تقدم لنا الباحثة السورية هنا واحدة من علامات الثقافة العربية السورية في العصر الحديث لا يعرفها الكثيرون، وتتبع مسيرة حياتها الشيقة من سوريا إلى باريس إلى المكسيك، وكيف صارت علما ثقافيا فيها، ثم تعرفنا على إنجازاتها الكثيرة، وبعض استبصاراتها التي استشرفت فيها ما يدور اليوم.

إكرام أنطاكي المتألقة في فضاءات الغربة

والمسكونة بخيبات الوطن

إيمان القاضي

 

إكرام أنطاكي كاتبة مكسيكية من أصل سوري، حازت شهرة واسعة في المكسيك بعد فترة غير طويلة على هجرتها إلى هناك، وباتت علماً فكرياً بارزاً وشديد التأثير في الثقافة والمجتمع المكسيكيين، لكن لم يقرأ لها، أو يقرأ عنها إلا القلائل من السوريين والعرب. ولعل هذه السطور تكون دعوة للمترجمين عن الإسبانية إلى الاطلاع على نتاجها الفكري والأدبي الغزير، وتقديمه إلى القارئ العربي.

لا تستمد أنطاكي أهميتها مما أنتجته من أدب وفكر فحسب، بل من تجربتها الإنسانية الفريدة، ومن كونها نموذجاً للنساء السوريات اللاتي انخرطن في الحياة السياسية والفكرية في سورية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، واللواتي سعين بحماسة إلى التغيير، ومارسنّ الأنشطة الفكرية والسياسية عبرالانضمام إلى الأحزاب الناشطة آنذاك، ونشرالأعمال الأدبية شعراً ونثراً. كان الأمل يحدو هؤلاء النسوة، مع أشقائهن الرجال، برؤية مجتمع سوري متطور، متحرر من كل درن اجتماعي أواقتصادي أو سياسي. لكن المأمول كان مغايراً للواقع الصلب المقاوم لأي تغيير حقيقي، والطارد لأبنائه إلى أقاصي المعمورة، إلى مجتمعات جديدة، شديدة البعد عنا ثقافياً واجتماعياً، وإن كانت قريبة منا إنسانياً. هذه المجتمعات على انفتاحها وترحيبها بالوافدين الجدد، من الصعب أن تكون ملجأ للروح، ولهذا كانت أنطاكي ترغب بالعودة إلى الوطن، وتحلم بأن يضم ثراه رفاتها، وأن تحملها إلى مثواها الأخيرأيد حانية، لكن المنية عاجلتها أواخر عام 2000، في العاصمة المكسيكية، وهي في ربيعها الثالث والخمسين.

ولدت أنطاكي في مدينة دمشق عام 1947 لأسرة برجوازية مثقفة. كان جدها بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وآخر محافظ لمدينة أنطاكية في لواء الإسكندرون، قبل أن تمنحه سلطة الانتداب الفرنسي للأتراك عام 1939. وكانت والدتها عاشقة للأدب الروسي. دخلت مدرسة (دار السلام) العريقة في دمشق وعمرها أربع سنوات، وأنهت فيها المرحلة الثانوية؛ فأتقنت الفرنسية إلى جانب العربية.

ورثت أنطاكي عن أسرتها مكتبة ضخمة وتوقاً كبيراً للمعرفة. كانت قارئة نهمة منذ نعومة أظفارها، وتعلم ما تريد أن تكون عليه في المستقبل؛ فخطت، وهي في الثامنة من عمرها، على دفتر مذكراتها، عناوين الكتب التي ستؤلفها عندما تكبر(1). وفي مطلع شبابها كانت تعتزل الناس أحياناً في منزل أسرتها الريفي في الزبداني؛ لتقرأ عدداً من الكتب؛ ولتدون ما طاب لها من الصفحات، على ما يروي صديق شبابها الدكتور توفيق عبيد البطل(2). وكانت تهوى الرسم، ولها العديد من اللوحات التشكيلية.

