تقدم هذه القراءة الثقافية المُوسّعة رواية الكاتب السوري الكبير وتستفيد من المقاربات البلاغية في التحليل الأدبي، ومن الطابع التركيبي للنص كي تكشف لنا عن هيمنة موضوعة السجن على الرواية، وعلى الواقع العربي من ورائها، بصورة يتماهى فيها معنى الوحدة العربية، مع إطار هذا السجن العربي المفتوح.

الهُويّة الشِّعريّة في رواية «سمر الليالي»

عبد الدين حمروش

 

1. الليل أنثى:

لنُقْدِم على أمر في البداية: حذْف كلمة "الرواية" من العنوان. تُرى ما الذي يمكن تحصيله من جراء ذلك الحذف؟ في مقاربة أولى للسؤال، لا يبدو أن هناك تغييرا سيطرأ، من منطلق أن "سمر" مضافة إلى "الليالي" توحي بالطبيعة السردية لما يفترض أنه نص/ خطاب روائي. "سمر الليالي"، أو حتى مع القلب إلى "ليالي السمر"، ليس يفضي إلى اختلاف كبير، بوجود كلمة "السمر" هاته. بالإحالة إلى اللغة، وما تضمُّه معاجمُها، يعني السَّمَر: حديث الليل. والسمَرة، التي لها علاقة اشتقاقية بالسمر، هي الأحدوثة بالليل. إذا ثبت أن السمر يعني الحديث، فمن أين تأتي المطابقة الدلالية بين حديث الليل وفعل السرد/ الحكي؟ انسيابية الليل تكاد تُماهي انسيابية الحكاية، من منظور انطباعي عام. حين نتعاطى مع الليل، بفهم سيرورته الدلالية الرمزية، نجده يعني "السكون" و"السيولة" و"الانحدار". أقصى نقطة الانحدار، على نحو مُفارق، تنتهي بأقصى نقطة للطُّلوع: طلوع الشمس. كل ما ذكرنا، حتى الآن، يمكن وضعه على جانب. ليس هناك أي اعتراض، وبخاصة لمن يرى أن القرارات الكبرى، علاوة على الوقائع الحاسمة، إنما تجري بالليل وليس بالنهار. الحديث عن سكون الليل، من هذه الناحية، هو حديث لا قيمة له.

ما من شك في أن البحث، عن أصول تلك المطابقة، يحتاج إلى قراءة أنتربولوجية (ثقافية) مُوسّعة. وعلى الرغم من غياب تلك القراءة، يمكن التوافق، ولو افتراضا، على الترجمة التالية: الحكاية ليل مثلما أن الليل حكاية. حين نتوافق على هذا الافتراض، ينبغي عدم استبعاد الافتراض المُقابل، والذي يمكن ترجمته وفق المعادلة المُتعاكسة: الشعر نهار مثلما أن النهار شعر. هل نتصور أن الحكاية لا تبدأ إلا حين ينتهي النهار، بأحداثه ووقائعه وتفاعلاته؟ هل يكون النهار، بمعنى ما، هو مضمون حكاية الليل؟ ألا يمكننا أن نحكي ونحن نُباشر النهار، بما يضجّ به من أحداث ومُصادفات؟ من جهة أخرى، هل باستطاعتنا تقسيم الزمن إلى زمنين: واحد يجسده زمن الحكاية وآخر يجسده زمن الحكي؟

لننسَ كل ما قلنا حتى الآن. وعلى أنقاض ذلك، يمكن البدء بطرح السؤال: هل يجوز استبعاد أن يكون الليل فضاء لقول الشعر. الطبيعة الشفهية للسمر/ السمرة، يمكن أن تسعف بالإحالة إلى البعد الإنشادي للشعر. الشعر، في تعريف ما، قول وإنشاد. ومن المؤكد أن الطبيعة الإنشادية، في إحدى دلالاتها، تعني الغنائية. الشعر هو الليل، بخلاف ما مهدنا له، من منطلق كونه نجوى/ مناجاة ذاتية. حتى في غياب أصدقاء الليل، يمكن أن يحصُل السمر: مناجاة الذات.

1.1. حكي "الليالي":
الليل والحكاية، بالعودة إلى ذاكرتنا الثقافية، يترادفان بالإحالة إلى "ألف ليلة وليلة". في كل ليلة، تكون، هناك، حكاية. هذا البناء العام، الذي بُنيت عليه سرديات الأحداث، نجده ماثلا في "سمر الليالي" بأكثر من صورة. ذلك أن بناء "الرواية" العام يتأسس على عدد من "الليالي"، تختصّ كل طائفة منها بشخصية مَركزيّة: ريّا أو شهد، أو هما معاً، أو مع أخريات، أو معهن ومعنا. أما الباقي، فهو مجرد "فواصل" بحسب عبارة الكاتب.

وإذ الليالي تتناسل في إثر بعضها البعض، كذلك الحال بالنسبة لتناسل الشخصيات، الأنثوية منها بشكل أخص. ومن أبرز المقاطع السردية الدالة على التناسل الأخير، ذلك الاحتشاد اللافت لواحد وعشرين اسما لامرأة/ أنثى في خلال بضعة أسطر "إلا أن ريّا وشهد ولبيبة وبتول- التي لم يُعرف إن كانت لا تزال في السجن أم أفرج عنها- وبانة ونشوى ومياسة وملك ومرسيل ومجيدة وبهيجة وإكرام ولويز، وبالتأكيد: أم وليد وأم تماضر السواس- التي عادت إلى زوجها وعاد إليها يوم الجمعة الفائت- وأم أوس وأم مصطفى، وربما عفراء والدكتورة رهف والدكتورة سندس، بل والنقيب عاتكة" (ص، ص. 249- 250.).

بالعودة المُتجدِّدة إلى كتاب "الليالي"، يمكن الخروج بهذه الخلاصة المجازية: في كل ليلة امرأة/ أنثى. وفي سياق ذلك، غير ما مرة تتداعى عبارات مسكوكة، من قبيل: "وعندما يدركها الصباح" (ص.140)، أو "في السادسة أدرك الصباح الليلة" (ص.164)، أو عبارات أخرى، هي مسكوكة، أيضا، مثل "كان يا ما كان في سالف العصر والأوان"، أو "كان يا ما كان في قديم الزمان" (ص.146). وإلى جانب اقتران الليل بالحكي، ينبغي الإشارة إلى تلازم حضورهما مع حضور آخر: "الأنثى". في كل ليلة أنثى، كما في كل ليلة حكاية.

