في مواجهة كوابيس جائحة كرونا المتنامية، يطرح محرر (الكلمة) هنا القسم الأول من قراءته لأحد الروايات المهمة التي صدرت في مصر مؤخرا، وهي قراءة يسعى فيها إلى جانب تحليل هذا النص المثير للاهتمام والتفكير، إلى التنظير للرواية المصرية الجديدة واستكشاف منطلقات نقدية مغايرة لقراءتها.

التسريد الديلوزي ومواجهة عالم يتهاوى

قراءة تفكيكية في رواية «صخرة هليوبوليس»

صبري حافظ

 

1. تمهيد:
في عالم كشفت جائحة «كرونا» عن انهيار منظومته الإنسانية وتصدعها المؤسف – بعدما انهارت جل قيمه الأخلاقية وانقلب سلمها رأسها على عقب – مع صعود الرأسمالية المالية، وتوحشها وتفشي أمراضها حتى أخذت في التأثير على منظومة التوازن البيئي نفسها. عالم يحدق في مرايا الموت والعوز والدمار، على وقع تفشي الجائحة، وضربها لمراكزه التي كانت تزعم بأنها المراكز الحضارية للإنسانية جمعاء. فقد عطل الفيروس آلة الرأسمالية المالية الطاحنة، التي كانت تدور بلا رحمة، مدمرة في طريقها كل ما أرسته الإنسانية من قيم ضميرية وأخلاقية عبر العصور. وأزال بضرباته المصمية، التي عطلت دوران عجلة ذلك الاقتصاد، المليارات من قيمة كل أصوله الثابتة منها والمتحركة على السواء. وأتاح للطبيعة أن تتنفس الصعداء من ملوثاتها الخانقة.

في عالم يعاني – وخاصة في بلداننا العربية – من كل ما دعاه جرامشي بالأعراض المرضية القاتلة أو المريعة morbid symptoms لمجتمع يعيش تلك الحالة الحرجة التي دعاها بالفراغ أو غياب الشرعية بين مرحلتين interregnum. وهي الحالة التي يخلو فيها العرش من وريث شرعي، فتُعلق فيها كل وظائف الحكومة والسلطة. في عالم يعاني على مدى العقد الثاني من هذا القرن، من أزمة شرعية على جميع المستويات السياسية منها والإنسانية والأخلاقية، وهي الأزمة التي يصفها جرامشي: «أزمة ناجمة بالتحديد عن حقيقية أن القديم يعاني من سكرات الموت، لكن الجديد لم يولد بعد. في هذا الفراغ interregnum تظهر مجموعة متنوعة من الأعراض المرضية المريعة».[1] وهو الأمر الذي دعاه يورجين هابرماس بتفشي الباثولوجيا الاجتماعية التي وسمت عملية الحداثة في واقعنا التاريخي المعاصر، بعد انقلاب سلم القيم الأخلاقية والمجتمعية على السواء.

في هذا العالم، والذي لا تقل تنويعاته التي تعيشها مصر غرابة وقسوة عن بقية تنويعاته التي نظر لها المفكرون الغربيون، يبدو الرجوع إلى رواية أحمد زغلول الشيطي الثانية (صخرة هليوبوليس)[2] أمرا منطقيا، وربما ضروريا؛ لأنها وبعد أن دفعتني اللحظة الراهنة تلك لقراءتها للمرة الثانية تكشف لنا في بنيتها – ولمحتوى البنية عندي دور بالغ الأهمية في النص السردي الحديث – وفي تفاصيل العالم الذي ينطوي عليه سردها الفريد، عن الكثير مما يجب علينا تأمله، كي نفهم ما يدور في واقعنا المصري والعربي من ورائه. فهي من النصوص الإبداعية القليلة التي تقوم حقا بهذا الدور الضروري للفن، وهو أسقاط الألفة عن الواقع، وتعريته في غير عِوجٍ ولا التواء، وإماطة اللثام عن انهياراته البشعة، حتى نعيد فهمه، فنرفضه ونسعى لتغييره معا. فمثل روايته الأولى نحن هنا بإزاء رواية قصيرة وشديدة التركيز، ولكنها تتطلب وعيا باستراتيجيات مغايرة للقراءة، تستنطق التفاصيل الشحيحة التي يوردها النص، وقد انتقاها بعناية، وتتعرف على دلالاتها المتراكبة.

فهذه الرواية من النصوص التي تجبرنا على التفكير إزاءها بمنطق ديلوزي مغاير للمنطق المألوف؛ منطق المواجهة لا التعرف. يقول ديلوز: «ثمة أمور في العالم تجبرنا على التفكير، تلك الأمور ليست موضوعات للتعرف objects of recognition وإنما للمواجهة الجذرية fundamental encounter»[3] وكلمة object هنا أوسع كثيرا من أي ترجمة لها كشيء أو موضوع أو هدف أو دافع، لكن المهم أن موضوع التعرف عنده يختلف جذريا عن موضوع المواجهة. ففي الأول نحن بإزاء إعادة تعزيز معارفنا ومعتقداتنا وقيمنا؛ حيث نجد أننا والعالم الذي نعيش فيه قد تأكدنا/ تعمّدنا بالصورة التي نفهم بها عالمنا وموقع أنفسنا فيه. فموضوع التعرف هو بالتحديد إعادة تمثيل أو تجسيد شيء يؤكد دائما حقيقته ومكانه، ويدعم وجودنا المألوف في العالم وتصرفاتنا المعتادة فيه، في نوع من المعمدانية المطمئنة، ملغيا بذلك أي أمل في التفكير. بالصورة التي يمكن معها القول إن التمثيل يعرقل التفكير.

أما المواجهة الحقيقية فإنها عكس ذلك، حيث تتحدى طريقتنا النموذجية/ المألوفة في الوجود، وتزعزع الأسس التي تنهض عليها المعارف التي استنمنا إليها. وتجبرنا على التفكير. إن المواجهة إذن تقوم بتخليق قطيعة مع صيغ وجودنا المألوفة، وبالتالي مع ذاتيتنا المعتادة. لأنها تنتج قطعا أو شرخا. لكن الأمر لا ينتهي هنا، لأن القطيعة مع وجودنا الاعتيادي والناجمة عن المواجهة تنطوي على تأكيداتها المغايرة على وجود عوالم جديدة، أو بالأحرى طريقة جديدة لرؤية العالم والتفكير فيه. وهذه هي اللحظة الخلاقة في المواجهة، والتي تحتم علينا التفكير بطريقة مختلفة. فالحياة حينما تعاش بحق، وفق التصور الديلوزي الخلاق، فإنها تعاش كسجل لتلك المواجهات، والتي تتخلق دائما وبالضرورة بعيدا عن عملية التمثيل.

فالقطيعة والتأكيد هنا هما وجهان مختلفان للعملة نفسها، رغم ما يبدو من أنهما متعارضان/ مختلفان. والفن هو في حقيقة الأمر أداة تلك المواجهة، ومجال تبلورها، والموقع الذي تتخلق فيه.[4] وأي وعي من الفن بتلك المواجهة ينطوي قبل كل شيء على منطق مغاير في التعامل مع الواقع: سواء في التعبير عنه، أو اتخاذ موقف منه، أو مواجهته بطريقة تدفعنا للتفكير فيه بدلا من التماهي معه. وهذا هو السبب في التخلي عن السرد التقليدي في هذه الرواية، واللجوء إلى ما يدعوه ديلوز بالتسريد fictioning وهو التخليق الواعي لنوع مغاير من السرد، يطرح تغايره في كل ثنايا العمل من طريقة الحكي، إلى العلاقة المغايرة بين ما يدعوه الشكليون الروس بالحكايةfabula والحبكةsjuzhet ، إلى طبيعة البنية السردية ذاتها وطريقة تعاملها مع الشخصيات أو تقديمها لها.

2. عتبات متعددة .. لماذا؟
بدلا من الاستطراد في تلك المقدمات الديلوزية دعنا نبدأ بالرواية نفسها، وبعتباتها، لأن أول ما يبده قارئ هذه الرواية الفريدة هو تعدد العتبات وأولاها: العنوان (صخرة هليوبوليس). وهو عنوان لمكان، والمكان في السرد من الرواسي الأساسية التي تربط السرد بأرض الواقع بأمراس حقيقية، منذ أن علّمنا أكيرا كيروساوا في رائعته (راشمون) أن المكان ثابت بينما الزمان متغير، بل إن باختين في مفهومه المهم عن الزمكان chronotope الروائي يجعل المكان مرتكز المفهوم، ويضفي عليه بعدا رابعا غير أبعاده الثلاثة المعروفة هو الزمان. كما أننا نعرف أن كثيرا من أعمال كبير الرواية العربية، نجيب محفوظ، تستمد عناوينها من أماكن محددة في حي الجمالية بالقاهرة.[5] ولا تكتفي هذه العتبة بربط الرواية بمكان محدد هو هليوبوليس، ولكنها تقرنه بصخرة ربما لتميز عمله عن عمل روائي آخر اتخذ من (هليوبوليس)[6] عنوانا، وربما استخداما للمفارقة في عالم لا رواسي فيه، خاصة وأن الإحالة الوحيدة لصخرة العنوان في النص (126) هي إحالة لصخرة سيزيف، وهي إحالة تهكمية إلى حد ما، لأنها تشير لأنبوب الصمغ الذي سيصطاد به الفأر اللعين.

