي

 

إلى: البياض الذي اختبأ طويلا تحت ظلال أصابعي.. إلى انتصار ذياب، زوجتي وصديقتي.

 

الهلع يعم المدينة..

إنها نهاية العالم.. أو هكذا ظن الهاربون..

أعداد لا حصر لها من الحشرات والديدان العملاقة والكائنات الغريبة التي يصل حجم الواحدة منها حجم سيارة، تجتاح الطرقات بسرعة وتقتلع كل ما يأتي في طريقها من حوانيت خشبية وأكواخ وسقائف الباعة المتجولين.. منافذ المدينة غصّت بحشود الهاربين.. سيارات صغيرة وجرارات زراعية وشاحنات مكشوفة محملة بالبشر تتزاحم هاربة من جحيم المدينة..

الرعب يلتهم كل شيء..

الرعب يجعل الأشياء تتشابه، تتداخل خصائصها، تتلبس أشكال بعضها، لأنه يخترق خلايا الدماغ ويعطل نظام خزن صور الأشياء المستقرة هناك، ثم يتسلل إلى الوجوه ويجعلها متشابهة أيضاً، متشابهة لأنها تحمل صورة الرعب نفسه..

الرعب وحسب، هو ما التصق على وجوه الهاربين الذين لا يدركون تفاصيل ما يجري.. كل ما يدرونه هو ما تردد حول قيام هاريسا وميشيليني بقيادة جموع من الغاضبين وشنوا هجوماً على الحانة المقدسة وحطموا تماثيلها وخربوا كل ما فيها..

الحشود الهاربة تعرف دوافع الهجوم، وبعضهم كان متعاطفاً مع تلك الدوافع، لأن ضرر الشائعة التي أطلقت حول نهاية العالم مع حلول صبيحة اليوم الأول من العام 2000 قد شمل الكثير من سكان المدينة.. تلك الجموع الغاضبة كانت قد صدّقت الشائعة واستعدت لنهاية العالم بما لا يقبل التراجع، فمنهم من هجر أسرته ومنهم من أهمل عمله وأنفق أو أهدر كل ما لديه من مال، ومنهم من أغلق كل سبل مواصلة الحياة أمام نفسه، ولذلك فقد أغضبهم أن لا ينتهي العالم في الموعد الذي حددته الشائعة.

الغاضبون توجهوا نحو الحانة - مصدر الشائعة كما يعتقد معظم سكان المدينة - اقتحموها بجرأة غير معهودة وحطموا كل تماثيلها، لكنهم تفاجأوا بخروج حشرات صغيرة من بين حطام التماثيل، سرعان ما تضخمت وأصبحت حشرات عملاقة وبدأت بمهاجمة المدينة.

الشمس ترتفع شيئاً فشيئاً بلون وردي مبهر انعكس على تقاسيم وجه إبراهيم البحار وهو ينظر إلى إيماندا المستلقية بجواره ويحدثها بكثير من الزهو عن بهجة اللون الوردي الجديد الذي اصطبغ به الصباح، وعلاقته بولادة زمن جديد.. زمن السكر في حضرة الأنثى.. زمن يخلو من الآلهة المتجبرة المتغطرسة.

كانا يسيران على مهل باتجاه المدينة، على عكس تيار الحشود الهاربة منها.. يشقان طريقهما بثقة عالية أثارت ذهول بعض من رآهما.. قال لها "الزمن الوردي قادم حتماً.. البدايات دائماً تبدو مراحل عصيبة".

ودونما دعوة ولا تحريض عاد بعض الهاربين أدراجهم على خطى إبراهيم وإيماندا.. عادوا دون أن تختمر في أذهانهم سبل العيش في مدينة احتلتها الحشرات والديدان العملاقة الغريبة.

عاد بعضهم خلفهما بقرار غامض، يشبه دوافع هروبهم ويشبه قرار إبراهيم، البحار العراقي الذي قرر أن يترك سفينته قبل سنوات خلت ليمكث في مدينة السر والسرور هذه، مدينة (باليم دو بارا) المدينة المنبسطة بهدوء على تخوم غابات الأمازون التي توّجت شمال البرازيل بعمامة خضراء، حين سحره كل شيء في هذه المدينة التي التهمته بحكاياتها وغموضها، كما التهمت من قبله موريسو، مؤسس الحانة المهيبة وصانع الخمرة السحرية "نعم" بعد أن لفظته قبيلته الأمازونية (جازوتا).

 

الفصل الأول
السمكة بوتو

أغوته المدينة الساحرة.. فقرر البقاء.

ارتأى إبراهيم البحار أن يسلك الطريق الزراعي الملتوي المحاذي لنهر الأمازون العظيم، بدل الطريق الرئيسي الذي يربط بين الميناء التجاري الذي أرست فيه سفينته التي يعمل على متنها كمهندس بحري، وبين قلب المدينة، متحاشياً احتمال أن يلحق به رفاقه لإقناعه بالعدول عن فكرة البقاء، وهذا احتمال وارد جداً، لاسيما وأنه قد أفشى سرّ رغبته بالبقاء في هذه المدينة لأحد زملائه البحارة في لحظة خذلته حكمته فيها.

القرارات الغامضة تولد في جوف لحظات مبهمة، تختلط فيها الأولويات بين الأسئلة والأجوبة، فكانت ليلته الأولى أكثر غموضاً من قراره نفسه، فقد أمضاها مع "ميشيليني" في عناق لم يذق مثل لذته طوال حياته، على بعد ميل واحد فقط من الميناء.. لقد امضيا ليلة كاملة يحاولان فكّ أسرار لغة بعضهما، دون أن تكفّ هي عن القهقهة بغنج، ناسية بغلتها التي غرقت في مياه النهر منذ سويعات فقط.. تلك البغلة التي رافقتها طويلاً بنقل المنتجات الفخارية من موقع العمل في حيّ الفخارين إلى محل بيع التحفيات والأعمال اليدوية في الطرف الآخر من المدينة.

كان قد شهد لحظات غرق البغلة باندهاش بالغ، دون أن يحرك ساكناً، أو أن يتقدم خطوة واحدة لتقديم المساعدة لميشيليني وهي تصارع انفلات الحبل من بين يديها المرتجفتين، بينما انحدرت البغلة المسكينة في عمق لم تكن ميشيليني تتوقعه، كان ذلك أول مشهد يواجهه إبراهيم على عتبات المدينة، والذي لم يفهم تفاصيله إلا بعد سنوات من ذوبانه في غربته.

لقد اعتادت ميشيليني أن تأخذ قسطاً من الراحة في المكان نفسه تقريباً وفي كلّ مرّة وهي في طريق عودتها من المدينة، حيث تترك عربتها الفارغة عند شجرة المانجو العملاقة، لتسحب بغلتها المترددة، نحو المنحدر الواسع لنهر الأمازون.

لم يكن إبراهيم ليتخيل لحظتها أن البغلة ستغرق بهذه السهولة وبهذه السرعة، كان يعتقد أن ثمة انفعالات أو انقلابات كونية ستحلّ في ذاك الحين، كان يتوقع أن تحدث معجزة هائلة حال أن يتسرب الماء إلى أحشاء البغلة وهي تصارع الاختناق بشيء لطالما جفلت منه وارتعبت.. لم يكن مصدقاً ما حدث أمام عينيه.

كانت لحظات تنتمي إلى ذلك الغموض الذي دفعه للبقاء في هذه المدينة..

الشيء الوحيد الذي أعاده إلى واقعيّة المشهد هو ذهول ميشيليني بعد أن انفلت الحبل وغاص بعيداً يلاحق الوجع الغائر في عمق المجهول.

انتفضت ميشيليني مذعورة من الماء، كأنها تريد التخلّص من خطيئة موت مباغت، هرعت برعب إلى حيث تركت عربتها الخشبية، عند شجرة المانجو العملاقة.. حيث كان يقف إبراهيم وهو يراقبها.

فاجأها وجود هذا الكائن الموشح بالبياض قرب عربتها وفي هذا الوقت تحديداً.. اقتربت منه بخطوات بطيئة متوجسة. وقفت أمامه لاهثة، تزيح ما علق بجسدها البرونزي المنتصب من بقايا الماء، كآخر ذاكرة للموت الذي داهم بغلتها.

من يا ترى هذا الذي هبط بشكل عجيب في هذه اللحظة؟ "تساءلت ميشيليني وهي تسير نحوه ببطء".

وبهذه اللحظة بالذات؟!

انه بوتو!!

هو بوتو حتما!

بوتو ببذلته البيضاء وقبعته النازلة على عينيه.. يا الهي، إنه هو حتماً!

كان إبراهيم يرتدي البياض كزيّ تقليدي للبحارة، وقد غابت تعابير وجهه في تفاصيل المشهد ومفاجآته..

توقفت أمامه وقد تلبستها دهشة اللحظة التي انتظرتها طويلاً، لقد لمعت تلك الحكاية القديمة في ذاكرتها وتسرّب وميضها إلى كل خلايا بدنها المتنمّل بقشعريرة لم تألفها من قبل، كانت قد سمعت كثيراً عنه وعن حضوره المباغت..

بوتو!!

سمعت حكايات كثيرة من أفواه العجائز عن تلك القشعريرة التي تصيب الأنثى لحظة حضوره، وعن تلك اللحظات المرتبكة التي يمتثلن فيها بخشوع أمام سلطان وقداسة بوتو وسحره..

إنها سمكة حقيقية تشتهر بها شواطئ مدينة "باليم دو بارا" وهي بحجم سمكة القرش، الذكر يدعى "بوتو" ولديه أعضاء تناسلية ذكرية تشبه تماماً أعضاء الرجل التناسلية، أما الأنثى فتدعى السمكة "بوتا" وهي تحمل أعضاءً تناسلية تشبه أعضاء المرأة، إلا أن الأنثى بوتا تكاد أن تكون مهملة بالكامل في ذاكرة الناس وليس هناك أي حكايات تذكر عن مغامراتها مع الإنسان، فهي تبدو هامشية جداً في تفاصيل هذه الأسطورة البرازيلية، على حدّ تعبير السيّدة ليبوجينا، أستاذة مادة فلسفة اللغة في جامعة "بارا" الفيدرالية، فهي تقول بأن الشيء الوحيد الذي يمنح الأنثى بوتا مساحة ضئيلة في دفة الأسطورة، هو أن بعض الذين يعملون في مجال السحر ينتزعون عضوها التناسلي الذي يشبه فرج المرأة ويقومون بتجفيفه بعد أن يكسونه بطبقة من الملح، ثم يبيعونه في المدن البعيدة لاستخدامات أعمال السحر والشعوذة، ولولا ذلك لكانت الأنثى بوتا مهملة تماماً، على العكس من الذكر بوتو، فهو موجود في مخيلة كل إناث المدينة المتلهفات للقيا حبيب، وهو هاجس يشتعل في قلوبهن المترعة بالانتظار.

تقول الأسطورة التي رافقت هذه السمكة، بأن بوتو - الذكر - يتحول ليلاً إلى رجل بملابس بيضاء وقبعة نازلة على عينيه، ويأخذ جولة سريعة على الساحل، فمتى ما صادف صبية هناك، حتى استفرد بها واستحوذ على كيانها كله ببياضه الساحر، ليمضي معها ليلته بلذة لا تقاومها أي أنثى، ثم يختفي مع طلوع الفجر، تاركاً نواة الشهوة تتوغل بشغب في أحشائها، دون أن تنطفئ إلى الأبد، فتكتفي لذة الاشتعال بذاتها وتنتفي حينئذ الحاجة لبقائه.. حتى حين تنتفخ بطنها بجنين فهو ابن السمكة بوتو، وهذا بحد ذاته يعطي شرعيّة للحمل..

فبوتو يعد بنظر أهل المدينة والقرى المحيطة بها بمثابة الأب الحقيقي لكل من ليس له أب معروف.. ذلك لأن هذه المدينة مبتلاة بخلل سكاني فريد من نوعه وهو الزيادة الكبيرة في عدد الإناث على عدد الذكور بنسبة ثلاث عشرة مرّة، أي مقابل كل ذكر واحد، هناك ثلاث عشرة أنثى، حسب الإحصاءات الرسمية. وهذا ما دفع "فان ترين" الباحث الشاب القادم من الصين لاستكمال بحوثه المتعلقة بعلم اللسانيات عند السيدة ليبوجينا، بأن يربط بين هذا الخلل في التركيبة السكانية وبين أسطورة السمكة بوتو كوسيلة دفاعية تفرزها ذهنيّة الشعوب من خلال الأسطورة، للتغطية على الخروقات الأخلاقية التي تحدث نتيجة لمثل هذه التشوهات السكانية.

تراجعت ميشيليني إلى الوراء شابكة ذراعيها بغنج لا يخلو من المرارة، كانت تستدرج حلماً خفياً لطالما راودها في ليالي عزلتها بين تلال الفخاريات الصامتة، على الرغم من ضجيج نقوشها وإباحية الرمز فيها.. أوهمتها ملابس البحارين البيضاء بأنه بوتو.. وقد حضر في لحظتها المنتظرة.

قالت في سرّها:

- افرحي يا ميشيليني.. افرحي، إنها لحظة اختفاء الميزان في برج الدلو.. إنه بوتو وقد جاءتك لحظة السعد.

خطت نحوه، بينما راحت ذاكرتها تستدرج حكاية تلك الغجرية العابرة التي استوقفتها ذات نهار وألقت عليها طالعها على عجل، مقابل بعض ثمار جوز الهند، حينما قالت لها:

- لا تبتئسي، فاني أراك تذوبين بين يدي حبيب تداعبانك على رمل السواحل في ليلة مقمرة، ذلك يتوقف على لحظة دخول الميزان في برج الدلو.

اقتربت منه على استحياء، شكت له بتردد غرق بغلتها وبكت بنحيب تخلل تشابكات الأشجار العالية.. بكت بحرقة حتى شمّت رائحة جسده وهو يضمها إلى صدره بهدهدة ناعمة، تكوّرت بين يديه كجنين اجتذبه سرّه بوجد وتعلق بحبله الآمن.

كانت لحظات ميشيليني غائرة في البعد عن عمر الزمن، حين أغمضت عينيها مستسلمة لخفقان قلبه الذي أضحى كقرع طبول أمازونية مجنونة. كانت كمن هرب من الدنيا واختبأ في مكان ليس بوسع مخلوق وصوله. تطاولت معها فيوضات بوتو، حتى غدت قدماها لا تقويان على الثبات وتراخى جسدها الناحل عالقاً بتفاصيل العتمة ودهشة الاستسلام لشهوة لا تمنح نفسها إلا لأولئك الذين أحبتهم ملائكة السماء ورشّت عليهم شيئاً من مزاج الآلهة.

كانت مستسلمة تماماً بين يدي إبراهيم اللتين راحتا تجوسان بذكورية غير محتشمة كل المساحات البكر من جسدها وتطاولت كفه على استباحة حقول زغب ساقيها المستنفر، في رحلة التوغل عمقاً نحو اصطياد الشهوة.

هل كان ذلك اصطياد للشهوة، أم عمليّة غرس لها؟!

لم يكن لمثل هذا التساؤل الوجودي ليطرأ على ذهن إبراهيم الذي غرق هو الآخر بين حالة الاضطراب التي خلفتها الخطوة الأولى من قراره بالبقاء في هذه المدينة وبين ذهول مصادفة لقاء ميشيليني.. تلك المخلوقة المرتجفة الخائفة، التي بدت له نحيلة وكأنها طائر خذلته جناحاه تحت المطر.

أمضيا ليلتهما يتقلبان على العشب الندي بتأوهات جامحة اللذة. حلقا في لحظة انقطاع عن العالم وتفاصيله، في لحظة شغب وجداني منسية في عمر الزمن.. لحظة تفرّغ تام لتذوق الجسد.. للعودة إلى مروج الإنسان البدائي الطيب.. انتزعا لحظتهما من صخب الوجود وغابا متلاحمين على بساط الأرض الأخضر.

انعكس ضوء القمر على خدها وهي تميل بجسدها لتستقر تماماً في حضن إبراهيم، بينما انشغلت أصابعها النحيلة تداعب شعر صدره وهي تردد بصوت متهدج "بوتو.. بوتو".. مدت شفتيها وراحت توزع قبلاتها الملتهبة بين عنقه وكتفيه، كانت تتحدث معه بلغة غير مفهومة، ثمة تزاحم بين الفعل والقول، الزمن محدود، ففي الصباح سينتهي كل شيء، أو هكذا كانت تظن.

كانت نسمات الصباح الأمازوني مشبعة بروائح الثمار التي تحملها سفن القرويين الصغيرة والتي تتهادى منحدرة نحو قلب المدينة.. أيقظتها تلك الروائح وحملتها نسائم الصباح من حلم ليلة سرمدية إلى جهة أخرى، جهة تولد فيها الحقيقة من أحشاء الحلم.

كان إبراهيم لم يزل يتوسد ساعده، مفترشاً طراوة العشب، يتقلّب في نومه كما يفعل تماماً في غرفة نومه الصغيرة المخصصة له من بين غرف البحارين.

إنه لا يزال حاضراً!

تغيرت تعابير وجه ميشيليني وهي تتفحصه كمن عثر على ملاك عجوز حط بجناحين أرهقتهما طرق السماء..

لم يكن بوتو إذن!

"يا ويحي! إنه لا يزال موجوداً! من يكون هذا بحق السماء؟".

أذهلها عدم غيابه والتهمتها حيرة طائشة.. تسللت أصابعها لتتعقب آثار الشهوة في جسدها، تحسست غليان اللذة التي تركتها مغامرة الليلة الماضية..

تمددت قبالته متوسدة ساعديها وراحت تتفرس في وجهه وهو يغط في نوم عميق.

* * *

ضحكت بلا وجل وهي تسحب العربة الخشبية، بينما انبرى إبراهيم يدفعها من الخلف حتى استقرّت على الطريق الملتوي عبر غابات أشجار المانجو العالية، والمؤدي إلى حيّ الفخارين، على تخوم مدينة "باليم دو بارا" الساحلية.. كان عليهما أن يسحبا العربة الفارغة إلى حيث المكان الذي تسكنه ميشيليني؛ فالبغلة التي كانت تسحبها بضجر كل يوم، غيّبها تيار الماء بعيداً.

كانا يسيران سوية ويتجاذبان أحاديث تقطعها ضحكاتها بين الحين والآخر، كانت تضحك كلما تذكرت الليلة الماضية التي أباحت له خلالها بكل أسرار حياتها وكل هواجسها وكأنها تتحدّث مع مخلوق قادم من الخفاء ليعود إليه صباحاً، لكنها أيقنت الآن بأنه كائن لا يغيب، أنه رجل حقيقي وليس بوتو مفترضاً..

رجل حقيقي سيشاركها الكوخ الخشبي المرميّ في إحدى زوايا حارة الفخّارين.. ظنها تضحك على لغته البرتغالية الركيكة، دون أن يشكل له ذلك أي هاجس مزعج، لأنه اعتاد التعامل مع لغات مختلفة طيلة السنوات التي أمضاها بحاراً يطوف عوالم الشرق والغرب.

اقتربت منه وهمست في أذنه شيئاً وهما يواصلان سيرهما، بينما العربة الخشبية تتهادى على طريق المنحدر الأخضر:

- أنت لذيذ، لذيذ جداً، هل ستبقى معي؟ "قالت ذلك وهي تمرر كفها الصغيرة لتعديل ياقة قميصه الأبيض".

- نعم، نعم. "أجابها إبراهيم بشرود".

- ظننتك بوتو طوال الليلة الماضية، سامحني، لقد أرهقتك بشكواي وحزني.. هل تعرف بوتو؟ "سألته ميشيليني وهي ترفع بوجهه قبس ألفة خفية يخضع لها كل غريب".

- لا.. لم أسمع به من قبل.

- أنت ألذ منه بكثير. "وقد غمزته بنظرة تفوح شهوة".

دنا منها وقبلها من دون أن يقول لها شيئاً.. تنامت القشعريرة في بدنها من جديد ولمعت وجنتاها بزهو طافح.. واصلا مسيرهما عبر المنحدر الأخضر والذي هو دلالة الوصول إلى حيّ الفخّارين وتمنّت لو أن الطريق لن ينتهي أبداً!

- سنصل قريباً، بعد أن نتجاوز هذا المنحدر.

- نعم، أستطيع تخمين ذلك. "قال ذلك مبتسماً وهو يشير بأصبعه إلى أنفه".

- لا تقلق يا حبيبي، فان أفران الفخار تعمل في الصباح فقط.. ستعتاد على هذه الروائح لاحقاً.

قالت ذلك بتوسل لم تستطع كتمانه بعد أن أربكتها كلمة "حبيبي" لكنها في اللحظة ذاتها لم يفتها أن تتفرس في وجهه لتراقب وقع الكلمة على ملامحه، كانت تريد أن تراه في وضوح النهار، كأنها تتفحص ملامح أرهقها البحث عنها في ظلام الليلة الفائتة.

لم يكن إبراهيم متردداً فيما هو متجه نحوه، إنه منساق تماماً لأبسط رغبات ميشيليني التي لم تكن تستوعب ذلك كله.

يا له من هناء عظيم لم تحلم به يوماً عانس على عتبات الأربعين بين رهط عوانس يملأن أزقة حي الفخارين.

في نهاية المنحدر الأخضر هاجمتها هواجس ليس بوسعها السيطرة على ترتيبها، فهي غير مستعدة لمواجهة فضول صديقاتها اللواتي سيصبن بالدهشة حتماً، حين يشاهدنه معها، رجل وسيم بشارب كثيف يغطي شفته العليا، لابد وأنه سيكون مثار إعجاب ودهشة لجميعهن، بل هي على قناعة تامة بأن ثمة من ستحاول انتزاعه منها عنوة ودون أدنى حياء.. دعته لأن يأخذا قسطاً من الراحة في نهاية المنحدر، على الرغم من قربه من بداية الحيّ الذي يتوجهان إليه، كأنها تريد أن تتأكد من شيء، أو تؤكد شيئاً، أو توضح، أو تضلل، أو تكذب عليه، أو تصدقه.. لم يكن بوسعها في تلك اللحظة المريرة أن تعرف ما الذي تريده تحديداً.

تربعا على العشب البارد متقابلين بعد أن طرحا العربة جانباً، حاولت أن تتذكر وبلا جدوى، كل الذي حدث منذ أن اكتشفته ممدداً بجوارها صباحاً.

كل الذي تذكرته بأنها غنّت له أغنية لا يفهمها إلا بوتو، كآخر اختبار له لكي تثبت أنسيته:

  • كاكو كاكو ما كاكو أو كاكو ما كاكو وا" ازدادت يقيناً بأنه ليس بوتو، لو كان هو، لأكمل الأغنية معها وراقصها على أنغامها.. هذا ما تقوله الأسطورة.

كانت الأغنية بلغة ميتة لا يتحدث بها سوى قبيلة من الهنود الحمر، أغرقهم الشيطان في وادي الغناء الذي يقع في باطن نهر الأمازون، ويقال إن بوتو تعلّم هذه الأغنية من أولئك القوم، ليراقص بها الفتيات اللواتي يصادفنه على شواطئه المنتقاة.

عليها أن تفكّر جيداً قبل دخول الحي، فهناك نسوة كثيرات لا يتورعن عن إعلان وقاحتهن في اصطياد الرجال، فكّرت أن تهرب به إلى مكان آخر، غير حي الفخارين، ولكن إلى أين؟! فالنسوة المحرومات يملأن كل زوايا المدينة وطرقاتها.

أمسكت بكفه وضمّتها بكلتا يديها وراحت تتأمل تقاسيم وجهه، علّها تعثر على يقين من عدم خذلانها.. الخسارة والخذلان، هاجسان دائمان يطوفان حول قلبها، منذ أن وعت على هذه الدنيا، يتيمة تخبئ حطام روحها في كوخ بائس غاص هو الآخر في حطام فخارها..

قالت له بصوت مرتجف ما لم تقله من قبل على الإطلاق، كانت شاردة ببصرها نحو الأفق البعيد الذي يلامس حافة المنحدر:

  • ابق معي؟! سأريك ما لم تره من قبل، سأمنحك كل ما بوسعي، سأكون مملوكتك التي ترفع رايات الشبق الوردي على رأسك كل ليلة؟! سأهبك كل ما تتمناه روحك، ابق معي أرجوك؟
  • له عن نهديها النافرين "أنظر.. كم أنا جميلة" انتابها شيء من التردد، وتنازعتها لحظة مشحونة بالصراع بين الرغبة والحياء.
  • ينطق إبراهيم بشيء.. اكتفى بالنظر ملياً إلى ابتسامتها المريرة وملامحها المرتبكة، قبل أن يواصلا طريقهما إلى حي الفخارين الذي اكتسب شهرته من خلال شهرة الحانة التي أسسها ذلك الأعور المطرود من قبيلته الأمازونية قبل سنوات طويلة.

 

الفصل الثاني
الأعور

علّ هذه الرحلة تزيح الهمّ عن قلبه..

على مفترق الطرق وقف إبراهيم يتأمل المكان وخصوصيته الفريدة، فهو بين مدينة تمنح الحضور ومقبرة يصنعها الغياب وحانة تختلط فيها ملامح الحضور والغياب.. لم يكن بحاراً وحسب حينما أمضى حياته متنقلاً بين موانئ الشرق والغرب، بل كان باحثاً عن شيء لم يدرك ماهيته، ذوبان في عشق، غياب في سكر، شيء ما يملأ رئتيه ويغبط سريرته.. كان من العسير عليه أن يصف ما يبحث عنه وما دعاه للبقاء في هذه المدينة، صعب عليه أن يشرح كل ذلك لميشيليني المنشغلة بفرحتها بالحصول على رجل يملأ حياتها، وعسير عليه أن يفسر لها بحثه عن شيء من قبيل الرضا التام عن الذات والذوات الأخرى؟ فكان يتأمل المكان بصمت يخفي صخباً عظيماً يدور في رأسه، لم يقطعه إلا ضجيج طائرة عابرة اقتربت من الهبوط في مطار المدينة القريب من حي الفخارين قادمة من الصين.. لم يكن إبراهيم يعلم أنّ تلك الطائرة كانت تقل بين ركابها، طالبة الدراسات العليا "هاريسا" وحبيبها الشاب الصيني "فان ترين" والتي قالت له في ذات اللحظة وهي تشير له من خلال نافذة الطائرة "هنا ترقد كل الأشياء بأمان"، وكان ذلك آخر ما أخبرته عن تاريخ حي الفخارين وحكاية الحانة التي أصبح لها شأن لا يضاهى في أوساط أهل المعرفة والفلسفة والسياسة والاجتماع.. وكانت هاريسا تقص عليه حكاية موريسو طوال ساعات الرحلة:

كان اسمه موريسو.. وكانت قبيلته "جازوتا" الغائرة في عمق غابات الأمازون تتفاخر به دائماً من بين شبانها الفرسان.. كان طويل القامة واسع الكتفين، لا يجاريه أحد في اصطياد الخنزير البري أثناء رحلات الصيد التي اعتادوا القيام بها في بواكير صباحاتهم، حيث يعودون مساءً محملين بما جادت به أحراش وشواطئ الأمازون من أسماك كبيرة الحجم وطيور متنوعة وخنازير وحيوانات مختلفة، تتقاسمها أسر القبيلة كل حسب حاجته، بطريقة مشاعية صرفة.

القبيلة تعيش في سور دائري ذي باب واحد، لا يدخلها إلا أفراد القبيلة ولا يسمحون أبداً بدخول أي غريب دون أن يأخذ إذناً مسبقاً من شيخ القبيلة، وعلى طول الجانب الداخلي من السور بنيت سقائف من سيقان الأشجار على شكل غرف بذات النسق، ليس بينهم من يمتلك شيئاً غير الذي عند الآخرين، فجميع مقتنياتهم متشابهة، بما في ذلك مقتنيات شيخ القبيلة.. حصران وأغطية مصنوعة يدوياً وأدوات صيد وزراعة وأواني طهي، هي ذاتها عند جميع الأسر.. كان سكان تلك القبيلة، ولوقت ليس ببعيد، يتحدثون لغتهم الخاصة ولا يجيدون التحدث باللغة البرتغالية إطلاقا، إلا أن دخول الباحثين والمغامرين والساعين وراء كنوز سمعوا عنها في الأساطير القديمة، قد نقل لهم اللغة البرتغالية، لكنهم على الرغم من كل ذلك الغزو اللغوي الذي تعرضوا له، حافظوا على التعامل في ما بينهم بلغتهم الأم، كما هو حال القبائل الأمازونية الأخرى، على الرغم من أنها لغات محكية وغير مكتوبة ولكل قبيلة مهما كانت صغيرة لغتها الخاصة.

