يحتفي الكاتب العراقي بذكرى الثورة التي أطلقها جمال عبدالناصر في 23 يوليو عام 1952 من منطلق ناصري عروبي. يدافع عن إرثه العربي والتحرري والتنموي في مواجهة الثورة المضادة التي أعقبته، وانتهت بعالمنا العربي إلى التفتت والتبعية والهوان، وإن تغاضى كجل الناصريين عن دوره في تأسيس طبائع الاستبداد.

الثورة التي كادت ان تعانق السماء

رمـيـز نظـمي

 

لا جدال أن الأمة العربية تمر بحالة يرثى لها، لا تتوافق مع ما يملكه الوطن العربي من خيرات طبيعية، وثروات معدنية، وقدرات بشرية .. انه لأمر محزن أن يكون بلد في ضراء لعوزه مقومات اليسر والهناء، لكنه أمر فاجعي أن تعاني أمة من الشقاء وهي تملك كل متطلبات العز والارتقاء! .. لا عجب أن أغلب أبرار الأمة عندما يصفون حكامهم، يتذكرون مقولة الشاعر:»يكذبون بمنتهى الصدق، ويسرقون بمنتهى الأمانة، ويخونون بمنتهى الإخلاص، ويدمرون بلدانهم بكل وطنية، ويقتلون إخوانهم بكل إنسانية، ويدعمون أعداءهم بكل سخاء.»

يخطئ من يتصور ان الاسى الذي تعاني منه الامة حالياً هو سقم مزمن اصابها منذ امد طويل. قبل حوالي سبعة عقود من الزمن، تحديداً في 23 تموز/ يوليو 1952، توهجت نهضة عارمة كاد نهجها ان يحقق تطلعات الامة في التحرر والازدهار والشموخ، نهضة عز واباء تمثلت في ثورة قادها شاب عروبي مؤمن من بني مرّ، في صعيد مصر، اسمه جمال عبد الناصر حسين. قائد شاب دحر امبراطوريتين استعماريتين، البريطانية والفرنسية، وانهى وجودهم العسكري في الوطن العربي، قائد فذ نقل له بأمانة شاعر عربي مشاعر احرار الامة عندما قال له "نفضت غبار الدروايش عنا، اعدت لنا صبانا، وسافرت فينا الى المستحيل، وعلمتنا الزهو والعنفوانا" .. قائد تزعم ثورة تحالفت، وتألبت كل قوى البغي والضلال: استعمارية وصهيونية ورجعية وطائفية، على محاربتها لوأد توجهها الوحدوي التحرري، وسحق طموحها النهضوي، واهلاك عزيمتها لتحقيق مجتمع الكفاية والعدل، وتدنيس انجازاتها.

السلوك الوحدوي، والاتجاه العروبي، والنهج التحرري، والتضامن الاممي
على خلاف ما تمر به الامة حالياً من تشرذم وفساد وطائفية واذعان، اتبع عبد الناصر نهجا ثوريا وحدويا عروبيا شاملا، عابرا للطائفية والعنصرية، معترفا بطموحات القوميات الأخرى .. من مبادئه الأساسية: لا يمكن أن يعتز العروبيون بانتمائهم، ويسمحوا لأنفسهم أن يرفضوا انتماءات سواهم. اعتمد المشروع الناصري للأمة العربية على قاعدتين في صياغته للعلاقة ما بين الإسلام والعروبة: الأولى أن الإسلام، بلسانه العربي، هو الحاضنة الرؤوم للحضارة العربية التي شارك في إبداعها كوكبة من العرب والفرس والأكراد والامازيغ وغيرهم من الاقوام المتآخية؛ والثانية أن الإسلام بلا عروبة معرض للانحطاط الطائفي، والعروبة بلا إسلام مهددة بالانحراف العرقي. "شعب واحد لا شعبين، من مراكش للبحرين" لم يكن هذا فقط شعار العهد الناصري، بل كان ايضاً الهدف السؤددي والوميض الناصع المبين لمسار احرار الأمة النضالي، اما الان فيتم التداول بمصطلحات قيحت قلوب شرفاء الامة كالهلال الشيعي، والمثلث السني، والمكون الكردي، والبيت المسيحي، والطرف الحجازي، والفريق الدرزي، والعرق الامازيغي، وهلم جراً .. مصطلحات أُدخلت ليس لمنفعة هذه الأطياف المتآخية، بل تطبيقاً للمبدأ المشرذم الخبيث "فرق تسد".

احتضان عبد الناصر لتطلعات القوميات المتآخية المتواجدة في الوطن العربي، واحترامه لحقوقهم المشروعة ادى الى خلق اجواء من التأييد المتبادل، والتضامن المشترك، ضد الهيمنة الاجنبية. تجلى هذا الامر عندما أبرق الزعيم الكردي مصطفى البرازاني الى عبد الناصر يعرض فيه تطوعه للقتال دفاعاً عن مصر ضد العدوان الثلاثي: البريطاني/ الفرنسي/ الصهيوني سنة 1956. وفي طريق عودته الى العراق من منفاه في الاتحاد السوفيتي، بعد ثورة تموز/ يوليو 1958، حرص البرازاني على زيارة عبد الناصر في القاهرة لإبداء تقديره وامتنانه. شاهد صحفي فرنسي، اثناء تجواله في جبال الجزائر خلال ثورتها، فلاحاً أمازيغياً يصغي بشغف الى خطاب يلقيه عبد الناصر، فسأله لماذا تستمع وانت لا تجيد العربية، اجابه الفلاح اني اسمع عبد الناصر بأذني ولكن افهمه بقلبي. ساند عبد الناصر "حركة المحرومين" التي شكلت في لبنان للدفاع عن حقوق المستضعفين ضد التهميش، واعتداءات الكيان الصهيوني، وكوّن عبد الناصر علاقات حميمة مع أقطابها: موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، والدكتور محمد يعقوب.

عندما شُن العدوان الثلاثي، البريطاني/ الفرنسي/ الصهيوني على مصر سنة 1956، نهضت الأمة العربية، من خليجها الى محيطها، تأييداً لعبد الناصر. من أكبر تلك التظاهرات تلك التي عمت العراق من شماله الى جنوبه، عرباً واكراداً، سقط مئات الضحايا من شهيد وجريح على يد اجهزة السلطة المتحالفة مع الغرب الاستعماري. وكان للنجف الأشرف دور رائد في تلك الانتفاضة، وقدمت نموذجاً رائعاً لاقتران الايمان الديني النير بالتوجه الوطني العروبي والتحرري. انتفاضة مهدت لثورة 1958 العراقية التي اسقطت النظام الذي خاصم المشروع الناصري.

