ينسج الروائي المصري حياة مبنى وأسرة عبر أكثر من ثلاث أجيال، منذ الأجداد الفقراء وحياتهم البسيطة، راصداً تفاصيل تحسن أوضاعهم حتى أمتلكوا يناية من عدة طوابق في السويس، وسيعيش القارئ حياة الأسرة وتقلباتها، والعلاقات بين الأخوة في مسار يكشف الظروف التي مرت بمصر والسويس.

بيتنا القديم (رواية)

رضـا صالـح

 

إهداء

إلى روح أبى رحمه الله

الذى أراد أن يبتسم فى وجه الدنيا

أهدى هذه الرواية..

 

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *

83الأنبياء صدق الله العظيم

من عرف بلاء غيره؛ هان عليه بلاؤه!

 

يجب أن تكون مثلا أعلى للناس

لكن المحيط حولك كله فاسد

من كلمات الفلاح الفصيح

 

ملحوظة

الشخصيات الواردة فى هذه الرواية مختلقة ولا علاقة لها بالواقع.

1

هبطت الطائرة إلى مدرج مطار القاهرة، غادر الركاب مقاعدهم وبدأوا فى دخول الأنبوب الموصل إلى الصالة الرئيسية؛ بالرغم من أن عودته الى مصر كانت نهائية هذه المرة؛ إلا أنه لم يحمل أى بضائع أو هدايا؛ لم يحمل سوى حقيبة يد والحقيبة الأخرى التى فى مخزن البضائع بالطائرة؛ ظل خالد أيوب عمران شاردا يتلفت هنا وهناك كأنما لا يعى ما حوله، تحرك كما فعل باقى الركاب، شعر ببارقة أمل لجمعه المال من الخليج، المال هوالذى سيحل له مشاكله، سيحول الأعداء الى أصدقاء، أو على الأقل ينهى عداوتهم؛ كلما تواجد فى مكان كان يشعر بمن يتربص به، صار يفكر فيما حدث ويفكر فى كيفية حدوثه، فى المساء كان يتكىء على وسادته يقرأ الجرائد والكتب والمجلات؛ ويتفرج على التلفزيون؛ ومع ذلك غالبا ما يظل مؤرقا طامعا فى أن تأخذه سنة من النوم؛ أصيب برعب خفى جعله مترددا فى الحركة فى أى اتجاه، خائفا من العفريت أن يطلع له! كان يخشى النوم كما يخشى ساعات اليقظة، يفكر فيما آل اليه المنزل، ويفكر كيف يحل تلك المشاكل الرهيبة التى خلفتها له الأفكار البالية؟

بعد خروجه من الأنبوب، كان مشتت الفكر؛ سارحا؛ أثناء سيره فى الممر الرخامى المؤدى إلى السير الكهربائى الذى يتحرك بحقائب المسافرين انزلقت قدمه اليسرى؛ لحق نفسه وقام مسرعا قبل أن يلفت أنظار المحيطين، كانت نظراته كمن يحدق فى اللاشىء ..

خالد أيوب عمران؛ ذاك اسمه وقد ناداه به مدرس اللغة العربية بالمدرسة الاعدادية، لم ينس حتى الآن تعقيب المدرس حينما قال:

أيوب .. ربنا يجعلنا من الشاكرين .. احنا مش قد الصبر يا بنى".

مرت عليه العبارة كأن شيئا لم يكن؛ ولكنه الآن عندما تذكر ما حدث؛ اعتقد أن الأستاذ كان على حق. . فى تلك اللحظات كان كأنما يرى غبارا قد أحاط بكل الأشياء الجميلة ، أو كأنما اكتشف أنه كان غائبا أو مغيبا عن تلك الحقائق، يسأل نفسه أحيانا : ما الطريقة المثلى للحصول على الحق؟ بالذراع، أم بالقانون؟ أم بتركه للزمن كما هو مفروض على أغلب الناس؟

لا يدرِ ما يفعل؟ أحيانا يسأل نفسه: أين ذهب التاريخ؟ تاريخ العائلة؛ أين اختفى التعب والشقاء الذى كابده أبى؟ وما نهاية تلك الدوامة التى وجدت نفسى بداخلها حتى كدت أغرق؟ و ما معنى حياتنا؟ وما المقصود بها؟ وهل أنا على حق أم على خطأ؟هل أساءت إليه بلده حتى يهجرها؟ أم أنه يفيد البلد، كما يقولون لأنه يجلب لها – هو وأمثاله – العملات الأجنبية، ويروجون للسياحة والتجارة؟!

تذّكر حوارا دار منذ سنوات بينه وبين صديقه، يومها شكى للصديق، قال له الصديق :استشر محاميا .استشار المحامى وهو متفائل فرح؛ يومها قال للمحامى أنا – كما تعلم – أسكن فى بيتنا القديم، البيت فيه أشياء كثيرة تحتاج إلى صيانة وإصلاح، مثلا؛ درجات السلم تحتاج إلى إعادة نظر، حوائط وأرضية المدخل تحتاج إلى دهانات حتى يزول عنها ذلك اللون الترابى القاتم الذى نفى بالفعل اللون الأصلى، مواسير المياه والصرف تحتاج إلى تغيير شامل، البيت به ثماني شقق، ايجار الشقة زهيد، وهو إيجار قديم، فى بيتنا شقة مؤجرة لإحدى الشركات؛ وهم يغلقونها لأنهم لا يحتاجونها فى الوقت الحالى، وعندما طالبنا بإعادتها إلى الورثة للإستفادة بها فى هذا الزمن العصيب، قال لنا أحد المديرين؛ لا فض فوه :

هذه الشقة يا سادة؛ صارت من أصول الشركة؛ فهى تعتبر ملكا وليست إيجارا، فإيجارها زهيد؛ المفرط فيها يعتبر مفرطا فى أصل من الأصول، ولا يملك رئيس مجلس الادارة أن يتنازل عن مثل هذه الشقة، لأنه سيحال فى هذه الحالة إلى التحقيق !

عندما نطالبهم بالمشاركة فى أعمال الصيانة يتغافلون عن الرد علينا ، ولا يأبهون بكلامنا، ويعملون أذنا من طين وأخرى من عجين، احترت وزهقت، قال لى أحد الأصدقاء : الصق إعلانا بمدخل البيت حتى يراه السكان، ويجيئون إليك فرحين لأنك ستقوم بتجميل وصيانة المبنى الذى يقطنونه بملاليم ! قلت والله فكرة !!وكتبت الاعلان بخط كبير واضح فى أحد مكاتب الكومبيوتر، وعلقت منه نسختين .

انتظرت حتى يسأل أحد، أثناء صعودى وهبوطى، لا حظت أن بعض الأبواب تفتح مصادفة، ثم لا يخرج منها أحد، ينتظر الساكن حتى أختفى أنا من على الدرج، ويبدأ هو فى الخروج حتى لا يقابلنى، زهقت ومللت، سحب نفسا طويلا وأكمل قائلا :يا أستاذ أنت تعرف الحق وتعرف أن الحق أحق أن يتبع؛ هل من الممكن أن ترفع لنا دعوى طرد حيث أن الشركة، ورأس مالها ملايين الجنيهات؛ لا تريد أن ترفع قيمة الإيجار قليلا فضلا عن حفنة جنيهات من أجل الصيانة والترميم، وهى تستأجر الشقة بجنيهات قليلة جدا تعد على أصابع اليدين !رد المحامى بأن القانون لم يلزم المستأجر بدفع الصيانات ولا يجوز المطالبة بطرده طالما يدفع الايجار !!

***

تمنى أن يهدم ذلك البيت القديم ويشرع فى بناء برج مكانه وينفق عليه كل ما اكتسبه من مال أثناء غربته . كان قد قرأ عن جماعة البنائين العظماء، هؤلاء الذين كرسوا حياتهم للبناء، وعرفوا هندسة الأرض وكيفية التعامل مع المواد، ودرسوا الاتجاهات الطبيعية؛ الشمال و الجنوب والشرق والغرب، بعد أن اطلع على كتاب الماسونية(البناؤن العظماء) اعترته رغبة شديدة أن يكون ضمن هؤلاء؛ ربما يكون أثرا يذكر له بعد انتقاله إلى الحياة الأخرى.

أحيانا يصاب بحزن دفين وهم عندما يذكر ذلك البيت؛ أحيانا أخرى على العكس ينتابه إحساس بالسعادة الخفية وبأنه سيكون مسرورا؛ فقد دله أحد الأصدقاء على طريق يسلكه ليحصل على قرار إزالة حتى سطح الأرض، ذلك بالدفع؛ بالبذل؛ أو سمّه بالعطاء؛ أو الرشوة كما يقال صراحة؛ بضع ألوف من الجنيهات؛ ولكن لا بأس؛ سيدفعها عن طيب خاطر أو عن سخط؛ لا يهم؛ يدفعها راضيا أو يدفعها غصبا عنه تحت الترابيزة أو فى الدرج؛ وفى الغالب يدفعها عن طريق وسيط؛ يقول له الصديق ألا بالصبر تبلغ ماتريد وبالتقوى يلين لك الحديد؛ ثم يعيد البيت ضاحكا وهو يقول ألا بالبلمونت تبلغ ماتريد وباللحاليح يلبن لك الحديد؛ وإذا أردت أن تنجز فعليك بالونجز؛ ولا بد فى هذه الأيام يا عزيزى من الإهتمام بالقهوة ودفعها؛ لأن القهوة صارت أهم من الأجر العادى الذى يتقاضاه الموظفون؛ والبلمونت والونجز هما كما تعلم صنفان منقرضان من السجائر؛ أيام كنت السجائر وفناجين القهوة وسائل بسيطة وتافهة لتسهيل الأمور وتسريع إنجازها وليس للحصول على الحق من عدمه.أما الآن فقد انقلبت المسائل رأسا على عقب .قرر أن يوافق على دفعها مقابل الحصول على الحق؛ ذلك الحق المهان الضائع وسط كومة من القوانين المعجِزة والتى تسحب الحق من أصحابه؛ كما تسحب الشعرة من العجين؛ لنرى أصحاب الأملاك القديمة حائرين ضائعين؛ ترى متى يكون التحرر من هؤلاء المحتلين الذين يدفعون ما لا يسمن ولا يغنى من جوع؟

مع ذلك؛ إذا تناسى كل شىء فلن ينس تلك الأيام؛ طفولته وشبابه وشبقه للحياة، التى قضاها فى رحاب بيت العائلة الذى أمضى فيه تلك الأيام والسنوات؛ وعشق كل ركن من أركانه بالرغم مما عاصره .. لم ينس خالد صورة والده أيوب؛ وضعها فى إطار خشبى له بريق لامع، تعود بين حين وآخر أن يمد يده بالمنفضة إلى الصورة ليزيح عنها الغبار وهو يقرأ الفاتحة .

ظل ينظر إلى السير الكهربائي سارح الفكر، وهو لا يدرك أن حقيبته هى وحدها التي يدور بها السير الآن؛ بعد أن حمل باقى المسافرين حقائبهم، وغادروا ..