في إحدى رحلات الصيد التي كان موريسو يتزعمها دائماً، طاردوا خنزيراً برياً ضخماً وقد أتعبهم كثيرا ذلك الخنزير العجيب الذي لا يتوانى عن الدخول في أكثر الأحراش كثافة، علّه يتخلّص من نبالهم ورماحهم وحرابهم الحادة المشدودة على أطراف عصيّهم.. وقد أمضوا في مطاردته وقتاً طويلاً، وكان الخنزير يراوغهم ويخاتلهم بين كثافة الأحراش وسيقانها المتشابكة، حتى أصابهم التعب والإعياء وعدم التركيز وجعلهم يصوبون نبالهم على بعضهم خطأً، من شدة الإرهاق.

في تلك الحادثة أصيب أحدهم في ساقه وأصيب موريسو في عينه..

عادوا إلى القبيلة والدماء تسيل من عين موريسو ومن ساق رفيقه الآخر، حزن الجميع عليه وحزنت الصبايا العاشقات لموريس الوسيم ذي العضلات المفتولة الذي أصبح كريم العين..

كان موريسو يشكل حلماً لجميع صبايا القبيلة، بل إن هناك عاشقات من قبائل أخرى مجاورة كنّ مؤمنات بفكرة ظهور "بوتو" والذي لا توحي مخيلتهن عن هيئته سوى شكل موريسو، وهذا ما اعترفت به إحداهن ذات يوم، بحضور زوجته التي كانت هي الأخرى من مريدات "بوتو"، وكانت تغار عليه كثيراً، مما جعلها تقوم على الفور بإحضار شيء أشبه بالبوق الكبير وبدأت تزمّر فيه بقوة، لطرد الحسد وإخماد شرور الفضول..

كانت زوجته تعشقه حدّ العبادة وتغار عليه حتى من أدوات الصيد حين يتأبطها.. ويحكى أنها صبرت طويلاً وتحدّت منافسات كثيرات، لسن أقلّ منها تدبيراً، من أجل الفوز بموريسو، وقد حصلت على ما تريد وهي التي لم تكن أجمل من أي من المنافسات، وقد أثار ذلك دهشة الجميع حين اختارها موريسو زوجة له.. وقد قيل بأنها وضعت له سحراً لا يعرف تدبيره سوى الذين لديهم مخاطبات مع الجان وسكان الغيب، إلا إنها كانت دائما تتظاهر بالعداء مع من يتعامل في أمور السحر والشعوذة.

في بداية الأمر كان موريسو "كريم العين" ليس إلا، لكن توالي الأيام على تدفق الفضول الفطري الذي لا يقاومه سكان قبائل الأمازون في النظر إلى الانطفاء الذي اقتحم عينه اليسرى، جعل منها عورة لا يحسد عليها فارس مثل موريسو.

بدأ كل شيء في مواجهته ينطلق من عينه المنطفئة.

من عورته..

من جرحه الغائر في أعماق لا يدركها سواه..

لقد بدأت رحلة الوجع معه حين بدأت أحاديث جميع أفراد القبيلة لا تخلو من ذكر عينه المنطفئة على أنها "ليست عورة".

أحاديث بدأت تتكرر وتدور حول نفسها بطريقة لا تتعدى حدود "العورة".

"الرجل لا تعيبه عينه الكريمة".

أو ما بدأت تردده زوجته نفسها:

"العين الكريمة لا تعتبر عورة، وإن سميت بعوراء".

كانت زوجته معروفة ببلاغة القول ورصف الكلام، فهي حكواتية من طراز فريد، لاسيما في تسطير الحكايات تلو الحكايات عن طهارة ونبل وجمال بوتو، فأخذت تدافع عن عورة زوجها أمام الشامتات بها، طوال النهار، حتى أصبح الحديث عن عينه العوراء هو الحديث الوحيد الذي تجيده بحكمة تضاهي حكمتها ومعرفتها بأسرار بوتو المنتظر وتفاصيله..

انتقلت عدوى الحديث عن عينه "العوراء" إلى مخدعهما الليلي، إلى سريرهما المعلّق في السقيفة، وبدأت زوجته تحدثه عن كل أحاديث صبايا القرية عن عينه العوراء..

كان وجهه يحتقن كلما توغلت أكثر في العبث بخاطره وقد ترجاها بانكسار، بأن لا تعيد الحديث ذاته في كل مرّة.

  • معذرة يا حبيبي، لم أقصد إيذاء مشاعرك. "قالت ذلك بودّ أخمد قليلاً من غليانه".
  • أنا لست سوى صياد يا حبيبتي، لا أحتاج إلا لعين واحدة. "قال ذلك بنفاذ صبر".

وقد كفت بالفعل عن الحديث الذي نهاها عنه ولكن شعوراً خفياً تسرّب إليه، بأنها بدأت تحرص أن تكون على جانبه الأيسر دائما وكلّما استدار هو إلى جانبها الأيسر، استدارت هي مرّة أخرى، أو تحاول دائماً أن تضع له الأشياء على جانبه الأيسر، على جهة (الخراب) نفسها كما وصفها هو نفسه حين انفجر بوجهها في نهاية المطاف:

  • قلت لك للمرّة الألف أن لا ترهقيني في البحث عن الأشياء؟
  • الأشياء كلها أمامك، أنت الذي لا تراها، ماذا أفعل لك إذا كنت لا ترى إلا جهة واحدة؟! "قالت ذلك بطريقة من استحضر جواباً موجعاً وخبأه لهذه اللحظة".

غمغم بكلام لم تفهم منه شيئاً، وأشاح ببصره عبر باب السقيفة نحو ظلام الغابة الممتد عميقاً.. وبلا طائل راحت نظرات عينه الوحيدة تجوس تلك العتمة الخالية الأبعاد، فإلى أي عمق تمتد أيها الظلام؟ وإلى أي تيه أبدي ستغادر تلك النظرات؟

كانت التساؤلات تباغت ذهنه بشكل خاطف، كارتطام الحشرات العمياء في وجهه ليلاً، فحاول استعادة هدوئه وقال لها:

  • إذا كنت أنا بعين واحدة ولا استطيع أن أرى الأشياء، فأنت بكامل عافيتك ويمكنك التحرك إلى اليمين قليلاً. "قال ذلك بصوت منكسر يائس".
  • أنا آسفة حبيبي، ما كنت أقصد إيذاء مشاعرك ولم أقصد تذكيرك بعينك العوراء.

صمت لبرهة.. تأمل ملامح زوجته كمن يراها للمرّة الأولى.. لقد كفر بكل شيء.. ولملم كلماته ليقذفها في وجه القبيلة كلها وغادر بعيداً بعد أن استقرّ ما قاله في أذن زوجته التي لم تره بعد ذلك أبداً.

  • أنتم أوغاد.. أوغاد وحسب.. لا تستحقون أن أشارككم في الهواء نفسه الذي تتنفسونه، فأنا استخسر النظر إليكم بعيني الواحدة، بل إنكم لا تستحقون أن أنظر إليكم بنصف عين حتى!.

غادر موريسو بعيداً، نحو المدن المضاءة التي سمع عنها كثيراً وحلم أن يكون فيها ومنها واليها، كان يتمنى أن يذوب في لمعان الواجهات الزجاجية التي كان يشاهدها في الصور التي يريها إياه الباحثون العلميون مقابل تأديته لبعض الخدمات لهم أثناء مواسم عملهم في الغابات.. غادر نحو مدن عامرة بجدران صلدة، متينة، يضيع في زحامها أبناؤها أنفسهم كل يوم، فكيف لقرويّ مثل موريسو وبعين واحدة أن يجد ملاذا فيها؟!

تمكنت منه المدينة.. وذاق وسمع وشمّ ولمس ورأى كل ما رسّخته قوانين القبيلة التي رفضها.. كانت قوانين القبيلة تقول:

"إن كل من خرج من القبيلة واتجه نحو مدن الأنوار المصطنعة، كوجوه عاهراتها، وقد تنجست روحه بأنوارها الزائفة، تحرّم عليه العودة إلى القبيلة مرّة أخرى".

دارت به الشوارع والطرقات واستلبته أزقتها وبيوتها الضيقة الدبقة.. تنقل بين أعمال مختلفة وسكن أماكن عديدة وعرف أخبار بائعات الهوى وأطفال الشوارع واللصوص.. تسللت الغربة إلى دواخله دون أن يعيها..

الغربة بلاء يتلبس الكائن بغموض يفترس الروح ويكتسح كل مساحات البهجة فيها، إنها رحلة مجهولة في متاهات الكشف ومواجهة خبايا الكائنات وأسرارها.. فحين تبلغ الغربة مداها يتحول فيها الحزن إلى كتلة محصّنة لا يخترقها حتى البكاء، وهذا آخر ما اكتشفه موريسو بعد نوبات البكاء التي كانت تحاصره وحيداً في لياليه الخانقة وحتى تلك الفسحة من السكينة التي يخلفها البكاء عادة، لم تعد تأتي بشيء يطفئ ما في قلبه من شوق لمروجه الخضراء التي ودعها، وسور قبيلته الذي حرّم عليه حرمة أبدية، فتلك السكينة بدت له كمن يسرق ما ليس له وكأن السكينة حرم عليه كما هو سور القبيلة.

ليس ثمة ما التصق في ذاكرته من تلك المدينة الباهرة بأضوائها، فالمدن الكبيرة تبتلع الغرباء من دون أن تترك لهم ذاكرة تستقر فيها..

هدّته الغربة وجذبه الحنين إلى قبيلته والى حلقات الرقص في الليالي المقمرات، حنّ إلى مراهناته مع أقرانه في ملاحقة الحيوانات البرية واصطياد الطيور المهاجرة، تذكّر بشوق لا يقاوم، جلسات تناول ثمار الـ "أسايي"* حين يستلقي على ظهره بينهم ويبدأ بالهذيان عن عشقه للماء وللغابة وللحياة، كان يبهرهم جميعاً بقوله العذب الذي يلامس مشاعرهم بعمق لا يتمكنون من الوصول إليه والإفصاح عنه، فيقرعون طبولهم الصغيرة ابتهاجاً...

تذكّر ذلك كلّه وروحه تحتضر بين جدران غرفته الضيقة.. شرب زجاجة "كاشاسا" كاملة، سكر حد الترنح وراح يترنّم بأغان قديمة غادرتها سفائن العشاق وهجرتها وسائد العذارى، بكى في تلك الليلة كثيراً ولمّا انتهت نوبة البكاء، قرر بشكل مفاجئ أن يعود إلى قبيلته!

ترك كل شيء خلفه دون أن يلتفت إليه وغادر عائداً..

لم يكن لديه ما يأسف على تركه، أو ما يودعه، أو يحزن على فراقه في هذه المدينة الواسعة الأرجاء..

اعتصرته روحه حين تنبّه بأن لا أحد يشيّعه في ترحاله، ولا من يواسيه على خيبته، سوى ظلّه الذي رافقه، متقزماً، مظلماً.. خيّل إليه بأنه يشبه ظلّه الذي يغادر أفياءه سريعاً وبلا مبالاة.. استأنف سيره وهو يتابع ظلّه ويناجيه بحزن:

  • إيه يا رفيق دروبي التي لا تنتهي إلى مكان!! ها نحن وحيدان على طريق العودة يا صاحبي.. ولا أدري من منّا يتبع الآخر!
  • أنا شاهد على خطاك ليس إلا، شاهد لا أبوح بخساراتك المتراكمة.. هذا هو قدري وقدرك يا صاحبي، فلا سبيل لخلاص أحدنا من الآخر ما دمت أنت ترى الأشياء، حتى لو كانت رؤيتك بعين واحدة.
  • مشكلتك أنك مؤمن بخطواتي على الرغم من كل العثرات التي كنت شاهدها وشهيدها.
  • أنا لا أؤمن بالأشياء بشكل مطلق، لذلك تراني أختفي حينما تحل العتمة، لكن سرّ التصاقي بك هو استسلامي للقدر الذي أسقطك بيني وبين مصدر النور.

كان طريق العودة مشحوناً بحوارات عقيمة بينه وبين ظلّه، وبهموم وهواجس متناقضة يغلب عليها اندفاعه للعودة على الرغم من معرفته بقوانين القبيلة.

في القبيلة طردوه!

شيء متوقع..

طبع الشيخ صفعة على خده وطرده كأي نجاسة ينبغي التخلّص منها، وتابعه بأقذع الألفاظ والشتائم، تابعه بكل الشتائم التي يعرفها، حتى تلك التي يتداولها الأطفال..

انفجر حشد من الأطفال خلفه، يلعنونه ويرجمونه، حال أن اتخذ الشيخ قراره السريع الذي لم يدع له فرصة للكلام.. تابعوه بالشتائم وتباروا على إظهار رفضهم له وتنافسوا على إظهار القبح.

هرب.. ووجهه إلى الوراء هذه المرّة.. هرب وعلامات الذهول تكتسح وجهه الشاحب وهو يجري هلعاً، تعثر في الأحراش وتمزقت ثيابه، بانت على جسده آثار وخدوش الأغصان التي أعاقت طريقه وبعثرته مرات عديدة في السواقي الصغيرة المنتشرة في الأرض كشرايين تتبادل ديمومة الحياة..

كان يجري لاهثاً، مبتعداً عن سور قبيلته وقد أريق خاطره بتراكم الخيبة مع القسوة التي لم يكن يتوقعها..

يا له من مزيج مرعب، ويا له من تشوّه مروّع، أن تجتمع القسوة مع الخذلان!

كان الركض هو استجابته الوحيدة لكل الذي ترسب في داخله من انكسار وخيبة، الركض وحسب، إجابة مكثفة لكل شيء قابل للمحو.. جرى إلى حيث لا ذاكرة تهرس الروح لتجعلها كما ثمرة تين يانعة.. انتهى متهالكاً عند نهره الحزين الذي مضى عليه وقت طويل ولم يذق طعم شباك موريسو.. اغتسل فيه ليزيح عنه غبار الحزن والتعب، تمدد قرب ضفة النهر، ينصت لدقات قلبه المتسارعة، تابع الأشجار العملاقة المنحنية من الحافة العالية للضفة الأخرى وهي تكاد تلامس بأغصانها المتدلية صفحة الماء المتكسرة الزاحفة بهدوء نحو الطراوة الكامنة تحت ظلالها.. تلك الظلال التي احتضنته طويلاً بقاربه الصغير، هي التي بعثت بندائها الخفي إلى قلبه أن يعود.. تأملها مليّاً.. استغرق فيها.. ثم اختطفته إغفاءة حامت على جفنيه قليلاً قبل أن تبتلعه إلى أعماقها.

* * *

لم تكن حارة الفخّارين سوى امتداد لمقبرة قديمة تقع على أطراف المدينة من جهة الطريق القادم من قبيلة "جازوتا".. كانت فيما مضى مجموعة فخّارات صغيرة أحيطت بها أكواخ يقطنها العاملون في صنع جرار فخارية كبيرة الحجم، اعتاد سكان تلك المدينة أن يضعوا موتاهم بداخلها قبل توريتهم التراب، ثم توسّعت مع توسّع المدينة وتطورها، فأنشئت أفران لفخر أشياء أخرى بالإضافة إلى جرار الموتى، أطباق فخارية متعددة الأشكال والتصاميم منقوش عليها شعارات مختلفة لأندية رياضية وأعلام فرق كرة القدم، منافض للسجائر، نماذج صغيرة لسفن شراعية، سنادين زهور، تماثيل بأحجام متناهية الصغر لشخصيات أسطورية وتاريخية وأشياء فخارية كثيرة أخرى.

توقف موريسو أمام جرّة من جرار الموتى، تساءل مع نفسه عن معنى النقوش والزخارف فيها.. قادته نظراته مع انحناءات الخطوط النازلة إلى أسفلها، حيث تتجمع نهاياتها بضفيرة واحدة عند نقطة يرمز فيها إلى جنس الميّت، فجرار الذكور ينحت في أسفلها نتوء صغير أشبه بعضو الرجل التناسلي، كذلك جرار الإناث وبنقطة مشابهة ينحت شكل عضو المرأة..

ما فائدة التأكيد على الذكورة والأنوثة في عالم الأموات؟! وما معنى أن يغادر الكائن بعورة مكشوفة بعد أن حرص على سترها طوال العمر؟! تدفق في داخله فيض من أسئلة لا يجيب عليها إلا الموتى أنفسهم، فكيف تستقيم أسئلة الأحياء مع أجوبة الأموات؟!

ثمة أسرار في تلك الجرار، قد يختبئ فيها جواب يطفئ نار القسوة والجفاء التي أوقدتها قبيلته في صدره!

عند المساء شاهد الصبايا ينقشن على أعمال الفخار ويزخرفن الجرار ويتنغمن بوصايا نسجتها قلوب أدركها بلوغ الكشف قبل الأوان:

"أيها الراحل..إهدأ قليلاً وستوقظك دفقة نور يبوح نسيجها الوردي بنقاء لا خلل فيه، وستبلغ حينها ما لم تدركه مجساتك الحسية".

"أيها الراحل.. رقعة شطرنج بان فيها سواد وبياض، فلا تلتفت إليها.. ودع قرينك يوغل في تيه لا قرار له".

"أيها الراحل.. معراج شك ومعراج يقين، ونقطة تتجمع فيها نهايات الخطوط في أسفل الجرة، فهي ثنائيتك المحكمة وحيرتك الأبدية".

جلس على مقربة منهنّ يحاكي نفسه، فكّر في الشقاء الكامن في غناء الصبايا.. تفتقت أمام عينه الوحيدة وديان يلفها الغموض، غموض يستحق أن تكشف معانيه.

إنها دوامة لا تنتهي، غليان لا يكف عن السعير، محنة مريد مجبول على شيء تلبّست موريسو في تلك اللحظة التي لم يعد يذكرها بعد مضي زمن الوحشة عليها، إنه الشقاء الذي ليس بوسع الإنسان التحكم في بدئه أو منتهاه، شقاء البحث عن الحاضر والمجهول في تفاصيل الوصايا.

قرر البقاء في حي الفخّارين..

أحبه..

استدرجته حكمة المكان للبقاء، فقرر أن يصير فخاراً.

أحبّه شيخ الفخّارين وعلّمه صناعة الجرار..

انغمست روحه، تجوس أغوار كثافة الصلصال، تأمل الطين وهو يفر من بين كفيه ليعود طائعاً من الجهة الأخرى وهو يبرم بقدميه الأسطوانة الحجرية لآلة الفخار الدوّارة.

  • ها أنت تجيد تحريك يديك بمعزل عن حركة قدميك، أنت تتعلّم بسرعة "قال كبير الفخارين بإعجاب وبنبرة لا تخلو من التشجيع".
  • لقد أمضيت حياتي صيّاداً، وقد اعتدت أن أقذف نبالي من يد ثابتة باتجاه طريدتي وأنا أركض. "قال موريسو دون أن يتمكن من إخفاء نزعة التفاخر التي يعشقها فتيان الأمازون".
  • نعم، نعم. "قال كبير الفخارين موافقاً، ثم أردف"
  • العملية لا تختلف كثيراً، فقدماك وأنت صيّاد، تجري لتحرّك جسدك على الأرض الثابتة، أما الآن وأنت فخّار، فالأرض هي التي تدور تحت قدميك.
  • والى أين في النهاية؟! "قال موريسو بحزن".
  • إلى الاصطياد طبعاً.
  • إلى الاصطياد أم إلى الجري؟!
  • الاصطياد هو الفعل الثابت الذي ليس بوسعك إيقافه أو التخلّي عنه، أمّا الجري فهو فعل متحرّك، تتبيّن حاجته وفق طبيعة الصيد وماهيّته.
  • وماذا سأصطاد بهذا الجري مع وصايا الموتى وجرارهم؟! "تمتم موريسو بنبرة مترددة وبصوت خنقه اليأس وقد وصل إلى مسامع الشيخ بشيء من الذبول".
  • هذا ما ستعرفه إذا ما استمرّت الأرض بالدوران تحت قدميك.
  • الحكمة التي نطق بها شيخ الفخّارين...

حط رحاله في الحي.. وراحت أصابعه المعروقة توغل في الطين الصامت لتحيله إلى انحناءات وتكورات وزوايا قادرة على استيعاب ما يجول بخلده عن حقيقة ما يعني له ذلك الطريق الممتدّ أمامه صعوداً نحو قبيلته "جازوتا".

  • عينه تراقب الطريق دائماً، علّ أحد أفراد قبيلته يأتي إلى المدينة لقضاء حاجة له ويتمكن من رؤيته عن بعد، ذلك أكثر ما بوسعه فعله ليطفئ شيئاً من نار الشوق الممتزج بالخيبة، وليس الخيبة على شيء سوى شعوره بأنه كان واهماً كل ذلك الزمان، ولكنه لم يتمكن من اقتلاع الحب الذي توغل رغماً عنه إلى أعماق لا تصلها أصابعه وتأملاته الطويلة وإبحاره مع نقوش الجرار.. ولم تخمد من سعيره حتى الخمرة التي ابتكرها بنفسه خلال سنوات تواجده بين عمال الفخار.. وكان قد تعلم صناعة خمرته المدهشة تلك بدافع أن يبعث منها شيئاً إلى أصدقائه القدامى في القبيلة علّها تعبّد طريق الصلح بينه وبين القبيلة، لكن هذا الهاجس تلاشى شيئاً فشيئاً مع تقادم السنوات وبعد أن أقدم على بناء حانته الصغيرة من بقايا الطين ومخلفات الفخار.. وكان من أسرار تلك الخمرة التي يصنعها من ثمار المانجو والتين والكروم وقصب السكر، هو إضافة عشبة كان يعرفها السكان القدماء باسم "عشبة الملائكة" تجعل الخمرة ذات مفعول سحري يشطح بالمخيلة ويفتح أمامها آفاقاً واسعة تجعل شاربها يتفرّس بتفاصيل الأشياء ودقائقها بعمق فريد، وتجعل أحاديث شاربيها تأخذ الطابع الفلسفي القريب من تأملات الصوفيين وهمومهم.

"دن .. دن .. دن .. السادة الركاب، أهلاً وسهلاً بكم في مدينة "بارا"، الرجاء من الجميع شدّ الأحزمة، إننا على وشك الهبوط في مطار باليم دو بارا المحلّي".

  • وهل كبير الفخارين لا يزال على قيد الحياة؟
  • الباحثون الجدد دائما على عجلة من أمرهم "ورمقته بابتسامة، ثم أردفت" هناك تفاصيل كثيرة أنت بحاجتها، ستعرفها من السيدة ليبوجينا نفسها.

لقد وصلت الطائرة.. لم تستطع "هاريسا" أن تكمل الحكاية لصديقها "فان ترين" الصينيّ الأصل الذي قدم معها، بعد أن أنهت بعثتها الدراسية في إحدى جامعات الصين لدراسة فلسفة اللغة واللسانيات.

 

الفصل الثالث
الحانة

قد تكون السيدة ليبوجينا هي ألأكثر معرفة بتفاصيل الحانة والأكثر لباقة واستخداماً للاصطلاحات الأكاديمية والأحذق في ربط مقدماتها بنتائجها المنطقية خلال أحاديثها، سواء في محاضراتها التي تلقيها على طلبة قسم اللغات في الجامعة، أو في حواراتها الطويلة التي اعتادت عليها داخل الحانة مع كبار المهتمين بعلوم اللغة والفلسفة والمنطق والسياسة، إلا إنها، كانت تشعر أن هناك شيئاً خفياً عند شيخ الفخّارين لم تتمكن من إدراكه، هذا ما جعلها مستفزّة منه دائما، وحذرة في اختيار كلماتها وإطلاق آرائها بوجوده.. فهو رجل حكيم و ذو ناصية للقول لا يستهان بها، وقد عاشر جميع رموز الحانة وروادها وعرفهم وعرف ما في بواطنهم وهم أحياء، ثم…. تعرّت أجسادهم أمامه وهم أموات، قبل أن يحوّلها بيديه إلى تماثيل من فخار، فهل هناك معرفة بهم أكثر من ذلك؟

يوم قرر موريسو أن يبنى حانته، لم يكن قد خطر على باله بأن المستقبل يخبئ كل ذلك التأثير والأهمية التي تصدّرتها الحانة من قبل الباحثين والمفكرين والأكاديميين العالميين، لما أنتج من خلالها من دراسات وبحوث ومطالعات ومحاضرات وحوارات في الفكر والسياسة والاقتصاد ومختلف العلوم الإنسانية، فقد أضحت بكل جدارة وامتياز، الحانة الفريدة من نوعها في العالم.

في البدء كانت الحانة عبارة عن سقيفة صغيرة لم يستغرق بناؤها سوى أيام معدودات، ساعده بعض العمال الذين شدّهم الحماس لفكرة إنشاء حانة تسكرهم، إلا أنها تطورت وتوسعت بشكل ملفت للنظر وقد تطوّع ثلاثة من أولئك العمال لإدامتها وترميمها والاهتمام بتوسعتها، حيث باشروا ببناء قاعة مسرح كبيرة كملحق للحانة، استخدموا في بنائها أحجاراً مفخورة بأحجام مختلفة حسب حاجة التصميم العمراني الذي بدأ يشغلهم أكثر من اهتمامهم بتصاميم فخارياتهم وجرارهم؛ فكلّما ازداد عدد رواد الحانة وتنوّعت أعراقهم، ازداد اهتمامهم بالنواحي الفنية والعمرانية لها.. وعلى مدى سنوات قليلة تغيّر شكل الحانة بالكامل، حيث هدّمت فخّارة قديمة كانت بجوار الحانة لغرض بناء جناح خاص لاستضافة الزوار الذين يقدمون من أماكن متفرقة من العالم، يتألّف من ثلاث غرف أنيقة قامت بعض النسوة بالتطوع لصناعة أثاثها كاملاً من غصون بعض الأشجار والخشب المطعم والمزخرف بقشور ثمار جوز الهند، بالإضافة إلى أشكال وأدوات فخاريّة عدّة.. أما مساحة الحانة من الداخل فقد امتدّت طويلا بشكل مستطيل لتستوعب عشرات الطاولات بمختلف الأشكال والأحجام.

بعد إنشاء الحانة تقاعد شيخ الفخارين عن عمله واتخذ من طاولة صغيرة قرب دكة الخمارة المنقوشة بعناية مكانا له، مستمتعاً بالحديث إلى موريسو الذي ترك هو الآخر الوقوف خلف دكّة الخمارة لخدمة الزبائن، وأوكل تلك المهمة إلى "إيماندا" تلك السائحة الايطالية الحسناء التي قادتها أقدارها ذات يوم إلى أن تقع أسيرة حب كل شيء في الحانة، الطاولات الفخارية المزخرفة، أباريق الخمر المفخورة حد الاحتراق، أدهشتها دكّة الخمارة الطويلة والتي هي عبارة عن قطعة فخارية مسطحة الشكل، أشرف على نقشها موريسو بنفسه، تحملها قطع من جذوع الأشجار التي رصفت بطريقة فنية جعلت الحانة كلها تبدو كمتحف.

في أول زيارة لها إلى الحانة أعجبتها الخمرة "نعم" التي استحضرها موريسو واستلذ بها الجميع، شربت منها كأساً واحدة، فانفجر السكر فيها دفعة واحدة وتوقّد وجهها ببريق يرتجف له القلب ويخشع؛ شعرت إيماندا بأنها طائر يحلّق فوق البحار، تنفست بعمق، برئة تعبق بروائح الأحلام، تأمّلت صمت موريسو وهو يعمل بهدوء خلف دكّته، تأمّلت الحزن الذي تكلّس في عينه الوحيدة.. قامت من مكانها القريب من واجهة الحانة التي تطلّ على فضاء مفتوح يواجه الطريق القادم من غابات الأمازون، تحرّكت بهدوء نحو باب الخروج من دون أن تدفع فاتورة الحساب وتوجهت إلى وسط المدينة، حيث طلبت من سائق التاكسي أن يتوجه إلى أكبر أسواق التجارة الحرّة في المدينة، التي تتعامل بكل عملات العالم، بالإضافة إلى الريال البرازيلي، كانت تتكئ باسترخاء على الكرسي المجاور لسائق التاكسي، تحكي له عمّا رأته من سحر وبهاء في الحانة، بيد أن السائق كان يكتفي بابتسامة لا تحمل أي تعبير.. دخلت إلى أكبر المحلات المتخصصة لبيع النظّارات الشمسية واختارت أجمل وأغلى نظّارة كانت معروضة في المحل ودفعت وهي تبتسم بوجه البائعة الأنيقة بخمسمائة دولار أمريكي.. عادت إلى الحانة مع سائق التاكسي نفسه الذي بقي في انتظارها خارج المحل، حين وصلت إلى الحانة كانت نشوة السكر قد بلغت ذروتها، تقدمت نحو دكّة الحانة مباشرة، تاركة لجسدها حريّة اختيار الحركة وهي تسير بشرود، نحو مكان موريسو الذي عاجلها بابتسامة وديعة قبل أن تصل إليه:

  • أشكرك جداً سيدتي.. لقد راهنت نفسي على عودتك.. توقعت بأنك ستتذكرين حتماً فيما بعد وتعودين لدفع الحساب.. لقد رأيتك وأنت تغادرين المحل، ولكني منعت نفسي من أن أقف بوجه ما أنت ذاهبة إليه.
  • لا، لم أنس دفع الحساب، ولكني ذهبت على عجل لقضاء شيء ما.

