يرى الكاتب اللبناني أن الموشّحات الأندلسيّة لم تحظ بدراسات نقدية جادّة في اللغة العربية. ويشير إلى أنّها قطعٌ فنيّة فريدة في بنيتها وإيقاعاتها وصورها وروحها الشعريّة، بل هي ثورةٌ عروضيّة تجديديّة، كسرت العمود التقليدي، وطوعت أوزان القصيدة إلى المرونة الموسيقيّة.

الموشّحات الأندلسيّة

جهاد فاضل

 

لم تظفر الموشّحات الأندلسية بدراسات جادّة لا قديمًا ولا حديثًا.

فالباحثون، خصوصًا القدماء منهم، أخرجوها من إطار الشعر العربي واعتبروها من الشعر الهامشي الذي لا يُتعامَل معه بجدّية. أما في العصر الحديث فقليلة جدًا هي الدراسات التي التفتت إلى الموشحات واهتمّت بها كلون من ألوان الشعر العربيّ وصورة من صوره. فكأنّ هؤلاء الباحثين ألحقوا الموشحات بعالم الغناء والحياة الاجتماعية الرغدة في الأندلس لا بتاريخ الشعر العربي والتطور الذي آل إليه هذا الشعر في مرحلة من مراحله.. ولهؤلاء الباحثين بالطبع أسبابهم الموجبة لمثل هذا النظر، ولكنها أسباب لا تنفي أن هذه الموشحات حملت ملامح مرحلة وملامح شعر في الوقت نفسه، إذ لم تكن البيئة الأندلسية هي نفس البيئة الشرقية التي أنبتت المتنبي والبحتري وأبا تمام، فهي بيئة أخرى امتزج فيها العرب بالإفرنج وشعوب وثقافات وحضارات أخرى. لذلك كان طبيعيًا أن يكون لهذه البيئة العربية المختلطة شعر آخر غير الشعر التقليدي الذي عرفته البيئة المشرقية.

الكتاب الذي نعرض له في هذا المقال: «طراز التوشيح: قراءة نصية حرة»، الصادر عن الدار المصرية/ اللبنانية، للدكتور صلاح فضل، يدرس ظاهرة الموشّحات عند عددٍ وافرٍ من شعرائها المعروفين، وهي دراسة ذات شأن تحيط بهذا الموضوع إحاطة معمّقة، نظرًا لأن الباحث متخصص أصلًا بالأدب الأندلسي والموشّحات جزء جوهري منه.

ويرى الباحث المصري الكبير أن الموشّحة تتميز عن القصيدة العربية بأن الأصل فيها هو الغناء والتلحين الموسيقى. فكلماتها كانت توضع طبقًا لأنغام سارية على الأندلس، والمقطع الأخير منها يحسن أن يكون أشطارًا مغناة بالفعل بالعامية الأندلسية أو بالأعجمية الأسبانية القديمة، وهذه «الخرجة» كما تُسمى، يقول عنها ابن سناء الملك في كتابه «دار الطراز» هي والخرجة هي أبزارُ الموشّح وملحُه وسُكّره، ومِسكُه وعنبره، وهي العاقبة، وينبغي أن تكون حميدة، والخاتمة -بل السابقة- وإن كانت الأخيرة، هي التي ينبغي أن يسبق الخاطر إليها، ويعملها من ينظم الموشّح في الأول، وقبل أن يتقيد بوزن أو قافية، أي أنه يختار جزءًا من أغنية دارجة وينظم الموشح على أساسه، فإن لم يفعل ذلك كان نظمه باردًا خاليًا من الحيوية. غير أن هناك مشكلة في تناقل هذه النصوص في المصادر الأولى، إذ امتنعت الكتب العربية الكلاسيكية عن إيرادها، وتداولها من لا يعرف اللهجة الأندلسية ولا اللغة الأسبانية، فحرّفوها وعرّبوها وأفقدوها مذاقها الغنائي الأصيل حتى جاء بعض الباحثين الأسبان فاكتشفوا هذه الخاصية وأجادوا قراءة النصوص الأصلية.

يقول صلاح فضل: إن هناك مفارقة في أمر هذه الموشّحات. فالعلماء يجدونها مليحة شيقة، ولكنها غير جديرة بأن تتخذ موقعها إلى جانب الأدب الكلاسيكي من شعر ونثر في كتبهم الرصينة. حتى أن ابن عبدربه، صاحب العقد الفريد، يُعزى إليه أنه أحد الذين ابتكروا شكل الموشّحات وأبدعوا فيها، لكنه لم يضّمن كتابه إيّه إشارة أو نموذج منها.

بالإضافة إلى ذلك، هناك إشكالية تحيط بالموشّحات تتعلق بأوزانها فقد اختلف العلماء في أمرها. وموجز القول في هذا الشأن.

