تتناول هذه المراجعة للسيرة الماجدية منهج منصور خالد في التحقيق لمخطوطة تركها أسلافه، وكيف يربط ما يدور فيها من وقائع وأحداث لا بسيرتهم الذاتية وحدها وإنما بالتاريخ الثقافي والاجتماعي للسودان الحديث في واحدة من أثرى فترات تاريخه بالتحولات الحضارية.

عندما يكتب منصور خالد السيرة الذاتية

 

رغم أن الدكتور منصور خالد يملك موقفا قويا ضد كتابة السيرة الذاتية إلى درجة الاعتقاد أنها في السودان مزيفة، إلا أن الجهد الذي بذله في تحقيق مخطوطة السيرة الماجدية يمثل فتحا جديدا في مضمار قراءة المخطوطات القديمة بصورة تقدم إضاءة جوهرية للنص القديم تسمح لنا بالوقوف على الحدود الفاصلة بين القراءة الكلاسيكية للنص والقراءة الحديثة، ذلك أن قيم الكتابة التقليدية غالبا ما تكبل القراءة الحديثة وتوجهها بوعي أو بدون وعي.

ومع طول عهد الدكتور منصور خالد بالكتابة، إلا أنه ظل حسب عبارته (يرجئ الاحتشاد لمراجعة بعض المخطوطات الأسرية التي خلفها سلف صالح من الأجداد والآباء).

ولعل انشغال الدكتور منصور خالد بهموم الراهن السياسي ومعاركه وفتوحاته الكثر منذ أن كتب قبل نحو 40 عاما في صحيفة (الأيام) بتشجيع وتحفيز من عميد الصحافة السودانية الراحل بشير محمد سعيد مقالات مثيرة للجدل نشرتها لاحقا جامعة الخرطوم بعنوان (حوار مع الصفوة)، حتى لحظة ظهوره مؤيدا قويا للراحل جون قرنق ومسوقا له في كتاب بعنوان (قرنق يتحدث) قد حرمه من الاهتمام أو حمله على إرجائه مراجعة بعض المخطوطات الأسرية.

الحاصل أن الدكتور منصور خالد قد أثرى المكتبة السودانية بعدة مؤلفات يمكن أن تؤسس لنمط الكتابة ذات المعلومات المكثفة والتدوين الجيد للأحداث والوقائع واللغة الجزلة القوية ذات العبارة الواضحة الرشيقة، بغض النظر عن اتفاق أو اختلاف الناس مع الدكتور منصور خالد أو اشتجارهم حول مضمون هذه الكتابات. ومناسبة هذا الحاصل أننا يمكن أن نتجرأ ونضع جميع كتابات الدكتور منصور خالد في كفة، ثم نضع تحقيقه لمخطوطة السيرة الماجدية في كفة أخرى، غالب الظن أن كفة السيرة الماجدية سترجح.

ويستمد هذا الظن الجريء مشروعيته من خلاصة سطرها الدكتور منصور خالد بقلمه الرشيق حين كتب (تظهر المخطوطة الأولى الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها هؤلاء الأسلاف كما تبين قدرتهم الفائقة على التلاؤم مع تلك الظروف دون مساومة أو تنازل عما يحسبونه قيما أساسية). في نفس الوقت تكشف المخطوطة أيضا عن مفاهيم اجتماعية يهاب الناس ذكرها في مثل هذا الزمان مثل الحديث عن الإماء والموالي، ولعل في استذكارها ما يحملنا على التملي في بعض المعايب الاجتماعية التي ـ وإن أقرتها الأعراف السائدة آنذاك ـ لا تجد لها سندا في الدين).

انتهى حديث الدكتور منصور خالد، والشاهد منه أن هؤلاء الأسلاف قد طبقوا مبادئ إدارة الجودة الشاملة في حياتهم عمليا دون أن يعقدوا ورش عمل داخل البلاد أو خارجها أو ينتدبوا خبراء أجانب. وأهمية هذا الشاهد أن أغلب كتابات الدكتور منصور خالد تنتقد وتحلل وتستنكر وتدين (الجوطة) السياسية التي تضرب بأطنابها في البلاد منذ أن نكس طيب الذكر الراحل إسماعيل الأزهري ذرى علمي دولتي الحكم الثنائي.