أن تُعاش الحكاية في الواقع، أو حتى تُقرأ في شكل رواية، ليس في الأمر كبير اختلاف. من منظور شخصية راجي زكزك، ريّا كانت تبحث عن نفسها، حين كانت سجينة، في ما كانت تقرأ من روايات. على الأقل، هذا ما يظهر من خلال إقبال ريّا على القراءة: "تلتهم كل ليلة رواية" (ص.246). غير أنها ما تفتأ أن تضع فارقا بين أن تعيش وأن تقرأ: "من يأكل العصي ليس كمن يعدُّها".

الأنثى (ريّا، شهد أو أخريات)، بقدر ما هي ضحية أنوثتها، بقدر ما هي بطلة/ فاعلة، بالنظر إلى مواقفها "على الأرض". الأنوثة/ الجسد ضحية عرضية، مادام الاستهداف مُوَجَّها إلى فاعلية الأنثى (أي مواقفها ونضاليتها). ولولا خطورة هذه الفاعلية، ما كان للجسد (الأنوثة) أن يصير له كل "الزخم" الرمزي، على طريق "الشهادة والاستشهاد". درجة فاعلية الأنثى، هنا، يمكن تقديرها بنجاحها في قلب الأدوار، بالدخول إلى السجن بدل الرجال (أو معهم بالأحرى). وبعبارة النص، من منظور صوت ذكوري مُعتزّ، لا يسعنا إلا أن نقرأ: "السجن للرجال" (ص.231).

كيف يكون السجن للرجال، ونحن نُواجه طائفة واسعة من النساء يلجن السجن، دفاعا عن مواقفهن وتوقهن إلى "التغيير"؟ حتى السجن، هو نفسُه، يأخذ قيمته من كونه سجن نساء: سجن مُثقفات لا سجن مُجرمات (نضيف). ولكي نقترب من فاعلية الأنثى، يقدم لنا النص نماذج متنوعة لها، على قاعدة خلفياتها الدينية، المذهبية، السياسية والفكرية. في السياق ذاته، يمكن الاكتفاء بقراءة ما نَصُّه، على لسان "مجيدة":

- "أنا مجنونة، ورح ابقى أحكي بالشيوعية، وبالاشتراكية، وبالقومية حتى لا تزعل بهيجة، وبالإلكترون حتى لا تزعل إكرام، وبحقوق الإنسان، حتى لا تزعل شهد كمان."

المسألة النسائية حاضرة في النص، وإن في سياق التّوق إلى "مجتمع التغيير"، الذي تحلم به كل واحدة من السجينات. قراءة السجينة "نشوى" كتاب بوعلي ياسين "أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي"، على ضوء شمعة، بوسعها الإفصاح عن جانب من الخلفية الثقافية "النسائية" للنزيلات. وعلى الرغم من كل ذلك، هناك سؤال إشكالي يظل مطروحا في وجه ريّا: "هل تنتظر الواحدة منكن أن يكتب رجل بالنيابة عنها؟" (ص.246). في نظر راجي زكزك، مرة أخرى، يبدو أن كل ما كتبته المرأة عن السجن يظل نادرا "مع أن كثيرات جرّبنه" (ص.246).

ما الذي يمنع نساء كثيرات من الكتابة عن السجن؟ هل الأمر مُرتبط بعذرية الجسد، المُمتَهَنة من قِبل ضباط السجن وحُرّاسه؟ أن تروي كل واحدة من السجينات لياليَها، داخل غرف السجن وأقبية مراكز الأمن، تُعوزُها الكتابة. وبعبارة مُركَّزة: من تروي السجن ليس كمن تكتب عنه، كما أن من يأكل العصي ليس كمن يَعدُّها. الكتابة درجة مُضاعفة من معاناة السجن. المجتمع الذكوري، من ناحية أخرى، لا يسمح بهذا النوع من الكتابة. كيف يمكن الكتابة عن الفضيحة: الاغتصاب؟

في مُناجاة مع نفسها، "قالت ريّا للبحر إنها لم تكتم السر إلا خوفا من أن تكون قد حملت" (ص.228). ولذلك، فهي تفكر في أن تجهض "وستجري وراء ابن عمها نضال، لعله يرضى بها ثيِّبا. ستجري خلف مهند، لعله يرى بها ثيبا" (ص.229). من منظور ديني، الثيب أفضل من البكر، لولا أن "العقيد زاهر فضّ بكارتها بالحرام". إن الكتابة، في حالة ريّا، توثيق للفضيحة. ولذلك، يبدو الخوف من الفضيحة، في سياق الاغتصاب، العامل الحاسم في الحدّ من فاعلية الأنثى. حين تتناول الأخيرة حياتها في السجن، لا تكاد تتابع مَحكياتها الليلية، حتى تترك كتابتها للرجل. هل في إثارة هذه النقطة، بالذات، هو ما يُفسر كتابة هذا النص؟ في سؤال أخير: هل قُدِّر لشهرزاد أن تحكي...لا أن تكتب (حيث الكتابة بداية للتاريخ)؟

2.1. ليالي الحكي:
السّمر (الحكي)، الليل والمرأة، من أبرز الموضوعات المُجسِّدة لتماسك النص وانسجامه، من الناحيتين الدلالية والفنية. ذلك أن الحديث عن إحداها، يستدعي الموضوعات المُتبقية. أما "السجن"، بوصفه فضاء زمكانيا، فيُشكِّل الإطار العام لجريان الوقائع والأحداث. هذا، علاوة على اعتبار السجن ليلا، بحكم تداعياته المادية والنفسية المُتفاعلة. إن معظم وقائع النص تجري خلال فترات الليل. أكثر من ذلك، عاد الليل مُتحيِّزا مكانيا، ما يعني إطباقه على كل شيء. حالما يُطبق الليل، لا يعود هناك مجال للحديث عن جدران أو قضبان. وحتى في فترة النهار، لا يكاد يُدرك بصيصٌ للضوء، بحكم الفضاء المُغلَق الذي يؤطر تلك الوقائع. ارتداد ذلك الفضاء إلى مجرد غرفة مُغلقة، بإمكانه سبْر كثافة الليل وسعة انتشاره، مع ما يشيعه من أجواء نفسية ثقيلة.

