أسئلة شائكة تطرحها القصة من خلال هذا المشهد داخل الكنيسة. ويتأملها القاص المصري من خلال رصده لطقوس عاشها وأرقته منذ أن كان طفلا وكاشفا عن التناقضات التي اختبرها بين ممارسة تلك الطقوس ولحظات الحياة التي تنفلت من كل قيد.

طفل النور

يوسف فاخوري

دخل الكنيسة. كأن الزمن خارج حدوده. كل شىء فى الخارج يتحول ويتبدل إلا هنا، لم يزل كما كان صغيراً. اصطحب عينيه بشغف يراهن بهما رؤاه. الرب يغير ولا يتغير. مازالت عالقة بخيالاته جملة الكاهن. كم من الزمن مر منذ فراره؟ كم هو ضئيل زمن الذاكرة؟ كأنما ينكر على زمن الوقت براحه فى الثوانى والساعات ورغبة الأيام أن تتسارع. والولد الصغير الذى كان ينسحب من زمن الذاكرة ويتجسد بجواره كيان يكاد يكون من اللحم والدم. لا يجرؤ على لمسه، وإن كان يتطلع إليه ككائن مموه بالنور يعدو نحو المستحيل دون حراك. تختلط عليه الأزمنة فيما لا يدرك مراحله. استسلم للذة اختلاط الزمن، امتزاجه وتنافره. يزوم ويراوغ. يعاود وينحنى ليتداخل وينسحب ليحضر. لم يعد يدرك أين هو من عمره. من لحظته الآنية، الراحل منها والقادم. شىء كالدغدغة يسكره. غام وشف وتماهى فى انسكاب لم يعد يدرك حدوده.

رنا للصمت والجدران العالية وأشعة الشمس الغاربة، تتسلل من الشباك العالى إلى ارضية الهيكل الرخامية. زجاجه المعشق يصطلى بالألوان ويزوم بخيوط الضوء على الصليب المنتصب فى المنتصف. عصفوران من ألوان النشوة والوحشة يتقاطعان، يهبطان، يصعدان دون صوت أو زقزقة. يمرقان فى الضوء ليتشلع، ويتواريان فى الظل. نقطتان من صمت يكسران حدة الأبد الساكن فى القدسى. راهبة وحيدة تركع خاشعة لدمها أو الرب. صمت، وغداً الأحد.

نظر لطفل النور بجواره. كما كان فى الزمن المنقضى، يتواتر بموجات نورانية لم يكن يدركها.

أمامه اعتراف ما قبل تناول الجسد المقدس والدم المراق منذ زمن. دم النبوءة الحار مازال حياً أكثر من طفولته. جال بظل عينيه فى لوحات مراحل الصلب المعلقة عن يمينه ويساره. كيف ينتمى طفل لكل ذلك العذاب؟ شىء ما اخترق صدره، كأن فرخ حمام يصو فى عجز. فضاء الكنيسة يعبق بروائح البخور العتيقة، وقد تخللت الجدران والأشياء حتى صارت زمناً حاضراً ومنفرداً يجاور زمن استعادة النبوة ويكرسه. تتناسق الزهور فى الهيكل نغمة وحيدة تكسر طعم الصمت، كى لا يصبح جثة. جال بحس عينه فى فضاء المبنى العتيق. هذا صمت الرب لا يجرؤ حتى طفل على خدشه. وفى خياله تضطرب أصوات لم يستطع السيطرة عليها. هل يهبط الرب إلى فراغ الهيكل أم أنه حاضر لا يبرح؟ كثيراً ما صلى أن يراه. سمع حكايات كثيرة عن أناس رأوه فى هيئات متعددة. لِمَ لا ينبثق ويكلمه؟

تردد فى كيانه صوت الراهبة الفرنسية البضة، وهى تؤهلهم لتلقى جسد المسيح ودمه. لها صوت يهبط ليصعد وفى المنتصف يسرى ويتخلل. انكسار عينيها وذلك الوجيف فى صوتها يؤلم طفولته لتصعد إلى رجولة لم يدركها بعد، وإن كان يتحسس طريقه إليها. أول الأمر اقشعرت منابته أن يبتلع جسد المسيح، حتى لو كان مجرد لقمة قربان أو رقاقة مغموسة فى النبيذ (دمه). كانت تلقنهم (أسرار الكنيسة، وصايا الله العشر، أبانا الذى فى السماوات، السلام عليك يامريم، وبعض التراتيل) لها صوت هامس وحس ملاك قرر أن يهبط أرضاً، لا ليصير منها، ربما ليجد لجناحيه موضعاً.