أما العتبة الثانية فهي الإهداء إلى أخيه الأصغر الذي ينطوي على شفرته الفاعلة في النص، لأنه يجلب إليه استشراف الموت الذي قد يفوت الكثيرين، ومنهم أقرب الناس حميمية، لأن الرواية كلها في مستوى من مستويات التأويل مرثية حزينة لا تخلو من شجن. ثم يليه الإهداء التالي: الذي يحمل عنوان «أيضا إلى» الذي يشد انتباهنا إلى أهمية المكان، إذا كانت قد غابت عنا تلك الأهمية في (صخرة هليوبوليس)، إذ تعدد تلك العتبة الثالثة أسماء أبرز الأماكن التي يدور فيها السرد، والتي تشكل صخرة سيزيف الحقيقية التي تثقل كاهل هذا العالم الروائي، وراويه المعلن/ المضمر في آن. كما يرد في تلك العتبة الثالثة ذكر البارون[7] الذي أسس كل من سكة حديد الدلتا المتجهة إلى فارسكور والجربي، وضاحية مصر الجديدة معا. كما تؤكد لنا تلك العتبة استعصاء المكان وناسه معا على عوادي الزوال والدمار «فقد عبروا ممالك وديكتاتوريات، وحروبا عبثية، وأختبروا لصوصا خبراء، وقاوموا بعناد الرغبة الملحة في التحول إلى أشباح.»(7) فالرواية في مستوى من مستويات التأويل فيها ليست إلا سجلا لتلك المقاومة، في وجه عوامل الاستبداد والفساد والمحو.

وبعد ذلك تجيء عتبة رابعة، هي في ظني أهم تلك العتبات جميعا، وهي ذلك المقتطف الدال المأخوذ بتصرف عن (الخروج بالنهار) أو (كتاب الموتى) «ولكي تكون راضيا جئت إليك كاشفا رأسي»! وكشف الرأس الذي تشير إليه هذه التعويذة المنتقاة من الكتاب الشهير، لا يعنى فقط تعريضها لضوء الشمس الذي هو غاية الخروج للنهار، ولكنه يعني أيضا في الطقس الفرعوني تعرية للجسد والروح معا، وتسليما بهما ولهما للمعبود. هكذا يريد لخروجه للنهار، أن ينطوي على المعنى الفرعوني الكامل لطقس الخروج للنهار في كتاب الموتى،[8] أي ولوج الحياة الأبدية تحت نور الشمس/ آتون/ رع. فالرواية هي الخروج بكل ما يرويه فيها للنهار بمعنى الخروج من الحياة المؤقتة، إلى تلك الباقية التي يجسدها الفن بسحره الذي لا يضاهى. وهي في هذا المستوى طقس كامل لعملية الخروج تلك بدءا من فصلها الأول الذي يوشك أن يكون الرحم الذي يولد منه بطلها عنوة، وسط كوابيس الحاضر اللعين، وصولا إلى فصلها الأخير الذي يعلن موت المشاهد القديم، وينتهي بـ«وبقيت انتظر» (131) بدلالتها العبثية والتهكمية معا. لأن ما سيسفر عنه الانتظار هو ما بدأت به الرواية سردها – في نوع من البنية الدائرية التي سنعود لها بالتفصيل – من كوابيس افتتاحية شيقة.

أما العتبة الخامسة والأخيرة فهي العتبة التنصلية التقليدية التي يوشك منطوقها أن يكون نقيض دلالاتها المضمرة «أي تشابه مع أي أشخاص، أو أزمنة، أو أماكن، محض وهم، ولا يعوّل عليه». وهي عتبة تناقضية، فليس هم الرواية هو التشابه، بل العكس تماما، أي الإجهاز على كل استراتيجيات التمثيل والمحاكاة القديمة. والسؤال هنا لماذا كل تلك العتبات؟ وما هي وظيفتها في النص؟ والجواب ببساطة هي أننا بإزاء نص يستهدف المواجهة، بدلا من التعرف بالمفهوم الديلوزي الذي شرحته في التمهيد لهذه الدراسة. وأن هذه العتبات المتتابعة، والتي تنتمي كل منها لعالم مختلف، أو حتى جنس genre سردي مختلف، هي أول أدوات تعليق التعرّف، أو هي بمعنى آخر من أدوات التغريب السردي الذي يستخدمه النص، كي يرهف منطق المواجهة فيه. وهو المنطق الذي ستتكشف تفاصيله عبر بنية الرواية ذاتها من ناحية، وعبر أسلوب السرد وطبيعته فيها من ناحية أخرى.

لإننا بإزاء سرد يمكن نعته بالسرد التفكيكي الذي ينأى عن كل أشكال المحاكاة أو التمثيل القديمة، ويعلن قطيعته الصارمة معها، ويحرص في الوقت نفسه على ألا يتماهى القارئ مع أي من شخصياته أو وقائعه، وكأنه يمارس نوعا من التغريب السردي، أقرب ما يكون إلى التغريب البريختيVerfremdungseffekt من حيث إعلائه للعقل، وزرايته بالعاطفة. ويلجأ للتسريد الديلوزي الذي يعتمد على تفكيك الشفرات السردية أثناء تقديمها للأحداث أو الشخصيات، دون أن ينسحب من صيرورة السرد، ولكن يكتفي بتغيير معدل الحركة والسرعة فيه. إنه سرد يأخذ من مقولة نيتشة الشهيرة «الحقيقة هي أننا لم نبدأ رؤيتها، أي الحقيقة، بعد» شعارا له، وإن كان شعارا مضمرا يتخفى وراء ذكر التفاصيل بدقة متناهية، وكأنه يرتد بنا إلى منهج المدرسة الشيئية لدى ألان روب-جرييه.

3. التسريد الديلوزي والسرد التفكيكي:

ومن الضروري هنا، وقبل تحليل بنية الرواية، ومحتوى تلك البنية، أن نتعرف على مفهوم التسريد الديلوزي Fictioning. لأنه مفهوم يتعلق بإنتاج سرد بديل alternative narrative وصورة لعوالم image-worlds مغايرة تثيرها استراتيجيات جمالية قد تطرح نماذج بديلة أمام تلك العملية التنميطية modulation الجبارة التي قضت في حقيقة الأمر على التنوع والتغاير الفاعل الخلّاق heterogeneity الذي كانت تتسم به الذاتية الإنسانية Subjectivity طوال القرنين الماضيين في تفردها الخصب الجميل. وقد طرح ديلوز مفهوم التسريد ذلك باعتباره القص المرتجى والقادر على الحفاظ على قدرة الفن على المقاومة، إزاء تحول المجتمع من مجتمعات الحجر إلى مجتمعات التحكم، وتبدل أساليب السيطرة والهيمنة فيه. ذلك لأن ديلوز ينعي في مقاله القصير «حاشية على مجتمعات التحكم»،[9] ما جرته علينا تلك الحالة المرضية المريعة التي وصفها جرامشي من قبل، حينما يموت القديم ويبقى العرش شاغرا، لأن الجديد لم يتبلور بعد. وقد استشرف ديلوز، رغم أنه غادرنا من ربع قرن – وقبل بداية القرن الجديد، قرن الشبكة الرقمية والمجتمع الافتراضي – مجتمعات التحكم الحديثة وأساليبها الجهنمية الجديدة التي نرى تجلياتها الآن حولنا في كل مكان.