انتسبت عام 1965 إلى قسم اللغة الفرنسية في جامعة دمشق. وكانت خلال دراستها في الجامعة ناشطة بارزة في الحزب الشيوعي السوري، الذي انتسبت إليه عام 1963، وهي في المرحلة الثانوية، إيماناً منها بمبادئه وعقيدته، ووهبته حينها " كل حياتها ونشاطها"(3). عام 1969 غادرت دمشق إلى فرنسا؛ لتدرس الأدب المقارن، وعلم الأقوام في جامعة باريس السابعة. أعدت أطروحة ماجستيرعن مجتمع بلدة دير عطية في ريف دمشق، ورسالة دكتوراه عن طائفة الدروز في السويداء في جنوب سورية، وهي دراسة فريدة من نوعها؛ إذ قل أن قدّم أحد دراسة أكاديمية عن هذه الطائفة من خارج أبنائها.

قضت في باريس ستة أعوام انتسبت خلالها إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وظلت خلالها على صلة بالحزب الشيوعي السوري. وفي عام 1975 عادت إلى دمشق؛ فاصطدمت بالواقع المحلي الحزبي والثقافي، ومرت بتجارب قاسية، دفعتها إلى ترك الحزب، والهجرة إلى أبعد مكان يفصلها عن دمشق. لم تكن تعرف حينها أيّ بلد هو الأكثر بعداً عن دمشق، فما كان منها إلا أن أحضرت خريطة للعالم، وأمسكت بفرجار، فوضعت ساقه الأولى على مدينة دمشق، وفتحته إلى أقصى مدى، فكان أن وصلت الساق الأخرى منه إلى بلد اسمه المكسيك؛ فقررت الهجرة إليه.

هذه الحادثة تلخص شخصيتها الجريئة، المتمردة، العصية على التدجين، التي لا تعرف الخوف أو الاستكانة، ولا تهاب المجهول. يجمع كلّ من عرفها، وكتب عنها قبل هجرتها، على أنها كانت إلى جانب ذكائها الوقاد، صارمة الاستقامة، حادة الصدق، لا تغلف آراءها بمعسول المجاملات؛ لهذا كان يخشاها رفاقها، حتى الذين كانوا في مواقع حزبية هامة، ولم يكن من السهل أن يقبلوا بها بين صفوفهم، فقررت الرحيل عنهم.

قبل هجرتها إلى المكسيك نشرت عام 1975 ديوانها الأول، ومؤلفها اليتيم باللغة العربية، بعنوان " ذكريات حنا المعافى حتى موته". في هذا الديوان تبنت قصيدة النثر الثائرة على اللغة، والمشبعة بالرموز. وقد عكس هذا الديوان روحها الشابة المتمردة على كل ما هو مألوف، والطامحة إلى التغيير. تقول في مراجعة لمرحلة شبابها: " كنَّا نعرف كلّ شيء، ونحاسب العالم كلَّه. كنَّا حكاماً على العالم كلّه، وعلى الناس، وعلى الأفكار. كنَّا نريد أن نصحح كلَّ شيء."(4)

عندما وصلت أنطاكي إلى العاصمة المكسيكية أواخرعام 1975، وبحوزتها القليل من المال، بدأت التعرف على معالم المدينة، والسير على طرقاتها. وفي اليوم الثالث عشر لوصولها دخلت مكتبة، وهي العاشقة للكتب. وفي هذه المكتبة خطّ القدر لها مساراً جديداً، حفرعمقاً في روحها وتكوينها، وظل ملازماً لها طوال حياتها. هناك التقت بمثقف مكسيكي من السكان الأصليين، وكان للمصادفة عضواً في الحزب الشيوعي المكسيكي. نشأت علاقة صداقة بينهما، تطورت إلى زواج، أثمر ولادة ابنها الوحيد الذي أسمته اسماً عربياً صريحاً (مروان)*. اتصلت هناك بالحركة الشيوعية المكسيكية، فخاب ظنها من جديد، ولم تكن تجربتها الحزبية الجديدة بأفضل من سابقتيها في دمشق وباريس؛ فانفصلت عن زوجها، وطلقت العمل السياسي طلاقاً بائناً. وحدث التحوّل الفكري الكبير في حياتها؛ إذ أعادت النظر في العقائد التي اعتنقتها، وحصرت كل جهدها ومعركتها في الحياة بتحصيل المعرفة بمفهومها الواسع، وباتت المعرفة لاحقاً متعتها الوحيدة في الحياة.