***

2

هاجر الجد عمران من الصعيد، كان شابا فى مقتبل الحياة، فى مدينة المهجرتعرّف على الريس لمعى فى مقهاه الذى يقع أسفل منزله البغدادلى بالقرب من الساحل؛ المنزل له شرفات وحجرات رحيبة، عالية الأسقف، كان فرحا بوجود البواكى أسفل المنزل، البواكى تسرى خلالها تيارات هوائية منعشة أيام الصيف لتطفىء لهيب الحر، وفى الشتاء تحمى المارة من الأمطار الغزيرة والرياح، كل يوم يتعرف عمران أكثر وأكثر على الريس لمعى، كان الريس لمعى يمتلك زورقين يعملان فى نقل البضائع، يجرى الزورق متجها من لسان الخورالى ناحية بوررتوفيق ثم يبحر مستويا على مياه الخليج فى اتجاه الجنوب؛ عمل عمران فى أحد الزورقين، صار مسئولا عن التشغيل، كان يمسك جاروفا ضخما يملؤه بالفحم، ويقذف به عدة مرات أسفل حجرة الغلاية؛ مع ارتفاع صوت الماكينة تفوح رائحة الماء المغلى والحرارة العالية ودخان الفحم والرطوبة والعرق، يطمئن إلى عملها جيدا ويغلق باب الحجرة بعد أن يكشف على الزيت ويتأكد من وفرته وصلاحيته، يختفى الزورق فى عباب البحر ماضيا فى رحلته لنقل البضائع من وإلى الميناء القديم بالخور بالقرب من منطقة السليمانية، يقولون عنها إنها منطقة مبروكة، يوجد فى محيطها أضرحة لمجموعة من الأولياء الصالحين، بالقرب منها مقام سيدى الغريب، وسيدي فرج، والشيخ الظواهري وغيرهم .. بعد أن تأكد الريس لمعى من إخلاص "عمران"، وهمته العالية فى العمل؛ درّبه ليكون ريسا للزورق؛ نجح فى تلك المهمة ثم زوجه ابنته، وزرق ببنت أسمتها أمها فتنة، كان أبوها فرحا بها، مستبشرا خيرا بقدومها .

***

مع قيام الحرب العالمية الأولى ولدت فتنة عام 1914، كانت تخطو أولى خطواتها على الطريق البازلتى أمام البيت؛ تسير خطوات مع أمها؛ تدوس بقدميها الصغيرتين على رمال رمادية تلاحظ بها أصداف بحرية متباينة، عندما تقرب احداها من عينيها لتتأملها تداعب أنفها رائحة بحرية لذيذة، ينتهى مشوارها بمدرسة تأهيلية؛ المدرسة قريبة من البحر؛ صارت تتعلم الأبجدية وتتلو سورا قصيرة من القرآن الكريم، توفت أم فتنة بعد مرض قصير فى عز شبابها؛ تركت فتنة وهى على عتبات الصبا، لم تدرك أمها جيدا، كانت فتنة فى العام السابع أو الثامن من عمرها؛ لم يبق من ذكر أمها سوى بعض أشياء مثل كردان دهب، و أسورة، وبعض خيالات وأحداث قليلة مشتتة فى ذهنها ..

***

لم يتأخر الريس لمعى عن حل مشكلة عمران؛ لم تمض شهور حتى زوّجه لابنة أخيه؛ سرعان ما أنجبت، أكملت فتنة الحياة مع أبيها وزوجته الجديدة فى بيت السلمانية، كان أبوها يخشى عليها من تقلبات الحياة، خصوصا وانه يغيب فى البحر زمنا، فأوصى بها زوجته؛ التى ضيقت عليها الخناق، لتتقى شر بلاوى الدنيا كما كانت تقول..فى حياتها المنغلقة، اكتسبت فتنة الخوف وسرعة القلق وحدة الطبع ...

***

رُزق عمران من زوجته الجديدة بزكى، ثم أيوب؛ يليه محمود، وكانت الخاتمة مسكا مع ولادة ابنته عايدة ..

ولد زكى مع أحداث عام1923؛ اكتفى بحظه من التعليم الأولى وعمل بالتجارة؛ قامته الممشوقة ربما ساعدت فى الانفراد بنفسه وإيثارها؛ تزوج وعاش فى منزل بالسلمانية قريبا من عائلته.

أيوب المولود فى1925 لم يكمل تعليمه، وتعين فى الحجر الصحى، كان الحجر الصحى مشهورا باسم "الكارنتينا"، أيوب يصعد السفن مع طاقم الموظفين، يحفظ سؤالا يردده ويكرره فوق كل سفينة، يسأل القبطان :is there is any infectious disease on board?، هل يوجد أى عدوى فوق ظهر السفينة؟ و يسأل is there is any rats on board?.. هل هناك أى فئران؟ كان مسئولا عن الفحص الطبى ومراجعة الشهادات الصحية للتصريح بالسفر.

أثناء الوظيفة تزوج أيوب و استأنف دراسته حتى حصل على شهادة علقها على الحائط ببهو الشقة، وقد كتب عليها بخط الثلث "شهادة إتمام الدراسة الابتدائية"، وتلك صورته أعلى الشهادة، كان وسيم الملامح، له ابتسامة حزينة، شعره الفاحم اللامع مصفف إلى الخلف، شاربه الذى يراه فى الصورة ظل كما هو الآن؛ محفوف الجانبين كما تعود أن يراه.

***

محمود عمران1927 أصغر البنين- كأنه أكبرهم؛ يحمل همومهم جميعا، ولا يتأخر عن مساعدة أحد، هو الوحيد فى العائلة الذى أتيحت له فرصة استكمال التعليم فى مدرسة الزقازيق الثانوية؛ فى ذلك الوقت لم تكن فى مدينته مدرسة ثانوية، وكانت مصروفات الدراسة مرتفعة؛ سافر محمود ليدرس ويغترب فى الزقازيق، أيام حرب هتلر كان أيوب يعمل بالكارانتينا بمدينة الطور، كان وزير المعارف محمد حسين هيكل عائدا من رحلة الحج فى هذا العام، بعد نزوله من السفينة، قدم له أيوب طلبا لإعفاء أخيه محمود عمران من مصروفات الدراسة، نظر الوزير فى الطلب، وسلمه لسكرتيره، بعد أيام جاءت الموافقة على الطلب ممهورة باسم السيد الوزير وحصل محمود على شهادة إنهاء الدراسة الثانوية عقب انتهاء الحرب بشهور..

***

عايدة عمران 1930 أصغر الأبناء والبنات، عاشقة للحياة، تحب أفراد عائلتها ، التحقت بالمدرسة الأولية وتعلمت مبادىء القراءة والحساب، فى المساء تحب أن تجلس تحت قدمى أبيها حول المنقد، ليحكى لها أحداث النهار، ما دار فى البحر، يحكى لها عن الدلافين الجميلة التى تصاحبهم وتسابقهم؛ ويرونها وهى تمارس الألعاب البهلوانية لتجذب اهتمام البحارة، يحكى والدهاعن الحيتان الضخمة وكيف عانى منها، وتغلب عليها، يحكى لها عن الرياح الشديدة التى كادت تقلب الزورق، والأمواج العالية التى تصل إلى أعلى من بيتهم، يتحدث أيضا عما يجرى فى الموانىء التى يزورها، وفى العالم الذى يدركه ويحسه أو يسمع عنه ولا يراه، كان يمزج الحقائق بالخيال، كانت عايدة تفرح بذلك وتتنبه له جيدا.

بالرغم من ذكائها ونبوغها لم تكمل تعليمها كعادة معظم البنات فى ذلك الزمان، المهمة الأولى أن تُؤهل للزواج؛ تقوم بمساعدة أمها فى الأعمال المنزلية، تعد الطعام وتسعى فى تلبية مطالب ذويها وتغسل الملابس وتنشرها فوق السطح، تذرو الحبوب للدواجن، أخوها محمود أكبر منها بثلاثة أعوام، وأيوب اكبر منها بخمسة؛ بينما زكى ولد قبلها بأكثر من سبع سنوات، أما فتنة فتكبرها بستة عشر عاما تقريبا..

***

ترعرعت فتنة، امتد عودها وسرح شعرها كستنائيا، زوجّها أبوها من صاحب شركة لتموين السفن يدعى الريس سلامة، يمتلك لنشا يعمل عليه مراكبى وعامل، كما أن لديه عمال آخرون يعملون معه فى المكتب ويرسلهم لقضاء الحوائج التى قد تحتاجها السفن.

فى ليلة شتوية عاصفة رفض العمال النزول إلى البحر لإحساسهم بخطورته، هناك سفينة تنتظر فى الغاطس، بعد منتصف الليل ذهب الريس سلامة بنفسه إلى الميناء وأخذ اللنش؛ اصطحب معه ثلاثة من طاقم العمال ليشجعهم على إنجاز العمل وسط الرياح العاصفة والأمواج الهائجة؛ بمجرد ابتعادهم عن المرسى؛ ارتفعت كميات هائلة من المياه لتصب داخل اللنش الذى ينقلب فجأة؛ سقط طاقم اللنش فى المياه الباردة وسط الظلمة والأمواج الهادرة، لا يكاد أحدهم يرى يديه فى هذا الليل الأسود البهيم، أخذوا يصارعون الطبيعة، اصطدم رأس الريس سلامة بصخرة من صخور الشاطىء ليلقى مصرعه، لم ينج من الحادث سوى فرد واحد؛ بينما غرق الثلاثة الآخرون.

بعد وفاة الريس سلامة، عادت فتنة لتقيم مع أخواتها وأمها؛ حيث وضعت بعد شهورابنتها الوحيدة بسمة؛ كانت كسيرة النفس؛ حزينة؛ تتأسى بمشاركتهم الحياة عن قرب.

***

3

تزوج زكى عمران بعد حرب هتلر، وسكن فى شقة بحى السليمانية، بعد حصول محمود على شهادة البكالوريا التحق بشركة شل، إجادته للغة الإنجليزية كانت سببا لقربه من رؤسائه الأجانب؛ مع الأيام صارت له علاقات عديدة بزملائه، انتهى به المطاف إلى موقع يتعرف منه على كل الموظفين بالشركة، جلس على كرسى الإدارة بمكتب التوقيت " التايم أوفيس"، كانت الشركة تعج بالأجانب، الحقيقة أنهم هم الذين أسسوا الشركة وهندسوا كل شىء فيها؛ ووضعوا مخططا لها يقوم على الانضباط والالتزام .

كان أكثر إخوته شهرة، وأقربهم مودة لكل من يحيط به؛ له مكانة رفيعة فى محيط الأسرة والمجتمع؛ كما أن له نشاطا اجتماعيا ورياضيا هائلا، كان رئيسا لفريق كرة الهوكى على مستوى المدينة، ثم رئيسا له على مستوى الجمهورية، كانت هذه اللعبة التى يعشقها الانجليز ويشجعونها منتشرة أيامهم، كان محمود حلو اللسان، أجاد اللغة الانجليزية إجادة تامة كأهلها؛ يضاحك الأطفال، ولا يسأم من الكبار، أفكاره تسبق عصره؛ لا يسمع أحد عنه إلا وحياه إعجابا؛ كانت كلمات المديح والثناء له لا تفارق ألسنة المحيطين به.