لم يبق إلا الصمت. نزع طفل النور شعرة وحيدة كانت تخايل رؤاه. ألقاها فى الصمت فسبحت فى الفراغ. وكان لها صوت خفى يموج بها ومعها. يتواتر ويتهادى على إيقاع فضتها. تهيم إلى الهيكل تتخلل بقع الضوء الملونة ولا تكف عن السباحة. بدت له كالبنت التى ترقص الباليه على مسرح الكنيسة. تترك شعرها الطويل يموج بحركة جسدها كأنه يصعد بها إلى سماوات أكثر شفافية من غموض الأصوات فى خيالاته.

كطيف تمر به تلك الارتعاشة التى انتابته "لابد من خطيئة جديدة" ولمح فى عينى طفل النور بريقا.

كان قد ملّ الاعتراف.كذبت، حلفت، شتمت. ماذا يملك طفل من خطايا أكثر من ذلك؟ لم تعد الأكاذيب الصغيرة تقنعه، يتوق لشىء أكبر. ليس بقدر نموه الجسدى الذى كان يجعل ظله يقترب من ظل أبيه. بل بقدر تسارع خيالاته.

سرح قليلاً وهو يتداعى بالذكريات ونظرة خبيثة من طفل النور تقتنصه.

الكذب، لؤلؤة خيال طفل. كان يؤلمه أن يضطر لقبول ذلك الشعور المخزى (أنه خطيئة). شىء ما كان يتجلى فى خياله، وينتشى حين يصنع كذبته بمهارة تنطلى على الكبار ليصدقوا أوهام حكمتهم. تلك التى يتصورون أن طفلاً لن يبلغها. لم يكذب يوماً على أقرانه. ولماذا يفعل؟ ولهم نفس الخيال الجميل، وبصيرة الطفولة تلك التى تسبح دون هدف محدد سوى المرح. لم يشعر به كخطيئة حين ينتقم لطفولته من ذلك الغرور المتسربل بالحكمة المقدسة، لمن امتلكوا اكتمال الجسد وضمور مغامرة طفل.

حلفت، آه من ذلك الشعور المهين حقاً. أن يضطرك الآخرون أن تؤكد على قولك بقوى خارج ذاتك. وأن تتقلص أمام نفسك إلى حد إحساس الدود. لكنك تضطر وينسرب إلى عميقك حس الحشرة فى صمت.

شتمت، ضحكة مجلجلة اجتاحته لم تخرج منه صوتا، لكن جسده ظل يبقبق، تلك هى اللذة الكبرى. أن ينتقم من كل سفالات العالم عبر صوت يخرج منه هو عنيفاً وحاداً أو ساخراً يتدحرج. تلك الانفجارة الصغيرة كأنه يضرط فى حضرة الملوك ليعبر عن رأيه فى كلماتهم. وكأنه ينتقم من حس الحشرة قبل أن تتآكل دهشته. آه من تلك المتعة الفجة والمراوغة.

تلك اللذة المغوية بدت أكثر غموضا من عين الكاميرا وهى ترصدهم لتلتقطهم، وقد اصطفوا لصورة العام الدراسى مبتسمين فى انتظار تكة الكاميرا. الأولاد فى الخلف وإلى الأمام البنات، وفى اليمين الراهبة. المصور راكع على الأرض، فى الثوانى التى عليهم أن يتجمدوا فيها لتمتصهم عين الكاميرا يقرص زميله بيد، ويشد شعر البنت أمامه باليد الأخرى، بينما وجهه يموج بالبراءة. يقفز الولد، تصرخ البنت وتتناثر الصفوف. تتفجر النشوة ويتقافز سعيداً، وفى نفس اللحظة ينتظر عقابه باستمتاع من ظفر بسمكة ضخمة بعد طول انتظار.