كل ما هو مُغلق، بعبارة موجزة، يصير مُرادفا لليل. يمكن "أخذ" صورة عن هذا الفضاء المُهيمن/ السجن:

"أمرت وداد وأشارت إلى المطبخ، ثم إلى الطابق العلوي وأردفت:

- الدرج يغلق نهائيا

ثم أمرت الحراس: واحد أمام المطبخ، واحد أمام غرفة الحبس الانفرادي، واحد أمام الحمامات، واحد قرب الدرج، واثنان شرعا يرتجان الغرف، وسيلازمان البوابة بعدما تجتازها وداد متوعدة" (ص.192).

الليل لا علاقة له بالسمر، في حقيقة وجوده، بالمعنى الإيجابي العام له. فباستثناء ما يدل عليه الأخير من مُحادثة، فلا نكاد نتحصل من هذا "السمر" غير الألم والشقاء. مهما تعددت المحاولات، عبر التحايل على أجواء السجن القاسية، إلا أن الإطار العام المشهود بسلبيته يظل مُرخيا بكلكله. لا سمر حقيقي، على الإطلاق، داخل غرف السجن. من ناحية أخرى، لا نفتأ أن نجد الليل/ الإغلاق يتعضّد بدلالة الحجز/ المنع:

"ما شاء الله على المثقفات! ما شاء الله! ابتداء من هذه اللحظة: ممنوع من خروج أي واحدة من غرفتها إلا إلى المرحاض: من السابعة حتى الثامنة صباحا، ومن الخامسة حتى السادسة مساء. الرياضة ممنوعة، التلفزيون ممنوع، الزيارات ممنوعة" (ص.191)

من أساليب التحايل، على قسوة السجن، محاولة شَطْر فضائه العام (أي توزيعه) إلى فضاءات صغرى، حسب درجة الانغلاق- الانفتاح: غرفة السجن ليست هي ساحته، الغرفة الجماعية ليست هي الحبس الانفرادي، السجن نفسُه ليس هو المركز الأمني، وهكذا. ومُتابعةً لما كانت تهدر به الرائد وداد، مُوجِّهة توجيهاتها الصارمة إلى السجينات، يمكن لمس طبيعة التفاوت بين فضاءات الأسر بشكل عام: "أبسط مُخالفة ترجع بصاحبتها إلى المركز الأمني." السجن يصير أفضل من المركز، بحكم خفة وطأته على السجينـ (ـة).

الليالي، تحكيها النساء بأجسادهن المهدورة. والحكي، على هذا النحو، يكفّ أن يكون مجرد حديث/ سمر. إنه فعل مُقترن بالمعاناة والألم. بدل "سمر الليالي"، أحرى بالنص حمل عنوان آخر، من قبيل: ليالي الألم. السمر مجرد احتيال بلاغي، سرعان ما يتمّ الكشف عن توريته، عند المباشرة بقراءة الصفحات الأولى من النص. على مدار السيرورة الحكائية بكاملها، لا تكاد "الليالي" تتمخض عن "صباح"، إلا حين نقف على أعتاب آخر مقطع سردي. كل ما كان يبدو من أضواء، هي مجرد محاولات التفافية/ اصطناعية لمداراة قسوة ليالي السجن. لنقرإ المقطع الحواري أولا:

" قال وأصابعه تتطلع إليها، فكتبت على القصاصة:

"أنصت يا قلبي"

وقرأت العبارة، فقال:

"لفرح الأرض التي نشأت فيها."

كتبت العبارة، وقالت:

"لقد أضاءت الشمس."

قال:

"الرجل يتمرغ في حضن المرأة."

وقالت:

"المرأة تتمرغ في حضن الرجل."

وكانت أصابعهما تتعانق، والقلم والقصاصة يشهدان." (ص.260)

هكذا، تنتهي الحكاية- الرواية نهايتها السعيدة. كل ذلك الصراع مع الليل، داخل أسوار السجن وحُرّاسه، سيفضي إلى ضوء الشمس في آخر المطاف. ضوء الشمس هذا، من بين ما يعنيه: التصالح مع الجسد المهدور، كما التصالح مع قلم الكتابة. غير أن ذلك لا يتحقق بمعزل عن الرجل: بدل السّجّان المغتصب، يحلُّ الرفيق الحبيب. ولذلك، لا معنى لأن تكتب الأنثى لياليها السجنية وحدها. السؤال المطروح، آنفا، لم تعد له أية مصداقية الآن.

2. الليل خُنثى:
ضوء الشمس، يظهر، من جوف الليل، في الأخير. قرار إطلاق العنان للقلم، لكي يخطّ سيرة أسيرة رأي، فيه تعبير عن ولادة رمزيّة. تلازم النضال بالقلم والفعل (على أرض الواقع)، يعني ذروة الاكتمال والتلاحم: بين الرجل والمرأة، بين الجسد والروح، بين النظر والممارسة، إلخ. الليل رحِم، في خلفيته غرفة مُغلقة بسجن. وعلاوة على ذلك، فالليل أنثى تسكنه، تحاول الالتفاف على وحشته بالـ"سمر". السجن، نفسه، رحم. هل يمكن تصور رحم، مثل ما هي للسجن، أن تسفر عن أي ميلاد؟ لنقرإ المقطع التالي، ولنتأمل قوله:

"- علينا أن نشكر من سجنوا المثقفين، وخصوصا: الشيوعيين، ليصيروا كُتّابا، وخصوصا روائيين." (ص.246).