يذكر أخو الكاتبة -المهندس والكاتب والمترجم- أكرم أنطاكي أن حياة أخته هناك لم تكن سهلة، ولم تعش طوال حياتها يومًا واحداً سهلاً (5). هناك ذاقت للمرة الأولى طعم الفقر، وتحمّلت بمفردها مسؤولية تنشئة ابنها، وتأمين احتياجاته المادية. وبدأت تُدرِّس في الجامعات المكسيكية الثقافة العربية والإسلامية، بعد أن أتقنت اللغة الإسبانية بفترة قياسية.

وَلَعُهُا بتحصيل المعرفة أعادها إلى مقاعد الدراسة؛ فدرست الفلسفة في إحدى الجامعات المكسيكية، وحصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراه فيها. والفلسفة قادتها، وهي بعمر السابعة والثلاثين، إلى الانتساب إلى كلية العلوم؛ لتدرس علم الفلك، أو ما يعرف بـ "الأستروفيزياء"؛ اقتفاء لخطى الفلاسفة القدماء الذين جمعوا بين الفلسفة والرياضيات وعلم الفلك، ولأنها أرادت – كما تقول- أن تتعلم قوانين السماء.

نشرت أنطاكي تسعة وعشرين كتاباً، معظمها باللغة الإسبانية، في أجناس أدبية وبحثية متعددة. نظمت الشعر بالإسبانية إلى جانب العربية، وكتبت الرواية والقصة والدراسات في مجموعة واسعة من الموضوعات: الفلسفية والاجتماعية ،والعلمية، والفنية، والأدبية، والدينية والسياسية. وكتبت المقالات الصحفية. وأجرت عام 1980 مقابلة صحفية مطولة مع ياسرعرفات، نشرتها في كتاب مستقل.

في عام 1989 نشرت كتاب (ثقافة العرب)، فنالت عليه جائزة الدولة القيمة (ماجدة دوناتو). وهذا الكتاب كما تقول الكاتبة الإسبانية روساليا لوبث إيريدا " أبرز انتماءها إلى ثقافتها الأصلية دون انحياز ... وتناول أصل ثقافة العرب ومراحل تكوينها من وجهة نظر ومنظورعالمة الأنثروبولوجيا التي تحاول أن تقدم تفسيرًا لخصوصية الإنسان العربي في المجالات المختلفة، اللغوية والفلسفية والفنية والقيمية والحقوقية، وفي محيطه التاريخي والاجتماعي."(6)

وفي عام 1990 نشرت كتاب (الثقافة الثالثة: حول جذورنا العربية الإسلامية: دراسة ثقافية)، فحازت عليه جائزة كتاب السنة في الفن لذلك العام. وفي هذين الكتابين وغيرهما " ظلت وفية لثقافتها العربية، حريصة على أن يحتل البعد العقلاني مكانه في كل كتاباتها"(7)

عملتْ أنطاكي لأكثر من سبع سنوات مستشارة للشؤون العربية والإسلامية في مكتب رئاسة الجمهورية في المكسيك. وتعاونت مع قناة تلفزيونية مكسيكية وأخرى إذاعية، وقدّمت برنامجاً إذاعياً ذاع صيته، أسمته (مأدبة أفلاطون). وقد أكسبها هذا البرنامج شهرة واسعة، واحتراماً عظيماً بين الخاصة والعامة من أبناء وطنها الجديد، حتى باتت تلقب بـ (المعلمة). قدّمت في هذا البرنامج محاضرات إذاعية في موضوعات ثقافية وأدبية وفنية وعلمية وسياسية وحياتية شتى، وكانت هي المتحدثة الوحيدة فيه. لقد حولت في هذا البرنامج الموضوعات الثقافية والفلسفية التي طرحتها بأسلوب سهل من موضوعات للنخبة إلى موضوعات متابعة من شريحة واسعة من المكسكيين، وهذا ما جعل البرنامج يحتل عام 1998 المرتبة الثانية بعدد المتابعين بعد نشرة الأخبار. تقول: "لقد اكتشفت في هذا البلد أني أستاذة جيدة وليس فقط كاتبة، وأنا إنسانة تعرف بعض الأشياء، ولا أريد أن أحتفظ بها لنفسي فقط ، إنّما أبغي أن يشاركني بها الآخرون"(8). وما زالت هذه المحاضرات الإذاعية، وبعض المحاضرات المتلفزة المرفوعة على موقع (يوتيوب) تحظى بمتابعة الآلاف من المكسيكيين. وما زالت تعليقات المتابعين لها، بعد عشرين سنة على وفاتها، تظهر تقديرهم الكبير لفكرها، وافتقادهم لإسهامها في الحياة الفكرية والثقافية المكسيكية. لاحقاً نُشِرت هذه المحاضرات في اثني عشر مجلداً بين عامي (1996 - 2001 ).