وينطلق ديلوز في هذا المقال القصير من أن ميشيل فوكو قد أرخ لنشأة المجتمعات التنظيمية التي تلجأ للقمع والعقاب disciplinary societies، بترسيب خطابات تكوينها وهيمنتها في العقل والوجدان الجمعي معا. ففوكو عنده هو منظر هذه المجتمعات التي تنظم طرق الحجر منذ القرنين الثامن والتاسع عشر، والتي بلغت ذروتها مع بداية القرن العشرين. وبأن هذه المجتمعات تمارس فعلها بخلق مواقع رئيسية للحجر والسيطرة sites of confinement، ليس في المستشفى والسجن وحدهما، ولكن في المدرسة والمصنع والمعسكر بصورة ينتقل فيها الإنسان من موقع محصور ومحدد إلى آخر، لكل منها قوانينه الخاصة، وحدوده الرادعة. ولكل منها منطقها المهيمن وخطابها المراوغ في تبرير تلك الحدود وترسيخها في الوجدان الجمعي، باعتبارها جوهرية للفرد والمجتمع على السواء. بدءا من مؤسسة الأسرة وهدهدتها الأولى للفرد وتدريبه على التصرف كذكر أو أنثى منذ نعومة أظافره، ثم المدرسة (وخطابها الذي يكرر: ألا تعرف أنك لست في البيت؟!) ثم المعسكر (ألا تعرف أنك لست في مدرسة؟!) ثم المصنع والمستشفى وحتى السجن.[10] وأن الإنسان ظل يتحرك بين تلك المواقع المحصورة والمبرمجة بخطابها التبريري، وبقوانينها غير المكتوبة، والتي تنظم مكانات الفاعلين فيها، لحركتهم وسلوكهم في كل منها. وأن إرساء تلك المواقع والمكانات كان مبنيا على قناعة جمعية common sense تتغلغل في الخطاب السائد، باعتبارها التجلي لمنظومة من القيم الإنسانية والعقلية على السواء.[11]

لكن ديلوز – وهو ينظّر للمجتمع الغربي في الأساس[12] – يرى أن هذا كله قد بدأ يتغير بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد وفود قوى جديدة أخذت تنخر في بنية التحكم تلك، حتى أوشكت على الانهيار. بداية من تآكل منظومة الأسرة، ثم سلطة المدرسة، ثم المصنع، والمستشفى وحتى مؤسسة السجن ذاتها. وأننا في وسط حالة من الانهيار نسمع فيها دوما أن تلك المؤسسات في حاجة إلى إصلاح: من مؤسسة الأسرة إلى مؤسسة التعليم، إلى مؤسسة العمل، إلى المؤسسة الحربية أو العقابية؛ ولكننا نعلم جميعا أن تلك الدعوات المتكررة للإصلاح، ما هي إلى أعراض عملية التردي المفضية إلى الموت. وأن ما يحل مكان مؤسسات الحجر والسيطرة القديمة تلك هو ما يدعوه بـ«مجتمعات التحكم».

والواقع أن تنبؤ ديلوز بهذا النوع الجديد من المجتمعات قد تحقق كلية في المجتمعات الغربية التي لاتزال تقدس شعارات الحرية الفردية وحماية الذات الإنسانية من سلطة المؤسسات الدينية منها والسياسية. وها نحن نعيش تجليات هذا التحول بعدما ترسخت أولا بنيته التحتية من خلال العولمة، ونقل المصانع إلى بلاد الأيدي العاملة الرخيصة. وإغلاق المناجم والمصانع القديمة في الغرب، والتي خلفت وراءها أحزمة الصدأ الشهيرة، وأبلغ تجلياتها في المجتمع الأمريكي وحزام الصدأ الشهير في ديترويت مثلا. بينما نشهد ازدهار وادي السليكون، وتنامي الشبكة الرقمية، وهيمنة العالم الافتراضي، والهندسة الجينية، وشركات الأدوية العملاقة (هناك خمس شركات فقط تتحكم في صناعة الدواء في العالم)، والتكنولوجيا النووية، والنانو تكنولوجي، وغيرها من المجالات التي تستوعب الإيادي العاملة الجديدة في الغرب، والتي كان لابد من إعادة تأهيليها بعدما فقدت مصانعها القديمة.

وليس ثمة فرد غربي – من الأطفال حتى العجائز – لا يشارك بنفسه في إحكام أنشوطة التحكم تلك حول رقبته – كما كان الحال مع مجتمعات الحجر القديمة وخطاباتها وفق تنظيرات فوكو – عبر تكنولوجيا التحكم المستمر والإلحاح في التواصل (لاحظ عدد الإيميلات التي تصلك يوميا من الفيسبوك وحده مثلا) والمراقبة المستمرة والتي ستشمل كل حركات البشر وسكناتهم دون ضرورة وضعهم في محاجر أو معتزلات. فأي نظرة سريعة لكاميرات المراقبة التي ترصد حركات المواطن البريطاني أو الفرنسي – في شوارع عاصمة كل منهما – وسكناته كفيلة بتأكيد كل ما استشرفه. ناهيك عن الحال في مدن كنيويورك وشنغهاي وبيكين. وقد بلغت تلك الكاميرات قدرا من الدقة المتناهية، في التعرف على ملامح وجه أي فرد والتقاطها من وسط الآلاف منها. كما بلغت درجة من التبجح وزرع الإذعان لها في وعي المواطن ولاوعيه، تجعلها تعرض عليك، وأنت في الحافلة أو القطار مثلا، صورتك وصور من يشاركونك الركوب فيها.

إن مخزونات المعلومات الضخمة Big Data حولتنا إلى متفرجين على حياتنا بوهم حرية التصرف فيها، بينما يتحكم فيها الآخرون. بصورة حققت معها هدفها التنميطي الكبير، بالقدرة على توجيه سلوكنها، وتحديد اختياراتنا في السوق، والتأثير مسبقا حتى على مواقفنا من القوى والأحزاب والخيارات السياسية المختلفة. أو ما يدعوه أحد تلامذته بالهيمنة الاستباقية – كالحروب الإجهاضية التي تستبق هجوم العدو فتسبقه بإجهاضه – التي يعتقد الكثيرون أنه تم استخدامها في الغرب عام 2016، أولا في استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم في الانتخابات الأمريكية بعدها في العام نفسه، والتي أدت لانتخاب دونالد ترامب.

ولم يعد السؤال هنا أي نظامي التحكم أفضل، لأن المشترك بين الأثنين هو أن سعي كل منها لتحريرنا لا ينفصل عن التحكم فينا واستعبادنا في الوقت نفسه. وأن المسألة ليست في الانشغال بالهموم التي تخلقها لنا كل منهما، وإنما بالبحث عن الأدوات التي نتمكن بها من المقاومة والخلاص! ذلك لأن أي تغير في أشكال القوة والهيمنة، لا بد أن يتبعه، لا تغير في أشكال الكتابة وحدها، بل تغير في صيغ مقاومة تلك القوى وهزيمتها. هنا تجيء أهمية مفهوم التسريد الديلوزي، لأنه مفهوم يتعلق بإنتاج سرد بديل وصورة لعوالم مغايرة تثيرها استراتيجيات جمالية قد تطرح نماذج بديلة أمام تلك العملية التنميطية الجبارة. وبدلا من الحديث التجريدي عن هذا السرد البديل، دعنا نتعرف عليه في النص الروائي.

4. بناء المتاهة الروائية:

تبني (صخرة هليوبوليس) نوعا من المتاهة السردية من خلال تقسيماتها المختلفة، وعلامات التنبيه المستمرة المبثوثة فيها – بعد كل عدد من الصفحات من خلال تغيير بنية الأقسام، وتغيير خط الطباعة. وتفاجئ قارئها بمتاهتها تلك منذ فصلها الأول الذي يقدم مفتاح القراءة، ثم يتبعه بتخليق كابوس غريب. ولا تلجأ برغم وجود بنية هندسية ما، إلى أي نوع من التتابع السببي للفصول، وإنما إلى تركيبة فنية من طبقات متعددة ومسارات متعرجة قد يفضي بعضها لطرق مسدودة كما في المتاهات. حيث تتكون من خمسة كتب مرقمة، يتكون كل منها من مفتتح تحرص على كتابته بخط مختلف وإيقاع سردي مغاير، تتبعه فصول معنونة؛ قد تكون فصلا واحدا كما في الكتاب الأول، والثالث والخامس (ثلاثة كتب)، أو اثنين كما في الكتاب الرابع، أو تتعدد الفصول حتى تصل إلى أربعة عشر فصلا في الكتاب الثاني (لاحظ الرقم 7+7). ثم يصفّر الفصول في الكتاب السادس الذي آثر أن يسميه «كتاب أخير» وأن يكون له مفتتح بخط المفتتحات المميز دون أن تتبعه أي فصول.

ولا تنتهي الرواية/ المتاهة بهذا الكتاب الأخير. وإنما تعقبه بكتاب سابع، لا تستخدم فيه كلمة كتاب للتبويب، وإنما تدعوه «إنكار» يتكون من مفتتح، ثم فصل معنون بـ«مربع الدائرة» ولكنه ينقسم إلى ثمانية أقسام مرقمة من 1 – 8 تنتهي به الرواية. من هذا العرض نكتشف أن لهذه البنية/ المتاهة هندستها كما ذكرت. فهي مقسمة إلى سبعة أقسام على عدد أيام الأسبوع أو السموات في رواية أخرى. من خمس كتب تحمل كل منها رقمها كعنوان: «كتاب أول» حتى «كتاب خامس»، ثم كتاب أخير. أما الكتاب السابع فلا يحمل رقما، بل يحمل عنوانا دالا «إنكار» وله بنية مغايرة لبقية الكتب الأخرى، التي لا يتفق أي منها بنيويا أو تنظيميا مع الآخر. وإن كانت الكتب الست الأولى تخضع تقريبا لنفس المنهج البنيوي.