لنترك هذه الأنثى/ الليل ، وولادتها السعيدة مُجسَّدة بضوء الشمس. لكن، على أساس أن نتفرغ للحكاية (الرواية)، باعتبارها من مُترادفات الليل/ السجن/ الأنثى. إن الجسد، الذي يعنينا تشريحه، لا يخرج عن إطار جسد النص: جسد خنثوي. طبيعة هذا الجسد، أن هويتين جنسيتين تتفاعلان فيه: واحدة سردية، والثانية شعرية. الآن، سنتجاهل الهُويّة الأولى (إلا في ما قد يستدعيه السّياق)، وبالمقابل سيكون التركيز على الهُوية الشعرية. والسؤال المركزي، هنا، هو: ما مدى حجم حضور الشعر في "سمر الليالي"؟ أو بصياغة أخرى، السؤال: كيف يتحيّنُ البُعد الشعري في الرواية المذكورة؟

1.2. نُقط نمش على الوجه
في البداية، نشير إلى "اصطدامنا" بأكثر من صورة شعرية، كانت تعترض سبيل قراءتنا السردية. أكثر من ذلك، كان الاعتراض يأخذ معنى "العرقلة". بَدل مُجاراة تيّار السرد المُتدافع، كان الغوص لا يتعدى "بحيرة" الصورة الشعرية، هذه الاستعارية هنا، أو تلك الكنائية هناك. ولكن، هل وجود صورة هنا، وأخرى هناك، كفيل بصرف النظر: من السرد إلى الشعر؟ في مقاربة أولى، الأمر مُتّصل بدرجة الكثافة وحجمها، وإلا ستكون تلك "الصور" مجرد نقط نمش على وجه الفتاة.

ما من شك في أن تَصوّرنا للبعد الشعري، لا يكاد يشذ عن الإطار التقليدي لمفهوم الشعر، مُمثلا في الكثافة الإيقاعية مُعضّدة بالكثافة التصويرية. ومثلما اعتدنا الانطلاق، من "قلب" الشعرية البنيوية، سنقول: الشعر انزياح عن لغة النثر العادي، أو بالأحرى لغة التخاطب اليومي. ليس بأيدينا غير التسليم بهذا الحدّ، بدافع التفرغ لمقاربة بعض تجليات البُعد الشعري، مُجسدة في أنماط معينة من الصور (التخييلية أساسا). حين تأخذ اللغة حيزا مهما من عناية الكاتب، بحيث تصير موضوعا له، في ذاتها، يمكن أن نتحدث عما يصطلح عليه بـ"الوظيفة الشعرية". لنقرإ المقطع التالي:

"كان ياما كان في سالف العصر والأوان بنت اسمها ريّا حسان العبد جبهة كالمرآة المصقولة يزينها شعر حالك كأذناب الخيل إن أرسلته خلت السلاسل وإن مشطته قلت عناقيد جلّاها الوابل وحاجبين كأنما خُطّا بقلم أو سُوِّدا بحمم تقوسا على مثل عين ظبية بعين مهرة وبينهما أنف كحدّ السيف الصنيع تحميه وجنتان كالأرجوان في بياض كالجمان شُقّ فيه فم كالخاتم لذيذ المبسم فيه ثنايا غر ذات أشر تقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان وتلتقي فيه شفتان تحلبان ريقا كالشهد إذا دلك في رقبة بيضاء كالفضة ركبت على صدر مثل صدر الدمية وعضدان مدملجان يتصل بهما ذراعان ليس فيهما عظم يمسّ ولا عرق يجس بكفين دقيق عصبهما تعقد لو شئت منهما الأنامل في صميم الصدر تعالى ثديان كالرمانتين تحتهما (إلخ)" (ص.146).

حين نلتفت إلى لغة المقطع، تثير انتباهنا أمور عدة:

- التوارد القوي للصور التشبيهية، إلى حد أن "خط" السرد العمودي يتعطّل معها. إن كان من الضروري الحديث عن السرد، فهو لا يخرج عن نمط من السرد الأفقي، الذي تتوارد فيه الصور وتتلاحق، الواحدة في إثر الأخرى. ولعل ما يؤكد هذا التوارد/ التلاحق، إهمال الكاتب لعلامات الترقيم، التي من وظيفتها تنظيم المُتواليات التركيبية (الجُمَليّة والتعبيرية)، وبالتالي توزيع الدلالة وبناؤها؛

- البناء السّجعي، وما ينطوي عليه من عناصر إيقاعية، مُمثَّلة في أنماط متنوعة من التكرير والتوازي؛

- الخلفية الثراتية لعدد من الوحدات المُعجمية، من منظور كونها أدبية، لها نظائر في ما نُظم من شعر في عصوره الأولى.

السؤال، الآن، هو: هل كان الشاعر في حاجة إلى كل تلك الكثافة التصويرية- الإيقاعية، بقصد تقريب شخصية "ريّا"، في جوانبها المادية؟ جوابا عن ذلك، أتصور أن أكثر من وسيلة كانت هناك، للحدّ من جنوح اللغة الشعرية، لولا شغف الكاتب بشعرية النص/ الرواية. فإضافة إلى البُعد السردي لـ "كان يا ما كان"، وما باتت تنطوي عليه من دلالات، يبدو أن الهيمنة الكبرى، خلف تكثيف تلك "الصور"، كانت للوظيفة الشعرية. وبعبارة أخرى، السياق العام للمُقتطف النصي سردي، بالإحالة إلى العبارة السابقة المسكوكة، إلا أن جوهره شعري، نتيجة اختراقه بأكثر من صورة شعرية.

في محاولة للإحاطة بالبُعد الشعري، نرى أهمية رصد تجليات مستوياته، انطلاقا من الأبسط إلى الأعقد. وبالتأكيد، سيكون لزاما مُباشرة الوقوف على المقاطع الشعرية، كما في المقطع الزجلي التالي:

"نوم الهنا وخلّي السهر لعيوني

طيفك معي سهران جوّا جفوني

بمن اللي ردته ما تخلف لي ظنوني

تفرّح بنا اللوام ويدرو اعدانا

يا ليل عاليانا (ص.148).

أو في هذا المقطع الفصيح لعمارة الكلبي:

عذبوني بعــــــذاب /// قلعوا جوهر راســـــي

ثم زادوني عذابــــا /// نزعوا منــــي طساسي

بالمُدى حُزِّز لحمي /// وبأطراف المـــــواسي (ص.255)

فالحضور الشعري، في هذا المستوى، لا يحتاج إلى جهد كبير للكشف عنه، بالنظر إلى مُقومات عدّة تُميّزه، مثل: الوزن العروضي، القافية- الروي، التوزيع الفضائي للأبيات. غير أن هناك حضورا آخر أخفى، لا تظهر منه إلا التماعات، على القارئ أن تقوده إلى ما يسميه البعض النصوص الغائبة. من ذلك، الصوت الذي يقدم لـ"شهد" نصائح، في حقيقة أمرها نواه ينبغي الالتزام بها:

"لا تزوري بيت ريّا، لا تزوري بيتك السابق، اتركي المكتب، لا تزوري لويز ولا بيت لبيبة، لا تتصلي بمصطفى، وهي تأمر نفسها، وعبد الحكيم يأمرها، وأمر يطلع من أمر يطلع من كبد البحر أو من كبد المدينة أو من كبد السماء، وشهد تخشى ألا يكون قد بقي لها سوى الفرار أو السجن" (ص.112).