عندما أعلنت الوحدة المصرية - السورية عام 1958، زحف مئات الألوف من اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، إلى دمشق تحية لعبد الناصر، وتمجيداً للجمهورية العربية المتحدة. من اهم قادة التيار الناصري في لبنان كان الزعيم العربي الدرزي كمال جنبلاط. في ذكرى وفاة عبد الناصر، كتب الرئيس اللبناني الأسبق، أميل لحود، العربي المسيحي: "نفتقدك اليوم يا رائد الوحدة العربية، ونتحسر على غيابك باكراً في هذه الساحة التي كانت تحتاج لأمثالك". قال الرئيس الجزائري هواري بومدين، احد قادة ثورة المليون شهيد ضد الاستعمار الفرنسي: "لقد اعطى الرئيس عبد الناصر لوطنه ولأمته العربية عمره كله، ولولاه ما تحررت الجزائر، لقد كان تحرير الجزائر حلماً بعيد المنال قبل عبد الناصر، ومعه وبفضله اصبح واقعاً نعيشه الآن، لقد ظل الراحل العظيم حتى آخر لحظة في حياته يناضل ويكافح من اجل الحقوق العربية، لقد مات شهيداً في سبيل العروبة". عبر الشاعر بصدق عن عواطف الكثيرين عندما كتب "احببت ناصر والدنيا به شغفت، لا اللوم في حبه يجدي ولا الحسد، احببته ليس من ديني ولا بلدي، والحب ليس له دين ولا بلد".

امتدت سياسة عبد الناصر الوحدوية إلى سعيه لالتئام المذاهب الإسلامية، ففي عصره تبنى الأزهر الشريف المذهب الشيعي الاثني عشري كأحد مذاهب الإسلام الرئيسية، وفي عهده أيضا نشرت وزارة شؤون الأوقاف مصدرا من أهم المراجع الموثقة للمذهب الاثني عشري الشيعي، وهو كتاب (المختصر النافع في فقه الشيعة الأمامية)، كذلك طُبع "مجمع البيان في تفسير القرآن" لمؤلفه العالم الشيعي الفضل بن الحسن الطبرسي. يعتبر هذا الكتاب الذي جاء في اثني عشر مجلداً، من أجود تفاسير القرآن الكريم، ووطد محمود شلتوت، شيخ الأزهر في حقبة عبد الناصر، في مقدمته: "إن تفسير مجمع البيان بما فيه من مزايا يفضل على جميع تفاسير القرآن المؤلفة من قبل علماء الإسلام على اختلاف مسالكهم ومذاهبهم طوال مئات السنين"... اين "ثوار" اليوم و"مقاومي الاستكبار" الحاليين من هذا التوجه الوطني الوحدوي النبيل الرشيد؟

لم يقتصر تأييد عبد الناصر على حركات التحرر العربية فحسب، بل شمل أيضاً تلك التي كانت تدور في الأقطار المجاورة. فقد دعم عبد الناصر، وبكل عزم، القوى الإيرانية المناهضة للشاه محمد رضا بهلوي، فكما جاء في كتاب (الفقهاء حكام على الملوك - علماء ايران من العهد الصفوي إلى العهد البهلوي 1979-1500) لمؤلفه حسن الدجيلي، قدم عبد الناصر معونات مالية، بواسطة الخميني، الي جهات إيرانية، الأمر الذي اغضب الشاه وادى به إلى تحريض زعماء الدين في ايران على الخميني مخاطباً اياهم "ما قولكم في زعيم شيعي بارز لا يتردد في قبول أموال نقدية من جهة غير شيعية"؟ وقد ذكر أنه عندما توفى عبد الناصر سنة 1970 بكاه علي خامنئي كما لم يبك والديه، وقال عنه الخميني "الرئيس عبد الناصر هو اعظم عربي ظهر في عصرنا، ووفاته خسارة عظيمة للعالم الاسلامي وللعلاقات بين مصر وايران، لقد كان اقرب زعيم لثورتنا عندما كنا مطاردين من الشاه، لقد كان اول شخص وجهت اليه التحية وترحمت عليه عقب وصولي الى ايران بعد الثورة". احرار الامة العربية كانوا يتمنون لو استطاع القادة الايرانيون، بعد نجاح ثورتهم في 1979، السمو فوق انتماءاتهم المذهبية، وتبنوا النهج الإيماني الجامع، واعتمدوا، قولاً وفعلاً، توجهاً توحدياً مشابهاً للنهج الناصري، توجهاً عابراً للطوائف المذهبية والعنصرية.

ان توجهات عبد الناصر العروبية والاستقلالية، ومجابهته للتخلف والفكر الأصولي الطائفي، وتأييده لتطلعات الأقليات المشروعة، ومؤازرته لحقوق المرأة، وانتصاره للطبقات الكادحة، ودعمه للحركات التحررية أينما كانت في العالم، جعلت منه زعيماً ثورياً معززاً ليس فقط عند جماهير الأمة العربية والإسلامية، بل أيضاً عند شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية. وعي عبد الناصر الخلاق جعله يدرك ان مصر بمشروعها الوحدوي التنموي لا تستطيع ان تقارع الدول الاستعمارية بمفردها، فحرص على إنشاء تحالف متين مع الأقطار النامية المتحررة وشعوب العالم الناهضة؛ تحالف هدفه مواجهة قوى البغي الخارجية، غربية كانت او شرقية. نهجه هذا جعل زعماء دوليين من اهم حلفائه ومحبيه، زعماء كبار من أمثال شو ان لاي (الصين) ونهرو (الهند) وسوكارنو (إندونيسيا) وتيتو (يوغسلافيا)، ومكاريوس (قبرص)، وكاسترو وجيفارا (كوبا)، وسيكتوري (غينيا) ، ولومومبا (كونغو)، ونكروما (غانا) الذي سمى ولده 'جمال'.

أصبحت القاهرة في عهده من أهم العواصم الحاضنة لحركات التحرر الأفريقية والآسيوية ولدول عدم الانحياز، حتي ان العاصمة المصرية وصفت حينئذ "بالرئة التي تتنفس بها حركات التحرر". بحدسه وبعد نظره، تنبه عبد الناصر للخطر الذي قد يسببه الأعداء لأمن مصر وامتها العربية باستغلالهم لأنظمة دول منابع النيل، لذلك كان من احد الأسباب التي دفعته الى ان يكون لمصر وجود أفريقي قدير هو تمكينها من التعامل بنجاح مع دول حوض النيل، لردع أي تهديد لسلامة مصر من خلال التعرض لسلامة شريان حياتها، نهر النيل. تقديراً لجهود عبد الناصر الداعمة لحركات التحرر الأفريقية، اُطلق على اكبر الجامعات الواقعة في غينيا اسم 'جمال عبد الناصر' .. نلسون مانديلا، الزعيم الأفريقي المبجل، قائد النضال البطولي الذي قهر النظام العنصري في جنوب أفريقيا، قال ان عبد الناصر "كان مصدر الهام" لكفاح الأفارقة المرير. قضى مانديلا 27 سنة في سجون النظام العنصري، قبل ان يتكلل نضاله بالنصر، ويصبح رئيساً لجمهورية جنوب أفريقيا. عندما انتخبت دولته على حساب مصر في عام 2004 بحق تنظيم مباريات كأس العالم لكرة القدم لعام 2010، صرح مانديلا "لو كانت مصر عبد الناصر باقية، لما تجرأنا على منافستها، بل كانت جنوب أفريقيا أولى الداعمين للقاهرة".