***

التوظيف فى الشركات التى يقودها أجانب كان يعتمد على الكفاءة، ربما كانت الواسطة عاملا مهما أيضا، كان لابد على العامل أن يثبت وجوده وكفاءته، وإلا تعرض للمساءلة والطرد .

استمر أيوب فى وظيفته بالكارانتينا؛ تزوج مع نهاية حرب فلسطين عام 1948 من ابنة الجيران؛ أصل عائلتها من المرج، بعدها فارقت روح عمران جسدها عائدة إلى بارئها أثناء تواجده بالمسجد لأداء الصلاة.

أقام فى شقة بالإيجار، رزق فيها بطفلين، أبناء أيوب جميعهم مرت ولادتهم بملابسات تدخلت فيها الأقدار كى تنتشلهم من أخطار قاتلة، 1950عندما اشتدت على زوجته آلام الولادة الأولى؛ سارع أيوب ليحضر لها حنطورا لنقلها إلى المستشفى؛ لم يكن طبيب الولادة متواجدا فقامت بتوليدها إحدى الحكيمات، فى اليوم التالى غادرت المستشفى مع طفلتها البكرية ليلى التى نزلت إلى الحياة بزرقة عجيبة كادت أن تختنق بها...

بعدها جاءت ولادة خالد 1951، تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ خالد عندما ولدته أمه على إثر طلقات سريعة ومفاجئة ألمّت بها، لم يكن ميعاد الولادة متوسما فى هذا اليوم الذى حدثت فيه، فى سيرها مسرعة إلى الحمام فوجئت برأس المولود تطل منها فجلست لتلده فى الطرقة، بالقرب من باب حجرتها، تحت ظروف أشبه بالخيال ولم تكن الداية قد حضرت حتى تلك اللحظة..

انتقل أيوب للعمل بمساعدة أخيه محمود، إلى مصفاة البترول، على رأس الخليج، كان ذلك موافقا لثورة 1952 .

لم تصمد صور الأجانب كثيرا فى ذهن محمود؛ أحس أن تلك الأسماء الضخمة التى كان واجبا على العاملين أن يسبحوا بحمدها، مثل المهندس مانولى، ومستر وود والخواجة برناسوس وغيرهم؛ ماهى إلا شخوص أمثالنا، بل ربما نفوقهم فى نواحى الإنسانية بعاداتنا وتقاليدنا

***

فى بعض الأمسيات، كان الخواجة بارناسوس يتردد مع شلة من أصدقائه الأجانب على خمارة نعيم حيث يجلس هناك بالساعات ويخرج مترنحا آخر الليل.. تقع خمارة نعيم على الشارع العمومى الذى يقسم المدينة إلى قسمين، فى وسطه يمر شريط القطار الذى يكون حافلا بالبضائع و البشر الذاهبين إلى الميناء والعائدين منها، فى موسم الحج تزداد حركة القطارات ويعلو صفيرها؛ يشق القطار طريقه وسط المدينة معلنا عن قدومه؛ يزدحم وقت الصباح ومع عودة عمال الشحن والتفريغ وموظفى الجمارك والترسانة من الميناء حين تميل الشمس إلى الغروب .

***

الخواجة برناسوس يمتلك قطعة أرض بحى الغريب تطل على ميدان فسيح بالقرب من الكورنيش القديم؛ اشتراها بتراب الفلوس من أحد العمال الذين تم تعيينهم فى الشركة .

صباحا؛ سمع محمود دقات خفيفة على باب مكتبه، فتح الباب ليجد الخواجة بارناسوس فى مواجهته، رحّب به، كان برناسوس يرسم ابتسامة عريضة لا تكاد تفارق شفتيه، جلس على الفوتيه المقابل لمحمود وطلب منه أن يحضر له الليمون؛ تعجب محمود وبسرعة نادى على العامل الذى أسرع بإحضار كوبين من الليمون المثلج.

قال لمحمود بلهجة مكسرة:

فيه شوية حاجات أنا محتاجه علشان البيت.

أى بيت؟

بيت بتاع أنا..

فين يا خواجة؟

الأرض بتاعى فى حى الغريب..

وإيه المطلوب؟

ولا حاجة ..محمود ...أنت رجل كويس..رجل محترم..

تقصد إيه؟

أنت فيه سيارة تخرج من بوابه، أنت غير موجود فى الليل....أنت ما يسمع ..ما يشوف؟ فاهم حبيبى؟

تعجّب محمود من طلب الخواجة، كان يظن مع الكثيرين، أن الخواجات، وهم أعمدة الشغل، وخصوصا الكبراء منهم مثل برناسوس؛ هم قدوة يحاسبون الناس على الخطأ، ولا يخطئون؛ أدار الحوار فى ذهنه، هو يعلم تماما أن الخواجة من الممكن أن يطرده من العمل بكلمة واحدة، أوصى محمود عامل البوابة بأن يسجل رقم السيارة وميعاد خروجها، وذلك على سبيل الاحتياط، وحتى يمكنه تبرئة نفسه ووضع الخواجة فى الوحل إذا ما شاءت الظروف ..

كانت السيارة تخرج تحت جنح الليل من بوابة الشركة، أحيانا تكون محملة بأدوات السباكة مثل المواسير والجدايد والبويات والحنفيات وغيرها، أحيانا تخرج بألواح خشبية ومعدات بناء.كان الخواجة يأتى بالعمال من المصنع ليساعدوه فى مشروعه دون مقابل يذكر؛ استمر البناء، حتى وصل إلى الدور الرابع؛ خلاف الدور الأرضى. فى كل دور شقتان؛ إحداهما كبيرة تطل على الميدان والأخرى صغيرة؛ تطل على زقاق وبحر الخوربالناحية الشرقية. أكمل الخواجة تشطيب جميع الأدوار ماعدا الدور الرابع الذى ظلت شقتاه دون تشطيب .أقام برناسوس فى شقة بالدور الثالث؛ وأجر باقى الشقق والمحلات ماعدا شقتى الدور الأخير.

***

4

أُطلقت صافرة السادسة صباحا؛ توجه برناسوس إلى مكتب التوقيت " التايم أوفيس"، كان محمود جالسا فى مكتبه، قام كعادته ليرحب ببرناسوس، رأى على وجهه علامات الإرهاق والأسى، تذكر محمود وجهه المتفائل عند زيارته الأولى له، تعجب من هذا التناقض..

أهلا أهلا..

أهلا بك محمود

تمضى اللحظات بطيئة، بينما ترتاد عينا الخواجة الأفق، حائرا فى فكره، يبدو متماسكا، تعلو الكآبة وجهه، وقد تذرع بالصمت .

أهلا أهلا ..شاى ....حاجة ساقعة..

نو محمود.. ممكن كافيه..

شربا القهوة سويا، وأخيرا تكلم برناسوس :

أنت عارف محمود... أيام ونسافر جريس... اليونان....عشان كده البيت بتاع أنا معروض للبيع، أنا أفضّل أنت يشترى..

أنا يا خواجة؟!.

أيوه محمود.. أنت رجل مخلص وعشرة على عشرة

لكن..

لكن إيه محمود؟..الفلوس..يتوجد إن شاء الله..أنا موش طالب منك كتير ..أنا أحبك لأنك صديق..

***

عندماعاد محمود إلى منزله، دخل غرفته، جلس إلى مكتبه، طلبت منه والدته أن يغير ملابسه، ويستعد للغداء، لم يستجب لها؛ وأخيرا قال بعد هنيهة:

أمى..خلاص..

خلاص إيه يا بنى؟

خلاص بقينا من أصحاب الأملاك..

ابتسمت أمه وتساءلت:

إزاى الكلام ده؟

زى الناس يا ماما..الخواجة عاوز يبيع البيت

بيت مين؟

بيته

هو حر يا بنى..

نشتريه يا أمى لأن الخواجات ماشيين.

نشتريه؟ نشتريه إزاى يابنى؟

ربنا يكرم يا أمى

***

اتصل محمود بإخوته فتنة؛ وزكى وأيوب و أخته عايدة، وراح يشجعهم على التعاون معه لشراء المنزل "اللقطة "كما كان يقول لهم، وجد تشجيعا من أيوب الذى كان مؤيدا ومحبذا للفكرة تماما؛ ساهم بأكثر من ثلث ثمن البيت، أما فتنة ومحمود وأمه فقد ساهموا بالباقي؛ بينما ظل زكى بعيدا عن المشاركة..لم يشترك معهم فى شراء البيت؛ كان يعتذر متعللا بعدم وجود سيولة نقدية لديه وضعف قدرته واحتياج التجارة إلى كل مليم.

انتهى الأمر بشراء المنزل، لم يكن محمود يصدق أن يشترى بهذا المبلغ نصف هذا المنزل المكون من أربعة أدوار، خلاف الدور الارضى.

 

***

5

جاء على" فلتة" كما تقول أم خالد عام 1953؛ ليصبح أولادها ثلاثة ليلى وخالد وعلى

عام 1956 انتقلت العائلة إلى البيت الجديد؛ لم يكن أمام أيوب سوى أن يقيم مع عائلته بالبيت الجديد الذى شارك فى شرائه بكل مدخراته تقريبا؛ لم يعد قادرا على دفع إيجار لمسكن آخر، سارع بإخلاء شقته وسلمها لصاحبها لأنه كما يقول : اشترينا البيت، ونريد أن نتمتع بالسكن فى ملكنا الجديد.

***

كانت ليلى فى السادسة، بينما خالد فى عامه الخامس، وعلى فى العام الثالث .كان يوما حافلا؛ تم تحميل العفش على عربات كارو إلى البيت الجديد؛ انتهى المقام بعائلة عمران فى تلك الشقة الرحيبة بالدور الثالث العلوى، والتى كان يقطنها الخواجة برناسوس، كانت هى الشقة الوحيدة الخالية، بالإضافة إلى شقتى الدور الرابع العلوى اللتين لم يتم تشطيبهما حتى الآن، اضطروا الى السكن جميعا فى شقة واحدة حتى يمكنهم تشطيب إحدى شقق الدور الاخير.

أصحاب البيوت فى ذلك الزمان كانوا يتشاءمون من الشقق الخالية، بالشقة البحرية أربعة حجرات واسعة بالإضافة إلى الصالة والحمام ودورة مياه أخرى صغيرة؛ أم زكى وابنتها عايدة اتخذتا الحجرة البحرية سكنا لهما، فتنة وابنتها لهما الحجرة البحرية الأخرى، أما الأبناء فكانت لكل منهم حجرة مستقلة، أيوب جاء ليستقل هو وأسرته بالحجرة القبلية المطلة على الزقاق؛ أما الحجرة الداخلية الشرقية، فكانت من نصيب محمود الذى اختارها مؤثرا لباقى أفراد أسرته، متعللا بأنه يفضلها بعيدة عن صخب الطريق .

