يأخذنا الكاتب في رحلة مع المعماري الكبير، حسن فتحي. يتناول سمات عمارته التي يتواشج فيها الجمال والبساطة وقلة التكلفة، منذ بداية مشروعاته المعمارية (1942)، وكيفية تعامله مع نبل مادة الطين، والعناصر التراثية المحليّة، لتجديد توظيفها في تصاميم معاصرة بديعة التكوين. ليستحق عن جدارة لقب فيلسوف العمارة، وعبقري عمارة الفقراء.

حسن فتحي وثقافة العمارة

أبدع فناً معمارياً اعتمد على أحجار الطين

أحمد أبو زيد

 

احتفل محرك البحث (جوجل) عام 2017م، بالذكرى الـ(117) لميلاد الفنان والمهندس المعماري المصري حسن فتحي (1900-1989)، رائد فن العمارة الإسلامية، لما حققه من إنجازات عظيمة في إبداع نمط جديد من العمارة، يتناسب مع الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري ومختلف دول العالم.

يعدّ حسن فتحي أحد عباقرة العمارة في العصر الحديث، فقد تميّز عن غيره من أساطين العمارة باهتمامه بالفقراء، ومساكنهم البسيطة وانحيازه لهم؛ وأسس عمائر جميلة وبيوتاً صحية تعتمد على الخامات البيئية البسيطة، كالأحجار والطين، إلى جانب القليل من الخشب والكثير من البساطة، ونال عن تلك العمائر عشرات الأوسمة والجوائز، وحارب بها القبح المعماري بأقل تكلفة.

ولقد حمل هذا المعماري النبيل عبر مسيرته في الفن والعمارة، العديد من الألقاب، مثل: كبير المعماريين وسيد البنائين وفيلسوف العمارة وعبقري عمارة الفقراء.. وأصبحت أعماله رائدة في مجال تشجيع الجهود الذاتية لبناء المساكن باستخدام المصادر المتاحة، وأدت إلى إعطاء العمارة التقليدية، التي نشأت وتطورت في المناطق القروية، تدعيماً كبيراً، وأكسبتها تقديراً غير عادي، بل وأدت إلى استخدامها في مناطق عديدة من مصر والعالم. وقامت نظرية حسن فتحي المعمارية على الربط الخلاق المبدع بين التراث المعماري الشعبي والهندسة المعمارية الحديثة. وبنى الكثير من البيوت والقرى في مصر، وغيرها من بلدان العالم التي بهرت كل من رآها بمتانتها وجمالها.

ولد حسن فتحي في (23 مارس 1900م) بالإسكندرية، وعاش (89) عاماً، حيث رحل في (30 نوفمبر 1989م)، وقد نشأ في أسرة مصرية يمتاز أعضاؤها بالثقافة والفن والهندسة، وتخرج في (المهندس خانة) بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام (1926م)، من قسم العمارة، وعمل أستاذاً للفن ورئيساً للقسم المعماري في جامعة القاهرة.

وذاعت شهرته في عدة مجالات، منها الفن والعمارة، والبيئة وتعمير الصحراء، والثقافة المحلية، والتراث والحضارة، والأصالة والمعاصرة، والتكنولوجيا المتوافقة، وكان ذا ثقافة واسعة ومتعددة الجوانب، له دراية بعدة لغات، وله عدة هوايات يجيدها إجادة تامة، كالشعر والرسم والتصوير وتربية الخيل وغيرها، وهو ما ساعده على تكوين رؤية متعددة الجوانب والأبعاد، وتكوين عقلية متوقدة ووجدان مرهف الشعور، وكل هذا جعل منه تركيبة فريدة، وعبقرية نادرة تجسدت في رؤيته للعمارة والإنسان والعلاقة بينهما.

وفي حياته العملية والوظيفية، تنقل بين العديد من الأعمال والوظائف، فعمل بالمجالس البلدية، ثم مدرساً بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ثم رئيساً لإدارة المباني المدرسية التابعة لوزارة التعليم المصرية، ثم خبيراً بمنظمة الأمم المتحدة لإعانة اللاجئين، ثم أستاذاً بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة حتى عام (1957م).