شأنهما شأن مصر، كانت الصين والهند من الدول النامية في أواسط القرن الماضي، الا انهما تطورتا واصبحتا حاليا من أهم دول العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. عبد الناصر، بتوطيد علاقته مع قادة هاتين الدولتين، شو ان لاي ونهرو، استطاع ان يكسب تأييدهما الصارم للقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. عبد الناصر أول رئيس عربي يعترف بجمهورية الصين الشعبية، التي كانت الولايات المتحدة تحاصرها وتقاطعها دولياً، اذ كانت واشنطن تعتبر حكومة تايوان (فورموزا) الممثل الشرعي للدولة الصينية. أتى الاعتراف المصري بالصين الشعبية، الذي تم في آذار/ مايو 1956، بمثابة صفعة جريئة وقاسية للإرادة الأمريكية في سعيها للتسلط الأممي. أدى الاعتراف وما تبعه من علاقات مثمرة ووطيدة، الى ان تصبح مصر بوابة الصين الى العالم العربي والقارة الأفريقية. قلما كان يزور مسؤول صيني دولة عربية او أفريقية قبل أن يذهب الى القاهرة لاستشارتها اولا.

الأمر كذلك حصل مع الهند، فقد طور عبد الناصر العلاقات المصرية/ الهندية الى درجة من المتانة بحيث أصبحت الهند من اهم المتبنين للقضايا العربية، ومن اشد حلفاء مصر في تصديها للقوى الاستعمارية .. كانت لقاءات عبد الناصر مع نظيره الهندي نهرو مستمرة ومتتابعة .. في زيارة نهرو لمصر في 27 مارس 1961، دعاه عبد الناصر لزيارة مساجد القاهرة، وفعلاً زارا سوياً جوامع احمد بن طولون، والسلطان حسن، والرفاعي، ومحمد علي. مكانة عبد الناصر الدولية وشعبيته العارمة دعتا، حسب ما يقال، الرئيس الفرنسي، ديغول، ان يصرح: "هنالك ثلاث قوى عظمى في العالم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وعبد الناصر".

قيم عبد الناصر التي تجسدت في أنفته ووحدويته وعروبته وحرصه على رفع مكانة الأمة، وإنماء ازدهارها، ونصرته للمستضعفين والكادحين، ومناهضته لشرور الاستغلال والضلال، أدت الى استهدافه من قبل تحالفٍ ثلاثيٍ رجسٍ، أركانه القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية؛ تحالف رهيب اظهر خبثه وابان إثمه على مدى العهد الناصري، تجلى في عشرات الحالات منها العدوان الثلاثي الصهيوني/ البريطاني/ الفرنسي في 1956، وإنزال القوات الأمريكية في لبنان، والبريطانية في الاردن بعد قيام الوحدة المصرية السورية في 1958، ومحاولات اغتياله العديدة، مثلا في 1954 (ميدان المنشية/ الإسكندرية) وفي 1958 (مؤامرة النظام السعودي لإسقاط طائرته)، واستنزاف القوات المصرية التي قدمت الى اليمن في 1962 لمساندة ثورتها التي أطاحت بالنظام الملكي المتعفن، الذي حكم اليمن منذ 1918 وجعلها من أكثر دول العالم تأخرا. تحرك التحالف الرجعي/ الاستعماري/ الصهيوني بكل قساوة لإسقاط الجمهورية اليمنية الفتية والقوات المصرية المساندة لها. انفق النظام السعودي ملايين الدولارات لشراء ذمم بعض قادة القبائل اليمنية وتزويدهم بالاسلحة، وحشدت بريطانيا آلاف المرتزقة لمحاربة الجمهوريين، وأقام الكيان الصهيوني جسراً جوياً، عبر الاراضي السعودية، لمد المرتزقة وفلول الملكيين بالأسلحة والذخائر، وكان الطيران الصهيوني يتزود بالوقود من قواعد في جيبوتي الفرنسية، وممن القى بثقله ايضاً وراء هذا التآمر الاثيم كان نظام الشاه الايراني.

تجدر الاشارة الى ان أحرار الدول، التي تآمر حكامها على مصر عبد الناصر، كانوا معارضين لسياسات حكامهم، انجلى ذلك بوضوح في رفض طيارين سعوديين واردنيين قصف أشقائهم العرب في القوات المصرية واليمنية، واختاروا بدلاً عن ذلك الركون الى القاهرة بطائراتهم. من ضمن الذين جنحوا الى العاصمة المصرية، كان قائد السلاح الجوي الاردني، الرائد الطيار سهل حمزة. ومن جملة الذين ناهضوا سياسات انظمتهم المعادية لعبد الناصر، وغادروا بلادهم الى مصر، كان الامير طلال بن عبد العزيز آل سعود، مؤسس حركة الامراء الاحرار. هنالك تقارير تشير الى ان هذا التحالف الثلاثي، الاستعماري/ الصهيوني/ الرجعي، هو من حث الكيان الصهيوني على شن حرب 1967 ذعراً من امتداد المد الناصري ليغمر الجزيرة العربية. لا يرعب الغرب الاستعماري، واتباعه المحليين، نهج اكثر من النهج التحرري التنموي الوحدوي، فكما اقر وزير الدفاع الفرنسي الاسبق، جان بيير شوفنمان: "كلما اراد العرب ازالة تخلفهم. وتحقيق وحدتهم، كان الغرب يمنعهم من تحقيق اهدافهم".

في سنة 1970 فقدت الأمة عبد الناصر ولم يبلغ من العمر سوى 52 عاماً (تسلم الخميني، مثلاً، السلطة في ايران وعمره يناهز 77 سنة)، فقدته الأمة عندما بلغت خبرته من معترك الحياة أوجها، فقدته وكانت في امس الحاجة له. بعد غيابه الجلل تعرضت الأمة إلى سلسلة من المصائب كان من الممكن تفاديها بحضور عبد الناصر المهيب، وقيادته الحكيمة، ونفوذه الرشيد، وعزيمته الفذة؛ مصائب أهلكت الأمة: الحرب الأهلية اللبنانية، واتفاقية كامب ديفيد، والحرب الإيرانية/ العراقية، واحتلال الكويت، والغزو الامريكي للعراق وتداعياته الكارثية.

الانقلاب المضاد، "بيد امريكا 99٪ من اوراق اللعبة"، واجهاض التنمية
النظام الذي عقب عبد الناصر، أي السلطة التي استحوذت على الحكم، بمعونة قوى خارجية، خصوصاً بعد انقلاب ايار/ مايو 1971، اتبع نهجاً مضاداً، نهجا منبعه الاعتقاد بأن "بيد امريكا 99% من أوراق اللعبة"؛ اعتقادً ادى الى ابعاد مصر عن دورها الرائد في الوطن العربي والعالم الثالث. فبعد عقده اتفاقية كامب ديفيد الانفرادية مع الكيان الصهيوني في 1979/1978، تقّوض الإجماع والتضامن العربي الذي رعاه عبد الناصر في شؤون الحرب والسلم. عزل مصر عن امتها العربية كان انجازاً كبيراً للعدو الصهيوني وحليفته واشنطن، اذ كما قال عبد الناصر "وجود مصر مشلولة شلل للنضال العربي كله، وليست هذه حقيقة جديدة، وإنما هي استقراء للتاريخ والطبيعة". من ارسخ ثوابت عبد الناصر وجوب تحرير كل شبر دنسه الكيان الصهيوني بغزوه الآثم في حزيران / يونيو 1967، فلم يعطِ اولوية للأراضي المصرية المحتلة، بل العكس تماماً، حيث اكد مراراً وتكراراً وبكل صرامة: "نطالب بانسحاب اسرائيل من القدس قبل سيناء، ومن مرتفعات الجولان قبل سيناء، ومن غزة قبل سيناء، ومن الضفة الغربية للأردن قبل سيناء".