والسيرة الماجدية كتاب من ثلاثة كتب يأتي الكتاب الأول بعنوان من سيرة الشيخ محمد عبد الماجد من تأليف الشيخ خليل محمد عبد الماجد.

ويمثل الكتاب أول إطلالة في عالم النشر للمخطوطة التي سجل فيها الشيخ خليل سيرة والده الشيخ محمد عبد الماجد كما رواها الأب لابنه. وقد أضاف خليل إليها كل ما ألم به من خبر في مجلس أبيه أو مجلس عمه الشيخ الصاوي عبد الماجد أو اطلع عليه من آثارهما. وظل الشيخ خليل حتى وفاته في 1981 يعاود كتابة هذه المخطوطة بنفسه أو يمليها على الأبناء والبنات وكان يخشى عليها الضياع.

والمطلع على الكتاب يلحظ أن الشيخ محمد عبد الماجد فقيه أكثر منه متصوفا، رغم منشئه في واحد من (بيوتات) المتصوفة. ومع ذلك يستعرض الشيخ خليل أطيافا من كرامات والده، و(الكرامات عند الصوفية كلها بأمر الله بين الكاف والنون). وفي تقدير الدكتور منصور خالد أن (الكرامات تعبير رمزي عن اتجاهات وأفكار شعبية لا يمكن التدليل عليها ببرهان عقلي ولهذا هي أمور لا تدركها الفهوم وإن تقبلتها الحلوم).

ولمزيد من التفصيل في مسألة الكرامات، فهناك رأي نبيه للسيد أحمد بن إدريس في هذه البادرات يقول السيد قطب زمانه (الاستقامة هي غاية الكرامة). وفي الفقه أجتهد الشيخ في التحصيل حتى أصبح من أفرض أهل زمانه (أي أكثر علما بالفرائض). ومع تقدير الشيخ محمد عبد الماجد لوالده كان مستقلا فيما اختط لنفسه من طريقة فقد كان الشيخ عبد الماجد ختمياK تربطه صلات حميمة مع السيد الحسن، بينما كان ابنه الشيخ محمد شاذليا.

وعودة لمنهج تحقيق المخطوطة، فهناك شبه إجماع بين الباحثين ومؤرخي العلوم على أن العلوم الإنسانية قد نشأت في القرن التاسع عشر حينما بدأت هذه العلوم في الاستقلال. ويقابل شبه الإجماع هذا، خلاف حول طبيعة المنهج في هذه العلوم. ولهذا يمكن القول إن العلوم الإنسانية قد نشأت نشأة غير مكتملة، فهي وإن استطاعت تحديد موضوعها وحصره، فإنها لم تستطع خلق منهج يلائم طبيعة موضوعها. مع كل هذا يقف الدكتور منصور خالد في تحقيقه للمخطوطة على معالم الحياة السودانية بمعناها العريض عبر عدة حقب مهمة من تاريخنا السياسي من مصادرها الأولية.

فالمخطوطة مجموعة إفادات وشهادات عن أسرة عريقة انتقلت من شمال السودان إلى وسطه في سنار. ويطرح هذا الانتقال عدة أسئلة حول طبيعة هجرات سكان شمال السودان إلى الوسط والغرب، هل كانت بسبب الظروف الاقتصادية وضيق الرقعة الزراعية، أم بسبب التجارة أم بسبب نشر الدين الإسلامي والتعليم أم بجميع هذه العوامل؟ وبصورة أكثر تحديدا هل ارتبطت هجرة الأسرة إلى سنار بموجة الهجرة التي انتظمت ديار الجعليين، في أعقاب حرق إسماعيل باشا في المتمة، وكذلك التداعيات التي خلفها غزو الدفتردار للمتمة.