وهي هندسة تتردد فيها أصداء الأرقام السحرية 3 و5 و7، كما تتردد فيها معها قصة الخليقة في «سفر التكوين»: «في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة ... ورأي الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا، وكان مساء وكان صباح يوما سادسا. فأُكمِلت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع».[13] لكن يبدو أن الكاتب/ الراوي، لم يسترح في اليوم السابع، لأنه اكتشف، كما نكتشف نحن معه، أن كل ما عاشه ليس «حسنا» بأي حال من الأحوال. لذلك لم يستطع أن يرتاح في اليوم السابع كما ارتاح الرب. لهذا جاء قسم «إنكار» ليستدرك فيه بعض ما فعل، أم تراه ينكره ويدعونا إلى استنكاره معه؟ وفضلا عن هذا كله ستتعزز المتاهة بالتبديل المستمر للمنظور السردي عبر السرد بالضمائر الثلاثة: المتكلم والمخاطب والغائب بصورة يبدو معها هذا الارتباك جزءا من رسم الخريطة المرتبكة الأعرض.

وتبدأ الرواية بـ«كتاب أول»، والتنكير مقصود، فلسنا في عالم يتمتع بترف استخدام أداة التعريف. لكن استخدام الكتابة بالحرف البارز، واللجوء للسرد التجريدي المحايد المستقى من صلابة سرد المدرسة الشيئية، أو قل التشيئية، قد يكون تعويضا عن الافتقار للتعريف. ويدخل بنا السرد المحايد الذي يعتمد على الحقائق التاريخية الصلبة مباشرة إلى البارون إمبان الذي أنشأ هليوبوليس العنوان، وإلى قصره الهندي الباذخ الذي يدور على نفسه على مدار الساعة، ويمتد بينه وبين «كنيسة البازليك» التي تنطوي على مقبرته نفقا. فنحن من البداية أمام متاهة هي تلك التي تربط بين الحياة والموت، بين القصر والمقبرة، دون أن تنسى الكنيسة. تقدم لنا في الوقت نفسه أحد مفاتيح القراءة المهمة، حينما تخبرنا بأن البارون امبان «عاش أزمنة مضاعفة داخل الزمن الواحد» (13) فتراكب الأزمنة من مفاتيح فهم هذا النص، وأنه «دفن مرتين» حيث تتراكب مع الأزمنة الأفعال نفسها، ولم يسلم من «إساءة التصرف الملازمة للطبيعة الإنسانية» والرواية بأكملها ليست إلا سجلا حافلا من إساءات التصرف التي أودت بمصر وبالراوي معا؛ وأنه يرقد على بعد خطوات من «مقري أنا الذي يعتريني الملل».

ومع الملل ينشغل الراوي بالنفق، أكثر مما ينشغل بالمغامر الفلمنكي مهندس السكك الحديدية ومنشيء هليوبوليس، وما جرى حول كنيسته، حيث مثواه الأسطوري من مهازل بعد تسعة عقود من رحيله. هكذا تربط الرواية من البداية بين البارون امبان و«أنا» الراوي الذي يعتريه الملل. البارون إمبان الذي فتنته «هوليوبلوليس، أون المقدسة، مدينة الشمس» لم يتوقع في أبشع كوابيسه، أن ينتهي قصره إلى ما آل إليه، ولا أن يضطجع في كنيسة تصطخب حولها حركة المواصلات والبشر، وتفوح بالقرب منها رائحة الشاورما، ويطل عليها مسطح واجهة «حرية مول» العامر بمحلات الأحذية والمنتجات البلاستيكية.

فلم يكن البارون البلجيكي المغامر متواضعا في طموحه، بل ساعيا بحق إلى تأسيس مصر جديدة، أدرك المصريون جدتها، وأهميتها واحتفوا بها في عقود ستة ممتدة منذ تأسيسه إياها في بداية القرن الماضي، وحتى إغارة السادات بمسيرة الدمار الكئيبة على تجربة الحداثة والاستنارة والاستقلال – التي كرستها النخبة المصرية منذ بدايات القرن العشرين. عندما أباح مصر للتخلف الوهابي، والتبعية الأمريكية التي انقضت بمعاولها على كل ما كان جميلا وجديدا في مصر ودمرته. أما «أنا» الراوي يوسف العلمي – الذي لا نعرف اسمه إلا في القسم الأخير «إنكار»،[14] والذي عاش شطرا كبيرا من العقود التسعة التي انصرمت منذ موت البارون – فلن يكون حظه أقل من حظ البارون كابوسية. فسوف يتعثر هو الآخر عند الفجر بـ«عجائز العمارة ينزلون فرادى للصلاة يتسربلون بجلابيب بيض»(23) جاءت بها لمصر الجديدة تلك الهجمة الوهابية اللعينة.

لأن الفصل الوحيد الذي يضمه الكتاب الأول بعد المفتتح «في الدهليز المؤدي إلى الحمّام» يجسد لنا الكابوس الذي آل إليه حال الراوي/ يوسف العلمي. حيث يستهل النص بهل الاستفهامية: «هل كان الوقت أول المساء أم في عمق الليل؟» (15) في سرد يريق بعضه الشك على بعضه الآخر، وتتابع فيه الجمل التقريرية مع الجمل الاستفهامية بشكل منتظم؛ رغم سيطرة الجانب التقريري كي يجسد حدة المفارقة التي يتبدى فيها البطل/ الراوي مجردا وممددا على قطع من الكرتون على البلاط، ويشعر أن «موقفه ضعيف، كانت قطع الكرتون تشعره بالعار». (16) وقد انتزعه من النوم هجوم العجائز. و«عاوده الشعور أن ما يحدث قد يكون غير حقيقي، وأنه مجرد امتداد لأحلام وهواجس النوم.»(17)

لكن هجوم عجائز من نوع آخر – أعضاء مجلس اتحاد الملاك بالعمارة التي يقطن فيها الراوي – يتكشف عن ديستوبيا غريبة، أكثر غرابة من أي هواجس: عن مشروع وضع برج للمحمول فوق سطح العمارة، كي يحرر الملاك من أقساط الاتحاد، وعن تراكم الزبالة أمام الشقة المجاورة مع أن «صاحبها عميد مخابرات عامة، لو شاف المنظر ده مش حايحصل طيب» (22)، ناهيك عن الرشح من الحمام على مدام عايدة(19)؛ وكأنما قعقعات عجلات المترو التي تحرمه من النوم لا تكفي. وبضربة التفات سردي ماهرة – «ثم خالطه شعور أن ما يحدث أبعد من أن يكون رؤيا نائم، وأنه ربما لايزال في سنته الجامعية الأولى، وأنه في دار السلام» (20) – يرتد فيها الزمن إلى أيام الطلب بالجامعة، وإلى العالم الذي بلورته روايته الأولى (ورود سامة لصقر) وسكنه في شقة العيساوية بعشوائيات دار السلام، يربط النص بين عشوائيات الثمانينيات التي تخلقت بعد الرحيل المبكر الذي غدر فيه عبدالناصر، بمن عشمهم بالعدل والحراك الاجتماعي، وكيف تكشفت مسيرة ذلك الغدر بعد أربعة عقود مما سجلته الرواية الأولى، عن تغلغل منطق العشوائيات نفسه في قلب الحاضرة الجميلة التي بناها البارون إمبان – هليوبوليس.

بل إن هذا الفصل الوحيد على قصره، لا يتركنا إلا بعد أن نكتشف أن كابوس ما يدور في مصر الجديدة أفدح من ذلك الذي عاشه صقر وأودى بحياته في الرواية السابقة. فليس فيه أي غوايات حسية كتلك التي كان يتمتع بها خلف النافذة من شقته على السطح في «العيسوية» يتابع عروض «السمراء وهي تتحرك حرة في السطوح ناشرة الهدوم أو مشتبكة مع عشة الفراخ. يقف خلف شيش النافذة منتظرا أن تهلّ في قميصها البيتي الباتستا ... عروضا مرتجلة ... ليلة بعد ليلة توغل العروض في حرفيتها.» (20) وهو الأن وقد أحكم الكابوس قبضته لا يدري «كيف ترك الأمر يتفاقم هكذا؟ لاشك أنني في حلم، حلم يشبه الواقع لكنه ليس بواقع وليس بحلم.» (ص22) إلى أن ينتهي الفصل/ الكتاب معا بذلك المشهد الهزلي حينما يتوجه العجائز، أعضاء مجلس إدارة العمارة، إلى الحمام لفحص إذا ما كان مصدرا للرشح، فتلتصق أحذيتهم وأقدامهم بسائل غليظ لاصق، لن نعرف إلا في نهاية الرواية أنه الصمغ السميك الذي أتي به البواب «عيد» لاقتناص الفأر اللعين.