بمجرد وصولهم إلى المنزل، صعدت عايدة إلى السطح مع أسرتها، جالت عيناها يمنة ويسرة تستطلع السكن الجديد، فرحت بهذا المكان الأعجوبة فى نظرها؛ وانتعش قلبها، من أعلى السطح كانت ترى مبنى المساجيرى

مبنى “المساجيرى مارتيم”.. والمعروف باسم “بيت المساجيرى” يعتبر من أقدم المنشآت الأثرية فى السويس، وشركة المساجيرى مارتيم هى شركة فرنسية كانت المالكة للمبنى منذ انشائه قبل افتتاح قناة السويس وهى أول شركة أدارت أعمال القناة بعد افتتاحها عام 1869

وأقامت المبنى لإرساء السفن التجارية حيث كانت تدار منه الحركة الملاحية بالمدخل الجنوبى لقناة السويس عقب افتتاح القناة، واستمر العمل فيه إلى ما بعد افتتاح القناة بأكثر من 30 سنة وكان المبنى مقرا لإقامة نابليون بونابرت .

وأمامها بحر الخور محاطا برمال صفراء؛ تمد نظرها حتى ترى السفن العايرة فى القناة؛ فى الليل تتابع الأضواء المتحركة فى البعد والصادرة من تلك السفن العابرة للقارات؛ كانت ترى الأفق ممتدا امامها، انشرح صدرها و طلبت من أخيها محمود أن يقيم لها عشة للدواجن فوق السطح، لم يؤجل لها طلبا، وافق فورا، بعد يومين جاء النجار و قام ببناء عشة كبيرة تتسع لأصناف عديدة من الدواجن..

***

6

بالدور الأرضى 3 محلات؛ مقهى وصالون حلاقة ومخزن لمخلفات السفن؛ أعلى مدخل المقهى علقت لافتة كبيرة مكتوب عليها قهوة أبو شامة؛ يفتح المقهى أبوابه يوميا بعد صلاة الفجر وقبل أن يشقشق ضوء الصبح، ساعة زقزقة العصافير على أغصان شجرة الكافور الملاصقة للبيت؛ يفتح العامل المقهى ويتجه إلى الراديو ليفتحه ويصدع بالصوت الملائكى للشيخ رفعت، ثم يبدأ فى كنس الأرضية ورش المياه؛ يخرج بعض المقاعد والطاولات إلى الرصيف، تبدأ عربات الكارو فى الحضور، يتوافد رواد الصباح المبكر أغلبهم من العربجية؛ يتحادثون بأصوات خشنة، يعلو صياحهم بين الحين والآخر، يتضاحكون ويتشاجرون ويتشاتمون، طوال النهار تصدر منهم ألفاظ بذيئة وضحكات وشتائم منكرة. حتى ذلك الوقت كانت عربات الكارو هى الأصل فى النقل، تتميز برائحتها النفاذة ووجودها المستديم أمام المقاهى البلدية، حيث تقف الجياد والبغال والحمير؛ طوال النهار تنش بذيولها لتطرد الذباب الهائم مع رائحة الروث التى تفوح فى المكان..تتصاعد الروائح حتى تصل إلى الأدوار العليا، تختلط أصوات الرواد بصوت المذياع المرتفع، يتضاحكون، يمسك عامل المقهى الخرطوم ليرش الماء؛ تخبو رائحة البخر المنبعثة ويهدأ الغبار، ثم تعود بعد الظهيرة من جديد؛ يقوم بذلك كلما سنح له الوقت وفرغ من طلبات الزبائن. مع الأيام تزداد عربات الكارو التى تأتى لتقف أمام قهوة أبو شامة، كان أبو شامة رجلا نشيطا، يزداد نشاطه كلما ازداد عدد الرواد، يحرق البخور لجلب البركة، يقوم بغسل الكنكات والبراريد؛ وإذكاء النار، ويشعل الفحم وينفخ فيه استعدادا لطلبات الزبائن، تعم الجلبة وتزداد بعد السابعة صباحا، تضايق السكان وبدأوا يشكون صاحب المقهى الذى لم يحفل بشكواهم، كان يسكتهم بكلام معسول :

من عينى الاثنتين.حاضر ...حاطردهم حالا..

ولا يفعل شيئا. كان يفرح بوجود الزبائن وسماع أصواتهم؛ أغلبهم من العربجية، تعود على رائحة الروث المختلط بالبخر المتصاعد من رش المياه؛ كأنما ارتبطت تلك الرائحة برزقه، ومثّلت له أكسيرا يحفزه على الهمة والنشاط .

***

تعوّد محمود التردد على صالون الحلاقة؛ كان يهوى المظهر الحسن، يحب دائما أن يراه الناس فى أبهج صورة، كان يقف فى الصالون ببذلته الكاملة أمام المرآة البلجيكية الملتصقة بالعمود والواصلة إلى السقف؛ يتطلع إلى صورته؛ ويميل بجذعه يمنة ويسرة، ويستدير قليلا وهو يحادث صاحب الصالون؛ يمسك المشط والفرشاة ليعيد تصفيف شعره ليتأكد من كمال منظره وحسن هيئته وكمال ودقة حلاقته وحلاوة رائحته، أحب نوشا صاحب الصالون ونشأت بينهما مودة ظاهرة ..نوشا يمتلك روحا مرحة؛ يهوى النكات والقفشات، ولا يطلب مبلغا محددا للحلاقة، يقبل ما تجود به أيدى الناس.

أستاذ محمود أنت الوحيد اللى بيفتح نفسى هنا

ليه؟ أنت شايفنى طبق طرشى؟

يضحك نوشا ويقول:

شكلك المهندم وأدبك ورائحتك الفواحة تخلينى أطير وأطلع لسابع سما

يتطلع محمود إلى صورته فى المرآه وهو يقول:

إيه رأيك يا سى نوشا

يبتسم نوشا:

قمر يا باشا

تعود نوشا أن يشكر الله ويضع ما يعطيه له الزبون بعد الحلاقة فى جيبه دون أن ينظر إليه، إلا إذا كان عليه باق، له زبائن من العربجية وأصحاب الحناطير الذين تعودوا التردد على محله لهذه الصفة؛ وأيضا لوجوده جوار المقهى بالميدان الذى يعتبر مقرا لهم ولعرباتهم الكارو وبغالهم وحميرهم التى لا تكف عن النهيق ولا عن إخراج فضلاتها بالليل أو النهار؛ أحيانا يتأفف الجالس على كرسى الحلاقة وقد انبعثت إلى أنفه روائح الطريق، كانت تلك هى الآفة الوحيدة التى يكرهها محمود فى المحل .

***

المحل الثالث مخزن مخلفات سفن تابع للصاوى البمبوطى الذى يقيم هو وأسرته بالشقة الصغيرة بالدور الثالث

صباحا يجلس البمبوطى أمام مخزن المخلفات؛ أمامه الشيشة والشاى؛ يحوى المخزن أصناف عديدة، بجوار باب المخزن يستقر مخطاف ضخم، كان قد اشتراه من إحدى السفن العابرة فى القناة، أتى له بونش صغير لكى يضعه فى مكانه الذي شغل معظم الرصيف؛ كلما توجه البمبوطى إلى البحر كان يعود ومعه عربة أو اثنتان من عربات الكارو مليئتان بالجنازير والقلوع والحبال والأخشاب المسطحة والعروق وعلب البويات المختلفة الأشكال والألوان، وصناديق تحوى مسامير وحدائد متنوعة؛ وكافة مستلزمات السفن والبحر.

***

7

بالدور الاول العلوى يقيم سكرتير لأحد المحامين؛ فى الصباح يعمل كاتبا بالمحكمة وقد علق لافتة "الوردانى للاستشارات القانونية وأعمال المحاماة " رآها أيوب معلقة على الحائط بالدور الأرضى فى مدخل البيت، الوردانى أول ساكن فى البيت؛ ويفتخر بذلك ويقول لمن يجادله فى شئون البيت أو الحى أو المحاماة : يا بنى أنا أول واحد يسكن هنا، البلد كانت فاضيه، لم تكن قد امتلأت بالغربان، الكورنيش هواه عليل، بعد العصر كنا نروح نقعد على النجيلة، ويمر علينا بياع السميط والبيض والدقة، وبياع الترمس حاطط القلل الساقعة على العربية ومغطيها بالغطا النحاس، وعنده البليلة والحلبة فى أقماع شكلها مغرى، طعم الحلبة لذيذ، وقطع الليمون حواليها، الناس كانوا بسطاء وكان عندهم قناعة" .

قابل أيوب فقال له:

أى خدمة، من ايدك دى لإيدك دى ، أطلب وأنا أنفذ أى خدمة من المحكمة والقانون..فرح أيوب بهذه الكلمات، وقال له بابتسامته المعهودة : شكرا شكرا . لا تنسى موضوع المقهى، طلب من الوردانى أن يريحه من القهوجى بالصورة المناسبة .قال الوردانى: نبعت له إنذار بالطرد على يد محضر !.. ليه؟ ..نقول أنه لا يدفع الإيجار .. لا تتسلم منه الإيجار لمدة شهرين وفى الثالث أحصل لك على حكم بالطرد.

ولكنه يدفع يا سيد وردانى

لا تتسلم منه شيئا

عندى فكرة؛ نصارح المحكمة بحقيقة وضعه؛ وأنه يسبّب الإزعاج والقرف للسكان ولا يهمه غير مصلحته وأن السكان تضايقوا من الروائح الكريهة والذباب والروائح ومناظر الحمير والبغال وهى واقفة قدام البيت تنش بذيولها أفواج الذباب ..

حك الوردانى رأسه وقال:

لا يا أستاذ... القاضى سيقول هذا كلام مرسل لا ينفع فى الحكم.

يعنى ماذا ترى؟

أرى ما أقول لك

وهو كذلك..

***

ومن ناحية أخرى، شكا القهوجى للوردانى قائلا :

السكان غير راضية عن زباين القهوة، آدى الله وآدى حكمته، هل أطردهم؟ هل أبعد عربباتهم وحميرهم وبغالهم؟ بذمتك إزاى أقول لهم كده؟ يعنى أقطع عيشى بيدى؟ ومنين أجيب الإيجار؟ الناس تقول عليا مجنون .. آه صحيح؛ الإيجار .. انا أدفع شهريا 12 جنيه والمفروض أدفع أقل، واحد أفندي قال لى الكلام ده .. أنا قلت أقول لك لأنك جارى وأنت أولى .. وأنت الخير والبركة

سعد الوردانى بالشكوى وخصوصا أن القهوجى دس فى جيبه ورقة بعشرة جنيهات، ووعده أيضا بعمل اللازم وطلب منه التكتم على الأمر.

بعد أيام تسلم أيوب ورقة صفراء باهتة من أحد المحضرين؛ فض الغلاف فوجد كلمة إعلان إداري من المحكمة الابتدائية فى القضية رقم كذا، إنه فى يوم كذا بناء على طلب قلم كتاب محكمة كذا، أنا فلان محضر المحكمة؛ انتقلت فى تاريخه أعلاه حيث محل إقامة كل من فلان وفلان و... وأعلنت كلا منهم بصورة من هذا الإعلان وكلفتهم بالحضور فى يوم كذا الموافق كذا الساعة الثامنة صباحا بسراى المحكمة لنظر الدعوى عاليه ...