وعمل بعد ذلك خبيراً في مؤسسة (دوكسياريس) للتصميم والإنشاء في أثينا، وخبيراً في الأمم المتحدة في مشروع التنمية بالسعودية عام (1966م)، وأستاذاً زائراً في قسم تخطيط المدن والعمارة بجامعة الأزهر من (1966م إلى 1967م). وشغل عدة مناصب شرفية، وقد وضع نصب عينيه منذ تخرجه تحسين أوضاع القرية المصرية، ووقف الهجرة شبه الجماعية إلى المدن الكبرى، ورأى أن أقصر الطرق وأفضلها هو العودة إلى الجذور التقليدية للبناء القروي والاعتماد على الكفاءات والمهارات المحلية في تنفيذ تصميماته المستمدة من هذه الجذور.

وقد استلزم منهجه في عمارة الفقراء، تحديد أفضل نظم ووسائل البناء في مصر قبل الطفرة الصناعية، ودراسة كفاءتها، خاصة بالنسبة إلى المناخ، والجوانب الجمالية لها، وإمكانيات تطويرها. وشمل ذلك دراسة عمارة المساكن في القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني، وأسلوب استخدام الأفنية الداخلية والصالات بارتفاع طابقين، وأسلوب التهوية بها، والمشربيات.

وكذلك دراسة أساليب البناء بالطوب اللبِن والتي لاحظها لأول مرة في النوبة وشملت: الأقبية المائلة التي تبنى من دون دعامات، والقباب التي تبنى على صالات مربعة باستخدام مثلثات منحنية وأسلوب بناء حلزوني مستمر. وتلك الأساليب والأشكال كانت دائماً مرتبطة بالبيئة والمجتمع، فبرغم اختفائها من المناطق الحضرية، فإنها لاتزال مستخدمة في المناطق القروية والنائية، وخاصة في النوبة. ففي هذه المناطق استمر توارث المهارات التقليدية مثل تلك المتعلقة بالبناء بالطوب اللبِن على مر القرون.

ولقي حسن فتحي شهرة واسعة في العالم بسبب إصراره على تقديم عمارة بديلة، ورفضه المطلق للنقل الحرفي من العمارة الغربية، وتميز عن غيره بإحساسه المرهف بالإنسان الذي تبنى من أجله العمارة، فجاء كتابه الأكثر شهرة (عمارة الفقراء) ليتحدث عن عمارة البسطاء وتجربتهم التي ترسخت عبر قرون طويلة من التجربة. ويقدم رؤية عميقة ومبادئ ثابتة واضحة اعتبرها بعضهم مغالاة في الجوانب العاطفية، كان يدعمها إيمان عميق بمفاهيم أصبحت مقبولة على نطاق واسع اليوم كمفهوم العمارة البيئية.

فالبيوت المبنية بالطوب اللبِن والمسقفة بالقبب والأقبية، حازت جدارة ليس لما فيها من جماليات معمارية فقط، بل ولنتائجها الاقتصادية الجيدة حين تم إخضاعها للحسابات الاقتصادية في التكلفة، والحسابات العلمية والهندسية في المتانة وتصميمات البناء، إضافة إلى تناسبها وتجاوبها مع البيئة المحيطة، فخامة الطين التي تُعَدّ مادة البناء الأساسية في هذه البيوت خامة موجودة ومتوافرة في البيئة الريفية، ومن هنا تنعدم تكلفتها تقريباً. وقد أثبتت البحوث العلمية، التي أجراها حسن فتحي على هذا النمط من البناء، مدى قوة خاماته وتناسب تصميماته، ومن ذلك تلك الشواهد التاريخية التي تمثلت في بعض العمائر والبنايات والبيوت التي بقيت على الأرض المصرية، مثل: مخازن قمح الرامسيوم بالأقصر التي يعود تاريخها إلى أكثر من (2500) سنة، وهي مبنية بالطوب اللبن ومسقفة بالقبب والأقبية؛ وتؤكد بالدليل الواقعي أن هذه الخامة والتصميمات من القوة والمتانة، ما جعلها تعيش آلاف السنين.