- طوّرت الموشحات في وزن الشعر العربي ونظام تقفيته. إنها ثورة عروضية تجديدية كسرت عمود القصيدة التقليدية وابتكرت نظامًا جديدًا في الشعر.

- يرى كثير من العلماء العرب أن الموشّحات لم تخرج على بحور الخليل وإن غيّرت في أطوال الأشطار ونظام التفعيلات ووظفت بعض الأعاريض المهملة كما يقول الأقدمون.

- يرى بعض المستشرقين الأسبان أن الموشّحات تعتمد على نظام النبر المعتمد في الشعر الأسباني، فتجمع أوزانًا عربية وإيقاعات أندلسية أوروبية.

- من المؤكد أن الموشّحات كانت تعتمد على الغناء والتلحين، وأن تطويع أوزانها ربما يعود إلى هذه المرونة الموسيقية التي كانت تجبر بعض ما يُخيل أنه كسر عروضي. وهي على أية حال قطع فنية فريدة في بنيتها وإيقاعاتها وصورها وروحها الشعرية الأصيلة.

اعتمدت الموشّحة على الغناء كما ذكرنا، وكانت الأندلس مجالًا لامتزاج الألحان الأصلية بالألحان العربية الوافدة. فهذا هو التيفاشي المتوفى عام ٦٥١ هجرية وهو عالم تونسي تخصص في الأحجار الكريمة يقول: إن أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إما بطريقة النصارى، وإما بطريقة حداء العرب. يقول ابن رافع في موشّحة له:

كم قلتُ والعذولُ

لو كان يسمعُ

حسبي أنا الملولُ

ما شاء يصنُع

أكشف كم ذا العتاب

عاتبني حجج

إن الهوى لشرعي

لي في الهوى حُجج!

الشاعر يحاول تضليل العذول فيوهمه بأنه قد ملّ من الحبّ وقنع بالبعد. لكن العذول لا يسمع فيظل متحملًا قبل أن يهيب به أن يكفّ عن عتابه وقد استمرّ أعوامًا، فالهوى ديدنه وشرعه دله في ذلك حجج وبراهين. تجانس الكلمات وإيقاع العبارات وحركية الحوار هو ما يضفي على النظم قدرًا من الحيوية ويجعل القوافي تطريزًا صوتيًا ولعبًا لغويًا يدور حول حالة من عناد الحب..

نجوم كثيرة لامعة في سماء التوشيح يعرض لها الدكتور صلاح فضل في كتابه، من هؤلاء الوشّاحين ابن زهر المعروف بالحفيد، وهو من أعرق الأسر الأندلسية التي اشتهرت بالطب والعلم والفن والشعر. وكان من موشّحاته نماذج عليا من تلك التي نطلق عليها «أم السلالات الشعرية»، أي تلك التي أسست لنهج تعبيري اجتهد الشعراء بعده في تمثلها ومجاراتها، ومنها تلك الموشحة الشهيرة التي يقول فيها:

أيها الساقي إليك المشتكى

قد دعوناك وإن لم تسمعِ

ونديم همتُ في غرّته

وشربتُ الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرته

جذب الزقّ إليه واتكّا

وسقاني أربعا في أربعِ

نجاح هذه الصياغة يعود إلى عوامل تركيبية وإيقاعية وتصويرية. فاستهلال الموشّحة بنداء الساقي يستحضر موقفًا سهل التمثيل، ولكنه عندما يقرن ذلك بالشكوى إليه، يشعرنا بأنه لم يقصد الساقي العادي. ثم يمعن في استحضار الموقف التمثيلي ذاته. فعدم سماع من نناديهم أمر طبيعي، لكنه يمكن أن يشير أيضًا إلى عدم الاستجابة لكل ما يطمح إليه المشُتاق. ظاهر النظم قوي النبرات مترابط الوحدات ينصرف بعد المطلع ليجسد صورة شديدة الوضوح لهذا النديم المعشوق، يكاد يضفي جلالًا على عبثه. فصوت القصيدة الذي عبر عن نفسه بصيغة الجمع يخلص إلى الحديث عن نديمه بصيغة المفرد حتى يبرز هيامه الشخصي في غرّته، وهو هيام لا يجرح الحسّ الأخلاقي في التغزل بالمذكر لأنه قد يعني به المؤنث. على أن التجانس الصوتي بين الراح المشروب والراحة التي تقدمه، من شأنه أن يبعث على الارتياح. كما أن التفاعل الدلالي بين اليقظة والسكرة يفضي إلى تصوير المشهد الرائع الذي يجذب فيه النديم زقه، ويتكئ على جنبه ويسقي صاحبه أربعا في أربع، ليبرهن على أنه قد سمع وأمتع. ثم يلي ذلك قول الشاعر:

غُصن بانٍ مال من حيث استوى

بات من يهواه من فرط الجوى

خافق الأحشاء موهون القوى

كلما فكّر في البين بكى

ويحه يبكي لما لم يقعِ !