قالت ذلك حال وصولها إلى الدكّة، ثم أخرجت العلبة من حقيبتها وقامت بفتحها أمامه وأخرجت النظارات وألبستها إياه على الفور من دون أن تترك له فرصة ليعرف ما الذي يحدث، ثم أردفت:

  • هكذا تبدو أكثر وسامة.. ما رأيك بأن تقبلها هدية مني؟ أنظر إلى المرآة؟ إنها ليست قاتمة، بإمكانك أن تضعها على عينيك حتى في ظل أضواء الحانة الخافتة.

تحرّك موريسو إلى الداخل حيث تنتصب مرآة طويلة، راح يتأمل وجهه بنظارته الفاخرة، تذكر أنها المرة الأولى في حياته التي يتلقى فيها هدية من أحد.. عاد إليها.. قبّل يدها بطريقة مهيبة وقال لها بصوت متهدج:

  • شكراً لك سيدتي.. هديتك أشعرتني بأني جزء له أهميته من هذه الدنيا.

تناهت إلى مسامعهما موجة تصفيق عالية من إحدى الطاولات القريبة من الدكّة، التي احتشد حولها بعض الشبّان، تتوسطهم فتاة تعزف على آلة الجيتار وقد أثارتهم تراجيدية المشهد.. رمقتهم بابتسامة عريضة سرعان ما بادلوها بدعوات لتمضية السهرة برفقتهم، سحرها رنين الأوتار المتناغم مع تقافز أنامل الفتاة السمراء ذات الشعر الفاحم.. طلبت من موريسو كأساً أخرى وتلعثمت وهي تحاول لفظ اسم الشراب بصورة صحيحة. بادرها موريسو:

  • "نعم" اسمها الخمرة "نعم" أعلم أنه اسم غريب ومضحك بعض الشيء، لكنه يمثل الحروف الأولى لثلاثة كلمات (نقيع.. عشبة.. الملائكة) لقد أسميتها في البداية، نقيع عشبة الملائكة، لأني استخدمت في صناعتها "عشبة الملائكة" وهي عشبة سامة قاتلة يعرفها سكان قبائل الأمازون، إذ يتوجّب علينا ومن أجل أن نقتل السمّ فيها، أن ندع العشبة تطهى على نار هادئة لسبعة أيام متواصلة قبل أن نخلطها مع بقية الفاكهة المخمّرة.. فما تشربينه الآن كان فيما مضى عشبة سامة.
  • سم؟؟ أعطني كأساً من سم الملائكة إذن؟

رقصت طوال الليل وتمايلت مع بقية الفتية والفتيات المجذوبين بسحر السمّ الميّت، كأنها تعيش حلماً بهياً لا تحدّ أزمانه ولا تريد الخروج منه.. في الصباح، وجدت نفسها تتمدد على إحدى الأرائك العريضة في الحانة الخاوية، بعد أن غادرها الجميع عند الفجر.

جاءها موريسو بإفطارها مبتسماً:

  • رأيتك متعبة ليلة البارحة، فتركتك نائمة وأغلقت باب الحانة عليك.
  • شكراً لك.. لم أكن متعبة، بل كنت سعيدة حد الإعياء "ثم صمتت لوقت" أنا لا أريد مغادرة الحانة.. هل أنت بحاجة إلى من يساعدك في العمل؟
  • نعم، أريد من يساعدني.

أشاح بوجهه نحو الطريق الداخل في الغابة كنجم خاطف تجمّد وميضه في الظلام، ثم تمتم بكلمات لم تتمكن من فهمها:

- أنا فعلاً أريد من يرى ما رأته عيني الوحيدة.

كان موريسو قد عمّر له مسكناً صغيراً بجانب الحانة، لملم فيه كل خساراته. شاركته المسكن والعمل والهيام.. شاركته قلبه وكيانه المهزوم وخيبات أمله التي لا حصر لها.. شاركته كل شيء..

ازدادت الحانة بهاءً وبانت عليها لمسات الأنثى.

دخلت إيماندا في كل زاوية من زوايا الحانة وتركت ما يثير الانتباه، رسمت لوحة جميلة استخدمت فيها القهوة المغلية كمادة أولية للرسم، والسكين كبديل للفرشاة، فرسمت سفينة مغادرة، يبدو فيها الشراع أكبر بكثير من حجم السفينة نفسها، وعلى الرغم من صغر اللوحة إلا أنها أبهرت الجميع، بمن فيهم الرسامين من رواد الحانة الدائمين وأكثر ما علق بذاكرتها، ما قاله كبير الفخارين إزاء اللوحة:

  • ما يجعل هذه اللوحة متميّزة ليس لأنها رسمت بالقهوة، لكن هناك غصّة تركتها إيماندا في اللوحة؛ إنّ حبال الشراع مرتخية جداً إلى الدرجة التي تشعرك دائماً بأن الشراع سينفلت في أية لحظة.
  • لم أكن أقصد ذلك "قالت له ببراءة واضحة".
  • ليس بالضرورة أن يكون المعنى مقصوداً، بل المهم هو أن ثمّة ما يوحي بذلك.

تدفق ينبوع دافئ في قلب موريسو وتوقدت قريحته لتأمل الجمال في بواطن الأشياء.. كتب لها أشعاراً، وسرّها بما يعتمل في داخله وعمّا يراه من تفرّسه بالموجودات، قال لها:

  • عيناك ألهمتني فيضاً خفياً، جعلني أعشق الحياة وأنا في عزلتي.

قالت له بصوت متهدّج:

  • أنت سرّي الذي كنت أبحث عنه.

* * *

ازداد تعلّق موريسو بكبير الفخّارين وطالت جلساتهما وحواراتهما، والتي عادة ما كانت تبدأ بالحديث عن النقوش والزخارف وتنتهي بخلاف حول ماهية الوجود واختفاء المعنى في جوف الكلام، بينما تشاركهما إيماندا الحديث من خلف الدكّة وهي تقوم بخدمة الزبائن وتنثر ابتساماتها لتترك لحظات هانئة على جميع الطاولات.. كذلك ازداد تعلّق كبير الفخارين بهما.

ناداها ذات مرّة وهو يقلّب نماذج جديدة من الزخارف التي رسمها موريسو، وسألها بصوت سمعه جميع من في الحانة:

  • إيماندا؟؟ هل التكرار يثبّت المعنى أم يغيّبه؟

استدارت إيماندا حول الدكة تاركة خلفها رفوفاً تغص بأنواع الويسكي والبراندي والكاشاسا وأنواع كثيرة من النبائذ، اقتربت منهما وهي تردد، كمن يفكّر في مسألة رياضية "التكرار، التكرار، التكرار" شاركتهم تقليب وتأمل الأوراق المبعثرة على الطاولة الصغيرة المخصصة لموريسو وكبير الفخّارين والتي اتخذت مكاناً منعزلاً عن طاولات الزبائن الآخرين، حيث تحرص إيماندا دائما على أن تترك بعض اللمسات التي توحي بأنّ الطاولة مشغولة وان كانت فارغة، كأن تترك بعض الدفاتر والأوراق وأقلام التحبير عليها.. كان كبير الفخّارين يركّز نظراته عليها، كأنه بانتظار الجواب أو كأنه يستنطق الجواب من تلك العينين اللتين حيرهما السؤال. بادر موريسو ليفكّ شيئاً من حيرتها وحاول شرح السؤال بطريقة مبسطة:

  • لاحظي هذه الزخرفة، مثلاً، إنها تكرار لشكل المثلث، محصور بين خطين مستقيمين.
  • إنها مثلثات متعاقبة الأوضاع، فهناك صفّ من المثلثات رؤوسها إلى الأعلى وصف آخر رؤوسها إلى الأسفل "قاطعته إيماندا".
  • نعم، هذا موضوع آخر، أما موضوع تكرار الشكل نفسه فحتماً هناك غاية ما من هذا التكرار، النقطة أو الخط أو الحرف، على سبيل المثال، الحرف له معنى كما الكلمة أو الجملة، فهل تكرارها يثبت معناها، أم يلغيه؟؟

اتكأت إيماندا على كرسيها وأبحرت محدقة في حزام الزخارف الذي توسط الجدار المقابل لها، صمتت لبرهة ثم قالت وكأنها تتحدث مع مجهول:

  • التكرار لا يثبّت المعنى ولا يلغيه، بل هو عملية خلق لمعنى آخر يتوافق مع غاية التكرار.

اكتسح المكان صمت مفاجئ، لقد جاءت إجابتها غير المتوقعة لتقطع جدلاً طويلاً دار بين كبير الفخارين الذي راح يقلب الأوراق بين يديه، من دون أن يظهر دهشة كبيرة، وموريسو الذي راح يفكّر في أبعاد جديدة لما قالته إيماندا.

  • هذا يدلل على أن المعنى وليد الشكل بحالة التكرار هذه، وليس العكس، يفترض أن شكل الأشياء هو انبثاق من المعنى، كما هي سلّمية السياق الطبيعي للأشياء وهذه نقطة في غاية الخطورة، فهي حالة تستحق التأمل فعلاً "قال موريسو متسائلاً".
  • دعك من هذا موريسو، لاحظ معي هذا النموذج، إنه عبارة عن انحناءات وأقواس تبدو مريحة لعين الناظر، تعجبني جداً تصاميم الأهلّة المتقابلة، تشعرك بشيء من الأمان "قال شيخ الفخارين".
  • هل حالة التكرار هي سيرة عكسيّة لحالة الاستقرار؟؟ "تساءل موريسو، بملامح تبعث على الجدّية، موجهاً كلامه لكبير الفخارين".
  • دعك من حالة التكرار الآن، تابع معي هذه الزخارف، إنها تصلح أن تكون حزاماً للجرار الصغيرة، ستبدو جميلة إذا ما أعطيناها ألواناً غامقة "قال شيخ الفخارين متناسياً جدية موريسو بتساؤلاته".
  • حتى الأقواس والأهلّة حينما تخضع للتكرار، تنسحب إلى الحالة نفسها، فهي تكثيف على حاسة البصر وإرباك لنشاطها الطبيعي مما يعيق عملية الوصول إلى المدلول الأكثر منطقية...
  • كم الساعة الآن؟؟ "تساءل كبير الفخارين مقاطعاً استرسال موريسو بالكلام".
  • الساعة العاشرة، لا يزال الليل بأوله، سيأتي صديقنا الروسي بعد قليل ومعه صديق جديد من النيبال.
  • عليّ أن أغادر "قال شيخ الفخّارين وهو يهم لمغادرة المكان".

عجيب أمر هذا الرجل، حين يغادر مكاناً، يأخذ كل أجوائه معه! هكذا يشعر كل من عرفه، لكن غيابه يجدد حضوره دائماً.. فالذي يأخذ كل شيء وهو يغادر، كمن يترك كل شيء، لكلا الحالتين الفاعلية ذاتها على نبض المكان.. إنه كائن يستوطن سحره في تفاصيل المكان، فهو حاضر وغائب في الوقت ذاته، حاضر بإثارة أسئلة في غاية العمق وغائب عن الأجوبة على الدوام "إنه مفتاح وحسب.. مفتاح لكل الأقفال" على حد تعبير السيدة ليبوجينا في جلستها الأولى مع تلميذها الجديد "فان ترين" وهي تحاول أن تعطيه نبذة موجزة عن الحانة وتفاصيلها.

السيدة ليبوجينا متحفظة بآرائها بما يتعلّق بالحانة وأسرارها التي تدور في الخفاء والتي لا يعلمها كثير من الناس، إلا أنها تبدو متباهية حين تتحدث عن مساهمتها في أهم مرحلة من مراحل تطور الحانة وهي مرحلة تغيير اسمها من "حانة نعم" إلى "حانة التمثال" ولا تزال تتذكر الزيارة المدهشة التي قاما بها كل من شيخ الفخارين وموريسو لها في الجامعة ليطلبوا منها أغرب طلب تلقته في حياتها، حين قال لها شيخ الفخارين:

  • سيدة ليبوجينا، نحن بحاجة إلى عجينة معالجة كيميائياً وبمواصفات سنتحدث بشأنها فيما بعد ونريد مساعدتك في استحضارها من خلال علاقاتك في الجامعة مع أساتذة الكيمياء.

أجابتهم السيدة ليبوجينا بسرعة:

  • وماذا ستفعلان بهذه العجينة؟

تلعثم شيخ الفخارين وارتبك في إيجاد مدخل مناسب للموضوع، فبادر موريسو، صاحب الحانة، بشرح الموضوع لها باختصار:

  • لقد كتبت في وصيتي بأن يتحول جسدي إلى تمثال بدل أن يدفن في جرّة موتى.. وأوصيت شيخ الفخارين بأن يقوم في حالة موتي بصبّ الجبس والمعاجين المعاملة كيميائياً على جسدي ويحوله إلى تمثال.. وينصب هذا التمثال في مكاني المفضّل في الحانة.

صعقت السيدة ليبوجينا من هذا الطلب الغريب، مع إنها كانت تتوقع منهما تلك الشطحات المجنونة، لكنها تقبلته تدريجياً حينما شاهدت الإصرار والجديّة يشعان من عينيهما.. وافقت على طلبهما في نهاية الأمر ووعدتهما بالمساعدة.

معروف عن السيدة ليبوجينا بأنها إذا تعهدت بشيء تنجزه على أكمل وجه.

موريسو لا يريد مغادرة الدنيا.. يريد أن يتحول إلى تمثال.

فكرة مجنونة خالجتهما في غمرة ذوبانهما في سكر الخمرة "نعم". اشراقات تلك الخمرة ليس لها حدود، أو ربما أن شيخ الفخارين وموريسو التقيا في زاوية تنبثق منها آفاق لامتناهية.. شيخ الفخارين الذي أمضى حياته في الفجوة المجهولة الفاصلة بين الدنيا وبين الموت في صناعة جرار الموتى، وموريسو صاحب تجربة الخيبتين، خيبة الوطن وخيبة الاغتراب.. لقاء مجهول الملامح، أو ناصع الملامح حد انعدام الرؤيا، ربما كانت الخمرة "نعم" هي زاوية اللقاء.

- فكرة مجنونة شغلتهما في تلك الفترة "قالت السيدة ليبوجينا لتلميذها الشاب الصيني الذي سخّر كل حواسه للإنصات لها فقط، ثم أردفت".

- نعم فكرة مجنونة بلا شك، جنون ذو منطق محكم للغاية.. ولم تكن فكرة طارئة على الإطلاق، بل هي نتاج سلسلة تأملات طويلة.

استحضار عجينة جبسية مخلوطة مع مواد كيمياوية تمنع تسرب البكتيريا، ليس صعباً على كيان قادر ومتمكن مثل السيدة ليبوجينا وبجامعة مثل جامعة (باليم دو بارا) خصوصا وأنّ لها علاقات شخصية ومهنية قوية جداً بقسم الكيمياء وهم على استعداد كامل لعمل أي شيء لها من دون أن يتجرأ أحد بسؤالها عن نيتها في استخدام تلك العجينة.

بعد أيام قليلة من تلك الزيارة قامت السيدة ليبوجينا بزيارة مفاجئة للحانة وبوقت متأخر من الليل، لم تكن زياراتها كثيرة في تلك الفترة.. تقدمت بملامحها الحادة المتوقدة عبر الممر المعتم المؤدي إلى طاولة شيخ الفخارين وموريسو، تقدمت بهمّة العارف بالطريق وبابتسامة شقت الضوء الخافت بفيض مهيب.. كانت الحانة شبه فارغة من الزبائن وإيماندا منهمكة خلف دكتها بتعبئة القناني بمشروب الكاشاسا من عبوته الكبيرة. اتخذت السيدة ليبوجينا مكانها على المقعد الثالث المقابل لشيخ الفخارين وموريسو وكعادتها ألقت تعليقاً عفوياً أثناء جلوسها:

  • بوسعي أن أشعر بالسرور يفيض من قلبك، لينير هذا المكان المعتم أيها الشيخ المتقاعد. "ثم أردفت لحظة استقرارها في جلستها متوجهة إلى موريسو وابتسامة ودّ ترتسم على وجهها" وكيف حال كائننا المعذب بالخلود؟

أحنى كبير الفخارين رأسه وبادلها الابتسامة، بينما رحب بها موريسو بحفاوة تليق بمقام السيدة ليبوجينا ومنزلتها:

- أهلا بك سيدة ليبوجينا.. قدومك إلى الحانة يمنحنا سروراً كبيراً.

ساد صمت للحظات، تذكّر شيخ الفخارين خلالها بأنه توقع مسبقاً من أن السيدة ليبوجينا ستقوم بزيارات مفاجئة كهذه الزيارة، فهو يعرف جيداً شخصيتها المغرمة بمعرفة التفاصيل.. إباحة التفاصيل تعني إباحة الجنون أو فتح باب الخروج عن المألوف العقلي على مصراعيه..

وكما هي حاجة الإنسان إلى الوضوح لكي يدرك الأشياء على حقيقتها، فهو أحياناً بحاجة إلى الحوار مع الجنون، الحوار مع العتمة، تلك هي قناعة السيدة ليبوجينا في استيعاب أي طرح مهما كان جنونياً وتستقبله بالملامح ذاتها التي تستقبل بها الحوار مع المعقول والواضح.. كل ما عليها فعله هو أن تضع كلاً في خانته.

تصاعدت سحابة من دخان غليون شيخ الفخارين عابرة على وجهه المليء بالتجاعيد والتقاسيم التي خلفها الزمن.. بينما احتجب موريسو خلف نظاراته السوداء، مرخياً ذراعيه على الطاولة.. رفعوا كأس الخمرة "نعم" سويةً. قال موريسو محتفياً:

  • نخب السيدة ليبوجينا.

عاجلته السيدة ليبوجينا بلهجة وقورة:

  • بل نخب موريسو وحلمه بالخلود.

شربوا كؤوسهم سويةً، شرب موريسو كأسه وهو يقاوم ابتسامته على تعليق السيدة ليبوجينا.. وما أن استقر في جوفه ذلك السائل السحري حتى بادرها بالقول:

  • الخلود شيء لا يُحلم به ولا يُبحث عنه، لأنه موجود أصلاً.
  • كيف ذلك؟
  • نحن نفهم الخلود على أنه شيء يأتي بعد الموت، كذلك نفهم أن الموت هو نهاية الحياة، هل تعتقدين بأن الموت هو نهاية الحياة يا سيدة ليبوجينا؟

أجابته السيدة ليبوجينا بشيء من التلقائية:

  • الموت مرحلة تمتلك تفكيرها الخاص وعقلها الرياضي الخاص بها.

أجابها موريسو بنبرة الواثق مما يقول:

  • إذن هو امتداد طبيعي للحياة، أو هو جزء من كل، الموت هو "جزء" من الحياة "الكل"؛ فالخلود هو الحياة التي لا نهاية لها.
  • لكننا في واقع الحال نموت في نهاية الأمر ولا نمتلك أية معرفة جدّية عن مرحلة الموت "صمتت ليبوجينا للحظات ثم استرسلت في حديثها موزعة نظراتها بين موريسو وكبير الفخارين" وبما أننا نحيا جزءاً آخر من الحياة وهو جزء الدنيا، فإننا معنيون بالدرجة الأساس بهموم هذا الجزء وقضاياه.

قاطعها كبير الفخارين، مستغلاً لحظة صمت تخللت حديثها، قائلاً:

  • لا بأس إذن، ذلك يعني أننا معنيون، وإن كان بشكل ثانوي، بهموم وقضايا الموت الذي هو الجزء الآخر من الحياة، إذا اتفقنا على أن الدنيا هي جزء الحياة المتقدم على الموت. والخوض في هذه الهموم والقضايا، فضاءاته مفتوحة ولا تحدها حدود ثابتة ومعروفة.

غمزته السيدة ليبوجينا بابتسامة خفية قائلةً:

  • الخشية كلها من تلك الفضاءات المفتوحة.
  • ليس هناك ما يدعو للخشية يا سيدة ليبوجينا، مثلما نحيا هذه الدنيا فإننا سنحيا الموت كمرحلة أو كجزء آخر من الحياة ولكننا سنحياه بآليات وقوانين مختلفة حتماً.. كان لي مع موريسو حوارات طويلة بهذا الشأن وتوصلنا إلى بعض الافتراضات، من جملتها بأن الجسد هو الشاهد الوحيد على الموت وهو الركن المهم الذي يرتكز عليه مفهوم الموت.. الجسد هو القناة الوحيدة التي نعبر من خلالها إلى العالم الآخر، علينا إذن أن نخترق هذه القناة.

تحركت أصابع السيدة ليبوجينا عابثة بطرف حمالة حقيبتها القماشية المتكومة أمامها على الطاولة قبل أن تتساءل بهدوء جم:

  • يخيّل إليّ أن هناك علاقة جدلية بين هذه الفكرة وبين وصيّة موريسو بتحويل جسده إلى تمثال.
  • نعم.. أنت على صواب في ذلك.. قرار موريسو هو إفراز لسلسلة تأملات في كيفية اختراق قناة الموت هذه.. التلاعب بمصير الجسد وجعله حاضراً إلى الأبد، علّ حضور الموت يكشف لنا سر الحياة.

لم يذهب كبير الفخارين إلى أبعد من ذلك في وضوحه، هذا كل ما جاد به فيض الوضوح لديه. وحقيقة الأمر هي أن تأملاتهما حلّقت بهما إلى سماوات بعيدة، طارت بهما نشوة الخمرة "نعم" نحو آفاق مجهولة لا تمنح نفسها إلا لمريد مجنون.. تطاول تأملهما واستغراقهما على بايولوجيا الإنسان..

كان موريسو يعتقد بان الدماغ آخر عضو يموت في الإنسان، لأن الجسد يتلقى أوامر الموت من الدماغ، وعليه، فان القناة الفاصلة بين الرأس، مركز العقل المصدّر للأوامر والجسد المستقبل للأوامر هي منطقة العنق.. نعم، عنق الإنسان، ذلك ما شطحت به مخيلة موريسو في إحدى خلواته الليلية مع كبير الفخارين، كان يتحدث عن إمكانية اختراع جهاز الكتروني صغير جداً بحجم بطارية الساعة اليدوية، يحتوي على منظومة كاملة للسيطرة على الأوامر التي يرسلها الدماغ إلى الجسد، يغرس في رقبة الإنسان من خلال عملية جراحية بسيطة، يقوم هذا الجهاز بالتجسس على أوامر الموت التي يرسلها الدماغ والسيطرة عليها وتزييفها أوتوماتيكياً في حال صدورها، عندها سيخلد الجسد في الحياة الدنيا، فكلما أرسل العقل أمراً بالموت لأي عضو من أعضاء جسد الإنسان، يقوم هذا الجهاز بتزييف الأمر، فإذا كان الأمر مثلاً " مت أيها القلب!" سيغدو الأمر على الفور "استمر في نبضك أيها القلب، لا تتوقف".. لم يتطرق كبير الفخارين في حديثه إلى كل ذلك، بل اكتفى ببوح ما يمكن البوح به، لكن السيدة ليبوجينا ليست بحاجة إلى المزيد من الوضوح، فهي صاحبة مكنون معرفي كبير بدوافع الفكرة وتأريخها، حيث كان لها محاضرات عدّة في الجامعة حول لغة الجسد في المحنطات المصرية ولها شروحات حول الإشارات والرموز التي تحملها المومياءات.. إنها على يقين تام بأن ثمة رؤى وأبعاداً أخرى لا تزال في طيّ الكتمان ولم يتحدث عنها كبير الفخارين. ولكنها كانت مستعدة للمساعدة.

* * *

مضت سنوات طويلة على ذلك اللقاء الذي لا تزال تتذكره بدقة وهي تشرح لتلميذها الصيني مراحل تطوّر الحانة وأسرار خمرتها التي جعلت منها قبلة للكثير من عظماء العالم ومريديهم.

استدارت السيدة ليبوجينا من خلف مكتبها لتجلس قبالة تلميذها الجديد "فان ترين" وتلميذتها القديمة "هاريسا"..

أخيراً، رضخت لإصرار تلميذها على زيارة الحانة، بعد أن أدركت مدى جديته في اكتشاف ومعرفة كلّ ما يتعلّق بتفاصيلها.

  • حسناً إذن، سأفرغ نفسي هذا المساء لكي نمضيه معاً في الحانة.

انفجر في روحه ينبوع الفرح وتمكّن منه الاندفاع نحو حكاية قديمة..

قفز من مكانه مصفقاً بيديه ومهللاً بشغب لا يتلاءم مع مكان كل ما فيه يوحي بالجدية والالتزام، مثل مكتب أستاذة جامعية من طراز ليبوجينا، إلا انه سرعان ما أدرك ذلك حين رمقته هاريسا بنظرة عتاب خفي مفادها "تماسك واتزن قليلاً؟".

لقد علق فان ترين بشغف لا حدود له بحكاية الحانة، مثلما علق بحب هاريسا، منذ سنوات ثلاث وهي مدّة البعثة الدراسية التي أمضتها في إحدى جامعات الصين.. كانت سنواتهما تلك قد أذابتهما في عشق وصل ذروته.. لقد تحدثت له هاريسا طويلا عن حياة مدينتها البرازيلية وعن السحر الكامن في روحها.

كانت شمس باليم دو بارا قد أوشكت على الاختباء خلف تلال الفخاريات في الشارع المؤدي إلى الحانة، بينما كانت السيدة ليبوجينا تتوسط هاريسا وفان ترين الذي راح يتأمل كل شيء باهتمام بالغ ويسأل بلا تردد عن كل ما يلفت انتباهه، وقد بدا لهاريسا كطفل يبهره اكتشاف الأشياء للمرّة الأولى، حتى إنها كادت لا تميّز بين حرصه لمعرفة التفاصيل الدقيقة وبين رغبة دفينة لممارسة طفولة يحتاجها بعض الرجال أحياناً؟

الانطباع الذي تسلل إلى عقل هاريسا مردّه إلى أسلوب فان ترين في طرح أسئلته التي غلب عليها طابع التغنج والتوسل، وهو ما لم تره عليه سابقاً، خصوصاً عندما أظهر دهشة إعجاب لا تخلو من المبالغة حينما شاهد صبياناً أنصاف عراة يمارسون طقوساً غريبة وهم يقفزون فوق موقد نار صغير.

وعلى الرغم من الامتعاض الذي ارتسم على وجه هاريسا من تلك المبالغة في الأسئلة التي تجعلهم يتوقفون عن سيرهم بين حين وآخر، إلا أن السيدة ليبوجينا بدأت تشرح له بوجه مبتهج:

  • آه.. نسينا أن نقول لك إن هذا اليوم هو الثاني عشر من أكتوبر وهو ما يصادف "عيد شفيعة البرازيل نوسا سينهورا أباريسيدا" وفي هذا اليوم يحتفل البرازيليون على طريقتهم الخاصة، حيث يوقدون النيران ليلاً لأداء قسم المحبة والوفاء على هذا النحو الذي تراه.

كان بعض الصبية والصبايا قد أوقدوا النيران بوقت مبكر، قبل حلول الظلام وراحوا يتناوبون على عبور النار أزواجاً، كل منهما يمسك بيد الآخر ويتخطيان الموقد وهما يرددان بخشوع "القديس جون يقول.. القديس بيتر يشهد.. سنكون أحبّة وأوفياء إلى الأبد.. تلك هي وصية الروح القدس".

كان المشهد قد أزاد فان ترين انبهاراً وفضولاً لمعرفة جوهر ودوافع ونتائج كل شيء يراه، حينها اقترب من السيدة ليبوجينا وسألها:

  • هل هم صادقون ومخلصون لهذه العهود التي يعقدونها؟
  • لابد وأنهم صادقون في هذه اللحظة.. أقصد لحظة أداء القسم وإطلاق الوعد بالإخلاص والوفاء، ولكن بعد أن تنتهي هذه المراسيم، لاشيء يضمن ديمومة هذا الإحساس، إنه إحساس مؤقت يمتلك بهجته التي تكفي لتغطية اللحظة.

اقتربت منه هاريسا بوجه لا يخلو من العبوس، وهمست له:

  • ألا ترى أنك تتصنّع المبالغة في طرح أسئلتك على نحو طفولي؟
  • إنها أسئلة تتعلق بتقاليد لم أرها من قبل يا حبيبتي، وليس في ذلك أي تصنّع، هل نسيت أسئلتك التي لا تنتهي عما كنت ترينه من طقوس غريبة بالنسبة لك حينما كنا في الصين؟
  • كنت أطرح أسئلتي عليك وحدك ولم أمارس طفولتي على أحد أصدقائك، ثم أن السيدة ليبوجينا رافقتنا الآن لأنك تريد معرفة شيء محدد وهو الحانة وما يتعلق بها، ولم يبق أمامنا إلا بضعة أمتار ونصل.
  • حسناً.. حسناً، سوف التزم الصمت، ريثما نصل الحانة.