يعجب المرء حقاً لموسوعية معرفة الكاتبة إكرام أنطاكي. والقارئ لكتابها (على منعطف الألفية) المنشور عام 2000 بالإسبانية، والمترجم إلى الإنجليزية عام 2016، يدهش للكم الكبير من المعرفة المتشعبة التي تمتلكها، وتعرضها في ثناياه، وكأن منجزات التاريخ البشري كتاب مفتوح أمامها، تقرأ منه بفصاحة ويقين. في هذا الكتاب أوجزت مسيرة البشرية في ألفي سنة، وعرضت رأيها فيما وصلت إليه البشرية نهاية الألفية الثانية. صحيح أنها لم تأت فيه برؤية فلسفية جديدة، إلا أنها حذّرت من توحش العولمة، واقتصاد السوق، وسيطرة قلة قليلة على اقتصادات العالم، وبالتالي سياساته. وأعلنت موت الأيديولوجيات الكبيرة، بما فيها الماركسية التي آمنت بها في مرحلة شبابها.

رأت الكاتبة أن نهاية القرن العشرين شهدت نهاية الديمقراطية التمثيلية الحقة، ونهاية الأخلاق، ونهاية النموذج البطل، المعلم، الحكيم. وشهدت سيطرة نموذج الإنسان العادي الذي يروج له الإعلام، كنموذج الليدي ديانا. المواطنون ما عادوا يختارون ممثليهم وحكامهم لخيار سياسي وأخلاقي، بل تبعاً لحضور هؤلاء في المشهد الإعلامي ومجتمع الصورة، وتبعاً لما يمتلكون من قوة اقتصادية. إنه زمن سيطرة الأسواق المالية وشبكات المعلومات. زمن سيادة دين جديد هو دين السوق و"آخر الأنبياء هم أنبياء الإنترنت"(9). أما النخب القليلة العدد المهيمنة على الاقتصاد العالمي، فهي تعمل خارج أشكال التمثيل السياسي والاجتماعي وشرعية الدول. تقول: "التاريخ الحديث للعالم هو تاريخ عودة الغزاة، وظهور همجية جديدة. ونحن بعيدون عن أن تكون لدينا سلطات تستند إلى السلطة الأخلاقية الممنوحة من المعرفة العلمية والتكنولوجية المتقدمة."(10) وهؤلاء الغزاة، لا يعملون خفية، ولا يحيكون المؤامرات بسرية تامة، بل يعملون بوضح النهار، للسيطرة على السلطة السياسية، وإخضاع الأمم لقوانينهم. ولمواجهة هذا الواقع الجديد تدعو إلى مجموعة إجراءات دولية ووطنية، من مثل: القضاء على السرية المصرفية، والملاذات الضريبية الآمنة، ودعم الحركات النقابية غير الحكومية، وتعميم الرقابة الديمقراطية من خلال تعزيز دور البرلمانات.

في عام 1994 نشرت رواية (روح قرطبة)، ولعلها أهم أعمالها. بطلا هذه الرواية الفيلسوفان الأندلسيان: ابن رشد وابن ميمون، اللّذان عاشا في القرن الرابع الهجري، الثاني عشر الميلادي. تقول عن سبب تأليفها لهذه الرواية إن " كبيري ذلك العصر اللّذين عاشا في نفس المدينة، لم يفصلهما زمنيّاً إلا حوالي الثماني أو التسع سنوات، لم يتعرف واحدهما إلى الآخر! فرأيت أن "أصلح" هذا الخطأ التاريخي، وأعرِّف كلاً منهما إلى الآخر."(11). تَحاوَرَ هذان الفيلسوفان في الرواية بموضوعات عديدة: بالفلسفة والرياضيات والشعر وعلم الفلك والطب والقانون والسياسة وغيرها. وأتت بشخصية خيالية أسمتها (زيدون)؛ لتحاور الفيلسوفين ولتكون الناطقة باسمها.