5. فسيفساء المتجاورات .. وقائمة الترسبات

وما أن ندلف إلى «كتاب ثان» حتى نجد أنفسنا أمام جسد الرواية الرئيسي، فهو أطول كتب الرواية وأكثرها تركيبا وبلورة لرحلة مصر مع التردي والتدهور والدمار. وهو الكتاب الذي تقدم لنا فيه الرواية ما يمكن دعوته – وفقا لجرامشي – بالترسبات التي تتركها الصيرورة التاريخية في الذات الإنسانية. وإذا كان الفن الجيد يكتب هذه الترسبات، فإن وظيفة النقد هي التعرف عليها وبلورتها عبر التفكيك النقدي له. «لأن نقطة البداية في أي استقراء نقدي هي الوعي بماهية الإنسان، أي أن يعرف الإنسان نفسه باعتباره ابن الصيرورة التاريخية التي عاشها حتى اليوم، والتي تركت ترسباتها اللانهائية فيه، دون أن تترك قائمة أو بيانا بهذه الترسبات». وهو الأمر الذي أضاف إليه إدوار سعيد في كتابه (الاستشراق) بأن جرامشي في الأصل الإيطالي لنصه ذاك يضيف «من الضروري أو الحتمي في البداية القيام بعمل تلك القائمة أو البيان.»[15] وهذا ما تسعى هذه الدراسة لتحقيقه.

ويبدأ «كتاب ثان» بمفتتح دال يعقبه 14 فصلا. ويؤطر مفتتح الكتاب هذا القسم كله كرحلة مروية بضمير الغائب، سرعان ما ستتغير الضمائر في داخلها. تبدأ فجرا من قرب محطة مترو «النزهة» في هليوبوليس، وقد ترك فيها «يوسف» زوجته «هناء» تغط في سبات عميق، وألقى نظرة على البنتين، ودلف إلى سيارته «الهوندا» السوداء مستشعرا أنه أودع نفسه للتو داخل ثلاجة – وهو في حاجة فعلا لإيداع كل شيء، استعاريا على الأقل، داخل ثلاجة. ولكنه ليس مقدما على نزهة بأي حال من الأحوال. وإنما على رحلة إلى دمياط كي يطمئن على مقبرة أمه، الموجودة في جبانة دمياط، وقد أخبره صديق بأنها قد تكون على وشك الانهيار. ولم تستطع أدوات مجتمع التحكم الجديد – مثل خرائط جوجل متعددة الأبعاد – أن تمنحه اليقين الذي ينشده. «انطلق في الطريق إلى دمياط ليتيقن مما كشفت عنه صفحة جوجل ماب التي بينت أن مقبرة الأب، ربما تكون قد أزيلت من الوجود، وعدم وضوح ما إذا كانت مقبرة الأم قد انهار سقفها. فضل الذهاب للاطمئنان بنفسه على ما لم تكشف عنه الخرائط». (24)

ونحن بالفعل في هذا الكتاب كله نتعرف على ما لم تكشف عنه الخرائط، مهما كانت دقتها وهيمنتها التي لا يفلت من رقابتها شيء، في مجتمع التحكم ذاك. وهذه حقيقة هي مهمة التسريد الجديد الذي تسفر عنه مواجهة الفن للواقع وليس التعرف عليه كما أسلفت. لأننا سرعان ما نكتشف مع قراءة هذا الكتاب أننا بإزاء سرد من نوع جديد. حيث تعتمد الرواية على بنية فسيفسائية تتبدل فيها استراتيجيات السرد ومنطلقاته باستمرار مقصود، يتيح للعبة المرايا والمنظور إثراء النص دلاليا والأخذ بيد القارئ في شعابه من خلال استخدام العناوين المتتابعة لفصل اللوحات أو الشذرات السردية عن بعضها البعض، ووصلها ببعضها البعض، وتأكيد شذريتها في آن. وللفصل والوصل هنا منطق مراوغ يتعمد زعزعة أي تماه مع ما يدور، ويتغيا حثنا على مواجهته والتفكير في دلالاته المتعددة.

إن غياب التسلسل المنطقي من السرد، واختفاء الخيط الرابط، وتجاور الشذرات بلا منطق واضح، وإن كان ثمة منطق ديلوزي خفي، يتطلب من القارئ دورا فاعلا في تخليق اللوحة العريضة، أكثر تعقيدا ومراوغة من ذلك الذي تطلبته منه رواية نجيب محفوظ الجميلة (حديث الصباح والمساء) والتي كتبت في بنيتها ذاتها تفكك المجتمع المصري، نتيجة لما فعله العسكر بمصر؛ عندما فككت العائلات الثلاث المتزاوجة والمتداخلة، وحولتها إلى شخصيات منفصلة لا يجمعها بها غير الترتيب الأبجدي.[16] لكن الفرق بين هذين النوعين من تفكيك البنية الروائية أن أولهما كان بمنطق التعرف عند نجيب محفوظ، الذي ظل مخلصا لعملية التمثيل السردي، فهو ابن رواية البنية التقليدية الراسخة. لذلك نسج في روايته تلك – وخلف شخصياته المفككة شبكة مضمرة من العلاقات الكافية لخلق رواية أجيال من نوع جديد وفريد.

أما الشيطي فإنه يذهب بالتشظى إلى مستويات جديدة، ويواجهنا هنا بتفكيك سردي بمنطق المواجهة الديلوزي. وأول ما يتطلبه تلقي هذا الجديد من القارئ هو أن يعي أن ما يبدو ثابتا وصلدا، في المفتتح حيث ترك وراءه بيتا مستقرا، به زوجة تغط في نومها وبنتين، قد لا يكون كذلك. حيث تتكشف لنا فصول هذا الكتاب المتتابعة والتي يتعمد الكاتب أن يمنحها عناوين تدعم صلادتها وتماسكها، وكأنها الرواسي الباقية بعد أن تبعثر كل شيء، لا تنجح إلا في كشف مدى هشاشتها وعصف التحولات بها. لأن أغلبها إما أسماء أمكنة – بيتنا الجديد، دكان هدية، سيدي القناديلي، فوق السطح، سنعرف أنها تصدعت أو تهدمت، أو شخصيات – صفوت البديهوي، الأسطى عزيز، سنو، ماتيلدا، ملكة، البيسى، عوض، تعيش حيوات قاسية أحيانا ومآس تفضي للجنون في أحيان أخرى؛ ولا تنجح هدهدات الحنين في التخفيف من قسوتها. فضلا عن عنوان واحد لشيء – هيلانكا – تافه إلى حد ما، وعنوانين لأحداث أو وقائع – لمّ فلوس، وبيع/ سرقة، أقل ما يقال فيها أنها سلبية إن لم تكن مخزية.

ويبني تجاور هذه الفصول وتتابعها مسير رحلة لاستنقاذ «حياة» و«مقبرة» في آن، ولكشف آليات تسلل الدمار إلى مصر، وأهم من ذلك مشاركة الكثيرين بلا وعي في إحكام أنشوطته حول رقابهم. ولنبدأ بأول هذه الفصول «بيتنا الجديد» الذي يستعيده الراوي/ البطل من ذاكرته، وهو يكتب عنه بضمير المتكلم المفرد، ولكن في لحظة الإيذان بتصدعه، رغم أنه كان حديث البناء، لم يزرع الأب حديقته التي صمم على إنشائها بعد(27). يستعيده لحظة شجار الأب مع أمه، وتركها للبيت تجره وهو صبي، إلى بيت أبيها، وقد أحال الاثنان الراوي الصبي شاهدا على تلك اللحظة المؤسية. حيث قال الأب «خليك شاهد على أمك!» وقالت له الأم «شفت عمايل أبوك؟». (26) ولكنه يريق على شهادته الشك ويحيطها بعلامات الاستفهام: «أعرف الآن بعد مرور نصف قرن، أن هذا ربما لم يحدث، أو أنه حدث على نحو مغاير. فأنا لم أعرف أبي جيدا. لم يعش بما يكفي لتكون لي ذكريات معه ... غير أنني لا أنسى كبرياء أمي الجريحة، هل كان أبي يعلم أنه سيرحل نهائيا بعد هذا المشهد بأشهر قلائل، وهو لا يزال بعد شابا في الثلاثينيات؟» «هل كان أبي يرغب في تجاوز وضعه كبائع متجول؟ هل كان يعلم أن رحيله سيترك ثقبا يتوق إلى الامتلاء؟ وأن رائحة بيت الأب غير رائحة بيت اليتامى؟»(27)

لكنه رغم الشك الذي يريقه على شهادته يكتب لحظة حيّة ومؤثرة، تركت ترسباتها في حياة البطل وصاغته بالمعنى الجرامشي الذي ذكرته. لأنها توشك أن تكون أبعد نقطة في ذاكرته، يعود إليها وهو صبي صغير يسير مع أمه الباكية على خط السكة الحديدية، ويراقب قطار الديزل الذي ينطلق إلى بلاد بعيدة. وكأنما تركت في ترسبات وعيه غواية السفر الذي لا يقاوم إلى بلاد بعيدة، وهي غواية تتكرر في أكثر من موقع في النص. ويعقبها بأخرى لا تقل عنها تأثيرا، في اللوحة التالية «صفوت البدويهي»، التي يتأكد عبرها ترسبات وجع اليتم كمكوّن أساسي في حياته. وهو يتناوب في كتابتها ضمير المتكلم المفرد والجمع. حيث جمع اليتم بينهما، ومقعد الدراسة إذ كان زميله في نفس «التختة»، وأن فرقت بينهما الطبقة. فصفوت ابن محام لقي مصرعه في حادث سيارة، وأم قاهرية متعلمة تحتفظ في بيتها بالشكولاته، وتتحدث الانجليزية، على العكس من أمه. وبحدس الطفل جرحتهما هدية الناظر «دي إعانة من التربية والتعليم لمن توفى آباؤهم» (30) فظلا يبكيان طوال الطريق، وأخذه صفوت معه إلى بيته لأول مرة. وكأنه يريد بطريقته الخاصة أن يكفكف دموعه.