الكرسى فى ركن الكنيسة الجنوبى. لا ظل يحتويه ولا أشعة الشمس الغاربة تسقط. الدرج الذى سيركع عليه والتجويف الذى سيحتوى الأب الكاهن. نظر إليه. ماذا أقول غداً للجالس فى أحشائك؟ نصف الصمت حضور. ما يتبقى منه غيم فى الغياب، وربما فى الذاكرة. لم يحتوه الصمت وإن أدهشتة كثافته، حتى أحس بوطأته كأنها ظلمة كهف مغلق. هل للدهشة متعة؟ ربما هى نفس رغبة الخطيئة دون حضور. هل للبراءة موضع... للأسئلة أن تستحق علامة أستفهامها؟

ابتسامة تشيع فى وجه طفل النور، تحتوى الوجه وتطوف. تنسحب إلى دمعة بلا ثقة ولها لون المرمر. يمد يده ليمسحها، كأن زمناً ينسرب من بين أصابعه، فتلمس أنامله غيمة.

ككل الأطفال يمتلىء بأصواته الداخلية. تلك التى رغم أنها مغلقة عليه إلا أنها تتفتح بقليل الحلم، ورهيف الحس ولا تتنفس إلا عبر نزوة لها طرق موحشة تشاكس خيالاتهم. تتداخل وتتخارج تتصارع معهم. ليس فى الأمر أى تشويش. ببساطة عالمهم غنى بحيث يتوالد من بعضه، ينضح بالأفكار والمؤامرات والمشاعر الملتبسة. ذلك التناقض الرائع والمفتوح على أسئلة لا تنتهى، وإجابات غير منتظرة يصنع لهم ما يسميه الكبار البراءة. بدت طفولته على بعد ملموس منه، واحس بشىء مراوغ مثل فأر يبحث عن مخرج من حصار. انتابته قشعريرة لم تفصح.

طوقته صور يوم (أول تناول) وتداعت. البنات فى فساتين عرائس وتاج يكلل رأس كل منهن. الأولاد فى ملابس بيضاء. كانوا فى البراءة التى يرغبها الكبار. يطفر من عيونهم بريق يغلق الحدقة ويفتحها كأنها تبتسم. كانوا فى الهيكل والجميع يتطلع إليهم ويرتل. كم أحس يومها أنهم كانوا أطيافاً غير قابلة للتحقق. يومها كاد أن يختنق من كثافة البخور والزحام، وحين تقدم للتناول انتابته رعشة مفاجئة. لما انتهى الحفل اجتاحته الرغبة أن يتحرر من الملابس البيضاء وقد سجنته كل ذلك الوقت، فراح يلعب الكرة بصفاقة.

شىء يتقلص فيه. راح يتحسس جسده. كان طفل النور يتضخم. لم يعد يدرك أهو الطفل الذى كان، أم الرجل الناضج إلى حوافه؟.

كأن الزمن ينسحب ليعود. يتخثر قليلاً ليندفع فى ارتياب من كيانه الهلامى. هل يعود الرجل طفلاً؟ هل ينضج الطفل فجأة كالبرق؟ أدهشته تلك العلاقة النافرة فيما بين ماض وحاضر. نقطة يندفع فيها زمنه الشخصى فى اتجاهين يصل إلى طرفين لا يبلغهما نظر الحواس، لينكمش فى لحظة إلى نقطة ضئيلة هى هو، حتى لايعود يدرك حدود جسده، وذلك الشىء الهلامى فيه. شكه، روحه، زمنه، هواجسه، وذلك الشىء الذى نما فى كيانه جرثومة من بلور، خوفه.