انتبهت السيدة ليبوجينا إلى مشاجرتهما الخفيضة وتمكنت بلا عناء أن تتجاوز وضعهما الذي كانا عليه، حين خاطبتهما من دون أن تشعرهما بأنها سمعت حديثهما.

  • تعالا لنأخذ جولة حول الحانة أولا، قبل الدخول إليها، فهناك أمور لابد وأنها تهمك يا عزيزي فان.

أخذت ليبوجينا تشرح بشكل سريع مراحل تطور بناء الحانة، مشيرة إلى عدد الفخارات التي هدمت من أجل توسعة ملحقات الحانة:

  • كان في هذا المحيط عدد من أفران الفخر الصغيرة التي تخلّى عنها أصحابها ووهبوا أراضيها لموريسو ليتمكن من بناء دار الضيافة هذه.. الجميع يعتبر تلك الأراضي هبة مجانية جاد بها أصحابها لبناء هذا الصرح الذي سرعان ما اكتسب قدسية خاصة في نفوس أهل المدينة، إلا أن تلك الهبة لم تكن مجانية تماماً، لأن موريسو ردّ عليهم جميلهم بمنحهم الإذن في ارتياد الحانة وتناول ما يشتهون من شراب مجاناً طوال حياتهم.
  • وهل بقي الإذن ساري المفعول بعد وفاة موريسو؟
  • نعم، لقد التزمت إيماندا بكل وصايا موريسو، إنها أثبتت إخلاصاً يستحق الإشادة به.
  • ولكن من أين استمدت هذه الحانة قدسيتها، أنها لا تعدو عن بناء مزخرف يقع على تخوم مقبرة؟

أشاحت السيدة ليبوجينا ببصرها نحو المقبرة القديمة وراحت تتحدث وكأنها تخاطب مجهولاً:

  • المقدّس هو ديدن جميع المجتمعات وضالتها التي تبحث عنها في لهاث لا نهاية له، مهما تسبب لها ذلك المقدس من مآس وأوجاع، لأن الناس بحاجة إلى رمز يتمسكون به ومقدس يوفر لهم تبريراً مقنعاً لضعفهم وإخفاقاتهم.. الناس يا عزيزي تستنزف كل عزيمتها لخلق مقدّس قد يكون وبالاً عليها بدل أن يكون عوناً لها، إلا أنها تستمر في الخضوع والترويج له، سواء أكان هذا المقدس إنساناً أو فكرة أو مكاناً، كما هو حال هذه الحانة.
  • فعلاً، لك كل الحق فيما تقولين يا سيدتي، فلا يزال هناك الكثير ممن يرفع اسم "ماو تسي تونغ" إلى مرتبة الآلهة، على الرغم من أن هناك ملايين البشر يعيشون تحت خط الفقر في الصين.
  • أظن بأنك ستكتشف بعض تلك الدوافع التي سببت لك حيرة، حين تكف عن أسئلتك لكي نتوجه لدخول الحانة، قبل أن تزهق حرارة الطقس أرواحنا.

كانوا قد وصلوا إلى مدخل الحانة بعد أن أكملوا دورة كاملة حولها.

لفحتهم نسمة باردة متسربة من داخل الحانة التي لم تكن قد اكتظت بالزبائن بعد، كانت أنوارها خافتة وأجواؤها تعبق بعطر يبعث إلى الاسترخاء.

استقبلتهم إيماندا بوجه مبتهج طفحت منه ابتسامة عريضة وهي تعاجل مسح يديها بفوطة كانت على كتفها:

  • زيارة مفاجئة من هذا النوع، لابد لي وأن أدونها في دفتر مذكراتي الشخصية سيدة ليبوجينا.. أهلاً بكم، نوّرتم المكان.

تعانقن بحميمية وودّ بالغين، ثم قادتهم إيماندا إلى طاولة في عمق الحانة. لم تكن الطاولة من ضمن الطاولات الكبيرة، التي تربع بجوار كل منها تمثال لشخصية عشقت المكان وقرر صاحبها أن يخلد فيه بتحويل جسده إلى تمثال.

استأنست إيماندا بتجاذب الحديث مع ليبوجينا وهاريسا، خصوصاً وأن الحانة لم تكتظ بزبائنها بعد، فقد اعتادت على أن يتوافد رواد الحانة عند حلول الظلام، وراحت تتحدث عن همومها الشخصية وما تواجهه كل يوم في الحانة.. بينما كانت عينا فان ترين تجولان في كل زاوية من زوايا الحانة، وقد قادته النقوش المرسومة على الجدران إلى نقوش أكثر تعقيداً وصخباً وإلى لوحات تنتمي إلى مشارب فنية مختلفة، ثم جال بنظره حول رفوف المكتبة الضخمة التي شغلت مساحة واسعة من الجدار الخلفي للحانة، التي ضمّت آلاف الكتب النادرة والموسوعات القيمة، حتى توقفت عيناه عند أول طاولة كانت تقع في زاوية الحانة، ينتصب بجانبها تمثال أجلس على كرسي رخامي، وضعت أمامه أيقونة كتب عليها بخط جميل اسم صاحب التمثال "جان بول سارتر" بينما كتب تحت الاسم مقولته الشهيرة "الحرية لا تعني أن تفعل ما تحب، بل أن تحب ما تفعل".

لم يكن يشغل تلك الطاولة سوى شاب واحد، كان منهمكاً في قراءة كتاب وبقربة قرطاس يدوّن فيه شيئاً بين الحين والآخر.

على مقربة من تلك الطاولة كانت هناك طاولتان ركنتا بمحاذاة الجدار، إحداهما انتصب بجانبها تمثال الروائي الأيرلندي "جيمس جويس" والأخرى كانت طاولة تمثال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا الذي كان من أكثر أصدقاء الحانة إقامة فيها؛ كانت زياراته تمتد لشهور أحياناً، كتب خلالها أكثر قصائده خصوبة وتوقداً.. وبمكان يبعد قليلاً طاولة تمثال الزعيم الروسي فلاديمير لينين وبجانبها طاولة تمثال المفكر الأمريكي ليو شتراوس، ومن ثم طاولة تمثال المطرب والموسيقي صالح بن عزرة، المعروف باسم صالح الكويتي.. بينما اصطفت على اليمين ثلاث طاولات أخرى، الأولى انتصب عليها تمثال المصلح الهندي المهاتما غاندي والثانية عليها تمثال للمفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي، أما الطاولة الثالثة فكان يشغلها تمثال "ويل ديورانت" صاحب موسوعة قصة الحضارة..

وقبل أن يبلغ الطاولة التي انتصب عليها تمثال موريسو "مؤسس الحانة"، أيقظه صوت السيدة ليبوجينا وهي تناديه مبتسمة:

  • فان.. فان.. سيد فان.. أين وصلت؟
  • إلى ويل ديورانت "قال ضاحكاً، ثم أردف" تذكرت أني لم أنجز قراءة قصة الحضارة حينما كنت في الجامعة، على الرغم من تأكيد أستاذنا على أهميتها، لكنها موسوعة ضخمة جداً وتحتاج إلى فترة من التفرغ لقراءتها.
  • لا يمكن الإلمام بكل المنجز الفكري البشري حتى لو تفرغت طوال حياتك له، ربما نحن بحاجة إلى ثلاثة أضعاف أعمارنا التي نعيش لكي نحتوي كل ذلك.
  • العقل البشري يدافع عن نفسه دائماً، فكلما تراكم المنجز الفكري الإنساني وتكاثر مع تقادم الزمن، كلما ازدادت سرعة حركة الإنسان في تناول المعلومة، من خلال التطور التكنولوجي.. السرعة في الوصول إلى المعلومة تعمل على تكثيف الزمن وهذا ما وفره التطور السريع في أجهزة الحاسوب، فسرعة الإنسان الآن ونحن في الأشهر الأخيرة من القرن العشرين قد تضاعفت آلاف المرّات عما كانت عليه قبل مئة سنة، على سبيل المثال.

انتبهت السيدة ليبوجينا إلى إنها أمام إجابة منهجية محكمة جداً، لا تنتمي إلى تلقائية الحديث العابر، فسارعت لترميم تعليقها الذي شعرت بأنها أطلقته بطريقة لا تخلو من الطيش، وسارعت لاستعادة ملامحها الجادة حين أجابته قائلة:

  • أتفق معك في معظم ما قلته، لكنك ربما قد نسيت شيئاً بالغ الأهمية في هذا الإطار، وهو أن المعلومات التي تستقيها من أجهزة الحاسوب لا تعدو كونها حزماً ضوئية تنبعث إليك من شاشة قد تنطفئ في أية لحظة وتفقد كل مخزونها المعلوماتي، وأنها في نهاية الأمر لا تمتلك الرسوخ الذي يجسده المداد حينما يتشربه الورق.
  • أوه.. أحب هذا النوع من الكلام العاطفي، وأتمنى أن أتفق معك، لولا معرفتي بأن أجهزة الطباعة الحديثة الملحقة بأجهزة الحاسوب قد لا تترك مجالاً لهذا الرثاء.

إنها المرّة الأولى التي تجد فيها السيدة ليبوجينا بأنها في ورطة حقيقية، فما كان أمامها سوى أن تهدم الموضوع بمرح لا يترك خلفه أثراً:

  • حسناً إذن.. طالما الأمر كذلك، عليك أن تقرأ قصة الحضارة كاملة، لكي لا تكون تلميذاً كسولاً.
  • نعم، لا بد وأن يحصل ذلك، لكن ليس قبل أن أجرّب الخمرة "نعم" التي سمعت بها ولم أذقها لغاية هذه اللحظة.

ضحكت إيماندا بعد أن أدركت بأنها المقصودة من تلك المداعبة المرحة، ثم نهضت من مكانها قائلة:

  • معذرة.. حديثكما الشيّق أنساني واجب الضيافة.

 

الفصل الرابع
اصطياد اللذة

عملت ميشيليني كل ما بوسعها لكي تحافظ على وجود إبراهيم في حياتها، حتى إنها أنفقت كل ما ادخرته من مال لتأثيث منزلها الخشبي المتواضع، لتوفير الحد الأدنى من الراحة لرجلها الذي وهبته لها السماء؛ قامت بشراء ثلاجة صغيرة مستعملة وسرير يكفي لكليهما، كذلك حرصت على شراء بعض قمصان النوم لتملأ لياليه أنوثة وعطراً، دون أن تفكّر بشراء بغلة أخرى، فقد تركت العمل في نقل الفخاريات وانضمت إلى سرب العاملات في صناعة الفخار، لكن ذلك كلّه لم يروّض إبراهيم من ممارسة حياة الضياع التي اختطفته.. ففي آخر مواجهة بينهما قال لها بوضوح تام، على الرغم من تعثر الكلمات بين شفتيه وهو يتحدث بلغة برتغالية تبدو مضحكة في كثير من الأحيان "لا أريد أن أغير شيئاً من حياتي.. أنت تعتبرينني أعيش حياتي طولاً بعرض، هذا شأني وحدي.. لقد أدمنت هذا الضياع ولا أرى غضاضة في ذلك، أنام في أي وقت أشاء وفي أي مكان، وأصحو في أي وقت أشاء ومن أي مكان.. ليس بوسع أحد في هذا العالم أن يجبرني على تغيير نمط الحياة الذي اخترته". هذه المواجهة الصريحة والواضحة جعلتها تستسلم لقدر ليس فيه سوى خيار واحد فقط، وهو أن يبقى إبراهيم على ما هو عليه وتبقي هي تطارده من مكان لآخر كلما شدها الحنين لليلة تذوب فيها بين ذراعيه وتمارس كل ما يثبت لها أنوثتها الشاردة.. فقد تصالحت تماماً مع وضعها الجديد، تعمل في تزيين الفخاريات بالنقوش نهاراً، وتبدأ رحلة البحث عن إبراهيم ليلاً، وبحكم الممارسة الغريزية كانت تعرف طريقها المختصر الذي يوصلها إليه، عادة ما تتوجه إلى تجمعات بائعات الهوى في الطرف الآخر من المدينة، قرب مقهى "بوهيميا" الذي هو بالأساس مقهى للمثقفين، يرتاده موسيقيون وشعراء وتشكيليون وأساتذة جامعات ومتطفلون على كل ما هو ثقافي، لكنه يتحول إلى مقهى للعاهرات بعد منتصف الليل، ولم يفت السيدة ليبوجينا أن تقول رأيها بظاهرة تقاسم مقهى "بوهيميا" بين المثقفين والعاهرات، فقد نشرت مقالاً قبل سنوات في جريدة "الجورنال" حول تلك الظاهرة، وعللت ذلك باعتقادها بأن ثمة حبلاً سريّاً من الطمأنينة يربط بين المثقف والعاهرة، علاقة خفية على الطرفين ولكنها متينة من دون أن يلتقيا بعضهما كثيراً، وقد أثار ذلك المقال ردود أفعال كثير منها مناوئة ومستهجنة لما طرحته ليبوجينا، واعترض بعض المثقفين على مقارنتهم بالعاهرات، مما دعاها لتوضيح الأمر على أنها لا تقصد الإساءة إلى المثقفين بقدر ما أرادت أن تمنحهم بعداً إنسانياً خارج إطار السائد والمألوف، إلا أن تبريرها ذلك أثار ضدها أتباع حانة التمثال الذين يعتبرون أنفسهم حماة البنية الأخلاقية الرافضة لسلوك بائعات الهوى..

في ذلك المقهى المثير للجدل يتواجد إبراهيم في غالب الأحيان بعد انتصاف الليل، وهناك تصطاده ميشيليني بسهولة، مهما حاول أن يفلت منها بمغادرة المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر ما إن تأتيه إشارة من إحدى رفيقات لياليه بأن ميشيليني متوجهة إلى المكان، كان يغادر برفقة مجموعة العاهرات اللواتي اعتدن على مرافقته كل ليلة، لكن ميشيليني تعرف المجموعة جيداً ولطالما أمضت الليل برفقتهن بانتظار أن توغل الخمرة في عقل إبراهيم لتصطحبه معها إلى البيت، لذلك من اليسير عليها تتبع آثار المجموعة، لاسيما وأن الليل يجعل شوارع المدينة أكثر استسلاماً لخطى الذين يتتبعون الآخرين، كما تفعل ميشيليني كل ليلة.

وكم كان يزعجها خلال مشاويرها تلك أن تسمع أحدهم يطلق عليه لقب "إبراهيم الديوث" وهو يرشدها إلى مكانه، بينما إبراهيم نفسه لا يعبأ كثيراً إذا ما وجهت له كلمة ديوث، لفرط ما كررها أولائك الشياطين الصغار الذين يملأون الشوارع صخباً ليل نهار، وهم يشاكسونه إلى الحد الذي يخرجه أحياناً من هدوئه ويلاحقهم بأوسخ الشتائم، لكنهم يعودون لتسوية الأمور معه بطرقهم الخاصة، كأن يبيعونه زجاجة خمر مسروقة أو علبة سجائر بنصف السعر.

رصدته ميشيليني ذات مرّة مختبئة خلف شجرة وهي تكتم ضحكتها على طريقته وهو يعقد صفقة مع أحد أطفال الشوارع.. كان يقلّب القنينة ويعيدها بشكل سريع ويشير بإصبعه إلى الفقاعات الصغيرة مخاطباً الطفل "أنظر إلى كم الفقاعات، إنها خمرة مغشوشة لا تساوي شيئاً".

  • أقسم لك إنها خمرة كاشاسا غير مغشوشة، سرقتها للتو من إحدى الحانات.
  • لكنها مفتوحة وناقصة، ما الذي يدريني أنك لم تتبول بها.
  • شمها إن أردت التأكد، أقسم لك إنها خمرة أصلية، ثم إني أبيعها لك بسعر زهيد.. ريالان فقط.
  • خذ، يكفي ريال واحد.. في المرّة القادمة لا أريد قنينة مفتوحة، حاول أن ترتقي قليلاً أيها الوسخ، وتسرق شيئاً ذا قيمة.

خطف الطفل الريال من يد إبراهيم وطار بعيداً، منادياً "إبراهيم الديوث.. لديه ريالات كثيرة.. يا ربّي أكثر من العاهرات".

شعرت ميشيليني بالتشفي مما آل إليه حال إبراهيم.. تقدمت نحوه متبخترة ببرود، محاولة استغلال الموقف من أجل أن يمضي ليلته معها:

  • ألا تشعر بشوق لغرفتنا في حي الفخارين؟ ما الذي يعجبك من مرافقة بائعات الهوى وأطفال الشوارع طوال الليالي؟ تعال معي، لقد أحضرت لك قنينة كاملة من الخمرة "نعم"، تعال لننتزع لذتنا من هذه الدنيا.

عاد معها بخطوات متثاقلة، متأبطاً قنينة الكاشاسا دونما كلام، عبرا المفرق المؤدي إلى حي الفخارين، فبدت المقبرة ممتدة أمامهما كمدينة أسطورية بلا ألوان، حاولت أن تخرجه من صمته، داعبت ظهره بحنان، حاولت أن تؤكد له بأن قنينة الخمرة "نعم" جاهزة ومعها كل ما يحب مما يمنح ليلتهما أنساً، تمتم بكلمات لا يريد لها أن تعطي معناها الكامل، لكنها تكفي لتكون إعلاناً عن خروجه من صمته، وهذا يكفيها:

  • لا أحب الخمرة "نعم".. سأكتفي بالكاشاسا.
  • الجميع يبدي إعجابه بالخمرة "نعم"، أنت الوحيد الذي لا يحبها.
  • أنا لست الجميع.
  • لا بأس، أنت لست الجميع. المهم أن نمضي ليلتنا سوية.

كانت ميشيليني قد أعدت كل شيء على عجل في غرفتها الصغيرة.. أسدلت ستارة شباكها الوحيد وحشرت أطرافها السفلية بين الأريكة والجدار لكي لا يتسنى للفضوليين استراق النظر على خلوتهما. وتدبرت قميص نوم ناعم الملمس أعارته إياه صديقة لها بعد أن عرفت بأنها عازمة تلك الليلة على اصطياد إبراهيم.. قالت لها إن هذا القميص سيرسم تفاصيل جسدها بما يوقظ شهوته، كما أعارتها قارورة عطر مغربي فواح، والأهم من كل ذلك كانت الوصفة السحرية التي جلبتها من أحد المشعوذين وخلطتها مع الخمرة "نعم"، أبلغتها صديقتها بأن مفعولها مضمون وسيجعل منه أسيراً لا يبارح غرفتها.

وزعت أطباق الفاكهة الطازجة والمأكولات المشوية والمقلية، مع كأسين لامعين على طاولتها الصغيرة القريبة من سرير النوم الذي بدا أنيقاً ومعطراً، بينما كان إبراهيم جالساً على حافة كرسيه يدخن سيجارته ويتذكر الليلة الأولى التي أمضاها مع ميشيليني بهذه الغرفة، حينها لم تكن على هذا النحو من الترتيب، حتى إنه أدرك شعورها بالحرج مما كانت عليه غرفتها، ذلك الشعور الذي تلبّس فرحتها الغامرة التي لم تشعر بمثلها يوماً من قبل على الإطلاق، لكنه كان مقبلاً على الحياة مهما كان شكلها، وشهدت تلك الليلة نهاية عهده مع بذلة البحارين البيضاء، خلعها وطلب من ميشيليني التخلص منها، وبقي نصف عار، كما هو حال أغلب أهالي باليم دو بارا، بيد أنها أظهرت شطارتها وتدبيرها واقترحت عليه بأن تقص البنطال وتصنع منه بنطالاً قصيراً، كان يراها تتجدد وتتوقد كلما أمعن النظر بتقاسيم وجهها، خصوصاً بعد أن عادت من الحمام وشعرها الندي يفوح بعطر أخاذ جذبه إليها ليحيطها بكلتا يديه المعضلتين وبدأت شفتاه تجوسان تضاريس جسدها الناحل، ابتداء من رقبتها المنتصبة، نزولاً إلى نهديها المتمردين على قميصها الذي بدأ يتساقط شيئاً فشيئاً تحت لهيب سيل من القبل المتوهجة المتواصلة، تركت له حرية التهامها، منحته أقصى حالات المشاركة الجسدية تألقاً، التسليم المطلق، لحظة غياب وحضور في الوقت ذاته، تكون فيها ارتجافات الجسد خارج نطاق المراقبة الذاتية.. تلك اللحظة المتعفرتة على ذاتها والهاربة من عمر الزمن ومقاييسه الرياضية والممعنة في المحو الكلي، تلك التي ترتسم خلالها ابتسامات فاترة سرعان ما تذيبها اللذة التي استباحت الجسد والروح معاً.

أمضيا ليلتهما بذوبان تام، وتواصل خرافي مع ذروة اللذة التي يحيي فيها الجسد روح لغة شبه غائبة، اكتشفت لذة العري الموغلة بالتخفي، لذة التجرّد المطلق ومواجهة الحياة ببسالة لانتزاع نشوة التجلي في عظمة الجسد وجمالياته... أعاده من غيابه في تجاويف الذاكرة صوت ميشيليني إذ دعته بغنج لاحتساء كأسي الكاشاسا، مدّ يده ليتناول كأسه، لكنها تركت يدها ترافق الكأس حتى أوصلتها إلى شفتيه، هبّت رائحة الليمون على أنفه مما جعله يكرع كل ما في الكأس مرّة واحدة. أما هي فقد أطلقت العنان لصوت جهاز الـ "سي دي" ليصدح بألحان محلية حديثة تشي بروحية موسيقى قبائل الأمازون، كما أطلقت العنان لجسدها في التمايل على أنغام أنوثتها.

كانت تلك من المرّات النادرة التي شعرت بتألق إبراهيم ليكون في أبهى حالاته، فقد انطلق يصدح بأغنية عراقية قديمة تحاكي عشق الصبا الـ "ما ينّسي" حتى قبل أن تخلط شيئاً من الخمرة "نعم" مع الكاشاسا في غفلة منه، فظنّت أن السحر قد فعل فعله العجيب، ليحيل ليلتهما إلى سيل من المباهج والأنس.. وجدتها فرصة سانحة لتعيد إبراهيم إليها بعد جولاته العبثية مع الغياب.. لملمت قميصها القرمزي الناعم على جسدها الغض واقتربت شيئاً فشيئاً لتلتصق به تماماً، أسندت خدها الطري الأسمر إلى صدره الأيسر بغنج طفولي وراحت تغني له أغنية تعلمتها من جدتها الحكيمة:

"القرب ناصية العذوبة..

القرب ينبوع من الفردوس..

الدنيا رقيقة كفراشة..

لا ينبغي لمسها حتى بحذر..

يا قرين الروح لا تقتل بغيابك الفراشات".

امتدت أصابعه لتداعب كتفها، شعر بقشعريرة نمت على ذراعها، قبل أن تلفحه رائحة العطر المغربي، شعر بقربه منها بطريقة لم يألفها على مدى الشهور السبعة من مجيئه إلى هذه المدينة، أحسها جميلة ومتوقدة، مليئة بعنفوان الأنوثة، حتى أن حديثهما لم يكن جامداً كما في كل مرة يمضي ليلته معها، بل اتخذ منحى أكثر جديّة ووضوحاً، قالت له بصوت مشوب بحشرجة ناعمة:

  • هل لي أن أطلب منك أن تستقر معي؟
  • الاستقرار بحد ذاته غير موجود ضمن حساباتي، لكنك محقة في طلبك.
  • ما فائدة أحقيتي هذه إذا لم يتحقق مرادها؟
  • ليس بوسع المرء أن يحقق كل استحقاقاته، لأن ذلك يتقاطع مع اختلاف الرغبات، كيف لي أن أحقق رغبتك على حساب رغبتي؟
  • إذا كان في تحقيق رغبتي فائدة لك، لماذا ترفضها؟
  • وهل تعتقدين بأن الاستقرار يشكل فائدة؟ إنه جحيم.. جحيم حقيقي.. الاستقرار يجعلنا مثل الدجاج المعلّق من أرجله على شريط الذبح.. استسلام كامل وتصالح مع العبودية.
  • حشر مع الناس عيد.
  • كيف لي بعد أن أمضيت حياتي أطوف بين القارات أن أحشر نفسي وبكامل إرادتي مع أناس مستقرين، لم يجرؤ أحدهم على ترك مدينته أسبوعاً واحداً؟
  • هل تريد من كل الناس أن تتشرد مثلك؟
  • لا.. لو حدث ذلك سأتخذ مساراً آخر.. سأستقر حتماً. "أصدر ضحكة خلخلت أجواء الهمس".

تحركت ميشيليني ليكون وجهها قبالة وجهه مباشرة وغمزته بطريقة مشاغبة وهي تقول له:

  • اعتبر الجميع مشردين وتائهين وضائعين وأولاد خنازير.. واستقر معي إذن؟

انحنى على شفتيها ليبدأ مشواراً من القبل زرعها على عنقها وكتفيها ونهديها متلذذاً بالزغب النافر تحت لسانه. همس لها بهدوء شديد "سأستقر معك.. وأكتفي بحي الفخارين.. سأكف عن مرافقة بائعات الهوى".

يتميز حي الفخارين عن الأحياء الأخرى في مدينة باليم دو بارا بتماسك قاطنيه وتعاضدهم الاجتماعي، فهم لا يذهبون مشواراً ما، مهما كان بسيطاً، إلا مجاميع بما لا تقل الواحدة منها عن عشرة أنفار، ولا يقدم أحدهم على خطوة مهما كانت بسيطة إلا ويستشير كل معارفه حولها، حتى شجاراتهم عادة ما تكون جماعية، والأغرب ما فيها هو أنهم سرعان ما يهدأون ويخرجون من أجواء العصبية وشعور التوجس الذي يرافق الإنسان حينما يكون في حالة احتراب مع طرف آخر، وعلى الرغم من كل ذلك تحدث بعض النزاعات والخلافات فيما بينهم..

بهذه التفاصيل كانت ميشيليني تشرح له طبيعة سكان الحي خلال أول جولة علنية نهارية تصطحبه معها متجهة به صوب حانة التمثال كأهم معلم هناك، شعور بالزهو تلبسها وهي تشرح له كل صغيرة وكبيرة برزانة الحكيمات العارفات.. استجابته لطلبها وقبوله البقاء معها بعث فيها إحساساً بثقة عالية تسربت إلى ملامحها التي بدت وكأنها تبرق برايات الحضور البهي.

  • أهل الحي أناس مسالمون ويستوعبون الغريب بسهولة لكنهم يحبون المزاح كثيراً، هنا ستعيش بأمان.
  • لا يختلفون عن سواهم.
  • بل يختلفون.. يختلفون كثيراً.. ليس ثمة أمان في الأحياء الأخرى، هناك لديهم الاستعداد للقتل من أجل الاستحواذ على حذاء المجني عليه.
  • ليس لهذا الحد، عشت في أكثر من حي خلال الأشهر السبعة الماضية ولم يحدث لي شيء.
  • حادث من هذا النوع يحدث مرّة واحدة فقط، وهي المرّة التي ستلقي حتفك فيها.. أنت محظوظ لأنك لم تتعرض لمكروه خلال الفترة التي أمضيتها معهم.
  • مكروه؟ "قال ذلك بضحكة ساخرة".

قبل أن يصلا إلى الحانة فاجأهما حشد من العاملات في صنع الفخاريات، كنّ في طريقهن إلى العمل، التففن بصخب أنثوي فاضح حولهما مرحبات بإبراهيم ومهنئات لميشيليني.. كن يتفحصن إبراهيم بدهشة وإعجاب، يبحلقن فيه مبتسمات دونما حرج أو تردد، حاول أن يشيح ببصره بعيداً لكن نظراتهن تلاحقه أينما يولي وجهه، إحداهن صرخت بفرح غامر "وااااو إنها المرّة الأولى التي أرى فيها إبراهيم.. كنت أسمع عنه فقط.. إنه وسيم حقاً".

اكتفت ميشيليني بابتسامة طافحة من قيعان روحها لازمت محياها حتى بعد أن غادرهما حشد العاملات المتغامزات المتلامزات، بينما سرح إبراهيم ببصره نحو تلال الفخاريات الممتدة بعيداً لتلامس حدود المقبرة المهيمنة على الجانب الشرقي من المدينة.. كان ارتفاع مكانهما قد أتاح له مشاهدة المقبرة بوضوح، ذلك المشهد الذي أدخله في لحظات ينعدم فيها الإحساس بالزمن وترتبك فيها الأسئلة وتتقاطع كنيازك تنطلق بجميع الاتجاهات في آن واحد.