ولأن هؤلاء الثلاثة كانوا رجالاً استحضرت من بداية القرن الخامس الميلادي شخصية الفيلسوفة (هيباشيا) التي قتلها الرّعاع، وأحرقوا جثتها ومكتبها. أرادتها أن تكون صوت المرأة في الرواية، وأن تجسّد عذابات المرأة النوعية الخاصة الممتدة حتى القرن العشرين، والمشابهة لعذابات الكاتبة. فليس من السهل أن يعترف المجتمع بالمرأة خارج حدود أنوثتها، وليس من اليسير على المرأة أن تتفرّغ لمعاركها الفكرية.

لا تقدّم هذه الرواية حواراً بين فيلسوفين أندلسيين فحسب، بل تتحدث عن بداية الحضارة الحديثة، ودور العرب فيها عبر ترجمتهم للنصوص الإغريقية التي فتنوا بها، والتي انتقلت عبر جزيرة بادو إلى فرنسا لتحط رحالها في جامعة السوربون، ومن ثمّ تترجم إلى اللاتينية "وبهذا أصبح عصر النهضة ممكناً: أصبح من الممكن أن يصنعوا كوبرنيكوس؛ أصبحت الثورة الصناعية ممكنة؛ أصبحت الثورة الفرنسية ممكنة؛ أصبحت الحداثة الأوروبية ممكنة. نحن هنا لم نعد نتحدث عن الشرق، إنما أصبحنا نتحدث عن بدايات الغرب. فنحن الذين ولَّدنا الثقافة الغربية الحديثة. من خلال الإغريق، عن طريق البحر الأبيض المتوسط، عن طريق هذه الالتفافة التي هي الأندلس، من خلال جبال البيرينيه إلى فرنسا، إلى غرب أوروبا، إلى الغرب الحديث." (12)

وفي الرواية تُبرِزُ الكاتبة الجانب الإنساني لشخصية ابن رشد، الّذي لم يكن يحبّ مخالطة الناس، لكنّه كان يشفق عليهم؛ لأنهم يتألمون، وتخلص إلى أن "الحكماء يذهبون كما يذهب الأغبياء". هذه النهاية المتواضعة للإنسان مهما كان عظيماً تشير إلى الانعطافة الفكرية الكبيرة في حياة الكاتبة، التي انتقلت من من الرغبة الجامحة في التغيير الاجتماعي والسياسي، إلى التواضع في تقييم جهد الفرد ودوره في الحياة.

في بدايات شبابها دعت إلى الثورة على الأسرة والمجتمع والدولة، لكنّها انتقلت بعد التّجرية والنّضج والألم إلى الدّعوة إلى المحافظة على هذه الكيانات التي تضمن استقرار البشر، وانضواءهم تحت مظلة انتماء واحدة هي الوطن. إنّ تحطيم الدولة، التي هي برأيها "أكبر من الحكومة، ومن رؤساء الحكومة"(13) يعني عودة الناس إلى انتماءاتهم الدينية والعرقية والقبلية الضيقة، ولهذا فهي مستعدة لأن تدافع بأظفارها وأسنانها عن الدولة، ولا تريد لبلدها مصيراً مشابهاً ليوغوسلافيا. تقول: "هنالك أشياء كثيرة سيئة في الدولة، وهنالك أشياء سيئة في الأسرة. لكن يبقى الأهم أن نعرف أن حصيلة نتاج هذه "المؤسَّسات" كان جيدًا بشكل عام . فإن أزلنا [للناس] ما هو بين أيديهم فإنهم سيعوضونه، ليس بما هو أفضل منه، إنما بما هو أسوأ؛ لذلك يجب الدفاع عنه."(14)

ولعل ما قالته قبل نحو ربع قرن، هو لسان حال الكثيرين من أبناء وطنها الأم، بعد حوالي عقد من الصراعات الداخلية، التي فتكت بالنسيج الاجتماعي السوري، وأعادت البعض إلى انتماءات ما قبل الدولة.