***

تبدو أم فريد حرم الوردانى لمن لا يعرفها سيدة غريبة الأطوار، يقولون إن عينها تفلق الحجر، سرت تلك الشائعة عندما شهقت يوم أن شاهدت السيد محمود قادما من محل الحلاقة فى أبهى زينته كالعادة، فى الحال تزحلقت قدمه وأصيب بكدمات فى ساقه وهو يصعد على الرصيف؛ سمعها تقول :

شباب وصحة !

كان القهوجى واقفا بلحيته الطويلة ومريلته البيضاء التى تحوى جيبا أماميا عريضا يضع فيه الفلوس، كان يحاسب أحد الزبائن؛ أم فريد تتابعه من نافذة شقتها، لم تنزل عينها من عليه عندما غمغمت :

جيبه مليان فلوس من غير عدد!!

قبيل انقضاء النهار انفجر وابور الغاز داخل المقهى أثناء تحميته؛ و جاءت سيارة الإسعاف لتحمل ثلاثة، كان القهوجى أحدهما؛ كانت إصابته فى مريلته البيضاء ووجهه وذقنه التى أكلتها النار.

***

فى جلستها المعتادة بالصالة شبه المعتمة تعودت أم فريد أن تنظر إلى مسقط النور ؛ كانت تلاحظ شرخا خفيفا وقد اتخذ مسارا لولبيا قادما من أعلي؛ يسير مائلا إلى أسفل حتى يصل إلى الأرض، كما تسمع أحيانا تغريد العصافير الهابطة من سطح البيت إلى داخل المسقط، ثم تعود مسرعة للهروب إلى الخارج، فى الشتاء كانت تسعد برؤية مياه الأمطار وهى تحدث صوتا رتيبا مسليا بارتطامها بزجاج النافذة، وترى المياه وقد تجمعت فى الشرفة؛ بعد سكون السماء تفرح بتجهيز الدلو والمسّاحة، وتفتح باب الشرفة لتمسح المياه التى تجمعت بداخلها، فى الصيف كانت تجلس بجوار النافذة، ممسكة بيدها مروحة من الريش، تهوى بها وتتفرج على الأبراص والسحالى التى تتعلق بالحائط سارحة عليه وقد اتخذت وضع المراقبة لكى تهجم على فرائسها من الذباب والعناكب وباقى الحشرات .لم ترزق باولاد بالرغم من تسميتها.

***

بالشقة الصغيرة المواجهة لشقة الوردانى وزوجته أم فريد كان يقيم أحد الكونستابلات يدعى عم شوقى، لم يكن خالد يعرف معنى كلمة كونستابل، كان فقط يراه رجلا ضخما مهيبا، يحمل شاربا كثا، هابطا على جانبى شدقيه، يتحرك بحساب، يرتدى بدلته الميرى وقد التمعت أزرارها، واعتنى بنظافتها، كان خالد معجبا بنظافة تلك البذلة، تعوّد الكونستابل أن يتحرك فى مواعيد دقيقة؛ يخرج مبكرا ويعود متأخرا، كان منتظما فى دفع الإيجار؛ له أولاد كثيرون، لا يتذكر خالد أسماءهم جميعا؛ كان يلعب معهم أحيانا.

***

8

بالدور الثانى تقيم أسرة عم نعيم بالشقة الكبيرة، عم نعيم رجل طويل العود شديد البنية؛ يرتدى قفطانا وطربوشا أحمر فى نهايته زر، بين الفينة والأخرى يمسك الطربوش ليعدل الزر حتى يأتى على الناحية الأخرى، عم نعيم له رأس أصلع كبير و ملامح جادة جدا، لم يره خالد يضحك أبدا؛ أحيانا يتخيل وجه هذا الرجل وهو يبتسم، يحاول أن يخلق له صورة فى ذهنه وهو ضاحك؛ ولكنه غالبا ما يفشل فى محاولته، يعيش مع نعيم زوجته أم مادى وأولاده مادى ونرجس ومريم، بالإضافة إلى أمه المسنة التى لا تخرج من حجرتها إلا نادرا.

تعود خالد أن ينزل لمقابلة مادى ليلعب معه؛ عندما يدخل شقة مادى كان يفاجأ برائحة مميزة تهاجم أنفه؛ فى الصالة كان يشاهد على الحائط المواجه للباب صورة كبيرة لرجل يمتطى فرسا بينما يمسك بيده حربة طويلة، للرجل منظر مهيب ولحية سوداء طويلة؛ كان يرى أختى مادى نرجس ومريم، وكان يحب أن يجلس وأن تطول جلسته بينهم، تعودا أن يتنزها سويا فى الكورنيش القديم، أحيانا يصل خالد مع مادى إلى محل والده على الناصية، كان يرى عم نعيم وهو يقف بمستوى أعلى من الزبائن؛ وراء حاجز "البنك" الذى يفصل بينه وبين الزبائن، خلف عم نعيم وحوله تمتلىء حوائط المحل برفوف تحمل زجاجات وقوارير من أشكال متنوعة وألوان وأحجام متباينة؛ فى الواجهة؛ علقت صورة بطل يرتدى مايوه ويستعرض عضلاته القوية، كان خالد معجبا به، وقد كتب على اللوحة من أعلى رأس الرجل كلام استطاع خالد أن يقرأه عندما كان فى ثالثة ابتدائي، " كينا البطل الحديدية " وبجواره لوحة مكتوب عليها "براندى زوتوس".

عام 1965 صار خالد بالمرحلة الإعدادية؛ تعود أن يلعب أسفل البيت مع أنداده؛ كبر البنات وخرطّهم الخراط، كانت نرجس تقف فى الشرفة للفرجة على الأولاد، شرفتهم محاطة فقط بسيور حديدية مجدولة بشكل رأسى ومنبعجة إلى الخارج؛ الواقف فى الطريق يمكنه مشاهدة من بالشرفة كاملا، فى الغالب ترتدى نرجس فستانا بجالوش وتقف به، عندما كان يتجه بنظره إلى أعلى كان تبدو له ساقاها وفخذاها بضّين أبيضين كالمرمر، كان يحبس أنفاسه، ولا يطيل النظر خشية أن يراه أحد، يتظاهر كأنما لا يرى شيئا؛ ويستمر فى لعبه، بين الفينة والأخرى يرفع رأسه إلى أعلى ليختلس إليها النظرات، كانت تنظر إليه وتبتسم، عرف أنها تعرف ما يعتمل داخله، لدهشته عرف أيضا أنها مسرورة بذلك، لم يفارق منظرها ذاكرته، كان البياض الشاهق ونعومة الأذرع والسيقان تحيره وهو مازال فى سن غريبة عجيبة.

***

أمام شقة عم نعيم؛ بالشقة الصغرى كان يسكن محفظ القرآن؛ يعمل مؤذنا بالمسجد، يكتفى من حياته بالقليل، يبدو لمن حوله أنه ليس لديه مشاكل مع أسرته المكونة من زوجة وثلاث بنات، كان يقضى فروضه فى زاوية صغيرة جوار المنزل، لا تهمه أمور الدنيا كثيرا؛ تعود أن يقنع منها بالقليل ولا يفكر فيمن راح ولا من جاء، كان دائما يقول دع الخلق للخالق، يهتم بالعروج على المخبز بعد صلاة الفجر لشراء عدد كبير من الأرغفة، ويقول العيش عمدة الطعام؛ أحيانا يتأخر فى دفع الايجار كان يقول للسيد محمود :

أمهلنى أيام سوف نقبض الراتب

أو يقول له :

ستجيئنى فلوس من البلد؛ أنا لى قيراطين هناك.

كان السيد محمود يمهله عن قناعة وتقدير .

***

بالدور الثالث أقامت العائلة بالشقة الرحيبة؛ شقة برناسوس فيما مضى؛ بينما سكن البمبوطى وزوجته رجاء –وأبناؤهما رشاد ورضوى بالشقة الصغيرة المقابلة . البمبوطى رجل ضخم سمين جهورى الصوت، حاد الملامح، يتحدث بلهجة أهل المطرية؛ كان محله ملاصقا للمقهى، تعودت زوجته رجاء أن تصحو قبيل آذان الفجر وتصلى؛ ثم تسحب المسبحة من تحت وسادتها؛ تدير حباتها وتهيم مع صوت القرآن الكريم القادم إليها من المقهى، كانت تقول ان الحسنة الوحيدة التى تفعلها المقهى هى فتح الراديو مبكرا على القرآن الكريم ! ثم تبدأ فى إيقاظ البيت؛ كانت تحرص على مطالعة قرص الشمس وتعجب بلونه الذهبى المتألق بأشعته السنية، تفتح لها النافذة لكى يفترش ضؤها وتشع حرارتها داخل الحجرة، رويدا رويدا يعلو قرص الشمس فوق سطح بحر الخور؛ من النافذة تتطلع إلى مياه البحر الزرقاء وتنتشى روحها. كانت حنونة وصادقة إلى أبعد حد، تود الناس كما تمد يدها بالمساعدة لكل من طلب منها؛ تملأ جيوبها بقطع الطوفى والبونبونى التى تمنحها لكل من تصادفه من الصغار أو الكبار؛ أثناء سيرها كانت تميل يمينا ويسارا كالبطة، دائمة الزيارة لجيرانها؛ تقريبا تسأل عنهم جميعا كل يوم، لا يهدأ لها بال حتى تطمئن على الصغير قبل الكبير !!

***

9

يذكر خالد أحداث طفولته كمن يراجع فيلما سينمائيا، حياة حقيقية، كل شىء محفور فى ذاكرته وله وزن وحميمية، حتى الأحداث السيئة، يذكرها كجزء من طبيعتة التى ربما كانت فى ظاهرها بائسة، ولكن حب الوالدين أضفى عليها جمالا وحلاوة مازال يستشعر مذاقها فى روحه كأنه غذاء يجتره ليبقى على استقراره وتناغمه الروحى عند اللزوم. .

أحداث تتراءى لخالد كالحلم، عمه محمود يصطحبه هو واخوته إلى النادى والحدائق والشاطىء، على قمة الخليج بجوار مصفاة البترول، مصيف به أعداد متناثرة من الكبائن الخشبية؛ موزعة على ثلاثة أو أربعة صفوف، عندما يمر من أمامها كان يشم روائح البحر مختلطة بروائح الطعام الأثيرة المنبعثة من أبواب ونوافذ الكبائن، كانوا أحيانا يأخذون معهم أطباق الأرز الأحمر الشهى بالجمبرى المدفون مع قطع السوبيا وشوربة السمك الصيادية، والسلاطة والليمون، ينزلون فى الكابينة التى تملكها الشركة، كما كان عمه يقول لهم.