بدت المقبرة أمامه كعالم مبهم لا يفصح عن نفسه، أمنيات وأحلام غيبتها القبور المتراصة مع بعضها.. هواجس وشكوك وظنون ابتلعها العدم، يا له من أفق مسكون بالصمت، ويا له من حضور مذهل!. خيّل إليه أن العبور نحو ذلك العالم لا يختلف كثيراً عن عبوراته نحو غربته في كل مدينة عاش فيها. تذكر وصف "المكروه" الذي أطلقته ميشيليني على الموت منذ قليل، تساءل بصوت مسموع "من بوسعه أن يدرك معنى الموت ليعتبره مكروهاً؟".

احتقن وجه ميشيليني.. لا تحب هذه الأسئلة المعقدة، منذ أن عرفته وهي تشعر بالضيق، باضطراب شيء ما في داخلها كلما اقترب إبراهيم من هذا النوع من الهذيانات التي لا ترى فيها سوى تفريط بلحظات ينبغي أن تمضي بسعادة وهناء، لكن نداءً يتردد في ذهنها، يدعوها إلى تحمّل ذلك وتقبله دون انفعال قد ينهي حلمها الذي تعيش تحقيقه.. عليها أن تتحمل جنونه إذن، رددت مع نفسها بشيء تختلط فيه السخرية مع اليأس "ليس بوسع المرء أن يحقق كل استحقاقاته" قبل أن تجيبه على تساؤله:

  • ألا تراه مكروهاً؟
  • لا أراه أصلاً. قد نرى أمواتاً، لكننا لا نرى الموت نفسه.
  • لكنه غياب أبدي، ألا يعد ذلك مكروهاً؟
  • ما أدراك إنه غياب؟

دفعت باب الحانة وهي ترمقه بنظرة مشاغبة قبل أن تقول:

  • حمداً لله الذي جعلك بنصف لسان، لو كنت تجيد اللغة البرتغالية بشكل جيد لمضيت في المدينة كلها إلى الجنون.

لفحهما تيار من الهواء البارد حال دخولهما إلى الحانة التي بدت معتمة وهادئة وأجواؤها مشبعة برائحة سائل التنظيف المعطر، اختارا أقرب طاولة فارغة، حاولت أن تغادر نقاشهما الذي لا يفضي إلى نتيجة ترجوها.. حرصت على أن تقود دفة الكلام باتجاه يوفر لها لذة وجودهما في مكان عام وبهذه الحانة بالذات:

  • هذه هي حانة التمثال.. يقال إنها من أشهر حانات العالم.
  • .....
  • بوسعنا أن نمضي أوقاتاً ممتعة هنا بين حين وآخر.
  • .....
  • هل تود أن تشرب شيئاً من البيرة؟ "ثم أردفت ضاحكة" الناس هنا تحتسي البيرة صباحاً.
  • سأتناول كباتشينو.. الليلة البارحة أفرطت بشرب الكاشاسا.

تقدمت إيماندا بخطواتها الواثقة نحو طاولتهما وقد بدت بشرة وجهها مشدودة ونضرة من دون مساحيق تجميل، على الرغم من آثار الزمن التي ارتسمت حول عينيها.. رحبت بهما بابتسامة تلقائية، من دون أن تعير اهتماماً كبيراً لوجود رجل وسيم مع ميشيليني التي لم تكن من الرواد الدائمين للحانة، لكنها تعرفها كما تعرف بقية العاملات في صنع الفخار، بيد أن إيماندا قد سمعت من بعض زبائنها بوجود بحار عراقي ترك سفينته واختار البقاء في المدينة، خمنت من خلال نظرة سريعة إلى ملامحه بأنه الشخص المقصود.

  • كوبان من الكباتشينو رجاءً؟

دوّنت إيماندا شيئاً في دفتر الطلبات الصغير وأعادته إلى جيب صدريتها الأمامي، وغابت خلف دكتها تعدّ ما طلب منها وهي ترمقهما بنظرات خاطفة بين لحظة وأخرى.. كانت ميشيليني في أكثر حالاتها توقداً وهي تحاول إخراج إبراهيم من صمته الذي بدأ يتبدد شيئاً فشيئاً مع تبدد عتمة المكان، حتى اتضحت تحركات العاملين في ترتيب الاستعدادات للاحتفال بذكرى وفاة موريسو.

 

الفصل الخامس
المخطوطة

لم تكن نصيحة ليبوجينا رأياً ارتجالياً عابراً، بل أرادت للحانة أن تحافظ على كيانها المزدوج، الذي يلائم الزبائن العوام الباحثين عن المتعة في تناول البراندي والكونياك والكاشاسا وأنواع البيرة وغيرها من المشروبات، كما يلائم الخواص الذين يأمّون الحانة للسكر مع أفكارهم وهي تراقص الخمرة "نعم" بصحبة رموزهم من الشخصيات التي تجسدت أمامهم على شكل تماثيل والذين انتظمت طاولاتهم في مؤخرة الحانة، وبذلك احتلت طاولات الزبائن العوام مدخل الحانة.

بعد موت موريسو أبدت السيدة ليبوجينا مساندتها ومؤازرتها لشيخ الفخارين الذي أضحى وحيداً أمام مسؤولياته الجمّة، فكانت تحضر معه استقبال أصدقاء الحانة من زعماء ومشاهير وشخصيات مرموقة، كما اطلعت على أدق تفاصيل ما يدور في أروقة الحانة الداخلية، بما فيها الهدايا النفيسة والمنح والعطايا المالية الضخمة التي كانت تتلقاها الحانة من جهات عالمية ارتبطت بها.

ارتسمت على محيا شيخ الفخارين ابتسامة ماكرة، سبقت ردّه على سؤال ليبوجينا حول دوافع هذه المؤسسات والدول لتقديم هذه العطايا، وقال لها:

  • مكان آمن وبعيد، تلتقي فيه جميع التوجهات السياسية والفكرية والفنية، مكان يبحث الأفكار بفهم مجرد من المسلمات المسبقة والقناعات الراسخة، حاضنة لأي فكرة مهما كانت مجنونة وخرافية.. أفكار كثيرة انبثقت من بين جدران هذه الحانة، ثم تسللت إلى أرض الواقع وأصبحت حكومات وشركات عملاقة، ومنظمات عالمية رفيعة المستوى.. كل هؤلاء يقدمون لنا العطايا من أجل استمرارية نشاط الحانة.. نحن قبلة لكل العقول المبتكرة.
  • ليبوجينا بإيماءة من رأسها دلالة الموافقة، وراحت تفكر في مدلولات ما قاله.. إنها تواقة لمعرفة المزيد، قد يكون ما سمعته الآن هو الأكثر صراحة ووضوحاً مما عرفته من قبل.

لم يكن الأمر هيناً على إيماندا أيضاً، فثمة أمور كثيرة يكتنفها الغموض كانت تواجهها، على الرغم من أنها كانت مطلعة على كل ما كان يجري، فكان لابد من الاستعانة بليبوجينا للتعامل مع ذلك الغموض، وهذا كل ما ترتجيه إيماندا "التعامل مع الغموض" على عكس ليبوجينا التي كانت حريصة على كشفه وفتح جميع مغاليقه والتفرس بأسراره وفهم تفاصيله، لكنها لا تفصح عما تكتشفه، حتى تلميذها المخلص لها والمنبهر بقدراتها المعرفية "فان ترين" لم يكن على اطلاع كامل بكل ما اكتشفته من أسرار الحانة العجيبة، مع إنها أدخلته ضمن فريق الباحثين الذي أسسه الشيخ.

كان شيخ الفخارين قد أسس ذلك الفريق من بعض تلاميذه الذين تعلموا على يديه تعقيم الجثث وطلاءها بالعجينة المعالجة كيميائياً ضد اختراق البكتيريا، ليجعلوا من الجثة تمثالاً يشبه صاحبها تماماً..

كانت ليبوجينا على اطلاع بما دار في تلك الليلة، حينما جمع تلاميذه وأبلغهم بمهمة جديدة، أوصاهم بتشكيل فريق من الباحثين لترجمة ودراسة جميع الكتب والمخطوطات النادرة التي تمتلكها الحانة وتدوين دراسات مستفيضة عنها، فطلبت منه استثمار طاقات فان ترين وتوظيفه مع فريق الباحثين، فوافق على الفور، شعرت حينئذ بأنها ضمنت لها عيونا في دهاليز الحانة.

كما أن الصداقة التي ربطتها مع إيماندا كانت مصدراً لاستقاء المعلومات أيضاً. فقد كشفت إيماندا الكثير من الأسرار أمام ليبوجينا..

ذات نهار وقبل أن تكتظ الحانة بالزبائن أخبرتها عن عدد الزيارات السرية التي قامت بها كوندليزا رايس إلى الحانة وعلاقتها القوية مع شيخ الفخارين والتي تمتد إلى السنوات التي كانت فيها أستاذة في جامعة ستانفورد الأمريكية، كما كشفت عن حرص كوندليزا في تلك الأيام على استعارة كل ما كتبه أبو الأعلى المودودي الذي كان أحد أهم أصدقاء الحانة، كذلك ساهمت رايس بتهريب جثة المودودي من أمريكا - حيث مات - إلى البرازيل ليتم تحنيطها داخل تمثال، تنفيذاً لوصيته الخاصة التي تركها مع شيخ الفخارين، وحضرت عملية التحنيط بكاملها، ابتداءً من تغسيل الجثة وتعقيمها ولغاية تنصيبها على كرسي أمام طاولته كتمثال يحمل كل ملامح صاحبه...

قالت إيماندا: كانت رايس تتأمل جسده بنظرة ساهية، تميل إلى الحزن وهو يتقلّب بين أيدي شيخ الفخارين وموريسو، مما جعل الأخير يسألها بما لا يخلو من السذاجة:

  • ألمح حزناً يفيض من عينيك سيدة رايس، هل تحبينه إلى هذا الحد؟
  • يحزنني أن يموت المودودي قبل أن يشهد ما سيحلّ في بلدان الشرق جراء الأفكار التي تركها في مدوناته.
  • ألا تعتقدين بأنه كان يمتلك تصوراً واضحاً لما ستحدثه تنظيراته مستقبلاً؟
  • نعم لديه، بلا أدنى شك، بل إن تنظيراته كلها معتمدة على تصوراته لشكل المستقبل، إنه رجل حالم أكثر مما هو مفكر.. إنك لا تستطيع أن تتخيل شعوره بالزهو قبل أشهر من وفاته وهو يتابع عبر مذياعه الصغير في المستشفى، أخبار الثورة التي قادها الخميني في إيران.. شعرت حينها بأنه كمن يقطف أولى ثمار أفكاره.
  • هذا يعني أن حزنك ليس في محلّه، لأنه يمتلك تصورا كاملاً عما سيحدث، فضلاً عن أنه شهد أولى إطلالات ذلك التصوّر.
  • نعم هي إطلالات، أنت على حق، ولكنه لم يشهد ما سيحلّ بعد هذه الإطلالات، أما التصوّر فليس كل ما يتوصل إليه المفكرون يتحقق كما هو مرسوم في مخيلتهم.. العالم مليء بالمفاجآت يا صديقي موريسو.
  • لكن الثورة تحققت على أرض الواقع، وهذا ما أسس له منذ سنوات طويلة؟
  • إذا كانت الثورة بحد ذاتها تمثل كل تصوراته فهناك خلل في عقل الرجل حتماً، لأن الثورة ليست سوى بداية لمشوار طويل قد يتحول إلى حقبة من الخراب والعتمة.
  • عشرات الملايين ساندوا ثورة الخميني، هل يعقل أن يكون كل أولئك في حالة وهم؟
  • بل في حالة ثورة.. الحالة التي تغيب فيها المعايير المنطقية للأشياء.. الكثير من الشعوب المؤدلجة تعتقد بأن الثورة مفهوم تقدمي رفيع، والحقيقة هي أن الثورة مفهوم همجي بائس ولا تحتاج إلى جهد ذهني لتحقيقها، كل ما تحتاجه هو شيء من استثارة العواطف المتشنجة عند الإنسان، فهي لا تحدث إلا عندما تتلاشى كل قنوات التواصل بين البشر.
  • أشم رائحة احتقار لإرادة الشعوب في هذا المنطق الذي تتعكزين عليه يا آنسة كوندي.

تحركت كوندليزا رايس بخطوات بطيئة نحو الجهة الأخرى من جثة المودودي، جلست القرفصاء قبالتها وراحت تتحسس بسبابتها الأجزاء التي اكتمل طلاؤها بالعجينة المعالجة كيميائياً.. رفعت وجهها وألقت نظرة على وجه موريسو وسألته بصوت يوحي بودّ وألفة "منذ متى تركت قبيلتك الأمازونية؟"..

انغرست يدا موريسو في حوض المادة الطينية وأخذتا تهرسانها بدأب مفاجئ، واكتفى، بعد صمت لم يدم طويلاً، بقول يشوبه الحزن "منذ زمن نسيت مداه يا سيدتي"...

كل تلك الحكايات والأسرار التي كشفتها إيماندا لم تسكت نداء الفضول الذي سكن ليبوجينا لمعرفة أدق التفاصيل، فعاجلتها بسؤال كان من المفترض أن تكون إجابته معروفة بالنسبة لها بحكم علاقتها الطويلة الأمد مع الحانة:

  • وهل علّق شيخ الفخارين على نقاشهما ذلك؟
  • لا.. شيخ الفخارين لا يتكلم مطلقاً حينما يقوم بتحنيط جثة ما، اعتقاداً منه بأن الكلام يفسد مفعول العجينة الكيميائية ويجعلها سهلة الاختراق من قبل البكتيريا، فضلاً على أنه - كما تعلمين - لا يتكلم إلا إذا طلب منه الكلام، لكن حديثاً مطولاً دار بين شيخ الفخارين ورايس بعد بضعة أشهر من تلك الواقعة، أي بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.

توقفت إيماندا عن الكلام حينما سمعت صخب مجموعة من الزبائن دخلت إلى الحانة متوجهة مباشرة إلى الطرف القصي منها، سرعان ما عرفتهم.. إنهم مجموعة سارتر، تحلقوا حول طاولتهم العريضة التي انتصب عليها تمثال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.. كانت إيماندا تعرف طلباتهم من دون الحاجة إلى أن تسألهم بشكل تقليدي، استأذنت من ليبوجينا وغابت لدقائق داخل سرداب الحانة، ثم عادت على عجل وبيدها قارورة كبيرة من الخمرة "نعم" وضعتها أمام التمثال المهيب ووزعت الكؤوس على أفراد المجموعة مع ابتسامة تعلن عن الرضا، على الرغم من أنها لم تكن بسرور تام من وجود تلك الصبيّة المشاغبة التي انضمت مؤخراً إلى ثلة الوجوديين هذه، كانت صبية ناعمة العود، واسعة العينين، تبدو عليها صفات التنمر والمشاكسة، حتى نبرة صوتها وهي تقرأ الشعر توحي بشيء من التحدي، بيد أنها وبشهادة جميع رواد الحانة كانت تحمل ثقافة أكبر مما تتناسب مع حداثة سنها، وتكتب شعراً يثير الدهشة والذهول، لكن سبب عدم ارتياح إيماندا لوجودها يعود إلى سلوكها الخليع حينما يبدأ السكر يستحوذ عليها، وقد علق منظرها في ذاكرة إيماندا حينما أقدمت على حماقة فاضحة قبل أسابيع وكانت سكرانة حد الثمالة وبدأت تخلع ملابسها قطعة بعد قطعة، مطالبة أصدقاءها الشبان بنثر تواقيعهم والقبل المطبوعة بأحمر الشفاه على جسدها الممشوق.

كانت ليبوجينا حينذاك منشغلة بتصفح مخطوطة غير مكتملة وغير مبوبة ولا مرتبة سلمتها إياها إيماندا في بداية لقائهما، المخطوطة كانت عبارة عن خليط من مذكرات وخواطر وانطباعات واعترافات كتبها موريسو خلال فترات العزلة التي كان يمضيها وحيداً في غرفته الصغيرة دون أن يمهله العمر أن ينظمها كما يرتئي. طلبت منها إيماندا أن تطلع عليها من أجل تبويبها وتنقيحها وإكمال ما نقص منها استناداً إلى فهمها العام لما كان يعتمل في رأس وقلب موريسو.

توقفت ليبوجينا أثناء تصفحها عند عدد من العناوين الملفتة وعثرت على مقاطع منفردة ومبتورة في بعض صفحات المخطوطة، ومن شدة إعجابها بتلك المقاطع أو دهشتها مما يمكن أن يخرج من موريسو من بوح فاقع لهذا الحد، فقد قرأت على مسامع إيماندا من إحدى صفحات المخطوطة، لكي تشاركها في ما يمكن التوصل إليه من ثيمة لموضوع متكامل:

  • أي أرض يمكن أن نبني انسجاماً كاملاً بين ثقافة الإيمان المطلق التي يتبناها الشرق وبين ثقافة المنهج التجريبي التي تبناها الغرب بعد الثورة الصناعية؟.. ذلك التساؤل كنت قد طرحته على شيخ الفخارين في بداية تكوين البعد الآخر للحانة، أي بعد أن أخذت الحانة شكلها الفلسفي مع توافد بعض الشخصيات المرموقة وتحليقهم مع الخمرة (نعم) وأكثر ما حفزني لاستئناف ما يدور برأسي من شغب الأفكار هو إجابة شيخ الفخارين السريعة، حيث قال: هنا.. في هذه الحانة يمكننا أن نؤسس المكان الذي تتلاقح فيه جميع الأفكار... أذهلني حماسه للبدء بمشروع كبير من هذا النوع. لقد علمتني تلك التجربة أن الإقدام والقدرة على تنفيذ مشاريع عظيمة لا يحتاج بالضرورة إلى فريق من الفلاسفة بقدر الحاجة إلى كائن لا يخاف من عقله".

انتقلت ليبوجينا إلى صفحة أخرى لتقرأ بهمس لا يكاد يفهم:

"سألني أبو الأعلى المودودي في ثالث لقاء يجمعنا حول رأيي في الإنسان حينما يكون ملتزماً بدينه، فوجدتني معرباً عما في داخلي بكل ما أمتلك من صراحة، حيث أوضحت له بأن حالة الإيمان بالدين أسهل ما يمكن الإقدام عليه، كما أن من الحماقة أن نترك العقل الإنساني في تفسير الظواهر العصية على الفهم ونلجأ إلى عقل شيء هو غير مفهوم أصلاً اسمه الغيب.. استرسلت ببوحي عما يجول بخاطري خلال تلك الليلة حتى وصل بي الحد إلى أن أقول له بأن الدين يقودنا إلى الدين نفسه وليس لأبعد من ذلك، ومما أثار استغرابي هو أن المودودي استجاب لصراحتي بصراحة أوسع منها، حيث وافقني فيما ذهبت إليه ولكن بصورة مغايرة وبدأ يتحدث عن ضرورة وجود الدين لقيادة المجتمعات والسيطرة عليها من خلال فرض الخطوط الحمراء والترغيب والترهيب بدلاً من فتح الباب على تساؤلات.. (هدفنا أن نقود الناس إلى طاعة الدين ليس إلا يا صاحبي) ثم بدأت نبرة المودودي تأخذ منحى جاداً وهو يقول: تخيّل معي كيف يكون شكل الحياة بوجود ملايين الفقراء يعيشون بلا رادع ديني ولا يخشون من مقدس ما؟ لا شك أن هذا الكوكب سيتحول إلى قطعان من الوحوش الكاسرة.

أدركت حينها أن الصراحة والوضوح لهما مفعول سحري لا يدركه الكثير من الناس، لأنهما يحتاجان إلى شجاعة المبادرة في الكشف عن الذات من أجل الوصول إلى كشف الآخر".

لم تعقب إيماندا بشيء البتة، لأنها على إطلاع مسبق بكل ما تحتويه المخطوطة واكتفت بإعادة ما أوصت به ليبوجينا بأن لا تطلع أحداً على المخطوطة وتكتفي بانجاز ما طلبته منها بسرية وكتمان. دسّت ليبوجينا المخطوطة في حقيبتها اليدوية ووعدتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام في غضون أيام قليلة، وغادرت الحانة تسابق فضولها المتصاعد كحريق.

عكفت ليبوجينا على قراءة كل ما جاء في المخطوطة وتعرفت على الكثير من الخفايا التي كتمها صاحبها طوال حياته، عثرت على ما أرّقها من أجل الوصول إليه عبر سنوات من الاصطدام بملامح شيخ الفخارين العصيّة على الإفصاح عما خلفها، القادرة على ابتلاع حالات الرضا وحالات الرفض بذات التقاسيم.

أعادت قراءة ما جاء في إحدى صفحات المخطوطة مرات عدّة، استلقت على سريرها الواسع مغمضة العينين لتتمكن من استيعاب حقيقة تلك المحاكاة الذاتية التي لم يخطر على بالها يوماً أن يبوح بها ذلك الكائن الغامض.

"لا أعلم ما إذا كان ينبغي على المرء أن يترك أثراً خلفه، أم يمضي متلاشياً كغيمة عابرة تبتلع أسرارها ورغباتها؟.. وما جدوى الأثر في جوف هذه العتمة التي تلفنا؟ ترددت كثيراً قبل أن أسطر كلماتي هذه، لا أعرف أهو خوف من لعنة الأجيال المقبلة علينا، أم شغف مرضي في الحفاظ على لمعان صورتنا بعد رحيلنا عن هذا العالم؟ كما لا أعرف سر التناقض الذي يجتاحني - هذه اللحظة - بين رغبتي في البوح وحرصي على عدم إطلاع أحد على ما أبوح به!"

وفي صفحة أخرى كتب مقاطع يبدو إنه عزف عن مواصلة كتابتها، لكنها كانت تمنح شيئاً عن حقيقة آرائه وقناعاته:

"كل ما تحتاجه لخلق مكان مقدس مثل هذا الذي نحن فيه هو لغة معتمة، غير مفهومة، تجول في باطنها المعاني المتعددة بكسل واسترخاء، لغة تغرس الحيرة والدهشة والذهول في عقل من يلج عوالمها، لتكون آلة سحرية لتعطيل حالة الشك وتهشيم الذاكرة وتحصين الوهم بالإصرار على كونه حقيقة مطلقة لا يدركها إلا المباركون".

في الربع الأخير من المخطوطة وجدت مقطعاً يتحدث فيه عن إعجابه بانشغالات وطريقة تفكير الموسيقي والمطرب العراقي صالح بن عزرة المعروف باسم صالح الكويتي:

"يدهشني ما يشغل بال المطرب العراقي صالح بن عزرة، فقد باح لي ذات مرّة بأنه منشغل في التفكير حول إمكانية استعادة أصوات الأسلاف من الفضاء، مستنداً إلى النظرية الفيزيائية التي تقول بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، وعلى اعتبار أن الصوت هو سيل من الذبذبات التي هي بدورها مادة (لا تفنى) ذلك يعني بأن الصوت يبقى سابحاً في الفضاء ولا يفنى إلى الأبد.. ولابدّ من طريقة تعيننا على استعادة صوت أي شخصية تاريخية ونسمع كلامها مباشرة دون أن تضللنا الأكاذيب التي ملأت مدونات التاريخ".

بضعة أيام وأنهت ليبوجينا ما طلب منها، أرفقت ملحقاً للمخطوطة دونت فيه انطباعها حول ظروف وحيثيات وزمان كل مقطع من مقاطعها، وقامت بنسخ المخطوطة والملحق لتحتفظ لنفسها بنسخة من دون أن تستأذن إيماندا.. ومن يعرف ليبوجينا جيداً لابدّ له أن يتوقع منها ذلك، لأنها كائن مجبول على امتلاك الوثائق والمعلومات مهما كانت أهميتها، كما أنها حريصة على عدم البوح بما تمتلك. وهكذا حافظت ليبوجينا على سر المخطوطة، لكنها وبعد حين أفشت السر لتلميذها الصيني فان ترين الذي لم يعد تلميذاً وحسب.

 

الفصل السادس
دعابات ومكائد

الشعور بمرارة الفقدان والهيام في الطرقات لاستعادة حبيب ضال جمع بين هاريسا، الأستاذة الجامعية الشابة وبين ميشيليني، العاملة في صنع الفخاريات.. ذاب الفارق الثقافي والاجتماعي في صحبتهما. رفقة مفاجئة تأسست على الشكوى من لوعة عشق معاق.. ناحت هاريسا الرقيقة، المرهفة المشاعر، على صدر ميشيليني وكشفت لها أوجاع حب يتلاشى أمام ناظريها وعشرة عمر تتفسخ بلا مبالاة ولا ندم.. غصّة تلازم القلب وخيبة تقتحم الوجدان وجفاء يبعثر الروح، فقد غاب حبيبها فان ترين بين دهاليز الحانة وأسرارها وبين سطوة ليبوجينا وجبروتها.

ولولت ميشيليني بذات النبرة المنكسرة، شاكية عدم اكتمال فرحتها بإبراهيم المجبول على الضياع والإمعان في التيه. قالت بحسرة يخالجها شعور بالخسارة:

  • كلما انتشلته من وحل سقط في آخر.. فبعد أن انتزعته من مرافقة بائعات الهوى وبنات الليل، ها هو مولع بهذه الحانة اللعينة وصاحبتها الشريرة، ولا يأتي إليّ إلا حينما ينفذ آخر ريال من جيبه، إنه طائر نزق يصعب الإمساك به وترويضه.
  • ليت صاحبي خلق نزقاً، لكان الأمر يحمل في طياته بعض المواساة، لكنه لم يكن كذلك، فقد أمضينا سنوات هادئة وهانئة دون أن يعكر صفاء حبنا جفاء أو زلل.. أشعر بأني ارتكبت حماقة كبرى حين دعوته لزيارة هذه المدينة المجنونة.
  • لا ينبغي أن نستسلم. "قالت ميشيليني بحماس مضطرب".
  • ماذا بوسعنا أن نفعل؟
  • علينا أن نستعيدهما.
  • هل من وسيلة؟
  • نراقب، نتربص، نداهم، نتلصص، نفعل ما يتوجب على المرأة فعله.
  • هل تعتقدين أن ذلك سيكون مجدياً؟
  • نعم، فنحن نحطم الجرار المعطوبة كإجراء أخير إذا لم نتمكن من إصلاحها، لأن تحطيمها يمتص الشعور بالخسارة.
  • ؟!
  • لا أقصد تحطيمهما.. بل استعادتهما بأي وسيلة.. أشعر أن حرقة تعتمل في قلبي.. علينا أن نقتفي آثارهما.
  • (......)
  • لا بدّ أن نرى ونسمع ونعرف ما يحدث، لكي نعرف كيف ندافع وبأية طريقة.
  • (......)
  • لا عليك.. الليلة سنبدأ مهمتنا الأولى في مراقبتهما.

لم تكن هاريسا في بادئ الأمر مقتنعة بمقترحات ميشيليني، لكنها وجدت فيها شيئاً من عذوبة المغامرة، فاستعدّت لتجربة تجسسية لم تخضها من قبل.. ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه ميشيليني، شعرت بنزعة القيادة تسري في روحها، غبطة من نوع خاص تلبستها، خصوصاً وأنها ستقود أستاذة جامعية.. كما بدت هاريسا أكثر حماساً في تطوير آليات التجسس، فقد تفتقت ذهنيتها بطرح فكرة التنكر في ثياب السياح الأجانب ليكون بوسعهما التجول في كل مكان دون إثارة شكوك من أي نوع.

أحضرت هاريسا عدّة التنكر، باروكتان من الشعر الاصطناعي، ملابس بتصاميم وألوان أوروبية، نظارات شمسية كبيرة الحجم، علبة ماكياج تحتوي على مساحيق ملونة ورموش اصطناعية، بالإضافة إلى حقيبتين صغيرتين من النوع المزود بحزام يشد على الخصر، وكاميرتين فوتوغرافيتين، وإكسسوارات أخرى من لوازم التنكّر، فتحوّل كوخ ميشيليني إلى ما يشبه صالوناً للتجميل.