وهناك نقاط متعلقة بتاريخ العمراب أنفسهم، فقد عرفهم الدكتور عون الشريف في مقدمة الكتاب بأنهم فرع من الجعليين، وقسمهم إلى قسمين عمراب الجبل وينتسبون إلى الشيخ عمر ود بلال والد الشيخ حامد أبو عصا، وعمراب السارة وينسبون إلى جدهم عمر الأعور، وهو جد الشيخ عمر ود بلال. وهنا ينداح سؤال مهم فحواه: هل العمراب بطن من بطون الجعليين أم طريقة دينية للشيخ حامد استمد اسمها من اسم والده الشيخ عمر ود بلال؟ قد لا يسمح المجال للاستفاضة في الإجابة عن هذا السؤال، لكن تعريف الدكتور عون الشريف للعمراب يحتاج إلى تفصيل شديد من جهة أن الجعليين عموما حسب مخطوطة الشيخ محمد الخير ينتمون إلى أربعة جدود هم: شاع الدين، زيد، عبد العال، ومسلم. وحسب هذه الشجرة ينتمي العمراب إلى عبد العال جد العلياب ومسلم جد المسلماب.

وهذا التقسيم أقرب إلى الواقع الجغرافي حيث كان يقيم الشيخ عمر ود بلال في قرية المطمر التي تبعد نحو عشرة كيلو مترات شمال أم علي حلة الجبل، وتوفي وقبر فيها وله قبر يزار وقد شيد فوقه الراحل الأستاذ الدريري محمد عثمان كشكا في عام 1953م. أما ابنه الشيخ حامد أبو عصا فقد كان يقيم في قرية المكنية بالضفة الغربية للنيل، وقد انتقل منها إلى شرق النيل حسب رواية ليؤسس حلة الجبل في أم علي، ويقبر فيها وضريحه هناك يزار، وهي تقع في منطقة تبعد عن أم علي المحطة نحو ثلاثة كيلو مترات جنوبا، ذلك أن أم علي المحطة منطقة لا سكان فيها وتحدها شرقا جبال ضخمة في طرفها الشمالي وادي صغير يقود إلى قرية الضيقة. وقد اشتهرت أم علي المحطة بعد تأسيس محطة للسكك الحديدية فيها، وقد اختيرت هذه النقطة، لأن سطح الأرض فيها مرتفع جدا يوفر لها حماية من فيضان النيل، إضافة إلى أنها منطقة وسطى بين القرى التي تقع غرب النيل مثل: بقروسي، المكنية، الحليلة، سقادي، وغيرها. على أن فهم طبيعة هذا المكان ترتبط بفهم جغرافية منطقة وادي الهود وسهول البطانة المتآخمة لنهر النيل. أما الزمان فهناك رواية وردت في كتاب طبقات ود ضيف الله متعلقة بظهور الشريف حمد الدنان سليل الدوحة النبوية الشريفة في منطقة سقادي، واقتران الشيخ بلال بكريمته وديدة، وهي والدة الشيخ عمر بلال جد العمراب.

وظهر الشريف أبو الحسن حمد أبو دنانة المنتسب للدوحة النبوية في القرن السادس عشر الميلادي وحط رحاله في مسجد الإسلام الأول في دنقلا، مما عزز شوكة الوعي الإسلامي الناهض، وواصل مسيرته الدعوية جنوبا داعيا ومعلما فحط الرحال في منطقة سقادي غرب المحمية، حيث أسس مسجده الجامع على ربوة عالية مطل على نهر النيل تسمى (قوز العشرة). واعتبر الدكتور عبد الله الطيب أن هذا المسجد هو الجامع الثاني الذي كانت تقام فيه الجمع بعد مسجد دنقلا. وانطلق من هناك يدعو إلى دين الله الحنيف حتى تهيأت البلاد للانقلاب التاريخي على يد صهره عبد الله جماع، فكان المرشد الروحي بلا ريب للثورة التي أطاحت بآخر معاقل المسيحية وأسست لدولة الإسلام.