نظر إلى الكرسى كأنه يسأله إن كان الجالس فيه غداً سيسأله عن خطاياه من جديد. ارتاب فى حكاية الخطيئة تلك. أهى لا تنتهى؟ كيف يعلق إنسان حياته على خطيئة قبل أن تبدأ، فيرتكبها حتى يستريح من ذلك العبء؟ الخطيئة هى الخطيئة حسناً، لكن إلى متى تطاردنى حتى لم تعد لى أرضاً أطأ؟ خاف من نفسه للحظة ثم استعادها. لابد من خطيئة عظيمة

انتابته الوحشة لخطيئة ضخمة أكبر من حجمه الضئيل، وعالمه المحدود، ومن حدود الفضيلة التى لا يتسع لها أفق طفل آثر الركض دون هدف، كى لا يخون طفولته بادعاء الأدب كشىء سىء السمعة. بدت الجنة كأنها تهبط من العلياء تكبس على أنفاسه، تكاد تخنقه. برغم خضوعه للقداسة جاثياً، ضاماً كفيه، مغمضاً عينيه فى صلاة تبدو متوحدة، إلا أن عقله يجول فى متاهات تلّوح ذهنه وتطوحه فى البعيد، أبعد من حدود إحساسه بجسده.

كاد أن يقفز من مكانه أو هكذا توهم. سأقول له إننى سرقت. شىء ما انتفض داخله كالملسوع. تلك إهانة لنفسه وليست خطيئة. أحس أنه لن يغفر لنفسه مجرد التفكير فى شىء كهذا، فكيف سيغفر له الرب. شىء كالحسرة ظل يدوم داخله إلى أن نحاها عن خياله بالتفكير فى خطيئة أخرى.

إذن سأقول له إننى قتلت. حين نطق بها فى صمته دوت الكلمة فى رأسه كأنه اقتطع قلبه. أول مرة شاهد أمه تذبح دجاجة كاد أن يفقد النطق. ظل جسده ينتفض بنفس إيقاع انتفاض الدجاجة إلى أن سكنت حركتها، وغاب هو عن الوعى. ظلا يحلم بكائن عملاق هلامى الملامح يتقدم نحوه شاهر السكين، فيما بقعة دم تتمدد لتغلق رؤيته على القانى، فيصحو فزعاً.

تداعت فى موجة خفيفة من خياله تلك المرأة ذات الهالة. وحدها بين النساء تشع بذلك البريق لا ينطفىء. مأخوذة بنداء يصعد منها إلى كيان انفصلت منه ليهبط ظلها على الأرض بينهم. لها وقع يصفق الرؤى بالتهادى. امرأة لها نكهة وزمن ليس له الوقت. من حرير عينيها يشعر فى اللحظة الخاطفة كما لو كان يجول فى رحمها. وفيما بين الطفولة والرجولة نوع من الرغبة يأتى سريعاً ويودع بلا انتظار. حس ملتبس لا هو طفولى يزحف ولا رجولة تعدو. خاطف فى الزمن ومغلق على نفسه. لا هو مرحلة أو انقضاء. شىء يشبه الاكتشاف، كمعجزة صغيرة منزوية. شىء ما ابتسم فى دمه وطفا على ملامح وجهه. سأقول له إننى اشتهيت امرأة. تلك خطيئة مشروعة. للحظة أحس بلذة الاعتراف، ولذة الخطيئة.

حين جثا على ركبتيه، والأب فى التجويف بينهما دائرة معدنية مثقبة. فمه أمامها وفى الناحية الأخرى أذن الأب يستمع جالساً. لم يرتبك، وذلك الواجب الثقيل أصبح له خفة حلم. تنحنح الأب ودون مقدمات:

قال: أبت لقد ارتكبت امرأة

وشى صوت الأب بضحكة مكتومة أربكته.

ـ وكيف فعلت؟

ـ كما يفعل الرجال مع النساء.

أحس أنه تورط إلى الحد الذى لا يصح التراجع إلا بخطوة إلى الأمام.

ـ وماذا يفعل الرجال مع النساء؟

كاد أن يبتلع نفسه حين بدأ يتلعثم.

ـ ربما ذلك الشىء الذى يقولون إنه يغضب الرب.

ـ ومن هى تلك المرأة؟

لحظتها لم يستطع سوى الفرار والاختباء فى غرفة الجرس.