انهمكتا بما لا يخلو من البهجة في تجهيز نفسيهما لخوض مغامرتهما الليلية الأولى، أصبحتا مثل مراهقتين بريئتين تعدّان مكيدة صغيرة.. حلت لكليهما لعبة التخفي خلف الألوان والشعر المستعار.. خرجت ضحكة من أعماق ميشيليني وهي تنظر في المرآة بعد أن انتهت هاريسا من مساعدتها في وضع اللمسات الأخيرة على ماكياجها وقالت بصوت يشوبه الارتجاف:

  • أبدو مثل بائعات الهوى!.
  • لا عليك، فأنت تبدين كسائحة فرنسية.
  • فرنسية؟ وكيف أتحدث؟ "أطلقت ميشيليني ضحكة ساذجة".
  • الليلة سنكون سائحتين فرنسيتين.. كل ما عليك فعله هو الصمت وتجاهل من يحاول الحديث معك.
  • أستطيع أن أقول كلمة (ميغسي).
  • هذا يكفي لتكوني فرنسية الأصل والفصل. "قالت هاريسا غامزة بمرح".
  • هل لي أن أتخلى عن هذه الكاميرا الثقيلة المتدلية من عنقي دون أن أجيد استخدامها؟
  • لا يكون السائح سائحاً بدون كاميرا، إنها من الضروريات، أما استخدامها فلا يحتاج سوى الضغط على هذا الزر. "وأشارت لها على مكان زر التصوير في الكاميرا".
  • كم أتمنى أن أذهب إلى مكان عملي لأصور رفيقاتي وهن يصنعن الفخاريات، سيكون ذلك ممتعاً حقاً، خصوصاً حينما ينظرن إليّ معتقدات بأني سائحة فرنسية، يا لها من لعبة جميلة!.
  • سنفعل ذلك.. وسنقوم بكل ما يفعله السياح.

كانت حانة التمثال هدفهما الأول.. انطلقتا مع حلول الظلام.. ثمة قلق خفي داعب كيانيهما، سرعان ما تجاوزتاه بتشجيع إحداهما للأخرى.

قبل الوصول إلى الحانة اقترحت هاريسا القيام بجولة حول الحانة، فهناك نوافذ خلفية لمحتها فيما مضى وتريد اكتشاف ما يجري وراءها.

بدأت محاولات التلصص عبر الفتحات الطولية التي تتركها الستائر، فكان لها أن ترى المكان الذي هو عبارة عن دهليز طويل تتوسطه طاولة شغلت معظم مساحة المكان، تكدست عليها كتب ومخطوطات ورزم أوراق مطوية وفي نهاية الطاولة يجلس رجلان أحدهما يقرأ بكتاب كبير الحجم والآخر يدون على جهاز حاسوب محمول ما يقرأه الرجل الأول.. جالت نظرات هاريسا عبر الفتحة الضيقة لترى حبيبها "فان ترين" في الجهة الأخرى من الطاولة، منهمكاً بقراءة إحدى المخطوطات، ولو قدر لها أن تخترق الحاجز الزجاجي لتتمم عملية التلصص على نوع المخطوط الذي بين يديه، لعرفت بأنه يحمل عنوان "حروب خيرة وكوكب شرير" دون أن يذكر الكاتب اسمه وقد اكتفى بترك ملاحظة على الصفحة الأولى يوصي بعدم طباعته والاكتفاء بقراءته كمخطوطة لمن يهمّه الأمر من النخبة فقط، أو كما يطلق عليهم الكاتب "خاصة الخاصة". ولو تمكنت هاريسا من تصفحه لأدركت أن الكاتب يعتمد على فكرة تبدو الأغرب من نوعها، مفادها هو أن عدد الولادات بين بني البشر يفوق بكثير عدد الوفيات، وهذا ما يهدد الحياة على الأرض نتيجة الكثافة السكانية المتزايدة، ويعتقد الكاتب أن الحل الأمثل هو خلق حروب دائمة في المناطق المؤهلة للصراع.

استغرقت هاريسا بتأمل ملامح حبيبها المتغيب عنها منذ ثلاثة أسابيع، وهي تنظر من خلف زجاج النافذة، داهمها هاجس مهين، عبر بها نحو ضياع لا قرار له، تساءلت في سرّها عن جدوى اللقاء من وراء حاجز زجاجي بارد، لقاء عقيم، باهت، موحش، انسابت دمعتان حارقتان على وجنتيها، شعرت ميشيليني بالمرارة التي تعتمل في قلب هاريسا، فربّتت على كتفها بحنان لتتحول تلك البادرة العطوفة إلى نوبة بكاء مرير.. لم تتمكنا حينها من دخول الحانة، فقد سالت دموعهما على الماكياج وخربته.

جولة مثمرة، مقنعة، مشبعة، اكتفتا باكتشاف زاوية للرؤية، نافذة تمنح نفسها للصلاة على حبيب من خلف حجاب زجاجي.. عادتا إلى الكوخ راضيتين وفي النية جولة أخرى في الظلام ذاته.

استلقت هاريسا على سرير ميشيليني بطمأنينة واسترخاء، أغمضت عينيها لتستعيد صورة فان ترين وهو منهمك بين المخطوطات وأكوام الكتب، تمنّت لو أن كل الذي سمعته عن علاقته مع ليبوجينا مجرد شائعات سخيفة، صلّت في سرها وتوسلت للرب بأن يعيده إليها.

أعادتا إصلاح ماكياجهما وعاودتا المغامرة.. الطريق إلى الحانة هذه المرّة بدا أقصر مما مضى. وميشيليني بدت أكثر ألفة مع الكاميرا المتدلية من رقبتها، كما بدت هاريسا أكثر استقراراً وتصالحاً مع حالة التلصص التي تعيشها للمرّة الأولى.

دفعتا باب الحانة الضيق، صخب يعم المكان المكتظ بالزبائن، أشخاص يتحركون بدأب في الطرف القصي منه، خمنت هاريسا بأنهم يستعدون لإقامة نشاط مما اعتادت عليه الحانة بين فترة وأخرى، توجهتا بخطوات سائحتين فرنسيتين نحو طاولة فارغة في الزاوية القريبة من المدخل، في الجهة التي يشغلها الزبائن الطارئون. طلبتا شيئاً من النبيذ الأحمر وبدأت نظراتهما تجوس أروقة الحانة، غمزت ميشيليني بإشارة لهاريسا للفت انتباهها لوجود إبراهيم الذي اتخذ له مكانا منعزلاً على أحد المقاعد المرتفعة الموزعة بمحاذاة دكة الحانة، كان ساهياً يداعب سيجارته بأصابع كسولة ويراقب الفقاعات المتصاعدة من قاع كأسه دون أن يعبأ بانشغالات إيماندا وليبوجينا وفان ترين في تجهيز منصة صغيرة لإقامة محاضرة تقدمها عالمة اللسانيات الشهيرة جوديث جرين بعنوان "الحداثة ودرجة الصفر البلاغية".

واصلتا تعقب حركة المكان وتفاصيل ما يدور فيه بنظرات خفية، ابتسمت هاريسا مندهشة من التصنع المفرط الذي تمارسه ميشيليني في محاولة لتقمص شخصية سائحة فرنسية، كانت تبالغ في فعل كل شيء، طريقتها المائعة في تناول كأسها، طريقة تدخين سيجارتها التي وضعتها في مشرب بالغ الطول، كانت حريصة على استخدام كل عدّة التخفي واكسسواراته، همست لها هاريسا بابتسامة ودودة بأن تخفف قليلاً من تلك الحركات المتصنعة:

  • الإفراط في الشيء طريق للتفريط به.
  • ماذا؟ إفراط.. تفريط.. لا أفهم هذا الكلام السوقي. "قالت ذلك بطريقة أكثر ميوعة مما سبق، مع ابتسامة نزقة تشق شفتيها".

انزلقت ضحكة مكتومة من فم هاريسا كادت تثير انتباه الجالسين حول الطاولات المجاورة.

  • كنت أقصد أن السائحين عادة ما يتعاملون بطريقة تلقائية.
  • إذا تعاملت بتلقائية سأكون ميشيليني وحسب، فما جدوى التنكر إذن؟

لم يكن بوسع هاريسا استحضار جواب على ذلك، اكتفت بابتسامة تشي بالاستسلام، بينما راحت أصابعها تهرش شعرها الاصطناعي بحيرة عابرة.

عمّ المكان هدوء مفاجئ، لقد بدأت الندوة بصوت ليبوجينا مرحبة بقدوم عالمة اللغويات جوديث جرين، ساردة باختصار سيرتها العلمية والمعرفية.. كان صوتها القادم من أقصى الحانة يخترق إذن هاريسا كما لو أنه احتكاك شفرة حادة على بلاط أملس، تخيلت للحظة بأنه صوت قادم من الجحيم، هاجمها شعور بالغثيان، بالقرف، رغبة بالصراخ بوجه تلك العجوز المتصابية.. أحنت رأسها بيأس محدقة بكأس النبيذ الأحمر وهي تهزه بيدها المضطربة، حاولت جاهدة إخفاء علامات الحزن التي اجتاحت ملامحها.. تمنت لو أنها تمتلك الوقاحة الكافية لقذف ليبوجينا بكأس النبيذ.

مدت ميشيليني كفها نحو ذراع هاريسا وراحت تهدهدها برفق، فهي تشعر تماماً بما يختلج في دخيلة صديقتها، حاولت التخفيف عنها بابتسامة باهتة سرعان ما تحولت إلى مزحة أجهزت على حالة الحزن والتفرس في الوجع، حينما ناولتها منديلاً ورقياً كان بيدها:

  • خذي هذا.. امسحي دموعك.. لا تقلقي، لم أستخدمه سوى مرتين فقط.

انفلتت ضحكة خفيضة من بين شفتي هاريسا، ثم أعقبتها بتعليق لا يقل طرافة مما سمعته:

  • "ميغسي سنيورا".. لقد أنهيت المهمة بكميّ قميصي.
  • سنيورا، سنيورا؟ ماذا تختلف السنيورا عني؟ هي لديها شق بين فخذيها وأنا لدي الشق نفسه، بل إن الشق الذي عندي أفضل بكثير، على الزيرو، لأني لم أستخدمه سوى مرات قليلة، كما هو حال منديلي الورقي هذا.

انتبهت هاريسا إلى أن جوديث جرين قد بدأت محاضرتها، وكان يهمها أن تستمع، خصوصاً وأن الشأن اللغوي يعد جزءاً من دراستها، فزحزحت كرسيها قليلاً لتكون بمواجهة الصوت القادم من أقصى القاعة، بينما انشغلت ميشيليني بمراقبة إبراهيم المشتت بين تأمل كأسه الفوارة تارة وبين التحديق بأنواع قناني الخمور المرصوفة على الرفوف المتوازية قبالته تارة أخرى.

ما شدّ هاريسا إلى ما جاء في الندوة هو ولوج البروفيسورة في باحة المحظور والتشكيك بكل ما يتعلق بالنصوص التاريخية، على اعتبار أن اللغة وحدها لا تكفي لبناء يقين مطلق بتلك النصوص:

"إن أكبر حماقة يرتكبها الإنسان هي حينما يصدّق بقدسية اللغة، تلك القدسية الزائفة التي روجت لها مؤسسات تريد من الحاضر أن يرتدي لباس الماضي، ولا تريد للتاريخ أن يغادر زمننا الحالي، ومن أجل تصديق التاريخ والإيمان به كثوابت مطلقة كان لابد لهم من إضفاء صفة القداسة عليه من خلال تقديس اللغة نفسها كوسيلة تربطنا به.. كيف لنا أن نسلّم عقلنا المتحرك إلى تاريخ ثابت؟ وكيف لنا أن نؤمن بثابت عبر وسيلة متحركة وهي اللغة؟ فلو أجرينا تشريحاً لبنيوية اللغة، أي لغة، لأدركنا الغياب التام للمعنى الثابت الموحد.. لأدركنا أن النص، الجملة، الكلمة، بل حتى الحرف الواحد قد يحمل معاني ومدلولات متعددة تصل حد التناقض، ما هي فائدة الكلمة إذا كانت محملة بما لا حصر له من المعاني المتضاربة، وأي وسيلة معتمة هذه التي نريد أن نصل من خلالها إلى فهم التاريخ بشكل واضح؟ لابدّ من إيجاد آليات فعالة لإعادة النظر في اللغة وتقديسها.. لابدّ من بناء جديد لفهم اللغة ككيان متطور ومواكب لروح العصر، ولابدّ من التحرر من سطوة القدسية الزائفة التي ألصقوها باللغة.. إصلاح اللغة أساس إصلاح ما سواها.. نحن بحاجة إلى اختراع رياضي يجعل اللغة أحادية المعنى، بحاجة إلى ابتكار يتطابق في ظله الشكل اللغوي مع معناه".

بدأت همهمات اعتراض خافتة تصدر من جهة الطاولة التي ينتصب على إحدى كراسيها تمثال أبي الأعلى المودودي، سرعان ما تصاعدت حتى وصلت حداً يقترب من الفوضى.

لم تظهر البروفيسورة أي امتعاض.. توقفت عن الكلام لبرهة، ثم تساءلت بهدوء وثقة:

  • نعم.. ماذا هناك.. هل من سؤال؟

تطوّع أحد مريدي المودودي منيباً عن المعترضين:

  • نحن نعترض بشدّة على ما جاء في حديثك، ذلك لأنه يمس بعقائد الملايين من البشر ومحاولة لزعزعة إيمان الناس بدينهم.. وكل ما سمعناه منك لا يعدو عن كونه دس السمّ بالعسل.
  • حسناً إذن.. وماذا سيحدث لو تزعزع إيمانهم؟
  • سيغدون كما البهائم لا يميزون بين طريق الخطأ وطريق الصواب، مما سيحمّلهم آثاماً تقودهم إلى الجحيم.
  • الجحيم الحقيقي هو أن تنقاد بسلاسل اللغة إلى الإيمان المطلق بما هو معتم وغامض.. أن تؤمن بالشيء ونقيضه في الوقت ذاته.
  • الإيمان هو الهبة الإلهية التي تقودنا إلى الطمأنينة والنجاة من وساوس الشيطان.. أما التشكيك فهو من مكائد العقل ليبعدنا عن أعمالنا الصالحة.
  • هذا ما أعنيه تماماً.. الأعمال الصالحة، ما هو التفسير اللغوي لـ "الأعمال الصالحة"؟
  • الأعمال الصالحة تعني طاعة الله، الالتزام بما ترتضيه الشرائع الإلهية، الالتزام بتعاليم الدين، السير على خطى الصالحين والشهداء. "وأشار بيده نحو تمثال المودودي بحركة تقترب من الأداء المسرحي.. بينما تعالت خلفه صيحات التكبير.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر".
  • هل كل الناس تفهم معنى الأعمال الصالحة على هذا النحو الذي ذهبت إليه؟
  • نعم كل الناس.
  • أنا أفهمها بطريقة مغايرة، فالأعمال الصالحة تعني لي الالتزام بإشارات المرور، وعدم الحديث عبر الهاتف النقال أثناء القيادة، ومساعدة أطفالي على أداء واجباتهم المدرسية، كما إني أمارس العمل الصالح كل صباح حينما أشارك جارتي المسنة رياضتها الصباحية، وغير ذلك من الأعمال المشابهة. "ضجت القاعة بالضحك".
  • أنت تفهمينها على هذا النحو لأنك كائن دنيوي ولا تعيرين اهتماماً لآخرتك.. أنا أشك في إيمانك بالله.
  • هذه هي مشكلتكم، فأنتم لا تتعاطون مع مفهوم الشك إلا حين تلصقونه كتهمة على الآخر. ليتكم تمارسون الشك في كل ما تعتقدون.

تململت ميشيليني في جلستها، أطفأت سيجارتها بشيء من الضجر، همست لهاريسا "متى سنغادر.. أشعر بأني أختنق من هذا المكان".

غادرتا الحانة يخالجهما شعور بنجاح المهمة، وآخر ما سمعته ميشيليني صوت إبراهيم وهو ينادي على كأس جديدة.

سارتا متهاديتين على الطريق المؤدي إلى كوخ ميشيليني، نسمات عذبة تداعب وجهيهما، قطعتا أكثر من نصف الطريق دونما كلام.. السير بصمت قد تكون حقيقته حشداً من الأحاديث غير المكتملة والتي تصل أحياناً حد الصخب.. صخب صامت.. لا تكاد هاريسا تتذكر من ذلك الذي تحدث لها طويلاً فيما مضى عن أسرار الصمت والانغماس في لذائذ مقاطعة الكلام، لم تكن حينها مقتنعة جداً بما تحدث به ذلك المنسي، حاولت أن تتذكر ملامحه دون جدوى، كل الذي تذكرته هو أن لقاءً سريعاً جمعها به في أحد المطاعم الصينية، كان يقول أو يدعي، بأنه يمارس الصمت لأسابيع وأحياناً لشهور، حتى تنتابه خشية أن تصاب حنجرته بالضمور، لكنه يستأنف صمته تحت وطأة تلك اللذة العارمة التي يشعر بها خلال فترات عزلته....

أعادتها كلمات ميشيليني بصوتها المتهدج من إبحارها في تجاويف الذاكرة:

  • لم أفهم شيئاً مما قالته تلك البروفيسورة! عم كانت تتحدث؟.
  • عن الجنون. "أجابتها بلا مبالاة".

عادت ميشيليني إلى صمتها تلفها حيرة الجواب الغامض، أدركت أن تلك الإجابة تخبئ خلفها كلاماً كثيراً، أكبر مما يستوعبه عقلها، تمنّت لو أنها تربت في أسرة تعرف أهمية التعليم، لكان حالها ليس كما هو عليه الآن، حاولت أن تعيد المحاولة مع هاريسا، علّها تصطاد شيئاً تفهمه:

  • آه، أشعر بصداع.. تلك البروفيسورة قالت كلاماً كثيراً بلا معنى.
  • نعم.. المحاضرة كلها كانت تدور في فلك الكلام الذي ليس له معنى، البروفيسورة كانت تتحدث عن الفهم الخاص لكل واحد منا للكلام.. بمعنى، أن الصورة التي تتشكل في عقلك عن الكلمة قد تختلف عما تتشكل في عقل أي إنسان آخر، فلو قلت لك كلمة "جنون" مثلاً، ما الذي يخطر على بالك الآن؟
  • إبراهيم طبعاً. "قالت ضاحكة".
  • حسناً.. لكننا لو قلنا لإبراهيم الكلمة نفسها "جنون"، ربما سترتسم في ذهنه صورة رجل أنيق يهم بالذهاب إلى عمله باكراً.. فكيف لنا أن نحدد المعنى الصحيح لكلمة "جنون" بين هذين التصورين؟ كذلك لو مضينا في جرد كل الكلمات لمعرفة معانيها، لوجدنا أن اللغة كلها ليس فيها معنى ثابت.. هذا ما كانت تتحدث عنه البروفيسورة.
  • وأنت ماذا تعتقدين، هل هي على حق في ذلك؟
  • كل الذي اعتقده الآن هو أننا وصلنا.. كما أعتقد بأني سأمضي ليلتي معك في كوخك الجميل.

 

* * *

 

انغمست هاريسا في صداقة كان يفترض أن تكون عابرة، شيء خفي جذبها إلى عالم ميشيليني الخالي من التعقيد.. كوخ صغير، وحلم برفيق عمر لأنثى مهمشة، عالم يعانق الحياة كل لحظة، يتقافز راقصاً تحت خيوط الشمس، زادته هذه الصداقة عناوين وفضاءات جديدة.. عالم تغلغل إلى روح هاريسا وجذبها برفق نحو مساحاته البهية الوديعة..

اكتشف هاريسا لذة المرح والمزاح الذي لم تقدم عليه يوماً، وتعلمت انتزاع البهجة من خاصرة الزمن.. استعذبت رفقة ميشيليني واستعذبت مشاكستها، بدأت تحرص - من أجل مشاكستها - على الحديث معها بطريقة يصعب على كائن غير متعلم مثل ميشيليني فهمها.. استعذبت إطلاق الأجوبة المبهمة بوجه ميشيليني لتتأمل قسماته وتضحك. كما استعذبت مشاوير التلصص الليلية واقتفاء الأثر.

سألتها ميشيليني ذات مشوار تلصصي، كما يحلو لهاريسا تسمية ذلك النوع من المشاوير، عن أسباب عدم إقدامها على شراء بيت بدلاً من تبديد أموالها بدفع الإيجار الشهري، أجابتها على الفور: "إننا يا صديقتي نسكن في مدينة باليم دو بارا التابعة إلى البرازيل، التابعة بدورها إلى أمريكا اللاتينية التي هي جزء من الكرة الأرضية المنتمية كونياً إلى مجرة درب التبانة السابحة في كون ليس بمقدورنا تخيل حجمه، فما جدوى أن نشتري بيتاً في تلك النقطة المتناهية الصغر، والغائصة في هذا الكون الهائل؟".

تلعثمت ميشيليني بكلمات غير مفهومة في مواجهة تلك الإجابة الخارجة عن حدود المألوف.. لم يكن بوسعها التخلص من الدهشة والاضطراب في كل مرّة تتعرض لمثل ذلك الموقف، فقد وضعتها هاريسا في المحنة ذاتها في وقت سابق حين تورطت في طلب الاستشارة:

  • كيف لي أن أجعل إبراهيم يكف عن شرب الخمر؟
  • أمامك طريقة واحدة ليكف إبراهيم عن شرب الخمر، وهو أن تصنعين له خمرة في حالة صلبة.... ليأكلها. "أجابتها هاريسا على نحو سريع".

دعابات صغيرة من هذا القبيل لم تشكل في ذهن ميشيليني هاجساً مزعجاً، فهي ومضات تنعش صداقتهما وتزيح الفوارق نحو حدود بعيدة، ووهج مبهر يملأ الروح حيوية، ليدخل هاريسا في باحة الكشف عن آدميتها خارج أجواء الجامعة الباردة ومزاجها الحاد، دخلت في باحة عثرت فيها على روحها الفطرية التي تمارس حزنها بلا تكلّف وتصنع، كما تمارس فرحها ودهشتها ومرحها بتلقائية طفولية.. حتى زملاؤها هناك لاحظوا التغيير الذي غمرها بوضوح.

زارت الفخارة التي تعمل فيها ميشيليني وتعرفت إلى العاملات الثرثارات اللاتي أدمنّ اجترار ذكرياتهنّ مع رجال صادفوهن ذات زمان.

في الأيام الأولى من مشاوير التلصص لم تحصلا على معلومات تستحق التوقف عندها.. ميشيليني تراقب إبراهيم وهو يكرع كؤوسه بسرعة وينام على الدكة غير آبه بالملصق الذي توزعت نسخه على جدران الحانة والذي يشير إلى أن "النوم ممنوع"، وهاريسا تراقب فان ترين وهو عاكف على تصنيف المخطوطات ودراستها وتدوين ملاحظاته كمحقق مخطوطات، هذا كل ما حصلتا عليه، فضلاً عن بعض المعلومات الهامشية المتعلقة ببعض رواد الحانة والتي لم تكن ذات شأن بما تبحثان عنه.. إلا أن توالي الأيام حمل معه اكتشافات مريعة، ما كان لهاريسا تحمّلها لو أنها اكتشفتها قبل أيام الفخّارات.

اكتشافان مفجعان شهدتاهما على مدى يومين متتاليين، الأول حين توجهتا إلى بيت ليبوجينا في وقت متأخر من الليل بعد أن لاحظتا غياب فان ترين عن مخزن المخطوطات التابع للحانة، وبعد أن استخدمت هاريسا خبرتها في معرفة تفاصيل بيت ليبوجينا، عثرت على شق بين ستائر نافذة تطل على غرفة النوم وأخرى على صالة الجلوس وكان المشهد صادماً لهاريسا....

إنارة حمراء تشفّ عن ذوبان في عمق اللذة واسترخاء ناعم في حضن الغياب العذب، كانت ليبوجينا ترتدي قميص نوم يكشف عن انتصارات الزمن على الجسد، تطرح رأسها ساهمة على صدر فان ترين العاري، مستمتعين بلحظات مشبعة بالرغبة في الالتحام والتوحد، لمسات حريرية تنساب من بين أصابعها لتقطف ما تشتهي من ثمار الجسد، نزلت أصابعها بنعومة نحو قبلتها المنتصبة كرمح.. هبطت مقتفية آثار أصابعها بشفتيها المتوهجتين بشهوة وإثارة.. كان المشهد يشي بأنها لم تكن خلوتهما الأولى.

لم تحتمل هاريسا ما رأته من خلف النافذة، أبعدت وجهها المحتقن بذهول حارق، غطت ملامحها بكفيها، كأنها تريد تعطيل كل حواسها، لا تريد ما يربطها بهذا العالم، كادت تهوي منهارة لولا مساندة ميشيليني لها.

المشهد الآخر كان في اليوم التالي، حين قررتا الاختباء داخل الحانة لما بعد إغلاقها في ساعة متأخرة من الليل، وفي غفلة من الحضور اختارتا أحد مخابئ الدهليز الذي يربط بين صالة الحانة وغرفة المخطوطات.. بدت الصالة وهي فارغة بعد الإغلاق أكثر اتساعاً مما هي عليه مع وجود الزبائن.. وإيماندا قد غادرت إلى سكنها الملاصق للحانة، بعد أن أجرت التشطيبات السريعة التي اعتادت على ممارستها كل ليلة..

تنقلتا بين التماثيل، تأملتا طريقة جلوس كل تمثال على كرسيه، كانت أوضاع جلوسهم المهيبة توحي بعظمة الشأن لكل منهم. تسللتا إلى غرفة المخطوطات، تنقلتا بين رزم الأوراق والكتب ذات الأغلفة الجلدية السميكة.

قررتا منذ البداية بأن لا تتركا أثراً بعد أن تمضيا ليلتهما في دهاليز الحانة.. لم يكن ثمة شيء بعينه تفتشان عنه.. تفتيش غريزي.. التفتيش من أجل التفتيش وحسب، علّهما تعثران على خيط ما يقودهما إلى هدف التلصص الأساسي الذي اتخذتاه وسعتا لتحقيقه.. كما ليس ثمة ما يشكل مصدراً لخشيتهما من شيء.. الحانة فارغة تماماً، وإيماندا نائمة في صومعتها المجاورة ولن تسمع شيئاً فيما لو تم كل شيء بهدوء.

تبرّم وجه ميشيليني من أجواء الحانة وكان واضحاً عليها الامتعاض من كل ما حولها، على عكس مزاج هاريسا التي انطلقت بلهفة تفتش وتطلع وتتصفح بلا هوادة.. طرأ هاجس مباغت داعب رغبة ميشيليني في الجلوس على كرسي إبراهيم والنوم على الدكة بطريقته نفسها، كأنها تريد أن تتزود بما يجود به المكان من أحلام حبيب عاق.. توجهت بخطى كسولة نحو مكان إبراهيم، تاركة هاريسا منشغلة بما بين يديها من وثائق ورسائل سرية.

مرّ الوقت بهدوء لا يسمع منه إلا أصوات خطوات ناعمة وقرقعة تقليب الأوراق الخفيضة، وقد اطلعت على أسرار كثيرة حرصت على تصويرها بكاميرتها الفوتوغرافية ودونت الكثير من الملاحظات والمعلومات بكراسها الصغير، عرفت كل تفاصيل عمل فان ترين واطلعت على المخطوطة التي رأتها بين يديه، حينما كانت خلف النافذة في المرة السابقة.. تسلل التعب إلى مفاصلها وهاجمها الإرهاق ليقعدها على إحدى الكراسي المركونة في غرفة الوثائق والمخطوطات لتستعيد أنفاسها وتقتنص وقتاً للراحة.. أطبقت عينيها واستغرقت في تأمل ومحاولة تصنيف كل ما اكتشفته في ذهنها لتترسخ الأسماء والأقوال في الذاكرة من دون لبس واختلاط.