هوس النظام المضاد باستجداء واشنطن لم يؤدِ فقط الى هزال علاقات مصر مع امتها العربية، بل أيضاً الى تراخ في دورها الفاعل بين الدول النامية والشعوب الآسيوية والأفريقية، وبالتالي الى وهنها. استغل الكيان الصهيوني ذلك وبداء بإقامة علاقات متطورة مع حليفة الأمس، الهند، على جميع الأصعدة: العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. الآن، وكما جرى مؤخراً، تُحرق الجوامع في الهند، ويٌضطهد المسلمون، بينما في عهد عبد الناصر، وكما رأينا، زار رئيس وزراء الهند اربع مساجد مصرية في يوم واحد. أما الصين، فبمعزل عن مصر، وسعت ومتنت صلاتها في القارة الأفريقية، وأسست علاقات اقتصادية وتنموية مع الكثير من دولها، علاقات أقوى من التي تربطها مع مصر. تأتي مصر حالياً في المرتبة الخامسة، بعد نيجريا وجنوب أفريقيا وزامبيا وأثيوبيا، من بين الدول الأفريقية الحائزة على الاستثمارات الصينية. بينما اثناء العهد الناصري امتنعت الصين عن السماح لحاملي جوازات سفر الكيان الصهيوني من دخول أراضيها. تغيرت الصورة كلياً بعدئذً حيث استطاع الكيان إنشاء علاقات ودية مع الصين، دبلوماسية واقتصادية وتكنولوجية. وفي 2017 زار رئيس وزراء الكيان العاصمة الصينية، بيجين (بكين)، احتفالاً بمرور 25 سنة على إقامة علاقات دبلوماسية متكاملة مع الصين.

ليس من الغريب، عندما يتغاضى الحكام عن قضايا امتهم الحيوية، ان يتخلى الاخرون عنها كذلك، فمن لا يحترم نفسه، لا يستحق احترام الآخرين. الشأن الخطير الذي أنتجه تنحي مصر عن دورها الضليع في إفريقيا هو تمكين الكيان الصهيوني من بسط نفوذه في القارة السوداء، نفوذ خبيث ادى الى خلق معضلة سد النهضة الإثيوبي الذي اصبح يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي المصري، معضلة تبذل الان مصر كل جهدها لمعالجتها، ولكن أليست الوقاية هي دوماً خير من العلاج؟

النظام المضاد لم يكتف بأبعاد مصر عن دورها العروبي الرائد، بل امتد الى تواطؤه مع الادارة الامريكية ضد المصالح الاستراتيجية للامة العربية. بعد الاحتلال العراقي الأرعن للكويت في 1990، كان في استطاعة النظام المصري ان يلعب دوراً جوهرياً إيجابياً وبناءاً لإلزام القيادة العراقية بالانسحاب السلمي في الكويت، الا انه ساير المخطط الأمريكي بشن حرب هدفها الأساسي ليس تحرير الكويت بل تدمير العراق. حرباً وما تبعها من حصار قاتل وغزو غاشم واحتلال جائر، لم تستبح العراق وحده، بل أهلكت الأمة على مداها. مسايرة المخطط الأمريكي أتى على رغم مساندة جل الشعب المصري لأشقائهم في العراق، فعندما اطلق العراق صواريخه لدك الكيان الصهيوني اثناء الحرب، هتف جنود مصريون، بعثهم نظامهم لمحاربة العراق، "يا عراق يا حبيب، اضرب اضرب تل ابيب". من المؤلم ادى خضوع النظام المضاد لنفوذ واشنطن المتصهينة الى حد من الاستعهار، جعل رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب المصري، ان يصرح في 12 كانون الثاني/ يناير 2010 "للاسف إن الرئيس القادم لمصر يحتاج الى موافقة امريكا وعدم اعتراض اسرائيل"! يعطي هذا التصريح مصداقية لمقولة نابليون بونابارت: "من يحكم مصر يحكم العالم".

اكد الرئيس الأمريكي الذي قام بالاحتلال الكارثي للعراق في 2003، ان مبارك، الحاكم الذي خلعته انتفاضة الجماهير المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، كان احد المحرضين على غزو العراق، ومن دعاة امتلاكه أسلحة دمار شامل. يذكر التاريخ ان هذا الحاكم المخلوع، عندما كان قائد السلاح الجوي المصري، التمس مساعدة القوة الجوية العراقية، حيث انه قضى فترة من الزمن في قاعدة الحبانية العراقية، استدل خلالها على مدى كفاءة الطيران الحربي العراقي. استجابت القيادة العراقية وأرسلت قبل 6 اشهر من نشوب حرب تشرين الاول / اكتوبر 1973 سربين من طائراتها المقاتلة الى قاعدة قويسنا في محافظة المنوفية. عندما شنت الضربة الجوية الأولى في 6 تشرين الاول/ اكتوبر 1973 حلق النسور العراقيون عبر قناة السويس، جنباً الى جنب أشقائهم المصريين، ودمروا الأهداف المحددة للعدو في عمق سيناء المحتلة. خلال هذه الطلعات الجوية، استشهد طيارون عراقيون وامتزجت دمائهم الزكية بدماء أشقاءهم الشهداء المصريين ابطال العبور العظيم. ادى الابداع البطولي للطيارين العراقيين، كما وصفه رئيس اركان القوات المصرية، سعد الدين الشاذلي، الى ان تطالب القوات البرية المصرية "عاوزين السرب العراقي" بالذات ليدعمهم خلال معاركهم مع القوات الصهيونية ... هذا التلاحم الوحدوي المغوار هو ما تحتاجه الامة لتعبيد طريقها للنصر والمجد.

نسى او تناسى الحاكم المخلوع ايضاً، ان العراق في سبعينات وثمانينات القرن الماضي دعا، بدون اي منية، ما يصل اربع ملايين من الأشقاء المصريين، اساتذة ومهندسين وأطباء ومزارعين وعمال وفنيون وكسبة، الى المشاركة في نهضته التنموية. وقد وصف الكثير منهم مرحلة عملهم في العراق "بأجمل سنوات عمرهم" لتنعمهم بحياة كريمة، ومكاسب ميسرة، وحقوق لا تقل عن المواطنين العراقيين. حرص العراق على استضافة اشقائه العرب، بينما دول الخليج استقدمت الكثير من العمالة الآسيوية. هذا التكامل ما بين الشعبين العراقي والمصري اثار حفيظة البعض من اصحاب النعرات الشعوبية والطائفية والانعزالية .. العراق ومصر، بحضارتهما وطاقتهما ودورهما التاريخي، يمثلان جناحي الأمة، جناحين تمكن الأعداء من كسرهما، ولكن الى حين، عاجلاً او اجلاً سوف يتعافيان لا محالة، وحينها سيحلقان بالأمة من جديد الى الأعالي، وينتشلانها من المستنقع الآسن الذي سعت قوى الضلال على غمرهما به.