***

بالحجرة التى يقيم بها أيوب و أولاده سرير معدنى مرتفع بصورة ملفتة، له قوائم عالية، لم يدرك خالد أن هذا السرير يحمل تصميما مختلفا إلا بعد أن عبرت به السنون، كان أيوب ينام مع زوجته فوق السرير، وبينهما ليلى؛ بينما ينام خالد مع أخيه على تحت السرير، لم ينس خالد يوما منظر الدماء التى تفجرت من جبهة أخيه الأصغر على؛ ساعتها نشب خلاف طفولى بين الأخوين؛ اختبأ خالد تحت السرير؛ حاول على اللحاق به ليأخذ بثأره منه؛ اندفع راكضا تجاه السرير، صرخ فجأة وقد اصطدمت جبهته بفخذ السرير الذى كان مختفيا بزاويته الحادة تحت الملاءة البيضاء، فى الحال اصطبغت الملاءة بالدماء و تحول لونها على الفور إلى اللون الأحمر القانى .يومها أحضرت جدته - من حجرتها - علبة البن، وكبست به الجرح العريض بجبهته، بعد أن قامت بتجفيفه بقطعة من القماش.

تذّكر أيضا – فى بعض أمسياته بعد ذهابه للنوم - آثار الدماء التى كان يراها فى أصابعه بعد أن يفرك بينها بقة أمسك بها وهى سارحة على قفاه أو قدمه أو باقى أنحاء جسده؛ ، ؛ كان يفرح بالإمساك بها واصطيادها أثناء امتصاصها لدمه، أحيانا تبدو جافة، وقد التصق بطنها بظهرها، قبل أن ترتوى بالدماء؛ أحيانا أخرى تكون مكتنزة؛ متورمة البطن، عندما يفركها تصبغ أصابعه باللون الأحمر؛ كان يشعر بنشوى تسرى فى جسده .

***

كان أيوب يحكى لأبنائه نتفا مما يعرفه عن البيت الجديد؛ منذ حرب 1956 ظل اللون الأزرق لزجاج أبواب النوافذ والشرفات عالقا فى مخيلة خالد؛ عندما تدوى صفارة الغارة يتجمع أهل البيت بسرعة مهرولين أسفل المبنى، فى حجرة كان برناسوس قد بناها للبواب، لم يستمر البواب كثيرا، غادر بعد أن دار موظفو الحكومة على المحلات والبيوت لطلب دفع مبالغ تأمينية كانت عالية فى هذا الوقت؛ اختفى البوابون تدريجيا من أمام العمائر فيما بعد.

خالد يفضل أن ينام أسفل السرير؛ عند حافته الخارجية، موقعه هذا كان يؤهله لرؤية والده عندما يصحو من نومه قبيل صلاة الفجر، لم يكن أيوب يوقد النور حتى لا يزعج أولاده أو زوجته ويوقظهم ، كان فقط يكتفي ببصيص الضوء القادم من مصابيح الطريق، والداخل إلى الحجرة عبر فتحات الشيش؛ يقوم من سريره و يعتدل فى جلسته؛ يهبط بساقيه، من مكانه كان خالد يرى ساقى والده المشعرتين وقد أنزلهما بهدوء على الأرض، وبحث بقدميه عن فردتى المداس ليضع قدميه فيهما، يتابعه خالد وقد قام أبوه ليفتح باب الحجرة بهدوء، ويذهب إلى الحمام، مازال بصيص الضوء يتسرب إلى الحجرة من مصباح الطريق؛ يسعد خالد بمتابعة أبيه وقد انعكست بعض صوره وخيالاته على الحائط، يتابعها بعينيه، يعود والده إلى الحجرة بعد قليل؛ شعره منكوش إلى الأمام؛ تتساقط منه قطرات الماء؛ تنبعث رائحة الصابون الذكية فواحة بالحجرة؛ يغلق أيوب الباب وراءه، يتناول فوطته الكبيرة المعلقة على الشماعة خلف باب الحجرة، يمسح رأسه ورقبته جيدا، يعيد فوطته إلى مكانها، يرش وجهه ورقبته بماء كولونيا من قارورة مستديرة لها أنبوب طويل ينتهى بانتفاخ مطاطى، يضغط أيوب على الكرة المنتفخة لتنثر عطرا؛ يسعد خالد باستنشاق رائحته العطرة ، يقوم أيوب للصلاة، ويدعو بعدها بصوت خفيض : " اللهم استرنا ولا تفضحنا و أعطنا ولا تحرمنا وعزنا ولا تذلنا و أكرمنا ولا تهنا؛ اللهم افتح لنا أبواب رحماتك، واغفر لنا ولوالدينا وأصحاب الحقوق علينا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".

ينهض من على السجادة، يرفعها ويحضر الكنكة والكوب، يأخذهما فى يده، يفتح الباب ويخرج ليغسلهما و ويملأ الكنكة بالماء؛ ، بعد لحظات يعود، يضعهما على الكومودينو، ويشعل السبرتاية ويضع الكنكة عليها، يتجول خالد بعينيه ويتلذذ بمشاهدة الخيالات التى ترتسم على الحائط من ضوء السبرتاية، يرى رأس أبيه وقد صار هائلا، ذراعه وقد بانت ضخمة وأصابعه طويلة علي الحائط؛ والكوب فى يده و قد اقترب من حجم البرميل، يضع السكر فى الكوب؛ يضع الشاى فى الكنكة، ينتظر قليلا حتى ترتفع السنة البخار وتتضوع رائحة الشاى منتشرة فى أنحاء الحجرة، يشمها خالد؛ تسرى فى أنحاء جسده، يتشبع بها رأسه وصدره، وهو فى مكانه أسفل السرير، يظن أبوه أنه مازال نائما، يضع ملعقتين من اللبن المركز من علبة نسلة بالكوب ويصب عليه الشاى، يسمع صوت الملعقة وهى تدور فى الكوب محدثة رنينا حلوا مميزا، يتغير لون الشاى بالتدريج، الرائحة مازالت تتضوع فى الحجرة، يظل خالد متمتعا بها وبالنظر إلى تلك الخيالات، التى تخبو فى النهاية بعد أن يطفئ أبوه الشعلة بوضع غطاءالسبرتاية فوقها .

أخيرا يتحرك أيوب بعد أن يسحب مفاتيح الدراجة من خلف باب الحجرة، ويفتح الباب ويغلقه فى هدوء، يفتر صدر خالد قليلا عندما يغادر أبوه الحجرة؛ يظل معه بأذنيه وقلبه حتى يسمع صرير باب الشقة وقد أغلقه أيوب أثناء مغادرته .ينام خالد بعد أن يسرح مع خيالاته وأشباحه....

***

لضيق المكان كان أيوب يضع مقتنياته فى درج الكومودينو، من آن لآخر يفتح خالد الدرج ليجد فيه مظروفا منتفخا به صور السفن التى احتفظ بها والده من أيام الكرانتينا؛ يحدق فى الصورة ويسأل والده:

هل نصنع نحن المراكب الكبيرة يا أبى؟

يجيب الأب:

لا يا بنى

من أين تأتى المراكب الكبيرة يا أبى؟

من بعيد ..من أوربا وأمريكا

وهل فى أوربا وأمريكا ناس مثلنا؟

طبعا يا بنى

ولماذا لا نصنع المراكب الكبيرة مثلهم؟

احتار الأب فى الرد وقال:

قوم.. قوم هات القلة لأشرب..

***

10

تولى محمود شئون البيت؛ كان يجمع الإيجار ويدفع العوائد والمياه؛ ويقوم بعمل الصيانات اللازمة؛ ويدفع ثمنها عن طيب خاطر، لم يكن يطلب من السكان أى تكاليف؛ كان يستحى من ذلك، بالبيت عداد واحد للمياه، كان يدفع ثمن المياه أيضا ولا يطالب السكان بشىء، كان يقول :

يكفى أننا نحصّل نصف جنيه من كل شقة .

يحل مشاكل السكان ويتلقى شكاواهم بصدر رحب، عندما صدرت قرارات تخفيض الإيجارات؛ قالت له والدته :

البيت محسود يا محمود

يبتسم محمود ويقول لها:

أمر الله يا أمى.. ما يجرى علينا يجرى على باقى الخلق

وتتساءل والدته:

وكم ينزل الإيجار؟

يرد محمود:

حوالى الربع يا أمى

يا سلام!! ..بخّر الرابع

وماذا يفعل البخور يا أمى والشقتان فى حاجة إلى التشطيب؟

بخّرهما يا بنى يمكن يجىء لهما العَدَل..

يلاحظ محمود أن مشكلات البيت تتمدد وتتسع يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر؛ كان السكان مرغمين على تلوث أنوفهم وأسماعهم ليل نهار بتلك الروائح الكريهة والأصوات والشتائم القبيحة والنكات البذيئة التى كانت تصدر عن زبائن المقهى من البهائم والبشر، بلغ الزهق بهم مبلغا هائلا، تضايق أيوب ومحمود من ذلك التلوث الملازم للعمارة، تنابذ أيوب ببعض كلمات مع عربجى أهانه وسبه بأقذع الكلمات، عندما عرف أخوه محمود بالأمر قرر فى الحال الذهاب إلى قسم الشرطة، متأكدا من قوة حجته، حيث أن المشكلة واضحة وضوح الشمس والحق فى جانبه، من المؤكد أن الشرطة سوف تنصفه؛ كيف يرضى أحد بالإزعاج وقلة الراحة؟ لابد أن القانون فى صفه.

على باب غرفة المباحث؛ وجد شرطيين أحدهما ضخم البنية؛ مفتول العضلات؛ طلب منهما الدخول إلى ضابط المباحث، رحب به الضابط وأخذ منه جميع البيانات وأخيرا قال له:

يا سيد محمود هذه مشكلة بسيطة، أرجو ألا تشغلنا بها هناك مشاكل اكبر نبحث لها عن حل .فى هذا التوقيت كانت الدنيا مشغولة بأخبار جماعة الإخوان والقبض عليهم وإيداعهم السجون، تضايق محمود لعدم الاهتمام بأمره، وترك أمره إلى الله وأحس أن الدنيا مسدودة أمامه، لم يجد طريقة لكى يسترد بها كرامة أخيه المهانة .

***

قابل محفظ القرآن السيد محمود أثناء عودته من قسم الشرطة لمح عكارة فى ملامحه .فى الحال قال له:

تبدو حزينا يا صاحبى!

لم آخذ حقى فى القسم .

يا سيد محمود؛ دع المقادير تجرى فى أعنتها ولا تبيتنّ إلا خالىَ البال!..ماذا تفيدك الشكوى؟ والشكوى لغير الله مذلة!

كيف تسير أمور الدنيا يا شيخ؟ وكيف تحصل على حقك؟ كيف تنتظم العلاقات بين الناس؟إذا ضاعت الحقوق فعلى الدنيا السلام!

ليس الأمر هكذا وإنما هى ابتلاءات يا سيدى؛ كلنا مبتلى بمن حوله بل وبما فى داخله من شهوات ورغبات.

دائما تجعلنى أسكت؛ ولا أستطيع أن أجادلك يا شيخ .

ليس المهم أن ترد أو لا ترد المهم أن يكون هنا- وأشار الى صدره- المهم أن يكون داخلك فى سلام!

ياليت كل الناس مثلك.