لم يدم استرخاؤها طويلاً.. انسابت إلى مسامعها أصوات بدأت خافتة ثم تعالت شيئاً فشيئاً.. تتبعت مصدر الأصوات، خطت بحذر حتى وصلت إلى مكان يطل على صالة الحانة.. خطفها ذهول المشهد.. التماثيل تتحرّك وتكلم بعضها.. حوار بدا محتدماً بين تمثال أبي الأعلى المودودي وتمثال ويل ديورانت بينما اكتفى تمثال ليو شتراوس بمتابعة الحوار مبتسماً:

  • أنظر حولك يا أبا الأعلى، ماذا فعلت أفكاركم بشكل الحياة ومضمونها؟ "قال تمثال ويل ديورانت بلهجة عتاب".
  • كل خير.. لم تجلب أفكارنا إلا الخير.. لا يغرنّك ما يقال، فكل شيء على خير ما يرام.. حتى الحروب التي سمعنا ولا نزال نسمع سعيرها هي صورة من صور الخير، وحتى الإرهاب الذي يضرب أطنابه في كل مكان من العالم هو وجه من وجوه الخير والعافية الروحية والمعنوية للبشرية.
  • كيف يلتقي الخير مع العنف والإرهاب والحروب في حقل واحد؟ هذا الخلط يفقد اللغة قدرتها على التعبير عن معانيها.
  • هذا ما ليس بوسعكم فهمه واستيعابه يا معشر "الحمائم".. فالحروب وما يرافقها من عنف ودمار وموت، ما هي إلا دليل على وجود شرائح واسعة جداً من المؤمنين بين بني البشر، إذ ليس ثمة ما يدلل على قوة الإيمان غير قبول التضحية والإقدام عليها.. قبول الإنسان بدخول ساحة الحرب بكل أشكالها وتحمل تبعات ذلك القبول لهو دليل لا يأتيه الشك على أنه نتاج إيمان مطلق بقضية ما.. والإيمان بحد ذاته دلالة خير.
  • وما ليس بوسعكم فعله هو إيجاد منطق يحترم العقل والكينونة الإنسانية.. لاحظ معي أنك بمنطقك الذي أوصلك إلى هذا الاستنتاج تفترض وكمقدمة كبرى، أن الإيمان المطلق حالة إنسانية نبيلة وراقية، مع أن الوعي الحديث يشير إلى أن حالة الإيمان المطلق تتلبس من لديهم الاستعداد لنزع عقولهم ورميها في أدراج بعيدة دون التفكير في استخدامها مرّة أخرى.. المشكلة هي أن كلاً منّا يدخل إلى المشهد من جهة مغايرة، أنت تراه على هيئة تتلاءم مع آلياتك الفكرية التي انعكست فيها أدوار النتائج مع أدوار الوسائل، أنت تعتبر الإيمان هدفاً بحد ذاته، بينما تعتبر الخراب والحروب والإرهاب وسيلة.. منطق مضحك، مضحك لمن يمتلك عقله، وهذا ما يضعكم في مأمن لأن كل الذين يستمعون إليكم ويطيعونكم هم من ذلك النوع الذي أودع عقله في درج يصعب الوصول إليه. "رد ويل ديورانت بحزم"
  • إنك تتحدث عن شعوب فيها من الدهماء ما يفوق بكثير ما فيها من نخبة، ومن الحكمة أن تتخلص من عقول الدهماء، لكي لا تصبح مصدراً لانشغالهم بحذلقات لا طائل منها.. حينما يكون العوام تحت تأثير الإيمان المطلق بأي فكرة أو قناعة تسهل قيادتهم كقطيع مطيع.. لا أعرف ما مبرر ركوبكم الموجات العاتية التي يصعب ترويضها، ولا أفهم إصراركم على فتح عيون الناس؟ أليست قيادة عدد من العميان أسهل بكثير من قيادة عدد من المبصرين؟ "قال أبو الأعلى المودودي بصوت وقور".
  • التكنولوجيا يا عزيزي.. التكنولوجيا ستفتح عيون كل من أسميتهم "دهماء أو عواماً".. وهذه ورطة تواجهكم وأرجو أن لا تحاول نكرانها، لأنكم لا تزالون تستخدمون آلياتكم المنطقية الركيكة التي تنسجم مع "العميان" في زمن بدأت التكنولوجيا تكشف عيوبها وتسقط نتائجها الواحدة تلو الأخرى.. أنتم تقولون لأتباعكم شيئاً، والتكنولوجيا تكشف لهم شيئاً مغايراً ومناقضاً.. ستنحسر أعداد مريديكم والمؤمنين بكم تحت وطأة هذا التناقض.
  • قد تشكّل التكنولوجيا "ورطة" فعلية، لكننا تخطيناها بسهولة، حينما بدأنا استخدام التكنولوجيا ذاتها لغرض الترويج للخرافة التي هي الوسيلة الأنجع لقيادة الدهماء بلا عناء ومشقة.. فنحن لسنا بتضاؤل كما تظن يا سيد ديورانت، نحن ننتشر بسرعة وفي مساحات شاسعة من العالم بفضل التكنولوجيا، أكثر من أي وقت مضى.
  • أنتم تنتشرون سريعاً لكي تتلاشون سريعاً، تماماً كما لو وضعت قليلاً من الماء في وعاء عريض وعرضته لأشعة الشمس، سيكون تبخره أسرع مما لو وضعته في إناء صغير، المدهش في الأمر هو أنكم فرحون بهذا الانتشار السريع، وفرحكم هذا دليل على ضيق أفق نخبة المفكرين لديكم وطمع قادتكم السياسيين في الاستحواذ على سلطة مؤقتة.. وعلى الرغم من تشابه تجربتكم مع التجربة الصهيونية من حيث المبدأ، إلا أنكم تختلفون في الآليات، فالصهيونية لم تتوسع لأكثر من دولة إسرائيل وهذا يقيها خطر التبخر، أما أنتم فقد أصابتكم حمى التوسع.

تدخل ليو شتراوس بنبرة واثقة ليضيف على الحوار شيئاً من قناعاته:

  • لو أننا نرى الأشياء على طبيعتها لرأينا أهمية إيجاد (المشروع المؤجل) في هاجس كل فرد وكل جماعة.. المشاريع المؤجلة تشكّل الأمل البديل في حياة الشعوب.. إذا أردت أن تقود قوماً من العوام عليك أن تملأ حياتهم بالمشاريع المؤجلة، لكي ينساقوا أمامك بلا عناء، إن لم يكن إيماناً بفكرتك فطمعاً بتحقيق تلك المشاريع المؤجلة.. لابد من السعي لجعل الحياة برمتها مشروعاً مؤجلاً في مجاهيل الموت.. أتفق مع ما ذهب إليه الشيخ المودودي، ولا أعتقد بأن اليمين الإسلامي أو ما يطلق عليه بـ "الإسلام السياسي" في طريقه إلى التبخر بسبب الانتشار الواسع الذي شهده في العقود الماضية، فليس ثمة شموس تستدعي القلق.. الإسلام السياسي يزداد رسوخاً مع الانتشار بسبب آليات الخطاب التي لها القدرة في تجديد نفسها مع التكرار.. ومع التكرار تتولد ثقافة جديدة لا تبعد كثيراً عن الثقافة المزمع تثبيتها.
  • لا أستغرب أن يتطابق منطقكما، لأنكما أخوة بالرضاعة.. أنتم أبطال الساحة في الوقت الراهن وأشك باستمراركم على هذا الحال طويلاً. "قال ديورانت بصوت رخيم".
  • نعم صدقت، لقد رضعنا سوية من أثداء السماء. "قال المودودي بحزم ووقار".

تراجعت هاريسا مخطوفة الوجه، مضطربة الجسد، غير مصدقة بما حملته اللحظات الفائتة.. غطست روحها في فضاء مزدحم بالعتمة والدهشة والرعب وأصداء ما قالته التماثيل.

تكومت على أحد المقاعد القريبة، كان كل شيء فيها يرتجف، ظلها يرتجف أيضاً، وكانت جدران الغرفة قد شهدت من قبل ارتجافات من هذا النوع وتآلفت معها.. إنها ارتجافات الكشف، واستجابة الجسد لاختضاضات الروح ومخاضاتها، إنها لوحة وجدانية في انشغالات الروح الظاهرة، ولأنها انفعالات منبثقة من الروح، الجوهر، اللب، تجد معظم الناس تخشى منظر المصروع وترتهب منه وفي أحيان كثيرة تقدسه. هكذا كانت تقول أدبيات الحانة، ولكن من أين لها أن تعرف ذلك وهي في حالة متهالكة كالتي هي عليها؟

حاولت أن تتلمس طريقها من جديد.. تذكرت ميشيليني النائمة في صدر الحانة، تخيلت ما سيحدث لها لو أنها استيقظت في هذا الوقت وشاهدت ما يحدث في صالة الحانة!

استعادت طاقتها وتوجهت نحو ناصية المشاهدة التي تطل على ما يدور في الصالة، شاهدت الشاعر فرناندو بيسوا وهو يحمل طبقاً عليه تسع كؤوس مترعة بالخمرة، أدركت هاريسا من خلال الرائحة التي دخلت أنفها بأنها الخمرة "نعم".. كان تمثال بيسوا يتحرك بمرونة عجيبة في طريق عودته من مخزن الحانة متخطياً الدكّة من دون أن يلحظ وجود ميشيليني النائمة على كرسي إبراهيم.. عبر طاولات الزبائن الطارئين برشاقة، متوجهاً نحو طاولات زملائه وبدأ يوزع الكؤوس عليها بطقس احتفالي مبهج.. وضع كأساً أمام تمثال فلاديمير لينين الذي بدا متململاً في جلسته، شكا لبيسوا بصوت يكتنفه الجزع من ميلان كرسيه:

  • لا أدري أي غبي صمم هذا الكرسي بهذا الشكل المائل كثيراً نحو اليسار، لا أشعر براحة طوال الوقت، كيف لشيخ الفخارين أن يعتمد على عمال أغبياء لا يجيدون صناعة كرسي مريح؟
  • لم يكن غباءً.. كنت من بين من حضروا مراسيم تنصيب تمثالك، وقد لفتّ نظر شيخ الفخارين إلى الميلان الواضح في الكرسي نحو الجهة اليسرى، لكنه لم يعبأ بملاحظتي واكتفى بالإشارة إلى أنه يستطيع أن يرى ذلك. "رد بيسوا باقتضاب"

مدّ لينين يده بانفعال واضح ليتناول كأسه وهو يردد:

  • ها.. كنت على يقين بأن شيخ الفخارين يقصد ذلك.. يريد أن يحبسني بكرسي أعوج إلى الأبد، انتهازي حقير.

أحنى بيسوا قامته النحيلة ليكون قريباً من وجه لينين الممتعض، وقال له محاولاً التخفيف من انفعاله:

  • لا أظنه أراد لك سوءاً، بل أراد أن يشير إلى حالة اليسار السياسي التي أنت أحد أهم مرسخيها.
  • أي أحمق هذا الذي يعبث بمصير لينين؟ يحكم عليّ بالعناء الأبدي من أجل رمزية سخيفة كهذه؟

انصرف بيسوا ليوزع الكؤوس على الآخرين وهو يخاطب لينين بصوت مرتفع:

  • اشرب كأسك أيها الصديق، اشرب وهدّئ من روعك، لعلّ أتباعك الذين يسكرون كل ليلة على طاولتك يطالبون شيخ الفخارين يوماً ما بإنهاء حالة الميلان التي تعاني منها.

من زاوية الصالة البعيدة جاءت ضحكة سارتر تزاحم كلماته التي لا تخلو من التهكم:

  • يبدو أن شيخ الفخارين تأثر بالواقعية الاشتراكية في توظيف الرمز، فطبقها عليك.

ضحك لينين ليخفف من وطأة كلام سارتر الملغوم بالسخرية، ثم خاطبه ممازحاً:

  • إذا قدّر للنظريات العظيمة أن تطبّق بهذه السطحية، فإن الأجدر بأتباعك الوجوديين أن يلقوا بك من أعلى برج إيفل.

كرع جان بول سارتر شيئاً من كأسه، ثم نهض من مكانه وتوجه نحو الجدار الواقع خلف تمثال لينين، انتزع لوحة معلقة هناك، كانت اللوحة عبارة عن بورتريه لطفل يبكي، حملها وسار بها حتى وضعها أمام وجه لينين، ثم تحدث بنبرة ممعنة بالسخرية:

  • أنظر يا صديقي، هذه تمثل أكثر التطبيقات شيوعاً للواقعية الاشتراكية، إنها لوحة لفنان شيوعي، لاحظ حجم دمعة الطفل وتوظيفها الساذج كرمز يعبر عن الحزن في اللوحة.. مسكين هذا الفنان لأنه لا يرى من الحزن سوى الدموع.
  • وكيف تريد منه أن يعبر عن طفل حزين، هل يرسمه راقصاً، مثلاً؟
  • ليته فعل ذلك، ولكن كيف له أن يصل هذا الرقي الإنساني وهو حبيس السكة الآيديولوجية التي وضعتموه عليها؟
  • هذا هو السبيل الأفضل لضمان وضع الفن في خدمة القضية.
  • إذن عليك أن تتحمل الجلوس على كرسيك المائل ولا تولول طوال الوقت.. دعنا نتمتع بإشراقات الخمرة "نعم".

تجهم وجه لينين وهو يطيل النظر إلى لوحة الطفل الباكي، بينما صدح صوت المغني صالح بن عزرة بأغنية قديمة أطرب لها الجميع ورقص على أنغامها المهاتما غاندي راسماً على محياه ابتسامة طفولية.

  • هاريسا إلى الخلف، تهالكت على أحد مقاعد غرفة المخطوطات، لم يكن بوسعها استيعاب ما حصل أمامها.. غلبها النوم.
  • ضحى اليوم التالي كان كل شيء هادئاً، لا أثر لفوضى التماثيل خلال الليلة الفائتة.. تسللتا إلى الخارج، مع شروع باب الحانة وتقادم الزبائن عليها.. عبرتا مرحلة الخطر.. غادرتا المكان دون الاهتمام بصخب الأطفال الذين يلهون بمقربة من الحانة بلعبة "المكائد الغافية"؛ كانت اللعبة تجري عبر وقوف أحد الأطفال في نقطة لا تبعد كثيراً عن عدد من الحفر الصغيرة المملوءة بالماء الآسن وعليه أن يجتازها بسلام وهو يسير إلى الخلف من دون التفات، وهكذا تتكرر اللعبة مع الآخرين ليفوز بنهاية الشوط أقلهم سقوطاً في تلك الفخاخ.

في طريق العودة إلى الكوخ أفشت السر لميشيليني.. ليس لها كاتم أسرار سواها، كاتم أسرار أمين، بريء، فطري، جلي وواضح، حكت لها ما حدث بتفاصيله.. أبدت اهتماماً مبالغاً بردود فعل ميشيليني التي فسرت الأمر وفق معلوماتها المسبقة بأن الحانة تمارس السحر والشعوذة، وكل ما رأته إن هو بفعل السحر الذي يملأ فضاء الحانة.. أخذت هاريسا كل ما قالته ميشيليني على محمل الجد وغابت عنها، إلى حين....

غياب هاريسا المفاجئ ترك فراغاً في وجه ميشيليني.. أسبوعان من الانتظار بلهفة، من الانشغال بالبعيد أكثر من القريب.. انشغال بما تخفيه حجب الغياب.. لم يخامرها مثل هذا الشوق لإنسان من قبل، حتى شوقها لإبراهيم لم يكن له المذاق نفسه.

"كنت في نزهة"..

اكتفت هاريسا بهذا الجواب على كل تساؤلات ميشيليني التي اكتفت بدورها بترديد جملة تائهة بين السؤال وبين الجواب.

"نزهة لأسبوعين!".

لديهما ما يكفي من الوقت لفهم النزهة التي دامت أسبوعين كاملين.. قالت هاريسا بعد أيام من عودتها:

  • كانت نزهة جميلة.. غيبة صغرى.. عزلة لذيذة، جدرانها مخملية مطرزة بأحلام العابرين والذين تكشفت أمامهم كهوف العتمة.. كانت نزهة في حقول التفكر الذاتي، غير الممنهج، نزهة في تأمل الأشياء من خلال تلسكوب طفولي محض.. جولة مرحة في دهاليز أشبه بدهاليز الحانة التي أمضينا فيها ليلتنا ذات مشوار مشاغب.. في العزلة يجد المرء نفسه بمواجهة كيانه، حقيقته، ولكن ما جدوى أن نمتلك الحقيقة من دون أن نعرف ماذا نفعل بها!..
  • أنا لا أدرك كل ما يعنيه هذا الهذيان، لكني أشعر بشيء يجذبني بشدة إلى ما أنت فيه.. ليتني أتمكن من الوصول إلى هذا الشيء الذي لا أعرفه.
  • لا أدري إذا كان البوح بما رأيت في عزلتي ينفع أم يضر.. لا أدري حقاً.. دعينا نتأمل الأشياء بسكون.. دعينا نفعل ذلك سوية يا رفيقة دربي.

 

الفصل السابع
اللعبة

ما لا تدركه ميشيليني، هو أن لا أحد من رواد الحانة يعير اهتماماً لما يعانيه إبراهيم.. لا أحد سوى إيماندا، وقد يبدو اهتمامها به يسير على سكة لا تثير الانتباه، هي ساقية الحانة ومديرتها وهو زبون دائم يمارس مزاجه الخاص في تناول الخمر.. هو زبون يجلس على كرسيه لساعات طويلة يشرب النوع الذي يختاره ولا يكلم أحداً.. إنه باختصار يبحث عن حالة سكر عاشها قبل سنوات بعيدة ولم يجدها.. أحيانا يفاجئ الجميع بالحديث بصوت مرتفع دون أن يبالي بالاستماع إلى الآخرين، يهذي وحسب.. يهذي لوقت قصير ويصمت، لا تبقى هذياناته في ذاكرة أحد سوى إيماندا.. بيد أن اهتمامها لم ينجه من الطرد خارج الحانة حينما يمعن في تعكير صفاء الجو العام..

كانت تطرده أحياناً وتكيل له سيلاً من الشتائم "أخرج أيها المعتوه، اذهب إلى الجحيم، اذهب إلى عاهراتك القذرات المتسكعات في الشوارع".. لكن الذي يدعو إلى الاطمئنان عن كونه زبوناً مقبولاً هو استجابته لحالات الطرد التي يتعرض لها بين فترة وأخرى، كان يكتفي بإظهار علامات عدم الرضا التي ترتسم على وجهه ثم يمضي متسكعا وهو يردد كلمات لا تصل لأسماع من هم خلفه.

إنه زبون مقبول في الحدود الدنيا من الشروط التقليدية للحانة.

الاهتمام بشخص آخر، مهما كانت درجته، ومهما كانت دوافعه، يحمل في باطنه جوهراً مبهجاً وناصع البياض.. كانت إيماندا تبدي اهتماماً بتوفير أجواء مرحة لزبائنها، كذلك كانت تفعل مع إبراهيم.. كانت تدرك التوقيت الملائم لإبداء ذلك الاهتمام.. خلال فترة بداية جلوسه في مكانه المفضل - ذلك ما يميز هذه الحانة، كل يجلس في مكانه المفضل - كانت أحياناً تمنحه كأساً مجانية، أو تجلب له بعض الثمار المجففة من دون مقابل، ربما كان دافع ذلك الاهتمام هو ضمان استجابته السلسة لحالة الطرد المتوقعة في أية لحظة.

مع تقادم الأيام تطور الاهتمام وأصبح جزءاً راسخاً من تلك العلاقة.. بدأ التطور حينما بدأت إيماندا بتقديم النصائح له فيما يتعلق بطريقته في تناول الخمر. قالت له مستعينة بخبرتها، إن لكل خمرة مراسيم وطقوساً، هي مفتاح لمرحلة التحليق في سماوات المزاج، لكل خمرة باب للشهوة يبتلع الكائن ويعزله عما سواه، ولها في الوجدان سرّ يتشربها، فتفوح المباهج مزروعة في المكان.. قالت له: أقبل عليها بشهوة، تناغم معها، تحسس زجاج الكأس بودّ، ولا بأس بتقبيله إذا أحببت، إنها عطاء الطبيعة، عش لحظة العناق بين شفتيك وحافة الكأس بلهفة وأمسك بها، إقبض على طرفيها، إنها لحظة نادرة.. عليك أن تعثر عليها.

"عليك أن تعثر عليها" ذلك ما أثار فيه الحنق، قال لها بنبرة كادت تكون هجومية، لولا أن تذكر الكأس المجانية التي لا تزال بين يديه:

  • "عليك أن تعثر عليها؟".. يا لها من نصيحة لا تقود إلا لليأس!.. هه.. نصيحتك هذه تشبه النصائح الدينية أو الإجابات الدينية التي لا تحترم العقل.. إجابة لا تحمل إجابة إطلاقاً.. تفسير لا يفسر شيئاً.
  • أنت مخلوق كسول، تريد كل شيء دون أن تتدخل في تكوينه، وليس لديك أي استعداد للتفكير بخلق إجابات تسد فيها بعضاً من فجوات التساؤلات غير المجدية... عليك أن تزحزح مؤخرتك الكسولة يا رجل.
  • أريد أن أسكر فقط.. أريد أن أتذوق تلك السكرة التي عشتها ذات يوم، أريد أن أستعيد ذلك التحليق البهي الذي أحسسته حينها.. كيف لي أن أجد ما يعيدني إلى تلك النشوة العجيبة؟
  • لا بأس إذن، أمامك خياران، إما أن تستأنف تجريبك لكل أنواع الخمور، أو تستعذب نشوة بديلة من أي نوع، مع إني لا أزال أعتقد بأن الخمرة "نعم" هي مصدر كل نشوة.

ومع أن هذه الحوارات تحمل في طياتها الكثير من المودة، لكنها قد تنتهي بالطرد أيضاً.. هي تدرك في قرارة نفسها بأنه مخلوق نزق وتتوقع منه أن يثور في أية لحظة، مثلما حدث ذات ليلة حينما بقي يعب كؤوس الكونياك بعد أن غادر جميع من في الحانة، كانت إيماندا قد أمضت معه الكثير من الوقت لإقناعه بالمغادرة، لكنه أصر أن يأتي على قنينة الكونياك بكاملها، أمضت معه أكثر من ثلاث ساعات، كلما تقترب من الإشارة إلى الوقت المتأخر يعاجلها بالحديث عن موضوع يستفزها لتدخل معه في نقاش ينسيها موعد إغلاق الحانة، هو يعرف أي المواضيع تشكل لها عامل استفزاز يثير فيها روحية المؤمن المدافع، في تلك الواقعة أوغل إبراهيم في المحظور، تحدث بسوء عن رموز الحانة -التماثيل- وقال لها بأنهم ليسوا أكثر من مشعوذين ودجالين.. كما أفصح لها عن عدم ارتياحه لشيخ الفخارين:

  • هذا الرجل العجوز يقتلني صمته، أشعر بأن صمته لا ينبئ إلا عن خواء، أشعر أنه كتلة من اللؤم المبرقع بالحكمة.. لا أطيق نظراته المترفعة وأحاديثه المبتورة ولغته المبهمة، لا أرى فيه سوى كتلة شر تتناسل لخلق تماثيل جديدة.

استشاطت غضباً، كان غضبها وانفعالها ينبئان بأنها لم تر من قبل تمادياً من هذا النوع على الإطلاق.

  • إسمع، قد أتهاون بكل شيء، إلا الإساءة إلى رموزنا الطاهرة، إنهم أناس أفنوا حياتهم من أجل بناء أسس فكرية وروحية تنير طريق البشرية.. "ثم أردفت بنبرة حزينة".
  • لقد أوجعتني.
  • كيف لك أن تؤمنين بهم جميعاً على الرغم من تناقض أفكارهم؟
  • أنا أؤمن بحسن نياتهم.
  • لكن نياتهم حينما تجسدت على أرض الواقع كانت وبالاً على الناس.. حروباً، إرهاباً، قمعاً، رقابة تخنق الحياة، عنفاً، دماراً، هذا كل ما ورثناه من حسن نياتهم، لم يتضح منهم شيء سوى القدسية التي رافقت كل تلك الأفعال القبيحة.
  • الخلل في التطبيق حتماً، لا بالنظريات.
  • علينا إذن أن نؤمن بأفكار قابلة للتطبيق.
  • هذا منطق الضعفاء الكسالى الذين يرومون الحصول على كل ما هو مجاني.
  • سميه ما تشائين.. المهم هو أن لا نكون حطباً مجانياً لأفكار ميتة.
  • ميتة؟ يا له من رأي مضحك! أفكار تعتنقها الملايين من البشر وتسمها ميتة؟ ماذا تسمي طرحك هذا الذي لا يتفق معك عليه سواك؟
  • لا أرى في الحياة معركة لكي أسعى لكسب الأنصار لرأيي، هذا إذا كان عندي رأي أصلاً.
  • وفرة الأنصار والمؤمنين تعني صواب وعدالة الفكرة التي التفوا حولها.
  • أي زعيم مافيا في ميلانو الإيطالية أو ريو دي جانيرو البرازيلية يمتلك ما لا يحصى من الأنصار والمؤمنين به، هل هذا يعني أنه يمثل فكرة صحيحة أو عادلة؟

تلك هي حدود إيماندا.. لا تستطيع المطاولة في النقاش إلى أبعد من ذلك.. وتلك هي تخوم الحوار بينهما.. لكنها كانت صاحبة قدرة عالية على إنهاء الحوار في التوقيت الذي تختاره، قدرة لا يستهان بها في تمييع النقاش وتوجيهه إلى واد بعيد.. مهارة عجيبة في التخلص من المأزق الذي تجد نفسها فيه حينما يغيب الرد المناسب.. في تلك اللحظة شعرت بأنها عاجزة تماماً أمام حجته، فقالت له بنبرة عارف:

  • مشكلتك هي أنك تبحث عن أجوبة وهذا يعني أنك ستلاحق ملايين الأسئلة لتقبض على أجوبتها.. الأسهل لك يا أيها الرجل الوسيم أن تلاحق مكاتب التشغيل لتقبض على عمل يوفر لك المال الكافي لتجرب كل أنواع الخمور بحثاً عن سكرتك الضائعة.

لم تستغرق إيماندا وقتاً طويلاً لكي تدرك ما بدأ يموج في روحها بشغب.. بدأت تنظر إلى حياتها، منعزلة، وحيدة، بعين الشفقة والأسى، صارت تستشعر الوحشة تكتسح صومعتها التي لم يدخلها أحد منذ وفاة موريسو.. عليها أن ترمم حياتها دون استشارة أحد.

شيء ما يجول بقلبها.. إنها تعرف تلك العلامات. مشاعر تبدو مألوفة، ولكنها معتمة بغبار سنوات من الخواء.. تلك الألفة أيقظت فيها الأنثى العاشقة وأخفتت من حدّة المؤمن المدافع عن أفكاره في نقاشاتها معه على الأقل.

* * *

اعتادا على اقتناص وقت كاف من آخر الليل ليمضيانه سوية داخل الحانة، أو في التجوال على تخوم المقبرة القريبة.. كانت تغلق باب الحانة بعد مغادرة الزبائن ويمضيان معاً في جوف العتمة، دون أن تنسى، بالطبع، اصطحاب قنينة خمر تختارها بعد مشورة إبراهيم.

ذلك الانجذاب التدريجي جعل إيماندا تستوعب اعتراضاته مهما كانت قاسية على قناعاتها، وبدأت تكتم غيظها حيال ما يطرحه من آراء، مهما كانت غريبة عما تعلمته من الحانة واعتادت عليه.

ولم يكن يخطر على بال إيماندا بأنها ستكتفي بابتسامة ساخرة سرعان ما استحالت إلى دهشة بمواجهة قناعات إبراهيم ورؤاه الخاصة التي راح يهذي بها محلقاً في عوالم لا تنتمي للحظات أزمانها، رؤى تشير إلى معرفة مسبقة بكل شخصيات تماثيل الحانة.. وكان ذلك خلال ليلة أمضياها وحيدين في الحانة:

"لا أدري متى تحديداً بدأت أبحث عن سكرتي التي أغيب فيها بلذة متناهية.. الغياب الذي يوفر لي أشياء بديلة لتلك التي تبتعد عني كلما أمعنت في تأملها.. كلما تتبعت أثراً أجده يبتعد شيئاً فشيئاً، وما أن أكشفه حتى تصدّ روحي عن احترامه وإجلاله".

جال إبراهيم بين التماثيل وكأنه على خشبة مسرح، مطلقاً العنان لبوحه بما يدور في قلبه ورأسه:

"توغلت في فلك فلاديمير لينين وتتبعت أثره ولم أر فيه إلا المعول الذي هدم النظرية الماركسية من خلال تسييسها وعجنها بدنس السياسة ليحولها إلى أحزاب سلطوية بائسة، خالية من أي بعد روحي.. أما هذا المودودي فهو لا يقل تخريباً عن سابقه فلاديمير لينين، فقد حوّل الله نفسه إلى حزب من الأوغاد، معتمداً على تأويله الشرير للنصوص الدينية والتاريخية.. إنها لعبة ارتداء المقدس، لعبة تبتلع أطرافها في متاهاتها النرجسية وتحيلهم إلى كائنات تقايض لحظة زهو بخراب العالم كله".

وبخطوات بطيئة تحرك نحو تمثال الشاعر فرناندو بيسوا متسائلاً:

"أما هذا المخلوق السرمدي، فيدهشني وجوده في هذا المكان.. شاعر يكتب بأربعة أسماء مستعارة، لكل واحد منها أسلوبه الشعري وروحيته الخاصة وكأنه أربعة شعراء يعيشون في جسد واحد، أو كأنه يروم الفناء في شخوص لا وجود لهم.. كائن من هذا الطراز، ما الذي يجذبه لمرافقة مثل هؤلاء؟ تماماً مثلما يدهشني وجود المهاتما غاندي بينهم".

اقترب بهدوء من تمثال جيمس جويس، تحسس بيده رأس التمثال، كأنه يريد التأكد من حقيقة وجوده، أو أن يمهد الطريق لقول شيء لم يقتنع به قناعة تامة:

"لست متأكداً ما إذا كان جويس تقصّد كتابة رواية "يوليسيز" بلغة لم يفهمها حتى أكبر أساتذة الأدب العالمي.. أشك بأنها تحتوي على عظمة حقيقية تؤهلها لتكون من بين أعظم روايات القرن العشرين، كما أظن بأنها لعبة لغوية هدفها نشر الغموض والضبابية والانبهار بشيء غير مبهر.. كثيراً ما يراودني هاجس الربط بين توقيت صدور "يوليسيز" وفترة توسع الإمبراطورية البريطانية وانتشار جيوشها في مساحات شاسعة من العالم.. الرواية ليست دبابة أو مدفعاً بكل تأكيد، لكنها آلة لغوية تغشي العيون وتشغل الأذهان وترسخ قناعات قد تكون فاسدة.. الجيوش دائماً بحاجة إلى لغة معتمة تمكنها من التحرك في العتمة".