داخلياً، سعى عبد الناصر الى تحقيق مجتمع الكفاية والعدل باتباع نهج تنموي ثوري. ربط العدل بالقضاء "على الرجعية والإقطاع واستغلال رأس المال، و(قيام) علاقات اجتماعية جديدة مبنية على المساواة وحكم قوى الشعب العامل"؛ أما الكفاية فهي "توسيع قاعدة الإنتاج الذي هو في النهاية دعامة للعدل، ورصيد متجدد يضاف باستمرار الى إمكانية تحقيق العدل الاجتماعي". بالمفهوم الناصري مصر "بلد لا يستطيع ولا يقدر ان يتحمل تبعات التخلف". هذه الرؤية دفعت عبد الناصر الى استثمار مليارات الجنيهات ليس فقط لتشيد صروح استراتيجية مثل السد العالي في أسوان ومجمع الحديد والصلب في حلوان، ومصانع في مختلف القطاعات، بل أيضاً في مشروعات حيوية للبنية التحتية والإسكان والتعليم وازالة البطالة واستصلاح الأراضي، وعلى التسليح العسكري ودعم الحركات التحررية.

ادى نهج عبد الناصر التنموي الى ان تحتل مصر اثناء عهده المراكز الأولى بين أمم العالم الأسرع نمواً. حسب احصائيات البنك الدولي (التقرير المرقم 870-ا والمؤرخ 5 كانون الثاني/يناير 1976) بلغت نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي في مصر حوالي 7٪ سنوياً خلال الاعوام العشرة 1967/1957، وزادت هذه النسبة الى 8٪ خلال الفترة 1970/1969. هذا المعدل من النمو يضاهي نمو الصين، التي تملك الان ثاني اكبر اقتصاد في العالم، وتغزو منتوجاتها جميع الدول. اضافة الى هذا، حقق الاقتصاد المصري فائضاً في ميزانه التجاري عام 1969 بلغ ما يقارب 47 مليون جنيه. اما سعر الصرف للجنيه المصري في أيلول / سبتمبر 1970، اي عند وفاة عبد الناصر، فكانت 100 جنيه مصري تعادل 250 دولار، بينما حالياً (حزيران/ يونيو 2020) تساوي فقط 6.1610 دولار، اي ان الجنيه فقد ما يعادل 97% من قيمته أمام الدولار.

التوجه نحو محاباة واشنطن، دفع أيضاً النظام المضاد الى تغير مسار مصر السياسي والاقتصادي باتجاه انماط رأسمالية، افترض النظام انها مماثلة لتلك المتبعة في الولايات المتحدة. اقتصادياً، انحاز النظام الجديد لتحالف القوى الرأسمالية الطفيلية، المحلية والأجنبية، على حساب تحالف قوى الشعب العامل المنتجة، وتمثل ذلك بتبني ما سمي بسياسيات "الانفتاح" و"الخصخصة"، اي بيع شركات القطاع العام الانتاجية، التي يملكها الشعب عن طريق الدولة، الى القطاع الخاص.

سياسياً، ولإضعاف المد الناصري التقدمي، دعم النظام قوى قاحلة الوعي، ومتخلفة التفكير، وطائفية التوجه، وبذلك، كما ذكر احد المفكرين: "خرجت العقيدة السياسية عن مفهومها التحرري الوطني الرحب، الى المفهوم المذهبي والانعزالي المغلق". أدى هذا الانحراف عن النهج الناصري الى تدهور الاقتصاد، وتلاشي مكتسبات الكادحين، واستعار الاحتقان الطائفي، الامر الذي انتج حالات من الهيجان الشعبي، تجلت بوضوح في اغتيال رأس النظام في تشرين اول/ اكتوبر 1981، وفي اندلاع العديد من الانتفاضات كالتي حدثت في 1972 و1977 و1986 و2011 و2013. افضت الانتفاضتان الاخيرتان الى إسقاط رأسي النظام الحاكم حينئذ (مبارك ومن بعده مرسي).

عند رحيل عبد الناصر في 1970، لم تزد ديون مصر الخارجية عن 1.70 مليار دولار، رغم استثمارات عهده الهائلة، ورغم الخسائر المالية الكبيرة التي سببها العدوان الصهيوني في 1967. خسائر تجلت مثلا في فقدان عائدات قناة السويس التي اغلقت، وللإنتاج النفطي من حقول سيناء التي احتلت، ولريع السياحة الأجنبية، اضافة على ذلك صرفت مبالغ ضخمة لتوفير السكن للنازحين من مدن القناة: بورسعيد والإسماعيلية والسويس اثناء حرب الاستنزاف. أما في كانون الثاني/ يناير 2011 ، اي عند اندلاع الانتفاضة التي أسقطت مبارك، بلغت ديون مصر الخارجية حوالي 37 مليار دولار، علماً ان جل ديون مصر الخارجية تم الغائها في 1991 ثمن مشاركة ذلك الحاكم في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق. في 2019 وصل حجم هذه الديون الى نحو 109 مليار دولار.

الآفة الأخرى التي شاعت بعد رحيل عبد الناصر، هي تفشي الفساد المسعور، واستفحال حيتانه الذين زكمت زناختهم انوف الشرفاء. حسب تصريح الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات في 2015، تكلفة الفساد، اي حجم الأموال التي اُهدرت واُختلست من الاقتصاد الوطني، جاوزت 600 مليار جنيه. منذ سبعينات القرن الماضي، ظهر "رجال اعمال" تركزت كفاءتهم ليس على الانتاج التنموي بل على ايجاد سبل غير مشروعة للاغتناء السريع باستغلال نفوذهم عند المنظومة الحاكمة. جنى هولاء ثروات طائلة أتت على حساب طبقات المجتمع المصري الكادحة والمتوسطة الدخل، ادى ذلك الى أن 90٪ من الشعب المصري يمتلك فقط 30٪ من ثروات بلده، اي ان 70٪ من ثروة مصر تحتكرها طبقة تمثل فقط 10٪ من السكان، وفي هذه الطبقة يوجد 10 اشخاص يستحوذون فيما بينهم على ما يقارب 22 مليار دولار، مبلغ يساوي 50٪ من اجمالي احتياطي مصر من العملات الصعبة.

ولم يقتصر جني الثروات الفاحشة على "حيتان البزنس"، بل شملت ايضاً افراد من المنظومة الحاكمة. هنالك تقرير يقدر حجم ثروة الحاكم المعزول، مبارك، وعائلته في اوروبا والولايات المتحدة بحوالي 70 مليار دولار، وحسب ارقام رسمية، كشفت النقاب عنها مصادر قضائية مصرية في 20 مارس/ اذار 2017، قدرت ثروة مبارك في داخل مصر بحوالي 3.6 مليار جنيه، ثروة مغمسة بعرق ودماء كادحي مصر. إباء ونزاهة عبد الناصر وصفها بصدق الشاعر العراقي، محمد علي اليعقوبي، عندما قال: "كفى مصر فخراً يا جمال وعزة، بأنك قد البستها العز والفخرا، ستجزى مساعيك الدهور بشكرها، وان كنت لا تبغي جزاءً ولا شكرا، تقدم الى العليا فخلفك امة، تشاطرك السراء في الحرب والضرا، وليس الفتى من يدخر المال إنما، فتى القوم من امسى له شعبه ذخرا" .