وَرَدَ المقطع في سياق التّرقُّب والتّوجُّس من الاعتقال. ولأن الأمر صار أقرب إلى التحقق من أي شيء آخر، دلالة على الحصار الذي غدت تعيشه شهد، جاءت العبارة الأخيرة: تخشى ألا يكون قد بقي لها سوى الفرار أو السجن. بالتأكيد، حين نقف، مليّا، عند العبارة الأخيرة، سنجد أن هناك تلميحا إلى بيتي الشاعر أبي فراس الحمداني، في قصيدته: "أراك عصيّ الدمعّ. والبيت المعنيّ بالتّناص التلميحي، قول الشاعر:

وقال أصيحابي الفرار أو الرّدى /// فقلت هما أمران أحلاهـــما مُـــرُّ

في مقابل الشاعر، الذي حصر خياراته في "الفرار" أو "الردى"، يذكر الكاتب أن ما تبقّى له لا يخرج عن: الفرار أو السجن. الخيار الأخير فيه تحويل للبيت، بما يتماشى مع موضوعة "السجن"، التي تُهيمن على "سمر الليالي". غير أن أبا فراس، على سبيل نوع من الاستدراك الدلالي، سرعان ما سيأتي على ذكر "الأسر" في البيت الموالي:

ولكنني أمضي لما لا يعيبنــــــي /// وحسبك من أمرين خيرهما الأسرُ

وليس بعيدا عن هذا النمط من التناص، يمكن قراءة قوله:

" (...) وتنعطف فجأة كأنها في سباق إلى الجبل أو إلى البادية، لكنها تتباطأ فجأة، وتنعطف بليونة إلى الطريق المحفوفة بالسرو، ومن بعيد يلوح واحد من البيوت العريقة في رأسه علم يخفق" (ص.153).

كما يبدو من عبارة "في رأسه علم"، فإن المقطع يُلمِّح إلى بيت الخنساء في رثاء أخيها صخر:

وإنّ صخرا لتهتمُّ الهُداة به /// كأنّه علم في رأسه نارُ

بقراءة أولى، يمكن وضع "اليد" على أهم التحويلات، التي أجرى الكاتب على بيت الخنساء. ولنا أن نُقدِّر التحويل الأبرز، الذي تمّ فيه وضع "البيت" بدل المرثيّ "صخر". ومع ذلك، فإن معاني الشهرة والوجاهة والعراقة لم تُمسّ في شيء، بحكم كونها المقصودة في السياقيْن معاً.

الأمثلة عن هذا النمط الشعري عديدة. ولذلك، علينا التّقدُّم نحو أنماط أخرى. الحضور الشعري، هنا، لا يكسب له معنى إلا من خلال "صور" جزئية، يبتدعها الكاتب نفسه. وفي هذا الإطار، نجد الحضور الشعري يتسع أكثر، ليكشف لنا عن نوعية "اللغة" المُوظّفة في النص. وإن كان الأخير مُسيَّجا بحدوده السردية (الروائية)، إلا أن ضَخَّه بقدر من الكثافة الشعرية، من شأنه أن ينحو به نحْوا مُختلفا. السرد "يتوهج" بالشعر، بالنظر إلى ما يطوله من حيويّة، سواء على مستوى حيوية الخطاب مُجسَّدة في "تنوعيته"، أم تمثيليته التي تقترب به من "العيْن"، وبالتالي تبتعد به عن التجريد. لا يسْلم جنس أدبي من شُبهة الشعر، فقط مساحة الكثافة ودرجتُها هما اللتان تظلان موضع مُقاربة.

سبق أن قدمنا لحشد هائل من الصور التشبيهية، على سبيل الاستشهاد بشعرية "سمر الليالي". والآن، نستطيع إضافة شيء آخر: الصور التشبيهية تُشكل ملمحا بارزا للشعرية المذكورة. أقرب إلى نص نثري، مثل النص الروائي الحالي، لا يوجد ما هو أكثر تلاؤما من صور التشبيه. والمقصود بها، تلك التي تحافظ على انسجام السياق، مهما شطّت في مقارنتها (بين شيئين). من الصور، نأخذ المثال التالي:

"تعودت شهد أن تسلم مساءاتها للبحر، تتكسر مثل أمواجه، من على الشرفة أو من على الرمل الرطب، (إلخ)" (ص.106).

قبل التعرض لصور التشبيه، ينبغي الإشارة إلى شعرية الموقف "الرومانسي" نفسه: مواجهة البحر وحيدة في المساء. ولأن السياق العام للنص، لا يكاد يختلف عن السياق التمثيلي الحالي، فلنا أن نتصور "حقيقة" البعد الشعري الذي يأخذ بتلابيب "سمر الليالي". العودة إلى عنوان الرواية، نفسه، وما يؤشر عليه دلاليا وفنيا، يمكن أن يفي بمطلوب ما نحن بصدده. بعد هذه الملاحظة، يمكن المُبادرة بطرح السؤال: من يتكسّر مثل الأمواج: ريّا أم مساءاتُها؟ لا يبدو أن هناك حاجة إلى أي سجال تركيبي- دلالي، مادام السِّياق العام يجعل المساءات مُلحقة بريّا، إلى درجة أنه يدفع باتِّجاه المُماهاة بينهما. لنا أن نتصور حال ريّا، مُمثَّلة في المساءات، وهي تتكسر مثل أمواج البحر. الإخراج المادي لما هو مجرد (نفسي)، أمكن من تصور فعل الانكسار الذي تواجهه ريّا: وحيدة على الشرفة، مساء، في مواجهة البحر.

وفي هذا السياق، يمكن حمل الصورة التالية:

"على الشرفة وقفت قلقة مثل الربيع الذي تأخر كما تأخر الشتاء" (ص.112.)