6. مسيرة أربعة عقود من التحولات الاجتماعية:

وإذا كان صفوت يكفكف دموعه، فإن حياة طبقته الفقيرة لا ترحم. لأن رغبته في الدراسة وتشجيع أمه له، لا تلقى أي قبول من عمه أو أخويه الكبيرين اللذين تركا الدراسة، والتحقا بالمهنة التي يعمل بها معظم أهل دمياط، وهي صناعة الأثاث. فعلى الجميع هنا العمل منذ الطفولة لسد رمقهم. فليس للتعليم مكان بين أفراد طبقته التي يتدرب أطفالها على مهنة، بدلا من التردد على المدارس. وهو تدريب نعرف أنه محفوف بالقسوة المفرطة كما هو الحال في الفصل التالي «دكان هدية» وما يحيط به من حكايات عن ربط المتدربين بالبنك وضربهم. لذلك ليس غريبا أن يتمنى الراوي ألا يرجع من المدرسة أبدا.(33) ولا تنفع حيله في التمارض أو التعلل بالواجبات المدرسية في إنقاذه من العمل بعد الظهر في الدكان. فنتعرف على ترسبات الحرمان من طفولته، ومن اللعب بالمراكب الورقية في مياه الأمطار، وإجباره على المدرسة صباحا، والورشة مساء يتعلم فيها أن يكون أُويمجيا بالحفر على الخشب.

لكن لعنة العمل الذي يكرهه لا تخلو في بعض الأحيان من مسرات وفوائد. فبعد التنقل من دكان هدية، إلى ورشة الأسطى إمام، ثم دكان سيد غراب، جاء دوره للعمل عند «الأُسطى عزيز» الأُويمجي الماهر، الذي «كان نجم شارع البندر، العائد من لبنان، بلد ملكات الجمال، والمايوهات البيكيني، جورجينا رزق، والتفاح اللبناني». (37) وقد عاد عزيز من لبنان مكرها بعد أن بدأت الحرب الأهلية، «أي واحد ماشي في الشارع ممكن يأوصوه» (38) وكان العمل عنده يتسم بالجدية والنظام. لذلك ليس غريبا أن يستمتع الراوي بالعمل معه، وبالمواعيد الثابتة، وبما يحكيه له من خبرة جديدة ببلد عربي مغاير: لبنان. فتتفتح آفاق الراوي على أغاني مذياعه الشامية المختلفة ولهجته المميزة، وصوت فيروز وأحياء الأشرفية والفاكهاني وتل الزعتر، وعوالم جديدة مغايرة. كان الراوي قد كبر واشتد عوده، حيث التحق بالعمل عنده بعدما أنهى امتحانات الصف الأول الثانوي: حينما يكون العقل اسفنجة شرهة للمعرفة.

وتمكننا ذاكرة النص التاريخية الداخلية من معرفة أن هذا الأمر لابد قد حدث في النصف الثاني من السبعينيات، بعد عودة الأسطى عزيز بسبب اشتعال الحرب الأهلية 1975. وهي الذاكرة الداخلية نفسها التي تنبئنا بأن عزيز أمضى سبع أو ثمانية سنوات في لبنان، فقد سافر إليها بعد النكسة. وأنه رأي فيها مستويات مختلفة لمهنته، يطمح لتحقيقها في بلده. ولأن ترسبات التواريخ على تكوين الراوي هي مركز ثقل النص، فإنه يخبرنا بسرعة في نهاية هذا الفصل كيف تغير مسار كل منهما. فبينما ذهب الراوي للجامعة، ثم بدأ الصعود على السلم الاجتماعي، حتى عاد في إحدى الزيارات لدمياط في سيارته الخاصة. أدت التغيرات العشوائية التي ألمت بالمهنة والمدينة معا في نفس مرحلة صعوده إلى اكتئاب عزيز وذهوله وانحداره. وقد عاش في دمياط، عكس ما كان يحلم به من تطور مهني ورقي، وقد بدأت مهنة الموبيليا في الانتقال للقرى – عزبة اللحم والمنيا والعناينة (65)، ويتدنى مستواها، دون أن تتطور تطورها الطبيعي. ما جعله يشيخ مبكرا ويتوه عن نفسه، وعن العالم من حوله، فلا يعرف الراوي، أو ربما يشيح عمدا عنه، حينما يمد يده ليسلم عليه بعد سنوات. (40)

ولم لا! كانت الدنيا في دمياط قد تغيرت إلى الأسوأ كثيرا. هذا ما يكشف عنه الفصل التالي «سنّو» المكتوب بضمير الغائب، وكأنه يقدم السياق الذي أدى لاكتئاب عزيز وتوهانه، والذي يبدأ بداية دالة على القهر الفاجر: «يد غليظة بأصابع خمسة تقبض على القفا. تنغرز الأظافر في اللحم بغضب وتوجس من إمكانية الهرب.» (41) بينما يحيط به من الجانبين المخبرين الآخرين: محروس والصياد، رفاق سهراته في تدخين الحشيش والأكل «سحتا»،(42) وصب «اللعنات على ضابط المباحث الغشيم المتعافي». (43) و«سنّو» أشهر من فتح الأبواب «السيكوريت» لا يخشى القبض عليه، فقد غيبته قرارات الاعتقال سنوات، ولا يخاف من: «التعليق على الباب، ولا من صعق الخصيتين بالكهرباء، ولا من إدخال الخشبة من الخلف، ولا من إغراق الرأس في المياه القذرة.»(43)

هذا هو الواقع الجديد الذي تتوزع بقية فصول الكتاب الثاني، بين رسم طبيعة سياقاته وتحولاته وهي تحكم قبضتها على المدينة، ومصر، وبين التعرف على ما ترسب منها في رحلة البطل/ الراوي معه. فعلى الجانب الأول نتعرف على تغيرات المنطقة طوبوغرافيا في تشابكها مع حيوات سكانها، ومع حياة البطل معا. لأن الفصل التالي «سيدي القناديلي»، يربط الهزيمة القاصمة لظهر مصر في 1967 باشتداد قبضة القهر الأمنية ووجوده المهيمن، بإقامة السجن وقسمي الشرطة، بدلا من المستشفى التي أُشيع أنهم سيبنونه، حينما كانوا يهدمون البيوت، ويشقون الطريق للموقع الذي بني فيه. فنحن في عالم يحتل فيه بناء أقسام الشرطة والسجون الأولوية على بناء المستشفيات. وحينما يصبح مقام الولي ملاذ الضعفاء، اللذين لا ملاذ لهم عقبة في طريق بناء السجن، يشعلون فيه النار. فمن يعبأ بهم؟

في عالم يترسب في أعماق الجميع فيه، وأولهم الراوي الطفل دون شك، أن «من يعارض الحكومة يذهب وراء الشمس»؛ التي يحتار الراوي الصبي في معرفة مكانها. «كنت لا أعرف ما إذا كان وراء الشمس حكومة تستلم من يذهبون إلى هناك. وأري صورة الرئيس عبدالناصر يبتسم في المدرسة، وأتساءل إن كان شاهد "وراء الشمس" التي يأخذون الناس إليها». (54) وليست تساؤلات الطفل الساذجة تلك إلا تجسيدا لفعل ترسيخ ترسبات الخوف المراوغ في النفوس، وقد استحالت إلى جزء فاعل في المخيال الفردي، لا يقل أهمية عن الأساطير الشعبية التي تكرس سر الولي «سيدي القناديلي» الباتع، الذي لم يشفع له دوره الإيجابي في حياة سكان المنطقة، حينما أعاد «عصمت» بن «أم يسر»، بملابس مهلهلة بعد شهور من رفضها دفن ما قيل لها أنه جسده بمعرفة فصيلة من الجيش المهزوم، وإطلاق 21 طلقة في الهواء (53). ودعائها لصاحب المقام أن يعيد لها ابنها، فأعاده. ولم يتوقف الناس كثيرا عند الجثة التي دفنها الجيش، ولكن واقعتها ظلت في مخيالهم، وقد نسخها سر الولي الباتع. وظلت معها حية في داخلهم، جنبا إلى جنب مع، «واقعة قتل ضابط في الجمرك النهري لأثنين من الصيادين في وضح النهار، وخروج الناس للتظاهر، وتحطيم قسم شرطة النجدة، حتى أن قائد الجيش، عبدالحكيم عامر، هدد بمحو التمرد بالدبابات.» (54)