***

صار محمود يشكو من ظواهر جديدة عندما يخرج من باب الشقة، يعود مرة ثانية، لأنه نسى المفاتيح؛ يحاول أن يتذكر إلى أين هو ذاهب؟ ربما يكون قد نسي الصنبور مفتوحا، يضع يده على جيبه ليطمئن على وجود المحفظة التى قد ينساها فى الدولاب، يتأكد مرة ثانية من أن فى جيبه مايكفى من النقود؛ أحيانا ترتعش يداه، خاصة عندما يكون مجهدا فى المساء، صارت حركته بطيئة وكلامه أيضا ببطء، أحيانا يتلعثم فى الكلمات، عندما يريد أن يقرأ الجريدة ترتعش أوراقها فى يده؛ لم يعد يستطيع السهر بعد العاشرة، بعدما كان أحيانا يسهر حتى الفجر دون ملل أو كلل ..

أصيب محمود باليرقان، اصفرت عيناه وبهتت بشرته و شفتاه وبدأ جسده فى النحول تدريجيا؛ تدهورت قدرته على الحركة والخروج، فوجىء الجميع بمرض محمود، ذهب به أخواه أيوب وزكى إلى أكثر من طبيب من أطباء المدينة المشهورين، ظل أيوب ملاصقا له فى كل تحركاته؛ لم يثمر العلاج فائدة تذكر، استمر جسده فى النحول، وصار يحك فى جسده، وبدأ يشعر بآلام فى بطنه؛ أشتعل قلب أمه باللوعة والقلق؛ نصحه أحد الأطباء بالتوجه إلى القاهرة لعمل فحوصات وتحاليل دقيقة، هناك دخل مستشفى العجوزة؛ قام كبير الجراحين بإجراء عملية جراحية له، لم يصمد جسده بعدها سوى أيام.

***

كان عمره قصيرا؛ انه عريس السماء الذى لم يدخل دنيا؛ بل وغادرها فى عز شبابه؛ محمود الأب الروحى لإخوته.

***

11

خيّمت على العائلة ظلال حزن كئيب لفترة طويلة امتدت حتى بعد الأربعين، لم تستطع أم خالد أن تغير لون السواد الذى اتشح به البيت كله، بينما غرقت الجدة أم محمود فى حزن بليغ؛ استمر إلى ماشاء الله؛ تعودت أم محمود أن تصحب ابنتيها عايدة وفتنة وابنها أيوب للذهاب إلى المدافن كل أسبوع، أهل المدينة مازالوا يطلقون على المدافن اسم الروض، كانت الجدة تحرص على الخروج مبكرا قبيل الفجر للاستعداد للرحلة المعتادة، أحيانا كانوا يبيتون هناك ليالى الجمع؛ فى المواسم والأعياد كانت أيام إقامتهم فى الروض تطول، كان خالد فى المرحلة الابتدائية، اعتقد وقتها أن حياة الروض هى جزأ طبيعى ممارسة الحياة، تداخل لديه إحساس الحزن والفرح، والموت والحياة! كان يصحو يوم الجمعة مبكرا للحاق بتلك الرحلة الأسبوعية، يطلب المبيت مع جدته وعمته فى الحجرة الملحقة بالمدافن، فى الليل كان يتعمد الاقتراب من النافذة ينظر إلى أعلى فيجد السماء مرصعة بالنجوم، يرى شواهد القبور، أحيانا يجدها تعلو وتهبط، تطول وتقصر، كأنما يحادث أصحابها وجها لوجه، يراهم يخرجون من قبورهم ويوجهون إليه حديثا من القلب للقلب، يحكون له عن أعمالهم ووظائفهم وشعورهم الخفى بالراحة الغريبة؛ وبرحمة الله؛ ويحزنون لأبناء البشر الذين مازالوا يدبون على الأرض، أغلبهم يجترحون الآثام؛ فى عمق الليل كان يغطى جسده جيدا؛ تساوره بعض المخاوف والأشباح، يسمع شخير عمته وأنفاس جدته وأبيه، كان يسحب الغطاء ويغلق عينيه لبطرد المخاوف ولينعم بالأمن ويدخل فى نوم عميق.

***

تظل الأيام والليالى حبلى بالعجائب؛ حملت أم خالد بصورة مفاجئة، لم تكن فى الحسبان؛ لم يعرف أحد فى العائلة سوى زوجها، أوصته ألا ينشر الخبر، تحملت فترة الوحم فى صمت بليغ، يوما سألته أخته عايدة:

أم خالد مالها يا أيوب؟

يسرح أيوب بعينيه فى الأفق، وهو يقول :

لا أبدا..

لم تستمر المداراة سوى شهور قلائل حتى انبعجت بطنها، وبانت للجميع، أحست بالحرج الشديد، وخصوصا أن البيت مزدحم وأن بطنها بدأت تنتفخ، أعلن القادم عن وجوده بينهم بشدة؛ قالت الجدة بلهجة ساخرة:

فى وسطنا أرنبة ونحن لا ندرى!

يحمل أيوب هم الولادة وأيضا هم الطفل الجديد الذى سيدخل عليهم وهم فى زنقتهم هذه، قالت له عايدة:

ممكن نشترى أى سرير بدورين، ونضعه جنب الحائط هنا..

اقتنع أيوب بالفكرة، وقالت له متبسمة:

وبعدها يحلها الحّلال..

***

يذكر أيوب أنه كان يستعد لسماع خطاب الرئيس عبد الناصر الذى سيعلن فيه وضع حجر أساس السد العالى فى يناير عام 1960 عندما حان ميعاد ولادة زوجته؛ يومها كانت برودة الجو تعصف بالأجساد؛ أخذت العمة عايدة البنت والولدين ليناما فى حجرة جدتهما، هبط أيوب بسرعة ليستدعى الطبيب، كان الطبيب مسافرا، عاد أيوب بالحنطور بعد منتصف الليل، وفى صحبته داية المدينة المشهورة الست محفوظة.

***

ظلت عايدة واقفة طوال الليل مع الداية، لم يغمض لها جفن، أخيرا خرجت إلى الحياة طفلة بيضاء كالشمع، وضعت الست محفوظة يدها لتبحث عن الخلاص، أخرجت الخلاص، بعدهنيهة أدخلت يدها فى الوالدة لتطمئن عليها؛ تغيرت ملامح وجهها ثم قالت مبتهجة :

فيه عيل تاني .

كانت عايدة تساعد الداية وتأتى لها بالمياه الدافئة والمناشف و تناولها كل ما تطلب من أدوات، وتمسك معها الجفت لتقص الحبل السرى وتضع الخلاص فى كيس مناسب، وفوق هذا كانت تمد الداية بالمشروبات الساخنة فى هذا الليل قارص البرودة .

بعد قليل سحبت الداية المولود الهابط برأسه؛ نظرت إليه، وقالت :

رزقك واسع يا سى أيوب؛ بنت تانية..

***

فاحت رائحة البخور والعطر داخل البيت؛ عايدة تمتاز بالحساسية المفرطة وحب الآخرين؛ سريعة البديهة كانت تتحرك كالنحلة؛ تشعل البخور وتداوم على الإبقاء على الجو عبقا؛ تضع ماء الزهر وماء الورد فى المهلبية؛ تعبّر عن فرحتها بقدوم الطفلتين الجديدتين؛ طفلتى أخيها أيوب؛ طلبت أن تسميهما لمياء وضحى؛ وافق الجميع على طلبها؛ تشغل الجرامافون القديم بصوت الشيخ رفعت؛ أحيانا بأغانى المواليد؛ تصعد مع الشروق إلى السطح وتمسك زوجين من الدجاج البلدى من داخل العشة وتقوم بذبحهما، تجهز الشوربة و تضيف إليها المستكة والحبهان، تتضوع الرائحة فى المنزل، كانت أم فريد جالسة فى مقعدها عندما وصلت إلى أنفها الرائحة صاحت : إيه البخور وصل !!بعد قليل عندما تأكدت من رائحة الطعام، قالت: و فراخ وشوربة كمان!!

***

12

تعجب أيوب من أحوال الدنيا؛ وقال لزوجته :

نحن ملّاك البيت؛ ولا يمكننا السكن فى شقة منفصلة!!

كانت ترد بأريحية وهى تحدق فى عينى زوجها:

الحمد لله ..حجرة المرحوم مازالت مغلقة!

ضاقت الحجرة بأيوب وزوجته وأولاده ليلى وخالد وعلى والبنتين الجديدتين، سبعة أفراد فى حجرة واحدة ! لحسن الحظ لم يستمر هذا الوضع طويلا؛ لم يكن أيوب يجرؤ على مفاتحة أمه لإعطائه حجرة المرحوم لكى يتوسع بها ويوزع أولاده عليها، أحس بأن صخرة سوف تهبط على صدر أمه، أو كان بركانا سينفجر إذا ما حادثها بهذا الشأن، ظل يؤثر السكوت حتى يقضى الله أمرا؛ بعد ما أقنع زوجته – التى تفهمت الموقف- بذلك .

لم تكن الولادة فى هذا التوقيت تعنى للجدة الثكلى شيئا، اعتصرها الحزن، وصارت تعزف عن الطعام، وتتفوه بكلمات وجمل غير مفهومة، حتى أصبحت هيكلا، لم يستطع أحد أن يبعدها عن الذكرى، أو يساعدها على النسيان، لم ُيجدِ معها كلام، دار بها أيوب على الأطباء، لم يفدها أى علاج، عام 1962 كان الرئيس عبد الناصر يعلن الميثاق الوطنى، وقت أن راحت فى غيبوبة دامت عدة أيام لم تلبث أن لفظت أنفاسها بعدها.

***

بعد وفاة الجدة، طلبت عايدة أن تقيم ليلى معها لعدم استطاعتها العيش وحيدة بالحجرة بعد وفاة أمها، لم يكن أحد قد فتح حجرة المرحوم محمود منذ سنوات، بعد أشهر قليلة من وفاة الجدة فتح أيوب الحجرة مضطرا؛ لم يمانع أحد؛ فاحت منها رائحة العطر القديم الذى دهن به جسد المرحوم أثناء غُسله، بالحجرة صندوقان خشبيان كبيران كانت الجدة قد طلبت جمع أشياء المرحوم وحفظها فيهما، كان أحدهما مليئا بالكتب، و الثانى يحوى ملابس وكؤوس وكرات مختلفة الأحجام؛ ودروع ونياشين كان المرحوم قد فاز بها فى مسابقات مع فرق أخرى عديدة، قامت أم خالد و فتنة وبسمة بكنس الحجرة ورش الماء على الحوائط والبلاط لغسلها، حتى صارت رائقة ونظيفة، أدخلوا فيها دولابا وسريرا كبيرا، صارت حجرة للولدين خالد وعلى، بينما ظل أيوب بحجرته هو وزوجته والتوأمتان .

***

قبل حرب1967 أصيب القهوجى باصفرار فى وجهه وشحوب، وضمرت وجنتاه، وصار قليل الوزن والطعام؛ خفيض الصوت؛ عانى من الفشل الكلوى حتى قضى نحبه، ذهب صاحب المخزن المجاور للمقهى إلى عائلة القهوجى ليعزيهم وفى نفس الوقت يتفق معهم على إخلائها ليستأجرها، دفع لهم مبلغا للإخلاء، كما اتفق مع أيوب على عمل عقد إيجار يشمل المقهى والمخزن.