وبالموازاة مع هذا النمط من الحضور الشعري، في معظم صوره، إلا أننا لا نعدم مقاطع سردية تحتشد بأكثر من صورة. غير التي تقدم به السياق، أعلاه، هناك نمط مُختلف من الصور: الصور المُمتدّة. من الأمثلة الدالة، في هذا الإطار، قوله المُجتزأ:

"(...) ولا شهد خيري ولا الأستاذ عبد الحكيم وردة ولا مدام زكية مديرة الثانوية ولا أحد في هذه المدينة ولا أحد في الدنيا والآخرة إلا الرائد فادي شكر الله الذي صار صرخة والصرخة التي صارت صفعة والصفعة التي صارت خدا والخد الذي تشقق لتصير ريا صرخة والصرخة تدير الخد الايمن والخد الايسر يصير شررا يقدح مع العينين والعينان تتجمدان على صورة تتصدر الجدار الأملس" (ص.131).

وإن غاب التشبيه، في أشكاله النمطية المعهودة، إلا أن ذلك لا يَفْرق كثيرا. "الصرخة التي صارت صفعة"، يمكن تَمثُّل سيرورتها التصويرية، بناء على ثلاث فاعليات:

أ- التداعي: الصرخة تستدعي الصفعة، والصفعة تستدعي الخد، إلخ؛

ب- التمدد/ الامتداد: الطرف الأول من "الخيط"، لا يكاد يؤدي إلى طرفه الأقصى، إلا بعد "إحراق" مسافة مُعتبرة، تتشكل من الصور البينية؛

ج- الحركية: فمن خلال التداعي، حيث يأخذ السابق بـ"خناق" اللاحق، نستطيع تمثل البعد الحركي للصورة الشمولية، في انتقالها من الواحدة إلى الأخرى؛

د- الذروة: بارتباط مع بُعد الحركة، من شأن الصورة المُمتدة، لكي يكون لها مآل في نهاية المطاف، أن تتنتهي إلى ذروة مُعيّنة، وإلا فإن الصورة لن يُكتب لها أن تنتهي بفعل التداعي الحرّ. نصيا، الصورة تنتهي على ما يرد بعد نقطتي "الشرح" أو "التفسير" أو ما شابه. هكذا، بعد ورود عبارة "الجدار الأملس" مُقترنة بنقطتين تفسيريتين بعدها، يمكن معرفة ما انفتحت عليه تلك الصورة:

"نعم نعم يخرج حسان العيد من الصورة ليقود ريا إلى عرسها فتهرب ريا إلى شجرة الجوز في وادي العرقوب ويهز الرائد فادي جذع الشجرة فتساقط ريا عند قدميه رطبا ليشدها من شعرها حتى تقف ملتوية (إلخ)" (ص.131).

ومن نفس هذا التمظهر البلاغي، الذي يتمدد حول نفسه، ويدور عبر شكل من التداعي، يمكن قراءة:

"هذا الرجل الذي كان بلا اسم ولا صفة يخرج من جلد الرائد فادي ويعود بلا اسم ولا صفة كما كان عندما اعتُقلت ريا أول مرة وها هو مكتب الرائد فادي يخرج أيضا من مكتب الرائد فادي أو من مكتب المقدم زاهر ويعود غرفة ضيقة وداكنة وعارية والرجل الذي بلا اسم ولا صفة يصير أصابع تشد شعر ريا إلى الخلف فينخلع منها قلبها وتجحظ عيناها وتهجم على وجهها ضفتا الرجل أو شارباه أو حاجباه المقرونان ورأس ريا ينخلع منها كما تنخلع البصقة من شفتيها والآهة من من صدرها والصيحة من حلقها والدمعة من مقلتيها (إلخ)" (ص.132).

في شكل آخر، من الصور المُتداعية، نجد الانتقال يأخذ حركته من "حقل" دلالي باتجاه آخر مُختلف. والملاحظ أن ما يجمع بين الحقول المتداعية، أنها تنطلق من وحدة الفعل (أو الصّفة)، كما في "الإرعاد" في قوله:

"أرعد صدر شهد كما أرعدت الزنزانة رقم3 بريا، أو كما أرعدت الزنزانة رقم5 بمصطفى، أو كما ترعد السماء الآن" (ص.104).

هل احتاج صدر ريّا، مثل الزنزانتين 3و5، إلى ما يُقرِّب فعله "الإرعادي" ذاك إلى التصور، عبر "الإخراج" المادي له في صورة "إرعاد السماء"؟.

2.2. الجنس المُتخفّي- المُتحوِّل
يمكن أن يستفيد التحليل الأدبي، في ما نحن بصدد مُقاربته، من الدرس البلاغي، بالوقوف على وجوه التشبيه والاستعارة والجناس والسّجع. كما أن التحليل ذاته يمكن أن يستفيد، في مستوى آخر، من توسيع زاوية النظر البلاغية، بحيث تكون ذات طابع تركيبي- شمولي. ذلك أن كل صورة شعرية، مُحتوية على وجه بلاغي مُعين، ينبغي النظر إليها باعتبارها "بؤرة" دلالية- فنية، بها يتحقق تماسك المجموع النصي وانسجامه.

أتصور أن هذا ما ابتدأنا به، حين انطلقنا من استعارة كبرىّ ذات أضلاع ثلاثة: الليل/ السجن/ المرأة. بعد هذه الاستعارة المُركَّبة، بمستطاعنا استشراف مُختلف الثنائيات، التي تسير في هَدْيها ورَكْبها. وإذ جرى اختيار الأضلاع/ الأطراف الثلاثة، بالنظر إلى هيمنة حضورها نصيا. علاوة على ذلك، لا ينبغي إغفال أن تلك الاستعارة الثلاثية، التي يشفُّ فيها كل طرف عن آخر، تبلور قدرة تمثيلية هائلة: الزمان (الليل)، المكان (السجن)، الفاعل (المرأة). وإن شئنا تقدير اتِّجاه الحركة، فهي تقدمية باتجاه "الأمام":

  • الليل: باتجاه الصباح؛
  • السجن: باتجاه الخارج؛
  • المرأة: باتجاه المرأة-الرجل.

مُختلف الوقائع، داخل النص الروائي، كانت تشهد احتقانا (أو مخاضا)، في سيرورته إلى الانفجار الحتمي (الولادة). الخروج إلى ضوء الشمس، وبداية كتابة التاريخ (مع الرفيق)، يُشكِّلان النهاية والبداية السعيدتين: نهاية مسار وبداية آخر.