7. اشتباك الفردي بالمحرّم الاجتماعي والسياسي:

وعلى الجانب الثاني، جانب البطل/ الراوي، نتعرف على أولى تجاربه في التعلق بالفتيات. وغواية «ماتيلدا» الغجرية ذات الشعر الأحمر، والتي رفضت أن تلعب معه، ولاتزال تخايله أسئلة رفضها تلك بعد نصف قرن. كما نتعرف في الفصل التالي «ملكة» على أولى تجاربه الحسية مع الجسد الأنثوي الباذخ، وكيف اندفع للحمام عقب عودته من المدرسة ذات مرة ليجدها عارية فيه. وكانت تجربته الأولى، التي لا تُنسى مع الجسد الأنثوي العاري، التي سرعان ما تمتزج فيها اللذة الجديدة المكتشفة بالخوف بعد تقريع أمه، وكيف كان يتحين غياب أمه و«أنطلق إلى حجرتها، أرتمي في حضنها وأنا أرتعد خوفا وفرحا، أشعر بطراوة صدرها على وجهي، وهي تعبث بشعري وتسألني: أنت بتحبني؟» (50) وهناك أيضا في جانب تلك الترسبات الحسية «أحلام الرمالي» التي لم تتزوج رغم أنها جميلة جدا، والتي كان كلما ذهب لتحصيل ما تدين لهم به في «لم فلوس» ينادي: «أبلة أحلام! تخايلني صورتها في ظلمة المدخل، ترفع شعرها الغزير بذراعيها العاريتين، وتتركه يسيل على ظهرها، ولا ترد». (63) وهي هنا أيضا غواية ترتبط بالخوف، وإن كان الخوف هذه المرة من كلب أخيها «أباظة»، الذي يمكن أن ينقض عليه. وهكذا يترسخ الربط في ترسبات الوعي بين اللذة والخوف، وتُشاد الأسيجة التي تنهض حول المحرمات. وحتى «سوسن» بنت «سيد فتيحة» صاحب العمارة المجاورة، والتي اقترب منها حينما عمل عند أبيها عدة أيام، ولامس شعرها وجهه وهي تعلمه، كان وهمه بأنها قد تحبه، مرتبطا بنوع من الذنب، لأن أخاه الأكبر سعيد قد سبق وأن كتب على شباك عشة الفراخ المواجه لها «سعيد بيحب سوسن». (71)

لكنه وهو يعود لتلك الترسبات، لا ينسى أن يموضع ما يدور في ذاكرة النص التاريخية الداخلية، فإذا كانت «ماتيلدا» قد ذهبت مع طرد الغجر من أرض زعتر، وفتح الطريق لإنشاء قسمي الشرطة والسجن، عقب هزيمة 1967، وتغير طوبوغرافيا المنطقة، وقد شقت الحكومة الطريق. ولحسن الحظ لم يُزل بيتهم في تلك العملية، بل أصبح يطل على شارع واسع شبه ممهد، بعد أن كان وسط عشوائيات ريفية ومزارع. كما أصبح مصدر رعايتهم الأساسي، «بعد انتهاء دفتر أبي، ومماطلة المدينين في سداد المبالغ المدونة بالدفتر.» (48) واضطرت الأم لتأجير حجراته، وهكذا جاءت «ملكة» لتعيش معهم في نفس الشقة، واستأجرت مع زوجها حجرة فيها، مع تهجير سكان مدن القناة أثناء حرب الاستنزاف 1969.

ولم يكف إيجار الحجرة لإطعام "كوم لحم"، مع أنها «أصرت على أن يكون إيجار الحجرة جنيهين، فالبيت صار يطل على شارع رئيسي ويجاور قسمي الشرطة» (48) لذلك اضطرت الأم إلى العمل في مهنة الأب الراحل، ورعت أسرتها كأي رجل. بنت حجرتين على السطح انتقلت لهما الأسرة، وأجرت بقية غرف الدور الأرضي لمساعدتها في تربية الصغار: الراوي واخته الصغرى فريدة وزين. بعدما مال الأخوان الكبيران، سعيد وراضي – عقب تقدمهما في العمل من الأويما إلى التذهيب – للاستقلال عنها ثم الزواج مبكرا. وخاب سعي كل منهما في جمع ثروة وفتح ورشة خاصة به، بعدما أصبح الـ«بيع/ سرقة»، وحرق أصحاب المعارض الكبيرة قلوب الحرفيين الصغار، واضطروهم لبيع منتجاتهم بأبخس الأسعار. ولم تتطور المهنة تطورها الطبيعي المنشود. وبعد أن يصحبنا الراوي في مشهد مؤثر يسجل فيه وقع عملية النصب «بيع/ سرقة» على أخيه، واغترابه الممض عن ثمرة عمله، «يشاهد راضي صالونه وقد صار لا ينتمي إليه، بعد أن تحول إلى مكاسب رهيبة لصاحب المعرض. يتمنى لو يصرخ فيخترق صوته زجاج الواجهة اللامعة. أن يقول للزبائن و"الله ده شغلي". كان الزجاج عازلا محكما للصوت.» (66)

هنا يستخدم النص، في نوع من تجاور الخطابات المختلفة خطابا تاريخيا تحليليا، حينما يستعين بمقتطف طويل من دراسة على زهران: (صناعة الأثاث بدمياط: الأزمة والحل)(67) ليكشف لنا بتركيز شديد كيف أن مسيرة التطور الحرفي المختلة في مصر، لها كثير من الضحايا، ويمكن القارئ المشغول بالخطاب السردي ومصير شخصياته المختلفة من فهم الروافد الصانعة لمأساة الأخوين، والتي أبقتهما وأسرتيهما في القاع الاجتماعي رغم طموحهما المشروع، دون أن يصرف اهتمام النص عن بؤرته الأساسية: البطل الراوي وكتابة «حياته»، أو يلجأ إلى الحشو والتطويل.

وظل الراوي يواصل التعليم ويساعد أمه في تحصيل ما تبقى من ديون في «لم فلوس» التي تأخذنا معه في جولة إلى شرائح سياق تكوينه الاجتماعية المختلفة، لا تقل ترسباتها فيه أهمية عن تلك التجارب الحسية الصغيرة مع «ماتيلد» أو «ملكة». «حين تخرج أمي الدفتر من دررج الدولاب، أعرف أنني سأذهب مشوارا لـ«لم فلوس». (60) فبين أنواع المشتريات المدونة في الدفتر بقلم كوبيا، وأسماء العملاء: الاسطى زين، الأسطى فاروق صابون، الحديدية أم محمد، أحلام الرمالي، أم يسر يتحرك الراوي الصبي، ويجوّد في مهمته: «كنت صاحب فكرة نوتة لكل واحد، بدلا من استخدام الدفتر المهترئ». (61) وهي مهمة يتمنى أن تدر عليه قروشا إضافية كي يشبع توقه للذهاب لسينما اللبان كلما تغير برنامجها كل أثنين، كي يشاهد بطله الخارق «جوليانو جيما» أو لأكل الـ«كلوكلو».

وبعد أن كان بيتهم في أرض زعتر يطل على مخيم الغجر، أصبح الآن مجاورا لقسمي الشرطة. تضرب الشمس غرفتي السطح في النهار، ويضربهما صراخ من يُعذّبون في القسم في الليل «صوت التعذيب الذي يجري في حجرات المباحث، والذي يبدأ بعد منتصف الليل. تعليق أعلى الباب، غمر الرأس في بالوعة الحمام، وكهرباء على الخصيتين. كان يوما لا نهاية له جين قُبض على سنّو. صراخ حاد وشتائم طوال الليل. كان صوت سنّو يشق الليل لاعنا كل الرتب من المخبر حتى المأمور ومدير الأمن وحتى وزير الداخلية .. إلى أن سمعنا صوت سارينة الإسعاف وسنو يخرج على نقالة» (70). وبين ضربات الاثنين يكبر الراوي «فوق السطح» ويطل من شرفة بيتهم على المخبرين وعربات الأمن المركزي الضخمة – إنجاز عصر السادات الكئيب – التي تأتي صباحا ومساء لاستلام وتسليم المساجين.