مثالان بسيطان يكفيان لتوضيح بعض أساليب الفساد التي اغتصبت حقوق وثروات الشعب المصري: تسلم احد الحيتان قطعة ارض مساحتها 20 مليون متر مربع لإنشاء معمل أسمنت، بنى المعمل على جزء مساحته 200 الف متر مربع، وباع المساحة المتبقية، 19.80 مليون متر مربع، بعدة مليارات. المثال الثاني: في سياق "الخصخصة"، اشترى احد المتنفذين شركة أسمنت حكومية بمبلغ 2.20 مليار جنيه، بعد مرور 6 اشهر باعها الى شركة اجنبية مقابل 78 مليار جنيه، وبذلك حقق ربحاً قدره 76 مليار جنيه، اي استحوذ غشاً في ستة اشهر على ما يعادل ما يكسبه سنويا مليون ونصف مصرياً كدحاً!

هكذا تحولت مصر المحروسة الى مصر المنهوبة. هنالك ارقام واحصائيات تعسة أخرى تتعلق بالبطالة، الحقيقية والمقنعة، وارتفاع الأسعار ونسبة الفقر والتفارق الطبقي، وسكنة المقابر، والعجز التجاري، كلها تشير الى المحن التي اصابت مصر الأبية وشعبها الكريم، محن لما كانت ستحصل لو استمر النهج الناصري الطموح والرشيد والنزيه. فلا غرابة ان لسان حال شرفاء مصر يردد ما قاله الشاعر الشعبي المصري في رثاء عبد الناصر: "دلوقتي رجعوا الفقرا خلاص، سكنوا جحورهم من تاني، رحل معاك زمن الاخلاص، وجه زمان غير انساني، ما هوش زمن عبد الناصر، صحينا على زمن الالغاز، يحكمنا فيه اهل الاعمال، وللعدو صدرنا الغاز، بفرح وبكل استهبال، نكاية في عبد الناصر".

اخطاء المسيرة، واعادة بناء القوات المسلحة
من نافلة القول، ان المشروع الناصري لم يخل من زلات ونكسات، لعل من اكبرها عدم إكمال بناء المؤسسات الكفؤة الكفيلة بردع اي انحراف محتمل عن المسار التقدمي. الافتقار الى وجود مثل هذه المؤسسات والتنظيمات القادرة والمتأصلة سمح لقوى الثورة المضادة، بمعونة قوى خارجية، من لملمة صفوفها، وأخذ المبادرة، واستلام زمام السلطة. إلا ان هذا لا يعني ان عبد الناصر لم يكن يدرك الأهمية القصوى لوجود مثل هذه المؤسسات للمحافظة على مكتسبات الثورة وديمومتها. فقد باشر منذ 1963 على تأسيس التنظيم الطليعي كجهاز سياسي "يجند العناصر الصالحة للقيادة. ويطور الحوافز الثورية للجماهير ويحسن احتياجاتها ويساعد على ايجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات".. وللمحافظة على النقاء الثوري للتنظيم حرص عبد الناصر على ان يكون حضور ونشاط التنظيم مستوراً ومستتراً، حماية له من تغلغل الانتهازيين وتسلل الوصوليين. وفاة عبد الناصر المفاجئة والمبكرة أتت قبل ان تتبلور فاعلية التنظيم وتترسخ سيطرته.

الانكسار الاخر كانت نكسة حزيران/ يونيو 1967، الانهزام العسكري الذي مكن الكيان الصهيوني من اغتصاب سيناء، وكامل فلسطين ومن ضمنها القدس الشريف، والجولان. ما حصل في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 كان كارثيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، كان فشلا مريعا لثلاث جيوش عربية: المصري والأردني والسوري، كانت هزيمة عسكرية يتوقع أعداء الأمة أن تتكلل باندحار المشروع الناصري التحرري العروبي، لكن رياح الوطن جرت بما لا تشتهي سفن الأعداء. في 9 حزيران/ يونيو ألقى عبد الناصر خطابا أعلن فيه استعداده لتحمل مسؤولية الهزيمة، وتنحيه عن رئاسة الجمهورية، ومن اي منصب رسمي او دور سياسي. بمجرد إذاعة نبأ استقالته حتى هبت عفويا ملايين الجماهير في مظاهرات عمت ارجاء مصر والوطن العربي معبرة عن رفضها لقرار التنحي، وتمسكها بقيادة عبد الناصر. مظاهرات شعارها "نحن جنودك باجمال"، قضت على اي توهم بأن هزيمة عسكرية، مهما كانت فداحتها، تؤدي بالضرورة الى هزيمة سياسية. طالما كان الشعب معتزاً بقيادته، ومؤمناً بقضيته، ومعبأً فكرياً، فلن يحصل الاستسلام.

يبين التاريخ ان هزيمة عسكرية لا تؤدي دائماً الى خسارة الحرب، ألم يتعرض زعماء دوليون اخرون، انتصروا في حروبهم، الى هزائم عسكرية، زعماء كبار من أمثال تشرتشل وستالين وديجول وروزفلت؟ ومع كل هذا، فأن خروج الملايين تعلن ثقتها واحتضانها لقائدها المكسور هي ظاهرة لا مثيل لها تاريخياً، ظاهرة عبّرت عن نبل ووفاء وايمان الجماهير بالمسيرة الناصرية، وبرشد قائدها، وقدرته على تحويل الهزيمة الى نصر مبين مهما بلغت التحديات.

كما كتب المفكر الفذ، جمال حمدان: "لم تكن الناصرية لغزاً او طلسماً او فلسفة غامضة. (هي) مصر كما ينبغي ان تكون. الناصرية هي مصر الطبيعية، وكل مصري طموح يريد صالح مصر: قوية، عزيزة، غنية، مستقلة. هو ناصري قبل الناصرية، وبعدها، وبدونها".

تلبيةً لارادة الجماهير، عدل عبد الناصر عن قرار استقالته، وبدأ بأجراء كل ما يلزم، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، لإزالة اثار النكسة. من منطلقه العروبي، لم تقتصر ازالة اثار النكسة عند عبد الناصر على تحرير سيناء، بل أيضاً لكل شبر دنسه الكيان الصهيوني: الضفة الغربية ومن ضمنها القدس الشريف، وغزة، والجولان. وفي هذا السياق، رفض اكثر من عرض بانسحاب الاحتلال من كامل الأراضي المصرية، مقابل تخلي مصر عن الاراضي العربية المحتلة الأخرى، وبهذا الخصوص صرح "قالت أمريكا ان اسرائيل على استعداد ان تجلو عن سيناء وعن كل الاراضي المصرية على ان نتجاهل القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، وقلنا إن الانسحاب من القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، يجب ان يكون قبل الانسحاب من سيناء، لأن هذه المعركة هي معركة قومية عربية". عندما سأله ممثل مصر في المباحثات مع الادارة الامريكية عن الحد الأدنى للمطالب المصرية، اجاب عبد الناصر "حدنا الأدنى هو القدس وحقوق الشعب الفلسطيني". في جملة قصيرة تتمثل كل معاني الأنفة والشهامة والإيمان العميق بوحدة مصير الامة.