ويبدو أن الموشّحات من المنظومات القليلة التي كان الرجال يضعون كلماتها لتغنيها النساء. ألهذا السبب نجد واضعها يعّبر عن الشوق المحتدم في قلب المرأة إن تغزل بالمذكر؟ في هذا المقطع ينتقل الحديث إلى وصف المرأة الهيفاء كأنها غصن بان. والعجيب أنه عندما يفكر في الهجر ينخرط في البكاء، وإذا كان هذا الهجر قدرًا لا مفرّ منه فلماذا يبكي؟ فهل خلف هذه المعاني رثاء للمدن الأندلسية التي شهد ابن زهر انفراط عقدها وسقوطها واحدة إثر الأخرى في قبضة الأعداء؟

كان ابن زهر الحفيد يستشعر ريح الغروب المبكر للأندلس فيبكي لما لم يقع بعد. وشهرة موشحته لا تعود فقط إلى قوتها في التمثيل الجمالي لمشاعر العاشق في مجالس الشراب، وإنما لأن قرّاءها من الأجيال التالية وجدوا فيها نفاثات مصدور يعبّر عن الجوى العام واللهفة لرفع أسباب الفراق:

ما لعيني عشيت بالنظرِ

أنكرت بعدك ضوء القمرِ

وإذا ما شئت فاسمع خبري

عشيت عيناي من طول البكا

وبكى بعضي على بعضي معي

ويخصّص الباحث فصلًا للسان الدين ابن الخطيب (٧١٣ / ٧٧٦ هـ) أحد ذرى التوشيح الأندلسي قبل أن تغرب شمسه وينتقل إلى المشرق العربي، وكان ابن الخطيب أنموذجًا فذًا للكاتب الشاعر الذي يملأ مكانته باعتباره رجل دولة يتولى وزارتين هما السيف والقلم في عهد بني الأحمر في غرناطة، حتى نفي مع السلطان إلى المغرب إثر الاضطرابات التي اجتاحت الأندلس وعجّلت بنهايته. ولم يلبث ابن الخطيب أن لقي مصيرًا أليمًا عندما قُتل بمكيدة سياسية قادها تلميذه الشاعر ابن زمرك بتهمة الزندقة. ويبدو أن القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي كان يؤذن بقرب سقوط الأندلس، ما جعل ابن الخطيب ينتقل من الغزل الذي دارت حوله موشحة ابن سهل إلى نبرة أخرى تبكي الزمان والمكان فقد شعر بلدغ فراق بلده وتوجه بخطابه إليه يدعو له بأن يغمره الغيث الجواد بوابل رحمته قائلًا:

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصل بالأندلسِ

لم يكن وصلك إلا حلمًا

في الكرى أو خلسة المختلسِ

ومع أنه يتبع التقليد العربي في الدعاء بالسقيا لأطلال الأحبة، لكنه ينتقل به إلى تقليد جديد في رثاء المدن الأندلسية. فهو لا يبكي مدينة بعينها، بقدر ما يستمطر السماء على «زمان الوصل بالأندلس»، هذا الوصل الذي يتجاوز حدود العشق البشري بمحبوب كان ابن سهل يناجيه بمطلعه:

هل درى ظبي الحمى أن قد حمى

قلب صلبّ حله عن مَكنَسِ

فهو في حرّ وخفق مثلما

لعبت ريح الصبا بالقبسِ

ابن الخطيب يتغنى ويستمطر السماء على الأندلس كلها لأول مرة في الشعر العربي، لا على دار الحبيب فحسب. وهو لا يكتفي بتسجيل خفقان قلب في تصوير لوعة الحب مثلما تلعب ريح الصبا بقبس القناديل، بل يجد ابن الخطيب نفسه وهو يتمثل زمان الوصل بالأندلس باعتباره حلمًا لا حقيقة راوده في المنام خلسة عابرة ثم استيقظ منه على الحقيقة الأليمة.