وعندما نقف عند بعض المشروعات المعمارية التي صممها حسن فتحي، نجد أن البداية كانت في مدينة الأقصر سنة (1942م)، لإنشاء قرية القرنة الجديدة لينتقل إليها أهالي القرنة بعيداً عن وادي الملوك الأثري. وتقع القرنة على الضفة الغربية للأقصر فوق أنقاض مدينة طيبة القديمة، في مكان يحده وادي الملوك من الشمال، ووادي الملكات من الجنوب، ومقابر النبلاء في الوسط، على سفح التل المواجه للأراضي الزراعية. وقد بنيت القرية على موقع مقابر النبلاء، ويسكنها (7000) فلاح في بيوت تتوزع على مجموعات تحيط بالقبور القديمة.

وقد وضع حسن فتحي أفكاره ونظرياته المعمارية موضع التنفيذ عندما صمم وبنى هذه القرية الجديدة على مقربة من طيبة والأقصر، على الجهة الشرقية من نهر النيل، واستمد في تصميماته الأشكال المألوفة في القرية المصرية، والتي تلبي حاجات سكانها وترتبط بنزوعهم العاطفي تجاهها، واستخدم في إنشائها المواد المتوافرة محلياً من طين وطابوق (طوب لبِن) مصنّع في موقع البناء وبالطريقة نفسها التي كان يصنع فيها الطابوق منذ أقدم الأزمنة.

بدأ بناء القرية بالميدان المركزي الكبير، وتم الانتهاء أولاً من المباني العامة والمنشآت الحضارية، مثل: المسجد والخان والمسرح وقاعة البلدية والمعرض والسوق ومدرسة البنين.. إضافة إلى المنزل الخاص بفتحي، والذي استخدمه كمكتب أيضاً، ثم بنى (130) منزلاً من أصل (900) منزل كان من المخطط بناؤها في القرية.

وحاول حسن فتحي في هذا المشروع تطبيق فكرة البناء الجماعي، بأن تتحول عملية التعمير إلى عملية ذاتية تنبع من الناس أنفسهم بثقافتهم، وباستخدام المواد المتاحة لهم وهي الطين، وبتقنية بسيطة لا تعتمد على الميكنة المستوردة.

وتعد هذه القرية أشهر أعماله التي روى قصة بنائها في كتاب (عمارة الفقراء)، ما شد الانتباه العالمي إليه. فمشروع القرنة يعد نموذجاً يدرس اليوم في المعاهد الهندسية في العالم.

وشجع هذا النجاح حسن فتحي على تصميم وتنفيذ مدينة مصرية أخرى هي (مت النصارى). وبعدها دعته المملكة العربية السعودية لتصميم مشروع مماثل هو مشروع (بيت العائلة من الطبقة الوسطى). وكان قد سبق له أن وضع في السعودية كذلك التصميم الأساسي لدور سكن (الدارية).

وقد تعددت أعمال ومشاريع حسن فتحي المعمارية، فصمم العديد من المنازل النموذجية في مصر ودول العالم، وكذلك الفيلات، مثل فيلا جارفيس، وقام ببناء مستشفيات قروية في العديد من قرى مصر باستخدام تقنيات البناء النوبية التي اكتشفها فتحي في صعيد مصر، وهو ما سمح له باستخدام أسلوب البناء الذي بدأ في تطويره بداية من (1937) بالطوب الطيني ومن دون استخدام الدعامات الخشبية المكلفة.

ومن أهم المشاريع المعمارية التي صممها حسن فتحي؛ قرية باريس الجديدة بواحة الخارجة بمصر، ويمثل هذا المشروع قمة إنجازاته، وقد تم بعد مشروع القرنة بعشرين عاماً، وكان الكشف عن بئر ضخمة للمياه يقع على بعد ستين كيلومتراً جنوبي واحة الخارجة في عام (1963م)، تكفي مياهه لري (1000) فدان، هو الدافع لهيئة تعمير الصحارى لإنشاء قرية زراعية في هذه المنطقة النائية في قلب مصر تتسع لـ(250) عائلة، يكون أكثر من نصفهم من الفلاحين، والباقي من العاملين بالخدمات.