بعد رحلة حياتيّة وفكريّة غنية، مشاكسة وقلقة، أعلنت أنطاكي أنّها أصبحت إنسانة محافظة، لكن ليس المحافظة السلبية الجامدة، بل المستلهمة من قول ابن رشد "لنكن محدثين في كل ما يتعلق بالفكر والعلم، ولنكن محافظين في كل ما يتعلق بالشؤون الإنسانية." (15).

وبعد، لا تزعم هذه السطور الإحاطة بنتاج الكاتبة إكرام أنطاكي الغزير والمتشعب الفروع، والمنشور في أغلبه بالإسبانية، كما أسلفنا. وإنما هي إضاءة موجزة لسيرة حياتها المتميزة، ولبعض إنجازاتها الفكرية والأدبية. وهي تحيّة تقدير لروح هذه الكاتية السورية الكبيرة التي لم تسعد بأن تعيش في وطنها، وأن يكون لأبناء بلدها والناطقين بلغتها الأم نصيب من فكرها النّيّر. ولعلنا نحظى في وقت غير بعيد بقراءة بعض كتبها مترجمة إلى اللغة العربية.

 

الهوامش:

  1. Ikram Antaki: At the Turn of the Millennium, translated by D. Ohmans, 2016,Text imprint Mexico City, Editorial Joaquín Mortiz, ©2001,تعريف الناشر بالكاتبة في مقدمة الكتاب http://webshells.com/spantrans/antaki.html

(2) د. توفيق البطل: شيء من الذكريات: تحية إلى روح الصديقة إكرام أنطاكي (الفراشة التي تحب النور)، مجلة منابر 2001، http://www.maaber.org/sixth_issue/ikram_memorial.htm

(3) أكرم أنطاكي: "لا يوجد حبٌّ هانئ" كلمة بمناسبة ذكرى وفاة وتكريم الأديبة والمفكرة السورية–المكسيكية

إكرام أريستيدي أنطاكي، مجلة معابر،2001، http://www.maaber.org/ikram/ikram_2.htm

(4) ) نبيل الملحم : مقابلة تلفزيزنية مع إكرام أنطاكي، أجريت مطلع 1996، ونشرت في مجلة معابر عام 2001 http://www.maaber.org/ikram/ikram_10.htm

* مروان سوتو أنطاكي، كاتب وسينمائي مكسيكي، وخبير في شؤون الشرق الأوسط. نشر كتاب (التفكير في الشرق الأوسط، Think Middle East) عام 2016، ألقى فيه نظرة خاطفة على منطقة الشرق الأوسط التي يدين لها ،كما يقول، بجزء من هويته وأحقاده وأفراحه وأحزانه، انظرالتّعريف بالكتاب على موقع أمازون:

https://www.amazon.com/Pensar-medio-oriente-Middle-Spanish/dp/6073142889

من كتبه رواية (كازا داماسكو، 2013)، تدورأحداثها خلال الحرب الأهلية السورية، ورواية (فاطمة، 2019 )، تتحدث عن الهجرة الإيرانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

(5) أكرم أنطاكي: "لا يوجد حبٌّ هانئ" ، http://www.maaber.org/ikram/ikram_2.htm

(6) (7) (8) روساليا لوبث إيريدا:" حول فكر الكاتبة السورية- المكسيكية إكرام أنطاكي، مجلة معابر، 2001 http://www.maaber.org/ikram/ikram_5.htm

 (9)   Ikram Antaki: At the Turn of the Millennium, Chapter I:The end of times
 http://webshells.com/spantrans/antaki.html            
(10) المرجع السابق، الفصل الرّابع: The masters of the world

(11) (12) (13) (14) نبيل الملحم: مقابلة مع إكرام أنطاكي، http://www.maaber.org/ikram/ikram_10.htm

(15) Ikram Antaki: At the Turn of the Millennium, تعريف الناشر بالكاتبة في مقدمة الكتاب http://webshells.com/spantrans/antaki.html