الآن، سنترك الاستعارة إلى حالها، دون أن يضعف لنا "إيمان" بها، أي بقدرتها على إعادة بناء النص دلاليا وفنيا. ذلك أن التحليل الأدبي، من الزاوية الاستعارية، من شأنه أن يقف بنا على بنيات الحذف، التي نفترض أن النص لجأ إليها. و"السكوت" المقصود يأخذ بُعدا شعريا، هنا، بالإحالة إلى أسلوبين رئيسين تمّ اعتمادهما:

أ- الالتباس:
الوجوه البلاغية، في مجموعها، ما هي إلا وسائل لتحقيق هذا "الالتباس"، وتجسيده على "أرض" النص. الإيحاء الشعري، بمعنى ما، يغدو التباسا. وبالإحالة إلى جنس الرواية، يمكن الزعم بكون تلك الوجوه تسير باتِّجاه خرق ما يمكن تسميته "الوضوح السردي"، وبخاصة حين النظر إلى سعة الكثافة وسُمْكها. ما نعنيه بالالتباس، في مستوى أعمق، يتجاوز حدود الوجوه البلاغية (الموضعية): التشبيه، الاستعارة، الجناس، إلخ.

الالتباس ينشأ، علاوة على ما ذُكر، عن تداعي الجمل، بعضها في إثر بعض، دون وجود لعلامات الترقيم، التي من شأنها أن تنظم مُتواليات السرد. وبالموازاة مع هذا الأسلوب، كنا نلحظ لغات مُتعددة، ومُتفاعلة في ما بينها: لغة داخل لغة. ومن تجليات ذلك، أن نجد لغة الحكاية القديمة، بمعجمها وسياقها الثقافي، تخترق النص الروائي. الأمر أشبه باستعارة لغة "ألف ليلة"، وتوظيفها داخل خطاب "سمر الليالي". أليست أجواء السمر، نفسُها، تستدعي ذلك؟. لنقرإ المقطع التالي:

"شهد ونشوى وبانة يغسلن بمنقوع الغار والريحان أطراف الملكة، الملكة ترفل بالحرير الملون، الوصيفات يسرحن شعر الملكة ويرشرشنها بالطيب" (ص.220).

من شأن مثل هذه المُتواليات السردية، وما تحمله من أجواء ثقافية، أن تنقلنا من فضاء إلى فضاء: من السجون وحُرّاسها وقهرها إلى القصور وعبيدها ونعيمها. كان ذلك، على الرغم من ورود المقطع السابق، في سياق من وسوسة "الصوت" للعقيد زاهر بمعاقبة ريا. من ناحية أخرى، نلاحظُ تَقصُّدا لـ"صنع" الالتباس، حين نجد السياقات الزمنية تتداخل في ما بينها. ففي الوقت الذي كان يقرأ العقيد زاهر تقرير النقيب عاتكة، مُصَمِّما على مُعاقبة السجينات، يرتدُّ المشهد إلى "وراء"، فجأة، في استعادة لـ"ريا" بصالون أختها عاتكة، وهي بصدد التعزية بمن قتله الرائد فادي بالجيتسكي.

غير ما مرة، كانت تتعثر القراءة نتيجة "كمين" ما، منصوب بعناية داخل النص. ويبدو أن في هذا بعضا، مما يمكن الإحالة إلى مسؤوليته، في ما يتعلق بتعطيل الخطّ السردي "سمر الليالي". وإذا أضفنا إليه الاستمداد من لغة السرود القديمة، مع ما تحتمله من أجواء ثقافية خيالية/ غريبة، اتضحت طبيعة النص الفنية المُركَّبة. ولكن، لماذا كان يحصل الإمعان في إحداث الالتباس؟

الالتباس مُقوِّم فني في مختلف النصوص الإبداعية. وإن تغاضينا عن الكلمة، بحكم ما تستثيره من دلالات مطّاطة، يمكن الاستعاضة عنها بمصطلح "المجاز". المجاز، في حقيقة أمره، التباس. غير أن هذا التفسير الفني، من مُنطلق إحدى أهم وظائف المجاز، هناك تفسير آخر: السكوت عن "أمور"، تشكل سلطة "قاهرة"، بحدّ ذاتها، سواء أكانت مادية أم ثقافية. لنقرأ المقطع الآتي:

"فتنبت لزاهر حراشفه، ويتلبد شعر صدره، ويسيل لعابه وتطول أنيابه وأظافره، ويغلظ عضوه، ويشخر وهو ينقض على الفريسة التي نسيت أنها سجينة (...)" (ص.222).

كل العبارات السردية، أعلاه، جاءت في سياق شَبَقيّ. ما جعلها تبتعد عن البورنوغرافيا، تلك اللغة الإيحائية التي كُتبت بها. السؤال الاستنكاري، الآن، هو: ما معنى "تطول أنيابه وأظافره"؟ وقَبْله، ما معنى "يتهجد لشفتيها ووجنتيها وثدييها"؟، وما معنى "يتقشّر من حراشفه ويتوحّد بها"؟. لغة الجنس تأتي بشكل مُوارب هنا: تظهر حتّى تشفّ حينا، ثم تخفّ حتى تكاد تخفى أحيانا. أي سلطة ثقافية (رمزيّة) تجعل "التَّكْنِيَة" تقوم مقام التّصريح: الدّين وشُيوخُه؟. ما يمكن الاكتفاء بقوله، على سبيل الاختزال، أن النص كان مجالا لإثارة موضوع: المرأة والدين..ذلك، كان ولو حتى بشكل عابر.

ب- التّورية:
يحتشد النص بعدد هائل من الشخصيات، وبخاصة النسائية منها. إلى ذلك، تَتعدَّد الفضاءات، ومنها السجن بشكل مركزي. أُريد للنص، باختصار، أن يحكي عن نساء سجينات. من مركز الأمن إلى السجن، كانت هناك حركة دائبة لنساء فاعلات، تعدّدت بهن الطوائف الدينية والمذهبية، مثلما تعدّدت الخلفيّات الاجتماعية والإيديولوجية. من بين سمات النص الكبرى، هذا التّعدُّد الهائل على صعيد كل شيء: الشخصيات، اللغات، الخلفيات، المواقف، إلخ.