القوات التي في 6 تشرين الاول/ أكتوبر 1973 عبرت قناة السويس، واقتحمت خط بارليف، كانت بمثابة قوات عبد الناصر من حيث الاعداد والتدريب والتجهيز. أولى أولويات عبد الناصر، بعد النكسة، كان تأسيس جيشٍ عصريٍ، من قادة اكفاء، ومقاتلين مندفعين، وجنود مسلحين بأحدث ما يمكن الحصول عليه من اجهزة ومعدات وعتاد. وفي هذا السياق، اضاف جيشين جديدين الثاني والثالث، واستحدث منظومة قوات الدفاع الجوي لتكون القوة الرابعة بجانب القوات البرية والجوية والبحرية. هذه المنظومة هي التي بنت على الجانب الغربي من قناة السويس حائط صواريخ ارض جو، الذي حمى المجال الجوي المصري، ومكن القوات البرية من عبور القناة، وذلل للقوة الجوية دك مواقع العدو في سيناء المحتلة.

تأسيس هذه المنظومة جاء لمواجهة التفوق الجوي الذي كان يتمتع به الطيران الصهيوني جراء تزويد واشنطن له بأحدث ما كانت تنتجه مصانعها من طائرات حربية من طراز فانتوم وسكاي هوك. شكل بناء هذا الحائط ملحمة بطولية في الإبداع والتصميم والتحدي، استدعى تحقيقه استشهاد مئات الجنود والمهندسين والعمال، حيث بذل الكيان الصهيوني أقصى جهده لقصف وتدمير مواقعه قبل إتمامها، ولكن تم استكماله في نحو ثلاثة اشهر قبل وفاة عبد الناصر، وبذلك انجز الشعب المصري، بإرادته وابداعه وتضحياته، اضخم نظام للدفاع الجوي، وأكثرها تطوراً في العالم حينذٍ.

برهن الشعب العربي في مصر، مستلهماً بقيادة عبد الناصر، على ان الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية لم يعن إلا خسارة معركة، وأن لظى الحرب ستبقى ملتهبة. في الاول من تموز/ يوليو 1967 هاجمت قوات الصاعقة المصرية دبابات للكيان الصهيوني في منطقة بورفؤاد، ودمرت عدداً منها في معركة سميت برأس العش. في 15/14 من نفس الشهر، قصفت طائرات مصرية مواقع للعدو في سيناء وحصل اشتباك جوي، نتج عنه سقوط مقاتلات للعدو الصهيوني. في اول تشرين الاول/ اكتوبر 1967 شنت القوات البحرية المصرية هجوماً بالصواريخ على المدمرة إيلات وتم إغراقها، وهنالك معلومات تشير الى اغراق مدمرة أخرى، اسمها يافا، عائدة أيضاً للأسطول الصهيوني. وقامت البحرية المصرية كذلك بغارات على ميناء إيلات في 1970/1969 أسفرت عن تدمير سفن ومعدات والرصيف العسكري اضافة الى مقتل وجرح عدد من البحارة الصهاينة. هذه المعارك تمثل غيضاً من فيض من المواقع التي اشتبكت فيها القوات المسلحة المصرية مع العدو خلال حرب الاستنزاف.

شن عبد الناصر حرب الاستنزاف ضد الكيان الغاصب مباشرة بعد انكسار حزيران/ يونيو 1967 لتحقيق أهداف ثلاث: الاول لإثبات ان هزيمة يونيو/ حزيران لم تكسر الإرادة المصرية في مواصلة الحرب حتى النصر المبين؛ الثاني لاستنزاف قوى وطاقات العدو؛ والثالث لرفع الكفاءات والإمكانيات والخبرة القتالية لقواته المسلحة استعداداً لمعركة التحرير الكبرى. ما خطط له عبد الناصر هو خوض معركة شاملة لدحر الكيان الصهيوني واسترجاع كافة الأراضي المحتلة، بينما ما هدف اليه الحاكم المرتد، في تشرين الاول/ اكتوبر 1973، هو شن معركة تحريك وليست تحرير، معركة محدودة تهدف الى حث امريكا على رفع مستوى تدخلها في الشؤون المصرية-الصهيونية، وفعلاً استجابت واشنطن وكثّفت جهودها في هذا الخصوص، جهوداً تكللت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد سيئة الصيت.

ما يبرهن على عدم رغبة الحاكم المرتد في خوض معركة شاملة ضد العدو الصهيوني هو ما كتبه في مذكراته: "لو أني صفيت الثغرة (وحدات عسكرية صهيونية عبرت الى الجزء الغربي من قناة السويس في منطقة الدفرسوار) حسب الخطة الموضوعة والتي وقعتها بنفسي، كانت اسرائيل ستفقد 400 دبابة و10,000 عسكري ما بين قتيل وجريح، ولم يكن هذا بالأمر الصعب او المحتمل بل الأكيد، وكل الحسابات العسكرية تؤكد انها لو تمت فستكون مذبحة للتاريخ، ولكني لم أتمها لأنها كانت ستعني الكثير من الدم والكراهية والأحقاد وانا اكره كل هذا". لو كان الحاكم فعلاً قادراً على تصفية "الثغرة" والحاق هزيمة ساحقة وتاريخية بقوات العدو، فلماذا لم يطلب من الكيان الصهيوني الانسحاب من جميع الاراضي العربية كثمن لعدم شنه هجوم يمحق فيه "400 دبابة و10,000 عسكري". علاوة على هذا، لو كان الجيش المصري يحاصر هذه القوات الصهيونية في محيط تل ابيب، لكان لمشاعر الحاكم "الحنونة" وجهة نظر، ولكنها كانت قوات غازية معتدية علي ارض مصرية، قوات آثمة لكيان يحتل ويدنس القدس، المدينة الحاضنة لكنيسة القيامة، ولأولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، كيان سفّاح قتل مئات الألوف من الشهداء المصريين، كيان سفاك لا يعترف بأي حرمة للدم، كيان ارتكب عشرات المذابح بحق الأمة: دير ياسين وخان يونس وبلد الشيخ وحيفا وابو زعبل وبحر البقر وشاكيد، وهذه أمثلة قليلة من مجازر حدثت قبل اتفاقية كامب ديفيد، الاتفاقية التي مكنت العدو من الايغال في جرائمه، فأقترف بعدها مذابح صبرا وصبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي وقانا ومخيم جنين، وهي غيض من فيض.

لم يكتف الكيان الغاصب باقتراف المجازر، بل قام كذلك باجتياح لبنان في 1982، واحتلال عاصمتها، وقتل ما يقارب من 10,000 شهيداً من سكانها، وحرض ايضاً واشنطن على شن حرب على العراق وتدميره واحتلاله. الا يذكر الله تعالى: "و اعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"؟ ألم يكن التقيد بهذه الآية الكريمة سيجعل الأمة مهابة ومبجلة؟ ان كان هذا الحاكم فعلاً كارهاً للعنف والدم والحقد، فلماذا اختار افتك واقسى بلد كقدوة وحليفاً له؟ بلداً بني على اشلاء وجثث سكانه الأصليين (الهنود الحمر)، بلد يضطهد سكانه من اصول افريقية، بلد سياسات انظمته تسببت في قتل ملايين المدنيين في العراق وافغانستان وهيروشيما وناكازاكي وفيتنام وكمبوديا وامريكا اللاتينية، بلد يدعم ويمول العدو الغاصب، ويزوده بأفتك الأسلحة وأكثرها دماراً، ليمعن في غيه وبغيه.