هكذا يصبح القهر خيطا بارزا في نسيج الحياة اليومية، وتترسب مكوناته في الوعي الجمعي حتى يصل في مأساة «البيسي» ماسح الأحذية إلى ذروة الجنون. لذلك كان طبيعيا أن يكتب هذا الفصل بضمير الغائب، وأن يغيب منه الراوي إلا في سطوره الأخيرةـ لأننا هنا بإزاء سرد طالع من قلب الذاكرة الجمعية، أو كما يقول لنا النص: «راح ذهن أهل شارع البندر يسيح بما فيه من مصائب. فذكرت البيسي وما جرى له، إذ رأي الدسوقي المخبر داخلا خارجا إلى بيته في الأوقات التي توجد فيها "زوبة" التمورجية زوجته، لغير عذر شرعي. نهر زوجته، وقال للدسوقي إن زوبة لم تعد تعطي حقنا، لكن الدسوقي لم يمتنع». (72) نحن هنا بإزاء مواجهة بين رجل بسيط طالع من قاع الواقع الاجتماعي، ومخبر يتذرع بجبروت السلطة في انتهاكه لشرفه. ويتداول الجميع الأمر مع البيسي، ويشيرون عليه، بقرار أجمعوا كلهم عليه، بأن يشكوه للمأمور، وما أن فعل حتى تعددت الأقوال فيما جرى. لكن الجميع سمعوا في هدأة الليل «صرخات حسن البيسي وجعيره يخترق القسم، يهبط السلالم، يمسح الأسفلت، يتشبث بحيطان البيوت، يسقط ويزحف، والحارة حائرة هائجة لا تدري ماذا يمكنها أن تفعل.»(73)

والواقع أن محتوى تقنية السرد الجمعي بضمير الغائب هنا بالغة الأهمية، لأنها تبرز العجز الجمعي في تخبط الحارة بين الهياج وعدم الفعل، وفي تقبلها لواقع أقل ما يقال فيه أنه الجنون نفسه. فما كان ألا أن حمله "مختار الونش" أشرس مخبري المديرية، وألقاه كخرقة بالية أمام سلم القسم. بعدما حرره الظلم الفادح من العقل نفسه، فكاد يغرق أكثر من مرة في الترعة، وهو يصطاد السمك ذاهلا عن كل شيء. أو يقف «على باب القسم يشتم الدسوقي والمأمور ويشرح للسامعين .. كيف أنه ركب أميهما بالأمس ... إلى أن ملّ المأمور الأمر كله، وأمر بترحيل البيسي إلى مستشفى الأمراض العقلية.»(73)

لكن الرواية لا تترك هذه المصيبة عند هذا الحد؛ ولكنها وقد روتها من المنظور الجمعي، تجلب الراوي إلى سطورها الأخيرة «صار حسن يُرى على فترات متباعدة، كأن المستشفى كان يفرج عنه لأيام ثم يعود لاستدعائه. الغريب أنه كان يذكرني بمنتهى العقل كيف أنه كان يشتري من والدي ملابسه الداخلية بالقسط، ويشفع كلامه بالرحمة على أبي». (74) وكأنه يترحم على زمن مضى، حينما كانت الحياة أفضل. أم تراه يثير مسألة أو بالأحرى إشكالية العقل والجنون. بعد ان أودي القهر «الغشيم المتعافي» بكل أثر للعقل، وخيم القهر على الجميع لما جرته مشورتهم عليه.

لكن الحياة تمضي وتتطور – بشكل ما – كما يكشف لنا القسم التالي والأخير في هذا الكتاب: «عوض» صاحب الحنطور والمسمى «عِلق براء» والذي لم تثنه التسمية عن الوقوف بحنطوره تحت مكتب براء المحامي، الذي نعرف أنه أُعتقل، ووُضع في السجن، وتلطخ مكتبه بمعرفة خصومه – هذا جانب آخر من الترسبات التي لا فكاك منها، والمكتوبة أيضا بضمير الغائب، وكأنها حكاية أخرى طالعة من ذهن شارع البندر الذي يسيح بما فيه من مصائب. لكن «عِلق براء» مازال يقف بحنطوره في مكانه المفضل تحت المكتب المغلق. وتصر زوجته على أن يلحق ابنهما جابر كصبي مذهباتي في دكان راضي. وكأن النص لا يريد أن ينهي هذا الكتاب الثاني مع زمن استقلال الابنين الأكبرين كل بدكانه، وزمن التغيرات الاجتماعية السريعة في أواخر حكم السادات، ازدهر استخدام الحناطير فاستطاع أن يبني بيتا صغيرا من دورين: الأرضي لمبيت الحصان والعربة، والآخر للأولاد. وألحق ابنه بدكان راضي ولما كبر، وأصبح مذهباتيا، أراد أن يستأجر الدور الأرضي من أبيه ليُذَهب به أطقم الصالونات، وأن تبيت العربة والحصان في الشارع، بعد أن تدهورت الأحوال بأبيه، وهرم الحصان وصاحبه، وحل التاكسي مكان الحناطير. ولم يجد الأب الذي تدهورت به الأحوال – ولم يعد دخله كافيا لعلف الحصان – بدّا من القبول. لكن «ما لم يستطع تحمله هو مجاهرة زوجته صراحة، وبتأييد من ابنها، برغبتيهما في بيع الحصان والعربة. قبل أن يستلم إيجار الشهر الأول كان قد مات». (77)

تابع القسم الثاني من الدراسة في العدد القادم

 

[1] This term is part of his famous definition of crisis of authority: ‘The crisis consists precisely in the fact that the old is dying and the new cannot be born; in this interregnum a great variety of morbid symptoms appear.’35 Gramsci, Selections from the prison notebooks, p. 276.

[2] أحمد زغلول الشيطي (صخرة هليوبوليس)، الإسكندرية، دار العين للنشر، 2019. وسوف نكتفي في أي مقتطفات قادمة من الرواية بذكر رقم الصفحة في المتن، والإشارة دائما لهذه الطبعة من الرواية.

[3] Deleuze, G. Difference and Repetition, Trans. P. Patton (New York: Columbia University Press, 1994), p. 139.

[4] للمزيد من التفاصيل حول الفرق بين الاثنين راجع: Simon O’Sullivan, Art Encounters Deleuze and Guattari:Thought beyond Representation (London, Palgrave McMillan, 2006), pp. 1-8.

[5] مثل (خان الخليلي) و(زقاق المدق) و(بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية)، بالإضافة إلى تلك التي تستقي اسمها من اسم مقهى أو بنسيون مثل (قشتمر) و(ميرامار).

[6] المقصود هنا هو رواية (هليوبوليس) لمي التلمساني (القاهرة، دار شرقيات 2000).

[7] لمراجعة تاريخ مشروع البارون امبان: هليوبوليس/ مصر الجديدة بالتفصيل العلمي الدقيق راجع كتاب Robert Ilbert. Heliopolis, Le Caire 1905-1922:Gense d’une Ville (Paris, Centre National de la Recherche Scientifique, 1981)، وراجع أيضا الكتاب العمدة في التأريخ للقاهرةAndre Rymond, Cairo, trns. Willard Wood (Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts, 2000), pp.329-333.

[8] راجع مقدمة بول بارجية لكتاب الموتى. بول بارجيه (كتاب الموتى للمصريين القدماء) ترجمة زكية طبوزادة (القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر، 2004)، ص. 14.

[9] “Postscript on Control Societies”, in Gilles Delueze: Negotiations: 1972-1990, ed. Martin Jaughin (Ney York, Columbia University Press, 1995, pp. 177-181.

[10] بدأ فوكو دراسته لمجتمعات الضبط التحكمية تلك وخطابها بكتابه الأول (الجنون في العصر الكلاسيكي) وكيف تخلقت المستشفى، وتم فرز كل من لا ينصاع للخطاب المهيمن وتصنيفه بالجنون، وصولا إلى كتابة عن (السجن: التحكم والعقاب) حيث النموذج المثالي للتحكم من خلال برج المراقبة، وقد زرع في داخل كل سجين أنه مراقب طوال الوقت.

[11] تقدم لنا الرواية نماذج عديدة لحركة راويها/ بطلها بين تلك المحاجر المختلفة، وخاصة في المدرسة، ثم عمليات التدريب في ورش النجارة، أو حتى التأقلم الجمعي مع قهر قسم الشرطة، وصولا إلى عمله كمحامي في شركة.

[12] لابد هنا من الوعي بأن تنظيرات ديلوز، وهي بنت سياقاتها وتجربتها الاجتماعية في آن، مفيدة لما أطرحه من منهج في التحليل، ولكن مع الوعي بأن مصر والعالم العربي من ورائها له خصوصيته التي تحتاج إلى أخذها بعين الاعتبار. حيث أن النمطين يتفاعلان في واقعنا العربي: مجتمع الحجر والقهر والاستبداد، ومجتمع التحكم والمراقبة التي تستفيد بآليات المراقبة الجديدة وتكنولوجياتها المتطورة لترسيخ التحجر والاستبداد.

[13] الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح الأول، ص 1-2.

[14] يرد اسم الراوي لأول مرة في الرواية في «كتاب خامس» (103) باسمه الأول، ثم نتعرف على اسمه الكامل في «إنكار» 118.

[15] راجع كتاب إدوار سعيد (الاستشراق) Edward W. Said, Orientalism: Western Perceptions of the Orient, London, Penguin Books, 1978/ 1995, p. 25.

[16] راجع دراستي عن هذه الرواية بعنوان: «البنية الروائية كمرآة للتفكك الاجتماعي».