دار إبراهيم بين التماثيل يتفحصها الواحد بعد الآخر، وقف عند تمثال المفكر الأمريكي ليو شتراوس، مواصلاً هذياناته:

  • يستند مفكر بهذا الحجم في بناء تنظيراته إلى مقدمة منطقية غير مؤكدة، وهي أن الإنسان يولد شريراً؟ إنها مقدمة قلقة، بحاجة إلى إثبات مختبري.. إنهم جميعاً يتشابهون، يصبون جل اهتمامهم على النتائج ويهملون المقدمات مهما كانت ركيكة".

كانت إيماندا تتابع خطواته المتنقلة من تمثال لآخر، منبهرة بما تسمعه منه، قالت له وعلامات الدهشة تكتسح تقاسيم وجهها:

  • ما كنت أحسب أنك تأملت كل هذه الأفكار.. الذي يسمعك الآن لا يمكن له أن يتخيل أنه يستمع إلى إبراهيم المجبول بالتشرد والعبثية.

جاء على كل ما يحتويه الكأس دفعة واحدة، أشعل سيجارة وعاود هذيانه نافثاً الدخان بوجه تمثال ليو شتراوس:

  • كنت ولزمن طويل مصاب بهوس القراءة.. بدأ ذلك في سن مبكرة، كنت أساعد أبي في قص حشيش حديقة بيتنا، لم يكن أبي يحب ذلك العمل المنزلي الذي عليه أن يقوم به كل ثلاثة أسابيع، وليس أمامه سوى أن يقوم به وإلا ستقوم أمي بتحويل حياته إلى جحيم.. ذلك هو قدره، وفي كل مرّة أرى علامات السرور بادية على وجهه بعد إتمام العمل، لكني كنت في كل مرة ينجز العمل فيها أراقب الحشرات الفزعة وهي تهرب من بين الحشائش من مكان لآخر بعد أن خرب أبي بيوتها، أرعبني ذلك المشهد الذي تحول فيما بعد إلى تساؤل ملحّ يدور في رأسي: لماذا تحولت كل حياة هذه الحشرات إلى لحظات سرور عابر يعيشها أبي.. كان التساؤل يزداد ضراوة كلما أمعنت في تخيّل عوالم تلك الحشرات التي خربها أبي، بيوت وبيوض وشرانق وخبايا لا تعلمها إلا الحشرات نفسها، كلها دمرت لمجرد أن يكون منظر الحديقة مقبولاً.. أي عبث هذا؟ الإجابة الوحيدة التي كنت أتلقاها دائما تتحدث عن سنة الحياة وأشياء سخيفة من هذا القبيل.. ثمة غواية لا تقاوم بمعرفة ما يدور في هذا العالم، معرفة ما يدور في رؤوس الآخرين.. حتى أصبحت حياتي جزءاً من القراءة وليس العكس كما يحدث مع بقية المولعين بالقراءة.. كانت البداية رغبة تبدو طائشة منطلقة من هاجس (عليّ أن أفهم ماذا يدور)..

* * *

أي علاقة بين رجل وامرأة في محيط مثل حي الفخارين قد لا تصمد وقتا طويلا، ربما لا يتجاوز بضع ساعات حتى تتحول إلى تأوهات وتلاحم شبق في مكان منعزل، وليس بالضرورة أن يكون ذلك المكان غرفة نوم، فأهل الحي يمارسون الجنس في أي مكان فيه من العزلة ما يكفي.. مصطبة جلوس منعزلة في حديقة، ممر معتم بين أشجار كثيفة، فخارة مهجورة، مكان ما بين قبور غارقة في الظلام.. لكن هذه الرؤية التي تبدو تعميمية أكثر مما ينبغي، لم تكن كذلك في علاقة إيماندا مع إبراهيم، فقد كانت صحبة يتلاشى عند حدودها الهاجس الجسدي، أو أن يأخذ شكلاً غير مألوف.

يبحران حيناً بسرد ذكرياتهما بلذة فريدة..

يتشاجران حيناً آخر..

يتشاجران حينما تصطدم توجهاتهما.. ويعودان إلى فطرتهما الحميمة حين يقمعان نزعة الثقة المطلقة بفهم الأشياء، داخل كل منهما..

قد يصل الشجار إلى قطيعة تمتد أياماً، يستمر خلالها تواجد إبراهيم في الحانة، متظاهراً باللامبالاة حتى وهو يطلب مشروبه.. يعودان إلى لهوهما بكل ما حولهما..

إدمان من نوع خاص جذبهما لمواصلة العلاقة بشكلها هذا... يلهوان بكل ما حولهما بحس طفولي عارم.. مارسا لعبة "الاعتراف" المعروفة لدى شعوب كثيرة، المتمثلة بطرح أي قنينة فارغة على الأرض وبرمها بقوة والبقاء في انتظار الاتجاه الذي تشير إليه فوهة القنينة عند توقفها، وعلى الذي تشير إليه الفوهة أن يجيب بما يشبه الاعتراف عن سؤال المقابل له، مهما كان السؤال محرجاً وشخصياً.

اعترف ذات مرّة بما جعل الدمع يطفر من عينيها رغماً عنها.. قال لها وهو يرد على سؤالها حول ما إذا كان راضيا عن نفسه أم لا: "لا أشعر بالرضا عن نفسي أبداً، لأني تخطيت عمر الأربعين ولم أحدد رؤية واضحة لأي شيء.. تمردت على فرص كثيرة أتيحت لي من شأنها أن تجعل مني إنساناً آخر، غير هذا الذي ترينه، لكن المشكلة هي إني لا أحب ذلك الإنسان الآخر، غير مقتنع بروتينه وجفاف شواطئه وتشابه أيامه، ومع ذلك أشعر بأنني أركض بلا طائل!".

وفي لعبة أخرى من نزوات البوح تلك، استرسل إبراهيم في هذياناته بصوت بعضه مسموع وبعضه هامس، حين رد على سؤالها عما إذا كان قد خذل أحداً في حياته، فقال لها: "الأجدر أن يكون السؤال عن أي خذلان حفر في الذاكرة، فالخذلانات كثيرة، وما رافق ذاكرتي منها تلك النظرة المشحونة بحزمة من المعاني، توسل، دهشة، هلع، شعور بخيبة في توقيت غير ملائم، استغاثة يائسة.. كان ذلك في البصرة، وكانت الحرب العراقية الإيرانية قد بدأت للتو وتوقفت بسببها الملاحة البحرية تماماً في تلك البقعة التي ألهبتها نيران الحرب، حوصرت السفينة التي كنت أعمل على متنها في ميناء أم قصر، أبلغتنا شركة الملاحة المالكة للسفينة بالانتظار في البصرة ريثما يتدبرون أمراً بشأن طاقمنا.. وعلى الرغم من أننا كنا محاصرين في مدينة تتعرض للقصف بشكل يومي، لكنها كانت أياماً جميلة وساحرة.. وذات صباح بدأ قصف مفاجئ وكثيف جداً، دوى صوت انفجار قريب، تبين بعد لحظات أنها قذيفة سقطت في الجانب الآخر من الشارع الذي كنت أقطعه وأنا في طريقي لشراء بعض الطعام، القذيفة أصابت جداراً، سقطت كتلة كبيرة منه على امرأة، كانت المسكينة على وشك أن تنقذ نفسها لولا أن إحدى ذراعيها احتجزت تحت الكتلة الكونكريتية الضخمة، لم يكن في المكان سواي، ومن خلال الغبار الكثيف رأيت شحوب وجهها الملطخ بالدماء، رأيتها تلوح لي بيدها الأخرى، كانت تريد النجدة حتما.. غلبني الخوف، لم أكن قادراً على التماسك، تلبسني الرعب، عدت بخطواتي إلى الوراء، كنت أهرب دون إرادتي، حالة جبن فاضحة، كنت لا أقوى على النظر إليها، شيء ما كان يجذب عينيّ إلى الأسفل، لحظات لا تشبه أزماننا، تجمد فيها كل شيء وحلّ سكون مطبق جعل كل الأشياء متصلبة وجامدة، كنت أسمع أنفاسي وكأنها غريبة على أذني.. هربت من المكان دون أن أعرف ما حل بها، منذ ذلك الحين وملامحها الشاحبة تلاحقني، تذكرني بلحظة جبن ليتني أنساها".

هذا كثير جداً على إيماندا، وجدت نفسها أمام تفاصيل لا تريد التفرس بها، عليها أن تجد لعبة بديلة.. فكانت "كلمة وظل"..

تلك اللعبة المبهرة تعلمتها من شيخ الفخارين منذ سنوات خلت.. وكانت اللعبة تقوم على مبدأ شعري يوفر فرصة الاعتراف بغموض تتحكم فيه الخبرة في اللعبة.. أحدهم يكتب كلمة واحدة على ورقة، ليقوم الآخر بكتابة عدد من الجمل مما توحي إليه الكلمة.

تعلمها إبراهيم بسرعة قياسية، هكذا خمنت هي.. صار يضاهيها بصياغة الجمل المعبرة والمسبوكة بجمالية عالية. مما دعاها إلى الاحتفاظ بكل ورقة ينتهيان منها.. أخبرته بأن هذه الجمل التي يكتبانها على عجل سيكون لها مذاق خاص حين يقرآنها بعد فترة من الزمن.

كانت إيماندا تستغل أوقات خلوتها في ترتيب أوراق اللعبة حسب تسلل تاريخ نزولها.. كانت تتأمل انسيابية اللغة وشفافيتها بإعجاب نادر.. تضع خطوطاً بألوان مختلفة وإشارات تحت جمل تجد فيها انتماء لتصنيف محدد أثناء قراءتها..

إيماندا: غيمة؟.

إبراهيم:

"رحيل مباغت"

"طيش خصب"

"تحليق بلا بوصلة"

كتبت تحت هذه المقاطع بقلم أحمر (أتقن اللعبة).

........

إبراهيم: سراب؟.

إيماندا:

"زحام الحواس في محراب الظمأ"

"غواية الأرض ولهاث الوصول"

"حضور الغياب في حالة من حالاته".

وبالقلم الأحمر نفسه كتبت تحت هذه المقاطع (وتعلم السؤال أيضاً) ثم تابعت قراءة أوراقها المتناثرة على سريرها، الواحدة بعد الأخرى:

إيماندا: تراتيل؟.

إبراهيم:

"رضاعة من أثداء السماء"

"ذوبان في فضاء النغم"

"رسائل بيضاء لم يمسها مداد".

إبراهيم: مرآة؟

إيماندا:

"عوالم لا تشبه ذاتها"

"مواجهة خرساء لا تقود إلى وصول؟"

"كشف ناقص يحرض على الاكتفاء"

وضعت الأوراق في مغلّف بلاستيكي وخبأته مع مقتنياتها الشخصية في مكان سهل المنال.. أحسّت ولأول مرة بأنها تحوز على مدوناتها الخاصة التي لا تشبه أياً مما ركن في غرف المخطوطات السرية..

وجدت نفسها تألف كل الهواجس العبثية التي تسكن إبراهيم، كما صار الهواء برفقته خارج الحانة له انتعاشة عذبة..

طلبت منه ذات نزهة صباحية أن يتأبطها، ففعل بلا تردد.

 

الفصل الثامن
نهاية العالم

ثمة شك مشوب بالدهشة غطى وجه ليبوجينا، بينما كان تلميذها وعشيقها فان ترين يسرد عليها ما أشيع بين الناس حول نهاية العالم، والشائعة التي انتشرت في كل بقاع الأرض مفادها بأن نهاية العالم ستكون مع نهاية ذلك العام.. كان ذلك خلال الشهور الأخيرة من العام 1999.

أخبرها أيضاً عن المقولات الدينية التي تتناغم مع الشائعة، والتي انتشرت بين رواد الكنائس والمساجد ودور العبادة، كمقولة "ألفان لا يؤلفان" وغيرها، كذلك أخبرها عما يدور بين مستخدمي الكومبيوتر عن مشكلة "الصفر الكومبيوتري" وما يترتب عليه من شلل كامل في كل مفاصل الحياة ابتداءً من توقف حركة الطائرات والقطارات وانتهاءً بتوقف إشارات المرور الضوئية.

ورأى فان ترين أن الربط بين البعد الديني والبعد العلمي على هذا النحو قد منح الشائعة فاعلية عالية، حتى إنها ضربت أطنابها في أروقة الجامعات أيضاً، إلى الدرجة التي جعلت أحد أساتذة جامعة "بارا" يهجر عمله دون أن يكلف نفسه حتى بتقديم استقالته..

ولم يكن فان ترين وحده من استحوذ عليه الحديث عن نهاية العالم، بل صار ترقب الحدث وأخباره المادة الوحيدة التي تشتق منها التكهنات والتصورات والتوقعات، بيد أن ليبوجينا التزمت الصمت ولم تطلق رأياً حيال ذلك.

الهاجس الذي خلفته الشائعة في المدينة اتخذ أشكالاً متعددة، كما قاد إلى سلوكيات تبدو مضحكة.. بعض الناس كدسوا المؤن الغذائية الجافة في مخازن بيوتهم، دون أن يتساءل أحدهم عن جدوى ذلك فيما الحياة ستنتهي؟.. أو إقدام شريحة واسعة من الناس على غلق حساباتهم المصرفية وسحب جميع أرصدتهم لتكون تحت اليد.. آخرون استسلموا للرعب الذي أخذ يتضخم مع اقتراب نهاية العام، واعتكفوا في منازلهم للعبادة والصلاة والتضرّع.. قطاع واسع من الناس انزوى للقراءة والاطلاع على علم الفلك وعلاقة الأرض بالكون، وعلى الرغم من عدم توصلهم لنتائج هامّة فيما يتعلق بماهية الحياة خارج الأرض، راج بينهم هاجس احتقار الكوكب الأرضي بعد مقارنته بما حوله من أجرام، فضلاً عمّا أتيح لهم من بديهية أن الأرض لا تحتل مكانة مرموقة، كما هو حال الشمس التي تحتل المركز.

لقد شهدت تلك الفترة الضئيلة من عمر البشرية ما يفضح تكوين الإنسان ويعري حقيقته المشوبة بالكثير من التهويل والتعظيم.. ولم يكن من العسير على إيماندا أن ترصد حجم الاضطراب الذي يدور على وجوه زبائنها، فقد تجسّد أمامها على شكل موجة مهولة من الاعترافات.. اعترافات من كل نوع، اعترافات بإساءات شخصية، نصب واحتيال، خيانات زوجية وتلك كانت أكثرها، وأنواع غير متوقعة من الاعترافات التي طالت حتى الغش في لعبة الورق.. كانت إيماندا تراقب كل ذلك عن كثب.. من مكانها قرب الدكة كانت تراقب امرأة أنيقة مطأطئة الرأس وهي تدلي باعترافاتها لزوجها الجالس أمامها بلا حراك، كانت المرأة الأنيقة مسترسلة بحديثها بشكل متواصل وكأنها كررت سرده سلفاً لمئات المرات:

"كان زوج صديقتي.. وفي أول لقاء معه شعرت بما يشبه الصعقة الكهربائية تجتاح جسدي، كان وسيماً وجذاباً لدرجة أن جسمي لم يعد يقوى على التماسك.. كدت أنهار على الأرض حينما صافحني.. قاومت بشدة رغبة تدفعني إلى التقدم نحوه لألصق جسدي بجسده، وكانت نظراتي وملامحي قد فضحتني أمام صديقتي التي ما كنت عابئة بها.. استحوذت صورته على ذهني لأيام، حتى وجدت نفسي في خلوة معه في مكتبه، عرضت عليه جسدي، استجاب بسرعة، أثبت روعة رجولته، أطفأ ناراً ملتهبة في أحشائي، كنت أشعر بجسدي يذوي بين يديه، لحظة أن تلاقت شفتانا نسيت كل شيء، نسيت ارتباطي الأسري والوظيفي، تلك اللحظة كانت فريدة بلذتها، أشك في أن امرأة ما قادرة على مقاومتها، وجدتني أتسلل بين فترة وأخرى إلى مكتبه لأرتوي منه، حتى الاضطراب الذي رافق تلك المغامرة كانت له نشوة فائقة.. ولا أخفي عليك يا زوجي العزيز بأن الشعور بالإثم كان يباغتني أحياناً، لكني كنت على قناعة بأني لم أرتكب خيانة ما، والأمر لا يعدو عن كونه انتزاعاً للذة جسدية مؤقتة....".

  • الاعترافات والمواجهات والمكاشفات التي شهدتها إيماندا خلال تلك الفترة خلخلت بعض قناعاتها الراسخة وحركت فيها تساؤلات غامضة.

شيخ الفخارين اعتبر تلك السلوكيات غير المتوازنة نوعاً من التعامل الطبيعي مع الظروف غير الطبيعية، وتساءل "ماذا بوسع الإنسان أن يفعل إزاء حدث من هذا النوع، غير هذه التخبطات التي نراها؟" لكنه أيضاً لم يقل بصحة الشائعة أو نفيها.. إلا أن خبراً نقله فان ترين إلى ليبوجينا مفاده بأن شيخ الفخارين حرص في الآونة الأخيرة على نقل مخطوطات معينة إلى مسكنه بعد أن كانت في انتظار دراستها من قبل الفريق المختص.

التقرير الذي بثته إحدى القنوات التلفزيونية حول الإشاعة، جذب جميع من في الحانة إلى التجمع قبالة التلفاز، ما عدا إبراهيم الذي اكتفى بابتسامة ساخرة وهو يجلس في مكانه المعتاد الملاصق لدكة تقديم الطلبات.

سألته إيماندا عما تعنيه له هذه الشائعة، قال لها بلا مواربة:

  • إنها ليست شائعة.. أعتقد بأنها حقيقة.. لابد وأن ينتهي العالم.. ربما تأخرت النهاية أكثر مما يجب، لكن الخالق على ما يبدو قد راجع حساباته أخيراً.
  • من أين لك هذا اليقين؟
  • لأني غير يائس تماماً من عقلانية الخالق.. لو كنت أنا خالق هذا العالم لأنهيته قبل هذا الوقت بزمن طويل.
  • أهي القيامة؟
  • بل هو ندم على خلق رديء.. على صناعة فاشلة.
  • أنت تكفر بالله يا إبراهيم ونحن على مسافة أيام من النهاية.
  • أنا أتحدث عن الخالق وليس عن الله.
  • يا ويحي! أنت تقودنا إلى الجحيم.
  • الفصل بين الله وبين الخالق فيه تبرئة لله من أخطاء الخالق.. عدم الفصل يعني أننا نحمل الله كل أخطاء الطبيعة.
  • كفى، كفى، صمتك رحمة يا رجل.. سأجلب لك كأساً مجانية مقابل أن تصمت.

ليتها لم تسأله، لقد أثار فيها المزيد من الرعب بدل أن يخفف عنها. غادرته متبرمة ونادمة لأنها فتحت له بوابة لا تتلقى منها سوى مزيد من القلق، لكن دافعاً من الفضول بدأ يلحّ عليها لفهم رؤيته كاملة.

ترددت قليلاً قبل أن تسأله عن كامل رؤيته تلك، خلال جولتهما المعتادة صباح اليوم التالي، قال لها بلا تحفظ:

  • على الرغم من إني لا أحب الحديث عن الأفكار والديانات، ولكن نزولاً عند رغبتك سأتحدث بخصوص تصوراتي بذلك الصدد.. أنا لا أعتقد أن الله هو خالق الكون.. الله فكرة، مفهوم، سر قابل للكشف، حالة تألق عالية داخل كل كائن عاقل، قيمة جمالية سامية.. أما الخالق فهو شيء مختلف تماماً، نوع من أنواع القوة الخفية، قد تكون قوة مغناطيسية أو كهرومغناطيسية، المهم هي قوة غير عاقلة وقد نتج عن تفاعلاتها تصميم هذا الكون الذي لا نعرف كل تفاصيله والذي لا يبدو عليه الكمال.. هذه قناعتي باختصار.
  • ألا تخشى أن تكون رؤيتك خاطئة وتكون بذلك كافراً.
  • إن كانت رؤيتي خاطئة، فذلك لا يدعو للخشية.. المشكلة هي أنك تتحدثين عن آلهة الحانة التي هي في غالب الأحيان نتاج نرجسية إنسانية متضخمة، تبطش، تعاقب، لديها محارق بأحجام خرافية.. ليس هناك تصور خاطئ وتصور صحيح عن الله، لأنها تصورات ليس إلا، تصورات عن شيء غير موجود بالمقاييس الحسية.
  • لكن الله صور نفسه من خلال الكتب المقدسة. "قالت إيماندا بشيء من الحيرة".
  • كم بقي على نهاية العالم؟
  • عشرة أيام.. الناس مضطربون.
  • لنلعب إذن... "مكيدة؟".
  • مكيدة، مكيدة، مكيدة....

* * *

ما تناقلته الألسن في المدينة هو أن الحانة ممثلة بشيخ الفخارين أصدرت بلاغاً شفهياً يؤكد الشائعة، وأن نهاية العالم في موعدها المحدد.. الحانة لم تنف ذلك ولم تؤكده، كعادتها في إهمال ما يشاع عنها أو يطلق عن لسانها.

ميشيليني آمنت تماماً بالنهاية الوشيكة للعالم، وأثرت على قناعات هاريسا وصارت هي الأخرى مؤمنة بما يتردد من أخبار.

قبل ليلة رأس السنة الجديدة، أو موعد نهاية العالم، بيوم واحد، تقدمت ميشيليني وبيدها قضيب حديدي وراحت تحطم فخارياتها التي صنعتها خلال أسبوع.

"أريد أن أشهد نهاية العالم بعيون سائحة فرنسية" هكذا قالت لهاريسا التي لم تجد ما ينافي تلك الرغبة مهما كانت عبثية المظهر..

  • إنها النهاية.. وكل يختار العيون التي يراها بها. "قالت هاريسا بلهجة مغرقة باليأس".
  • يقولون إن من صمم برمجة الكومبيوتر نسي أن يضع تاريخاً يتلاءم مع القرن الواحد والعشرين واكتفى بتثبيت الرقمين (1) و (9) كبداية ثابتة للتواريخ كما نكتبها في الماضي والحاضر، يعني أن الكومبيوتر يعرف التاريخ 1999 وما دون ولا يعرف تأريخ 2000 وما فوق، وهذا ما سوف يعطل كل شيء.. آخرون يقولون إن التكنولوجيا تطورت إلى الحد الذي لا يمكن لله أن يسمح به، لذلك ستحدث خلال الليلة المنتظرة زلازل وأعاصير تجرف كل شيء.. المهم أن الحياة ستنتهي معي ومع أي سائحة فرنسية على حد سواء وهذه قسمة أتقبلها برحابة صدر.
  • العالم الذي ينتهي بسبب سهو بسيط هو عالم لا يستحق التمسك به، شأن الحب الذي ينتهي بسبب إغواء بسيط.
  • علينا أن نفكر في المكان الأمثل الذي نمضي فيه تلك الليلة.

في صباح اليوم التالي عرفت هاريسا بأن ليبوجينا وفان ترين اختفيا عن الأنظار وانقطعت صلتهما بالحانة، كما بلغها اختفاء شيخ الفخارين ومساعديه أيضاً.. ليس هذا فحسب، بل أن بعضهم نقل بأن الحانة قد أغلقت أبوابها على غير العادة.

كانت إيماندا قد مارست خروجاً عن مألوف لم تقدم على خرقه منذ زمن بعيد.. الحانة مغلقة، معتمة، فارغة إلا من إيماندا وإبراهيم، وقد اتخذا لهما طاولة مزدانة بأنواع الخمور.. قررا منذ الليلة الماضية أن ينقطعا عن العالم قبل أن يشرف على الانتهاء، يقطفان ثمرة الدنيا قبل أوانها، ينقطعان، يسكران، يغيبان في جوف البوح.

قال إبراهيم في حينها: "ما لها إلا الذوبان في اللاشيئية".

كرر عليها تلك الجملة بعد أن تسللا إلى الخارج في اليوم التالي "ما لها إلا الذوبان في اللاشيئية" مضيفاً إليها "كهذا تماماً" وأشار بيده نحو قرص الشمس الذي اقترب من الغياب..

بعض أهالي المدينة تجمهروا باكراً في ساحة الاحتفالات وبعضهم الآخر ممن صدقوا الشائعة خرجوا لإلقاء النظرة الأخيرة على الشمس، قبل ملازمة بيوتهم في انتظار المجهول.

قالت له: "هذا أول الفقد.. ولم يبق سوى ساعات".

تابعا طريقهما إلى حيث اتفقا أن يمضيا ليلتهما الأخيرة من هذا العالم..

نحو العراء..

على شاطئ الأمازون..

في مكان يطل على المدينة كلها، ببناياتها الفارعة وأبراجها المضاءة.

لديهما من خمرة الكاشاسا والخمرة "نعم" وثمار اللوز البرازيلي والفاكهة المجففة ما يكفي لمواجهة نهاية النهايات.

فرشت إيماندا بساط الليلة الموعودة على رمل الشاطئ المهجور، وتقاربت كأساهما المترعتان بعطايا باخوس العظيم والبكتيريا الطيبة.

الاتفاق المسبق بينهما لم يتناول التفاصيل.. اتفقا على أن التفاصيل تلد نفسها داخل الحالة.. الاتفاق العام هو أن يمضيا الليلة الأخيرة في عراء الشاطئ سوية.

والاتفاق تأسس على ما قالته إيماندا حين بدأت جلستهما صباحاً: "سأختار أن تكون ليلة حرّة من كل القيود.. جميل أن يعيش الإنسان ليلته الأخيرة بتحرر مطلق".

كانا قبل وصولهما إلى الشاطئ يتمايلان مع نسمات ندية تداعب قميص النوم الشفاف الذي ترتديه إيماندا وشعرها المنثور على الطريقة الغجرية وتختلط مع عطرها الفاخر الأخاذ..

سألته إيماندا وهي مستلقية على ظهرها عن سرّ انجذابه للمدينة وما جعله يترك سفينته ويقرر البقاء فيها، فقال لها وعيناه تتأملان عتمة السماء: "أكثر ما جذبني في هذه المدينة هو اختلاف العوالم التي بوسع أي واحد أن يلجها في أي وقت، فحينما يدخل المرء حانة ما، فإنه يدخل عالماً مغايراً تماماً للعالم الذي كان فيه خارجها.. إنها مدينة تحوّل الإنسان إلى نحلة تمتص ما يحلو لها من رحيق، قد يدخل حانة فيجد نفسه في حديقة ندية، تحفك أوراق الشجر الناعمة من كل جانب.. وقد يدخل حانة أخرى فيجد نفسه في مكان من الألمونيوم والزجاج لا يجذب للمكوث طويلاً.. وربما يدخل أخرى فيجد بهجة خضراء تطفح على وجوه الحاضرين.. كل شيء في هذه المدينة يتخذ من اللون الأخضر روحاً له".

أدارت إيماندا جسدها نحوه فانزاح ثوبها الشفاف ليكشف عن فخذين بيضاوين ناعمين. طوقت بذراعيها عنق إبراهيم، التصقت به حتى صار جسداهما كتلة مغمورة باللذة والهناء تتقلب على رمال الساحل الندية، ومع اقتراب الموعد ازدادت الكتلة تلاحماً وغياباً.. تطابقا تماماً في اللحظة ذاتها التي تطابقت فيها عقارب الساعة معلنة نهاية العام 1999..

انفجرت سماء "باليم دو بارا" بالألعاب النارية المختلفة الأشكال والألوان.. الجمهور المحتشد في ساحة احتفالات المدينة كان يراقب السماء بقلق وتوجس.. بعض المحتفلين تغلبوا على هاجس الانتظار المريب وشكلوا حلقات للرقص والغناء، تواصلت تلك الاحتفالات طيلة الساعات الأولى من العام الجديد، حتى داهمتها الفوضى التي أحدثتها الحشرات والديدان العملاقة القادمة من جهة الحانة التي حطمها الغاضبون بقيادة ميشيليني وهاريسا.

 

ملاحظة للناشر: الرجاء وضع هذا الهامش في أسفل الصفحة المشار إليها بـ * والملونة بالأحمر

(* ثمار تشبه حبات النبق، لونها بني، يتناولها بشكل مفرط أهل مدينة باليم دو بارا البرازيلية بعد عصرها، وهي تبعث على الاسترخاء لمن يتناولها)