القضية الفلسطينية
القضية الفلسطينية عند عبد الناصر لم تكن قضية جانبية، بل كانت من أجلّ أولوياته الجوهرية. من اهم أسباب قيام الثورة المصرية في 1952 هو الموقف المتخاذل الذي اتخذه النظام الملكي تجاه الكيان الصهيوني في 1948. قاتل عبد الناصر العدو الصهيوني كضابط في الجيش المصري داخل الأراضي الفلسطينية في اسدود وعراق المنشية والفالوجة (اسمها متخذ من مدينة الفلوجة العراقية)، وعندما انسحبت وحدته من فلسطين في شباط/ فبراير 1949، اخد معه حفنة من ترابها. وقد وصفت مشاركته في حرب فلسطين وتأثيرها عليه "كشهاب انطلق من تحت نيران حرب فلسطين الى اوسع عملية تغيير في مصر والمنطقة ". بعد نجاح الثورة، استحدث عبد الناصر كتيبة فدائيين في غزة عام 1954 أسميت (141) ونفذ هؤلاء الفدائيون عشرات العمليات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تسببت في مصرع وجرح مئات الصهاينة وتدمير منشآتهم.

حرص عبدالناصر ان لا تُختزل القضية الفلسطينية بمسألة لاجئين، اذ أراد إنشاء كيان فلسطيني مقدام يجاهد من اجل استرجاع كافة الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني. وتكللت جهوده في هذا الشأن بالنجاح عندما استحدثت رسميا منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، الذي اكد اول رئيس لجهازها التنفيذي، احمد الشقيري، بأنه " لولا مصر ولولا عبد الناصر بالذات لما قامت المنظمة". بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 تبنى عبد الناصر وآزر بقوة العمل الفدائي الفلسطيني، وقدم له السند المالي والمعنوي والعسكري على جميع الاصعدة. وحشد له الدعم الدولي خصوصا عند دول المعسكر الاشتراكي وعدم الانحياز، وعاضد الرئيس الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، وزكاه الى رؤساء دول العالم الصديقة. وعندما تعرضت المقاومة الفلسطينية لضغوط في الاردن سنة 1970، لم يتردد في دعمها الكامل، رغم الانتقادات القاسية التي وجهها اليه بعض المزايدين لقبوله التكتيكي بمشروع روجرز، مزايدون من حملة الشعارات الإنشائية الجوفاء، واتباع الفكر اليساري الطفولي، مزايدون ارتضى بعضهم، بعد وفاة عبد الناصر، باتفاقية "اريحا- غزة اولا" البائسة مع العدو الغاصب.

إن عداء عبد الناصر للكيان الصهيوني الاستيطاني لم يكن منبعه نزاع حدود او خلافاً على اراضٍ محتلة، بل في جوهره صراع قيم حضارية، ومبادئ انسانية، واسس ايمانية. في المفهوم الناصري أي كيان هجين لا يتأقلم مع بيئته، ويستوجب تكوينه وديمومته ارتكاب المجازر، واقتراف الظلم، والاعتماد على البطش والعدوان، هو كيان موبوء بالشر والخبث ولا يمكن التعايش معه. ما كان عبد الناصر يخطط له، هي ملحمة عز لدحر البغي والرجس الصهيوني، وليس فقط لتحرير الاراضي المحتلة. تجلى هذا المنظور في رسالة بعثها عبد الناصر الى وزير دفاعه، جاء فيها: "انهم (مقاتلي القوات المسلحة) في معركتهم القادمة، ليسوا جنود أمتهم فقط، ولكنهم، جند الله، حماة أديانه، وحماة بيوته، وحماة كتبه المقدسة. إن معركتهم القادمة لن تكون معركة تحرير فحسب، ولكنه اصبح ضرورياً ان تكون معركة التطهير ايضاً. اننا امام عدو لم يكتف بتحدي الانسان ولكنه تجاوز ذلك غروراً وجنوناً، ومد تحديه الى مقدسات ارادها الله بيوتاً له، وبارك من حولها، ولسوف تعود جيوشنا الى رحاب المسجد الاقصى. ولسوف نحارب من اجل ذلك، ولن نلقي السلاح حتى ينصر الله جنده، ويعلي الحق، ويعز بيته، ويعود السلام الحقيقي الى مدينة السلام".

عندما احتد الاقتتال بين فصائل المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، أرسل عبد الناصر رئيس اركان قواته المسلحة الى الاردن حاملاً رسالة الى العاهل الاردني بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر 1970، جاء فيها: "ان المقاومة الفلسطينية ظاهرة من أنبل الظواهر التي أسفرت عنها نكسة يونيو 1967. وأريدك بأمانة ان تعرف اننا لن نسمح بتصفية المقاومة الفلسطينية". في ذلك الوقت، كان عبد الناصر يعاني من وعكة صحية منهكة، اقتضت ادخاله مصحاً في مرسي مطروح للتعافي. في ظل ظروفه الصحية، كان في امكانه، كما يفعل الحكام (الاصحاء) الحاليون، الاكتفاء باصدار بيان مفاده "ان مصر تنظر بعين القلق لمجريات الامور في الاردن، وتطلب من الاطراف المعنية ضبط النفس الخ". الا انه، رغم مرضه وعلالة قلبه، عاد الى القاهرة ودعا اليها الرؤساء العرب لعقد مؤتمر طارئ. بدأت الاجتماعات في 23 أيلول/ سبتمبر واستمرت لأربعة أيام مرهقة قاسية تمخضت عن اتفاق بين النظام الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية لوقف الاقتتال. من اجل المقاومة الفلسطينية والتضامن العربي، ضحى عبد الناصر بأعز ما يملك، اذ صعدت روحه الطاهرة الى بارئها في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، وتيتمت بذلك أمته التي شيعته بملايينها في جنازة حزن واسى لم يشهد لها العالم مثيلا.

تعرض عبد الناصر، اثناء حياته ومنذ وفاته ولحد الان، لحملات اعلامية رهيبة من الدجل والافتراء والغش، حملات تعكس حقد محرضيها اللئيم وخوفهم العميق من قائد حررت مسيرته طاقات الأمة على مجابهة الظلم والتشرذم والاستغلال، وبلور نهجه قدرات الأمة على تحقيق الازدهار والرقي والرشاد، واطلق اتجاهه عزيمة الأمة على نصرة الكادحين وقهر الفاسدين ومجابه المستكبرين. يشهد التاريخ وتبرهن الحقائق، رغم كل تلفيق وكذب وتدليس المضللين، لقي عبد الناصر ربه، وشمس مصر العروبة تسطع، وعزتها تسمو، وشعبها ينجز، وجيشها يقارع، واقتصادها ينمو، وأدبها يرتقي، وفنها يعلو، وثقافتها تطغي، ومعاملها تنتج، وحقولها تخضر. حسين هو الاسم الثالث لعبد الناصر، التلاقي في الاسماء يمتد الى التوافق في النهج. مما لاشك فيه، ان التوجه الناصري تجانس مع مسيرة سيد شباب أهل الجنة، الحسين عليه السلام، المناهضة للظلم والفساد. من الحق القول، ان عبد الناصر استشهد (باذن الله) مؤمناً ومحتذياً بالمقولة الخالدة والمبجلة لسيد الشهداء: "هيهات منا الذلة". السلام عليهما يوم ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان حيين.