يومها كاد الصمت أن يبتلعه، صمته الداخلى والخرس. وبرغبة أن يعلن براءته من خطيئة لم يرتكبها، وإن كان قد أحب نفسه وخياله حين اخترعها. أمسك بحبل الجرس وتعلق به. واهناً بدأ الصليل. يشد جسده إلى الأرض والجرس ثقيل. وبروعة الأصوات المضطرمة داخله يحاول أن يعطى للأصوات صليل الجرس. يشد والحبل يصعد ويهبط، وبإصرار جذر نخلة يتلمس الشقوق فى باطن الأرض يشد جسده الضئيل إلى أسفل، وبرغبة الخلاص يصعد به ويطوح جسده وروحه. غابة من التوهة والدوخة، والصليل صار صلصلة فيما الحبل يصعد ويهبط، وهو معلق به كأنه حبله السُرى. فى لحظة الامتلاء بالنشوة لم يدرك جسده من ذلك الشىء الخفيف يتقافز ويرف دون ألم، وشىء دافق ينسحب من صمت نخاعه ويسوخ. أحس بالبراح حين كان يسقط على الأرض فى صلاة لم يبلغها أبداً، وأبد.

نظر لطفل النور. كان مايزال يرنو إليه. انتابته رغبة اللعب. قفز إلى مكان الطفل، فقفز الطفل إلى مكانه. ظلا يتقافزان، يأخذ كل منهما مكان الآخر ويضحكان، والضحك يجلجل حيناً، يصلصل حيناً، حتى صار له إيقاع ال دو.. رى.. مى

لم يتقاطعا فى قفزهما ولم يلمس أحدهما الآخر.انتفض فجأة وقد أصابه مس له سيريا الكهرباء. كان طفل النور قد اختفى. لم يدرك هل حل بجسده، أم ذاب فى فضاء الهيكل. نظر إلى جسده. لم يكن له نفس حجمه. ولم تكن بحجم طفل النور. شىء كالبين بين ومنتصف الطريق. حاول أن يدرك ملامحه. لم يكن لديه مرآة، لكن شيئاً ما كان يشف به للداخل. لتلك النقطة المتناهية التى تجعله يحس قلب الأشياء، وكانت ملامح لم يعهدها. ربما تلك التى تكمن تحت جلده ويحلم دومًا أن تتجلى.

منذ خطيئتة المفترضة والحنونة لم يعترف إلا لنفسه، وأمام نفسه. صلصلة الجرس ظلت تدوى فى خبيئة روحه. شىء تحرر فى عقله والقلب. رغم خزيه أمام الأب ظلت الصلصلة تغربل عقله كأن للخطيئة روعة. لم تبهره خطيئة آدم. كانت عادية وبلا معنى، حتى التحذير الربانى وجده عادياً وربما غير مبرر. ما الذى يمنع إنسان يمتلك الجنة أن يحرم من ثمار شجرة وحيدة؟ ولماذا لم تحرم بقية الكائنات؟ إذا كان من حق فأر أو قرد أن يتسلق تلك الشجرة ويقضم ثمارها. لماذا وضع الله فيه العقل؟ بدا له الإنسان شيئاً سخيفاً لأنه يملك حق الخطيئة التى تهلكه. وحده الإنسان امتلك ذلك التميز ليتعذب به، أى حكمة تلك؟ أكان على آدم أن يمتلك عقله الضائع فى متاهات الجنة بارتكاب تلك الخطيئة؟

كان يتلمس حواسه قبل أن يسقطها عقله. هى الشىء الباقى. كان عقله ينتفض بإشارات كأنها القلب بينما حواسه تنسحب. طفل لم يزل، لكن عقله يتزاحم بالأسئلة. تلك التى لا يحترم حوافها أحد، بينما الأطراف مسنونة. زخم من غضب طفلى يتفتح. يريدونه قطاراً يمشى على قضبان. لم يدركوا متعة الطفل فى المنحنيات. ذلك التناقض بين ما يرونه وما يحسه يجعله ينتفض ويخاف، يخاف أن يفقد حواسه الملتهبة.

كنت اقف نفسى إلى كيانى. أجرد تفاصيلى دون ألم إلا من خطأ ارتكبته دون خطيئة. وقع الكلمات على حوافرها كان يقهرنى. والنفس على الحروف لا تنطق. رغبة الكلمات أن تستحيل حياة ودفق نبض. كأنى لم أكن نفسى إلا فى اللحظة. كأن اللحظة حدى الذى لا ينتهى. من النهايات أصالح البدايات حتى لا تنكفىء روحى على الخرس المقيم ولا أفقد محورى، نفسى.  

6 / 4 / 2004