وقد امتدت مشروعات فتحي المعمارية إلى العديد من دول العالم، فنجد مركز مؤتمرات ومسجداً بالسودان، ومسجداً في البنجاب بالهند استخدم فيه لأول مرة بلاطات مطوية خفيفة الوزن لتغطية السقف، ومسجد روكسبيري بأمريكا، الذي تم تصميمه لخدمة المجتمع المسلم في هذه المنطقة السكنية في بوستون.

وهناك مسجد ومدرسة (دار الإسلام) من مشاريع حسن فتحي المهمة، بناها في أعلى سهول المكسيك، حيث كان عملاؤه من المسلمين الأمريكيين، وكانت أول بناية هي المسجد الذي شارك في بنائه أبناء المدينة أنفسهم تحت إشراف رئيس العمال النوبيين (محمد عبدالجليل موسى)، والرجل ذو الخمسة والثمانين عاماً علاء الدين مصطفى.

وفي إسبانيا أقام فتحي منزل ألفا بيانكا للفنانين (يانيك فو) و(بن جاكوبر) في جزيرة مايوركا على غرار الرباط أو القلاع الصحراوية، ويضم حوائط ذات شرفات وحديقة داخلية جميلة.

ومن مشاريع فتحي المشهورة؛ مشروع إسكان الدرعية بالمملكة العربية السعودية، ففي عام (1974م) فوضته منظمة الأمم المتحدة للتنمية الريفية بزيارة بلدة الدرعية كاستشاري، حيث كانت مهمته المحددة هي تصميم منزل نموذجي يكون مثالاً يحتذى به للمنازل الأخرى التي سيتم بناؤها في البلاد لتحسين الحياة القروية.

وقد وجد فتحي في الدرعية أمثلة على العمارة النجدية المبنية بالطين بالرغم من الدمار الذي حدث بالقرية بمرور الزمن، وتوجد دراسة ممتازة عن الشخصية الخاصة للقرية بعنوان (إعادة بناء المباني التقليدية في الطريف والدرعية) أجراها ميشيل أمريك وكارل مينهاردت وقدماها في المؤتمر العالمي السادس للحفاظ على العمارة الأرضية، ونشرها معهد جيتي.

وفي أواخر حياته، حاول حسن فتحي أن يودِع علمه ونظرياته المعمارية لدى بعض تلاميذه، لعلهم يكونون أوفر حظاً في تنفيذ أفكاره، فسعى إلى تأسيس معهد يقوم بتدريس نظريته في العمارة وتطبيقاتها التي أطلق عليها (تكنولوجيا البناء المتوافقة مع البيئة)، خصوصاً أن أفكاره ونظرياته كانت تعد من المحرمات في أقسام العمارة بالجامعات المصرية، ولكن حتى هذا المعهد أجهض رغم النضال المستميت الذي بذله حسن فتحي في إنشائه.

وتكريماً لهذا المعماري العبقري، أطلقت مكتبة الإسكندرية في السنوات الأخيرة جائزة سنوية في العمارة باسم (جائزة حسن فتحي للعمارة)، وهي تهدف إلى الارتقاء بالعمارة المصرية المعاصرة، من خلال تشجيع المعماريين على تقديم نماذج معمارية متميزة، وتضم الجائزة فروعاً متعددة كل عام، فهناك جائزة عن مشروع للإسكان منخفض التكاليف، وأخرى للحفاظ على التراث المعماري، فضلاً عن ثالثة للتأليف المعماري، وأخرى عن مجمل إنجازات المسيرة المهنية. وتشرف على الجائزة مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع لجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة، وتشترط أن يكون المشروع قد تم تنفيذه في مصر، وأن يكون مصممه مصرياً، وألا يكون حاصلاً على جوائز عالمية سابقة.

 

(المصدر: مجلة الشارقة الثقافية)