مع تقدير كل ذلك التعدُّد، ينبغي تسجيل أحد الاستنتاجات الأكثر بُروزا: الطابع التجريدي لـ "سمر الليالي". فمع العناية بتحديد الخلفيات الإيديولوجية، لكل واحدة من سجينات الرأي والموقف، إلا أن نضالاتهن تبدو كأنها مُوجَّهة من بعضهن ضد بعض، أو مُوجَّهة منهن جميعا إلى سلطات السجن وأجهزته. التناقض الأكبر مع الطرف الآخر الرئيس في مُعادلة الصراع، ظل تغييبه ماثلا إلى نهاية النص. ولذلك، يمكن التساؤل بالصيغة الاستفهامية التالية: هل يقف قصارى "جهد" الرواية، في كليتها، عند التعبير عن المعاناة الإنسانية لمجموعة من المُناضلات"؟ تَناوُل "الكلمة" باسمهن، أي نيابة عنهنّ، بعد أن لوحظ قصورهن في هذا النوع من الكتابة؟

خارج ما يستشرفه السؤالان، لا يكاد يُرى مضمون لنضالية أولئك النساء. وأتصور أن نتيجة لذلك، أساسا، تأخذ الرواية بُعدا "تجريديا". ولولا إشارات مُحددة، مُتباعدة عن بعضها البعض، ما كان للنص أن يُؤسس مرجعية "نضالية" له: تاريخية، بمعنى الإحالة إلى التوثيق الزمني، على الأقل. ومن ذلك، ما يمكن التّمثيل له بهذه الإشارات:

- " (...) وربما كان جارا لشهد أو لريّا وربما نقم كما نقمتا على الأمريكيين ومن معهم من العرب ومن غير العرب لأنهم غزوا العراق كما نقم على العراق لأنه غزا الكويت أو هجّر مئات الآلاف من أبنائه من حرب إلى منفى ومن منفى إلى حرب" (ص.149)؛

- " (...) الأبواب لم تغلق في الموعد المقدس، البرد يقسو، التلفزيون يعرض لنفسه للمرة الثانية خلال هذه السنة مسلسل (ليالي الحلمية)" (ص.177).

- " (...) والموسيقى لا تكاد تهدأ حتى تصطخب، كأنها البحر: بريتني سبيرز تُغني: من أعماق قلبي، وجنيفر لويز ستغني: في انتظار الليلة: أية ليلة يا شهد؟" (ص. 109)؛

- " بين مسلسل التنازل الفلسطيني في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ومسلسل القصف الجوي الأمريكي البريطاني للعراق، ومسلسل الملاحقة التركية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في العراق أيضا، انتظر عبد الحكيم في سيارته خروج شهد من شركة الكهرباء" (ص.109)؛

- "(...) وفي حمأة المناداة العالمية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، على أبواب القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، لا يليق بأية سلطة عربية، أو أية سلطة شبيهة، أن تسجن عشرات النساء (...)" (ص.230).

باستثناء مثل هذا الإشارات "التوثيقية" المُتفرِّقة، لا نعثر إلا على ما يحيل إلى التاريخ، من حيث هو خلفية ثقافية لا أقل ولا أكثر. الماضي والحاضر، في تواصلهما وتفاعلهما، يكادان يَشفّان عن الجوهر ذاته: سحق إنسانية "العربي" في توقه إلى الحرية. سجن من التاريخ، أو تاريخ من السجن، لا يكاد يختلف المعنى فيهما. الجميع ينهض من سُباته التاريخي، ليلتقوا ويجتمعوا على استكمال تراجيديا سيرورة الآلام العربية: زياد بن أبيه، عمرو بن الحمق، عبيد الله بن زياد، سيدنا الحسين وصحبه، المعتمد بن عباد، بشر بن مروان، بشار بن برد، صالح بن عبد القدوس، إلخ.

ترى من يكون هذا الذي "بلا اسم ولا صفة"، والذي تكرر وروده في أكثر من موضع من النص؟ بدون تَردُّد، يمكن الزَّعم بكونه "الجوهر"، ما فوق التاريخي، الثّابت الذي لا يتغيّر: وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة والأحداث والأبطال. وما السُّجون العربية، وما تشهده من فظائع، إلا وجها واحدا لهذا الجوهر. ومهما تَعدَّدت هذه السُّجون، أسماؤها وتواريخها وأمكنتها، إلا أنها تظلُّ واحدة "كأنها تقرأ فصلا من رواية عن السجون والمعتقلات العربية الآن" (ص.231). في تعليقات متنوعة لشخصيات، تابعت محاضرة شهد عن حقوق الإنسان، ينبري صوت بهذا التعليق الحاسم: "عن سجن وتعذيب كل من يعارض أو تعارض الحاكم، لأي سبب." (ص.231).

  • أي حاكم؟ أية معارضة؟

بعبارة مُوجَزة، الأمر يتعلق بمُعارضة الحاكم العربي، على مدار التاريخ، وفي كل بلاد العرب. هل من معنى للوحدة العربية خارج هذا النطاق (السجن العربي)؟. في إثر سؤال لإحدى السجينات (ص.217):

  • حدا بيحكي بالوحدة العربية اليوم غير المجانين؟

ومع أن الرد جاء سريعا، لإثبات أن هناك من يحكي عن القوميّة وفلسطين، إلا أن صدى السؤال الأول ما يزال يملأ الأجواء. بالفعل، هل هناك معنى للوحدة العربية، خارج إطار هذا السجن العربي المفتوح؟

هل اتضحت "التورية" الآن؟

أتصور أن تجريدية "سمر الليالي"، المقصودة هنا، راجعة إلى هذه التورية الكبرى. ففيما تسعى الرواية إلى "تغطية" واقع السجون العربية، لا نكاد نحصل من ذلك إلا على رجع لأصوات من التاريخ: حيث لا "حاكم" بالاسم تتمُّ مُعارضته، ولا "نظام" بالصفة يرتفع صوت النضال (النسائي في الرواية) بوجهه. حتى السجن، نفسه، نجده يتحيّز في لا مكان ولا زمان (مَرجِعييْن)، حتى وإن كُنا نعرف أنه سجن عربي .. سجن نساء، تتردد منه أغنية:

"هيه يا سجاني

هيه يا عتم الزنزاني" (ص.146).