إنها نقلة كبرى في الشعر من الوجد الفردي إلى الهمّ

الجماعي، من المرأة إلى الوطن، ومن ثم فهو يستحضر نعم الأندلس التي فاضت عليه، وتحقيق كل أمانيه قائلًا:

إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما يرسمُ

زمرًا بين فرادى وثنى

مثلما يدعو الوفودَ الموسمُ

والحيا قد جلّل الروضَ سنى

فثغر الدهر فيه يبسمُ

كان ابن سهل في موشحة له يتغنى بفعل الجمال في نفسه وأثر الحسن على حواسه، ولكن الوزير المغترب ابن الخطيب يستحضر في أبياته السابقة مواكب العز الأندلسي وحركة الوفود التي كانت ترد إليه مثنى وفرادى وجماعات، بينما يقطر المطر على رياض الأندلس فيزيدها نضرة وألقًا يجعل ثغر الدهر يبتسم له من ازدهار الملك وعزة الدولة ومجده الشخصي أيضًا.

كان ابن الخطيب المعبّر الأوفى عن روح الأندلس وحفاوتها العظمى بالطبيعة يطيل المكوث في حضنها، فيمثل حركة الليل والنهار كأنها هجوم الجيوش الغازية والشهُب الغائرة إذ يقول:

حين لذّ الأنسُ شيئًا، أو كما

هجم الصبحُ هجومَ الحرسِ

غارت الشهبُ بنا، أو ربما

أثرت فينا عيونُ النرجسِ

وفي منفاه بالمغرب يستحضر ابن الخطيب في مخيلته وجه الأندلس الرطيب عندما تهطل عليه الأمطار فتبتسم الأزهار:

وروى النعمان عن ماء السما

كيف يروي مالك عن أنسِ

فكساه الحسن ثوبًا معلمًا

يزدهي منه بأبهى ملبسِ

عند ابن الخطيب تستحيل أسماء التراث العربي القديم إشارات ثقافية. النعمان هو النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة وممدوح النابغة الذبياني، وقد مات شابًا. وماء السماء هي جدّته لأنها أم المنذر اللخمي. ومالك بن أنس هو إمام دار الهجرة الذي ينُسب إليه المذهب المالكي. أما أنس فهو أنس بن مالك خادم الرسول (صلى الله عليه وسلم). إن تلاعب الشاعر بهذه الأسماء يشير فيما يبدو إلى أكثر من ذكر حقيقتها التاريخية، فأن يروي النعمان على جدته ماء السماء، فهذا شيء لا غرابة فيه، لكن اسمه الذي يدل على النعمة ملائم للمطر الذي ينجم عن ماء السماء، كما أن يروي الإمام مالك بن أنس عن خادم الرسول وحافظ أحاديثه، توحي بأنه يروي عن جدّه الأبعد أيضًا. لكن ما ينجم عن هذه الرواية هو أن يكسو الحسن رياض الأندلس، وتصبح هذه البقعة كما هو معروف في التاريخ الثقافي مالكية المذهب. نلاحظ هنا الخلفية التاريخية والعلمية لابن الخطيب وهي تلقي بظلالها على دلالات شعره المكثف:

في ليالٍ كتمت سرّ الهوى

بالدجى، لولا شموس الغررِ

مال نجم الكأس فيها وهوى

مستقيم السير سعد الأثرِ

وطرٌ ما فيه عن عيب سوى

أنه مرّ كلمح البصر...

وفي المقطع الرابع من موشحته يقول ابن الخطيب:

يا أُهيل الحيّ من وادي الغضى

وبقلبي مسكنٌ، أنتم بهِ

ضاق عن وجدي بكم رحب الغضا

لا أُبالي شرقه من غربه

فأعيدوا عهد أنس قد مضَى

تعتقوا عانيكُمُ من كربه!

«يا أُهيل الحي» تحمل معنى التحبب، فتشير إلى أهل الموطن الغالي في الأندلس ويظل هذا التقليد ماثلًا في الثقافة الأندلسية حتى بعد انتهاء اللغة العربية.

يكتب الشاعر الغرناطي لوركا فصلًا ممتعًا عن دلالات التصغير المحببة لدى سكان غرناطة والأندلس الحاليين في اللغة الأسبانية..

مرت خمسة قرون على غياب الفردوس الأندلسي، لكنه لم يغادر موقعه حتى الآن في الحلم الجماعي لأهل المغارب، حتى أصبح شعار «عودة الأندلس» الذي رفعه علاّل الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي تعبيرًا عما تجذّر في وجدان الجماعة وتغنت به الجوقات الموسيقية وهي تتلو الموشحات بنغمة رتيبة وفي مقدمتها هذا الموشح للسان الدين بن الخطيب:

إن يكن جار وخاب الأملُ

وفؤاد الصبّ بالشوق يذوب

فهو للنفس حبيب أول

ليس في الحب لمحبوب ذنوب

أمره معتمل ممتثل

في ضلوع قد براها وقلوب

حكم اللحظ بها فاحتكما

لم يراقب في ضعاف الأنفس

منصف المظلوم مما ظلما

ومجازي البرّ عنها والمُسي!