ومن إسهامات الشريف أبو دنانة العلمية والدعوية أنه أول من أدخل التصوف الطرقي إلى السودان، بعد أن أخذ الطريقة الشاذلية في المغرب من مؤسسها وهو صهره الشريف الحسني عبد الله بن محمد بن سليمان الجزولي. وقد عرف السودانيون كتب الشاذلية وأورادها بعد مجئ الشريف أبو دنانة، فعرفوا كتب: (دلائل الخيرات) للجزولي، مناجاة ابن عطاء الله السكندري، لطائف مناقب أبي العباس المرسي، الوظيفة، وحزب البحر لأبي الحسن الشاذلي. ومناسبة هذه الراوية عن العارف بالله أبو دنانة أن صلة العمراب بالدوحة النبوية الشريفة ترتبط بهذه الزيجة. وهناك خطأ شائع يقع فيه بعض العمراب في أم درمان، حين يقولون إن وديدة هي والدة الشيخ حامد، والصحيح أنها جدته والدة أبيه.

ينطوي كل هذا الاستطراد على ملاحظة أو رجاء للدكتور منصور خالد أن يهتم بالأمر من جهة تتبع هجرة أسرته وغيرها بغرض معرفة هذا الحراك السكاني وتأثيراته في تحقيق نبوءة المؤرخ الإنجليزي أرنولد توبيني من أن السودان هو الأرض التي سيجري فوقها اختبار حاسم لمدى تعايش العناصر العربية مع غيرها فوقه؟ تنبع مشروعية هذا الرجاء من أن الدكتور منصور خالد أنفق أربع سنوات في تحقيق هذه المخطوطة، حتى يؤرخ لحياة الأسرة في سنار، ثم انتقالها إلى أم درمان في فترة من الزمان تجاوزت المائة عام، جربت البلاد خلالها عدة أنواع من الحكم. وهنا ندعو الدكتور منصور إلى البحث في جذور تاريخ الأسرة قبل انتقالها إلى سنار، لأن موسوعية الدكتور منصور خالد ستمكنه من كتابة تاريخ الجعليين بمختلف بطونهم وبيوتاتهم.

وتذخر السيرة الماجدية بأجزاء من أشعار الشيخ أحمد الصاوي عبد الماجد في النبويات والاجتماعيات نشرت للمرة الأولى في عام 1351 هـ بمطبعة النهضة السودانية. ويحوي الديوان أهم ما جادت به قريحة الشيخ الصاوي من شعر رصين شبيه من حيث البناء بالمدائح النبوية، لجهة التدفق والغنائية وحماسة الروح المنشدة. إن ما يميز تحقيق الدكتور منصور خالد للسيرة الماجدية هو طابع الثبات والاستمرار في إنجاز تحقيق يتمكن من مواجهة كل المتغيرات التي قد تواجه كتابته. وفوق أن التحقيق يكمل تواصل الأجيال من الأب إلى الابن إلى الحفيد، فهو تأملات في دلالات التاريخ الاجتماعي للسودان في فترات حكم مختلفة بدأت بالحكم التركي ومرت بالثورة المهدية تحت حكم الخليفة عبد الله التعايشي، وعاصرت الحكم الثنائي، وعاشت الحكم الوطني بمسميات مختلفة ولم تنته بطلب الرئيس الراحل جعفر محمد نميري دعوته لصلاة الجمعة في مسجد ود عبد الماجد، إذ كان رد الشيخ خليل أن الصلاة يدعو لها الأذان.

لو عنّ لنا الحديث عن أعلام التصوف والفقه تحت سمائنا لحضرتنا أسماء عدة لرجال أفذاذ مشهود لهم بالبركة والتميز منذ فترات موغلة في القدم، لكن نحن مع الدكتور منصور خالد في السيرة الماجدية أمام كتاب خاص، شديد الحساسية وشديد التميّز في خريطة التأريخ الاجتماعي لبلادنا التي لم تبدأ بعد، ولعل خير ختام دعاء المتصوفة: الحمد لله الذي منح أولياءه الوصول إلى الحضرة الإلهية وأتحفهم بمشاهدة أنواره القدسية واختارهم لإرشاد الخلق إلى حضرته العلية وجعلهم أبواباً لمن يريد الولوج لحضرته النورانية وخصهم بالمعارف والأسرار الربانية وأمنهم.

 

abusamira85@gmail.com

عن صحيفة (الراكوبة) السودانية