تزوجت بسمة ابنة فتنة أيضا قبيل الحرب؛ خالها أيوب أدى معها دور الأب خير أداء، أشرف على شراء الشبكة والمهر والسكنى حتى تمت الزيجة بنجاح، كانت الشبكة تحوى كما من الذهب عظم ثقله؛ أصر عليه وشارك فيه أيوب حتى تكتمل فرحة فتنة وابنتها؛ فرح لها الجميع؛ وخصوصا عايدة التى أظهرت تعاطفا وتعاونا شديدا مع ابنة أختها فى مراحل زواجها؛ وخصوصا أنها البنت الوحيدة والتى نشأت يتيمة الاب؛ حتى كتب كتابها وفرحها الذى رقصت فيه بالرغم من كونها عانس فقد كانت فى اواخر الثلاثينات من العمر، انجبت بسمة ابنها بهجت قبيل اندلاع الحرب بشهور.

***

13

وقعت نكسة عام 1967 وتم ترحيل الأهالى وتهجيرهم، تشتتوا شمالا وجنوبا فى أصقاع البلاد، إلا أن مشاعرهم توحدت، هاجر زكى إلى القاهرة حيث افتتح مطعما؛ أما أيوب فقد هاجر مع أسرته وأخته عايدة إلى ضاحية المرج، حيث وفر له أقارب زوجته شقة واسعة بالدور الارضى، عندما ينظر من النافذة كان يرى أحواض زهور تحيط البيت، أمامه صحراء ممتدة، خالية سوى من بعض جنود الهجانة، بعافيتهم ولونهم الأسمر الداكن، وملابسهم الصفراء "الكاكى"ووجوههم اللامعة؛ وقد رسمت على وجناتهم شروط طولية؛ كان يراهم فوق الإبل؛ فى هذا الفراغ الشاسع، منتشرين كالبقع المتناثرة على أديم أصفر، تبدو فى هذا الاتساع بعض منازل واطئة هنا وهناك؛ يمتد شريط زراعى أخضر بامتداد الأفق وقد ظهرت به ألوان من النخيل؛ على البعد توجد فيللا زينب هانم الوكيل حرم النحاس باشا والتى كانت معتقلا للرئيس محمد نجيب، كان أيوب يتطلع إليها ويتعجب كثيرا من أحداث الدنيا .. الكل ينتظر يوم العودة، ظلت العيون تتطلع إلى ألسنة الآخرين عسى أن تسمع كلمة عن العودة؛ كما ظلت الأيادي تعبث فى مؤشرات المذياع والتليفزيون عل وعسى أن تسمع الآذان ما بشفى غليلها، الكل يتطلع إلى الأخبار فى الصحف والمجلات، يتشممون ويبحثون عن الخبر الصغير النادر ويتمسكون به، ربما يكون فيه خلاصهم، فى كل أفق وكل ساعة من ساعات الليل والنهار يتساءلون ويسألون عن مخرج لهم.

التحق خالد بكلية التجارة، قضى سنوات الدراسة فى الجامعة مصاحبة لسنوات الهجرة، مرت أيام الحرب والهجرة ثقيلة على نفس أيوب، كما كانت ثقيلة على الناس جميعا، كان دائم التصنت إلى المذياع .

***

بسمة الجميلة تمتلك قواما ملفوفا؛ وبشرة بيضاء ناعمة، عليها علامات النعمة؛ هاجرت هى وزوجها وطفلهما بهجت مصطحبة أمها فتنة التى عاشت معها فى شقة واسعة أجرها زوج بسمة، بالقرب من ميدان الكيت كات، عاشت فتنة مع ابنتها بسمة، لم تلبث أن طلقت بسمة بعد مشاجرات بسبب الغيرة من امرأة أخرى، ترك لها زوجها كل شىء؛ سوى ابنه الذى أخذه ولم يعد؛ ذهب ليستأجر شقة أخرى ويتزوج السيدة الأخرى؛ أكمل بهجت حياته فى كنف أبيه و زوجة أبيه.

***

عاشت فتنة مع ابنتها فى نفس الشقة، لم تلبث أن تقدم لابنتها رجل أسمر ضخم الجثة، فى الأربعينات من عمره، طويل القامة منتصب كجذع النخلة، فرعه يذهب إلى السماء، عندما يحادثه الناس كانوا يرفعون وجوههم ليتطلعوا الى وجهه؛ يتمتع بمزيج من الأريحية المخلوطة بالغباء والحرص؛ كان يتشبه أحيانا بأولاد البلد، بعد زواجه أقام مع زوجته وأمها بشقتهما.

***

فى المهجر أيضا قبلت عايدة الزواج من أرمل ثرى لديه أبناء كبار، بعد أن أوشكت العنوسة على الاستئثار بها؛ كان مهاجرا معهم؛ يمتلك أموالا سائلة وسفينة صيد ومنزلين بالإضافة إلى سيارة لنقل البضائع؛ خرجت من البيت بفرح بسيط، كأنما قد نسوا الأفراح ..

طال مرض زوج عايدة، تركت الأمراض آثارها على عضلة القلب والنظر والكلى، أصيب بنوبة قلبية أتبعتها نوبات؛ كان ينقل خلالها إلى قسم العناية الفائقة بمستشفى خاص، ظلت عايدة تمرّض زوجها الذى كان يعانى من مرض السكر وارتفاع الضغط وهبوط القلب، عندما علم من زوجته أن ابن أخيها خالدا تخرج من كلية التجارة ولم يجد وظيفة، طلب منه أن يشرف على حساباته، وخصص له مرتبا هائلا لم يكن خالد يحلم به.. تعجب أيوب وقال:

سبحان الله..هذا الباب لم نكن نتوقعه مطلقا . وأردف: "ورزقكم فى السماء وما توعدون"

صدق الله العظيم.

***

تفاقمت المضاعفات، لم يستطع النوم وخفّ وزنه وتورمت قدماه، صار عبئا على من حوله، ظلت عايدة تعتنى به وترعاه كأحسن ما تكون الرعاية، فى أحد الأيام أحس بآلام شديدة فى صدره، نصحه أحد الأطباء بالسفر إلى القاهرة؛ سافرت عايدة به مع أبنائه، ليفحصه طبيب قلب ذاعت شهرته، فى الحال قام الطبيب بتحويله إلى المستشفى؛ و أثناء ذهابه إلى المستشفى لفظ آخر أنفاسه فى الطريق.

***

قبيل حرب 1973 أصيبت بسمة بمرض عضال؛ بدأ جسمها يذوى شيئا فشيئا حتى صارت هيكلا، كانت توصى زوجها الفحل بالإهتمام بأمها بعد وفاتها؛ وعدم مفارقتها، لم يتركها المرض إلا وقد ودعت الدنيا بعد معاناة طويلة..

أمضت فتنة شهورا فى شقة ابنتها الراحلة، تراودها أفكار الحزن والخوف والجزع، فى الليل تظل تبكى؛ تزورها ابنتها فى المنام، كما كانت تزورها أثناء اليقظة وتهذى بكلام معها؛ تقول انها تراها فى كل ركن من أركان الشقة .

***

14

تظل سفينة الحياة تبحر دوما؛ لا تتوقف لأحد؛ تظل فى دورتها الأبدية حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، انشغل الناس وانبهروا بحرب اكتوبر، بعد الحرب قرر السادات فتح مدن القناة، بدأت عودة المهجّرين، عاد زكى إلى المدينة، بعد أن باع مطعمه إلى أحد معارفه الأثرياء الذى أغراه بالمال، كان المطعم بوسط البلد يعمل كخلية النحل، كان العمال يتناوبون على العمل به ليل نهار؛ تركه ليغادر القاهرة بزحامها ويعود إلى مسقط رأسه بالقرب من البحر طمعا فى تكاثر أمواله حيث يجد أصحابه ويجدد تجارته القديمة، لم يعد الحال كما توقع، ولم تكن ضمن حساباته ألا تكسب التجارة كما كان يكسب المطعم؛ ظل يعانى من الخسارة حتى غير نشاطه، اتجه إلى تجارة الخضر والفاكهة، التى ضُرب فيها أكثر من مرة عن طريق كبار تجار المبيع الذين يعملون فى وسط لا يعرف للرحمة سبيلا .عاد يسأل أخاه عن حقوقه فى البيت؛ بالرغم أنها لم تكن تمثل له سوى ملاليم

***

انتقلت عايدة إلى شقة واسعة فى منزل المرحوم زوجها الحاج مسعد البراهمى الذى كان قد خصص لكل ابن من ابنائه شقة ليتزوج ويعيش فيها؛ كان الاولاد على خلق رفيع وكانوا يريدون راحة أبيهم، لذا ظلوا يعاملون عايدة -أرملة أبيهم-معاملة حسنة .

***

بصفته أحد ورثة المرحوم محمود وأمه؛ أوحى زكى إلى أيوب أن يؤجر شقة الوردانى التى صارت خالية لإحدى الشركات التى كانت تتعامل معه، لتكون استراحة للموظفين، لم يكن أيوب مقتنعا بالفكرة، قالت له زوجته:

وماله؟ الشركة سوف تدفع لك مبلغا محترما، ما المانع؟

أخيرا وافق أيوب وكتب فى عقد الإيجار:

"استراحة لموظفى الشركة إيجارها عشرون جنيها مصريا".

***

سكن الفرارجى بالدور الأول العلوى بالشقة الضيقة المواجهة للاستراحة وطلب من أيوب أن يستخدم العشة التى كانت عايدة تربى فيها طيورها؛ وافق أيوب بأريحية نادرة.

***

سمع أيوب عن زواج ابنتي عم نعيم تاجر الخمور فى الصعيد، ثم انقطعت أخباره بالمّرة؛ صارت الشقة الرحيبة بالدور الثانى العلوى التى كان يقيم بها نعيم خالية .

بعد أن توفت ابنتها فى الغربة، مع بشائر افتتاح المدينة؛ عادت فتنة مسرعة مصطحبة زوج ابنتها معها، أخذت عفشها وعفش ابنتها وحليها، عاد معها ليبدءا حياة جديدة، لم يكذب الفحل خبرا؛ لم تصارحه بما تنتوى؛ كأنما ينتظر هذا اليوم الموعود منذ زمن، فقد سبق أن عرف من فتنة أنها من أسرة صاحبة أملاك، كانت تتفاخر أمامه بأن لعائلتها عمارة تمتلكها بحى الغريب .عند وصولهما إلى المدينة، توجها إلى أخيها أيوب الذى فوجىء بزغلول الفحل معها، تقريبا للمرة الثانية يلتقيان بعد زمن؛ سلمت على أيوب وقالت له:

زغلول رجل شهم وقف معى فى المحنة ووقف جانب المرحومة حتى توفاها الله، قبل أن تسلم الروح، كانت دائما تقول له: خلى بالك من أمى يا زغلول لا تنسى أمى..أمي أمانة فى رقبتك.

طلبت من أخيها أن تسكن فى البيت، لم يمانع أيوب فى ذلك نظرا لظروفها الصعبة، قال لزوجته لابد أن نقف بجانبها؛ هذا واجب لم يعد لها أحد فى الدينا بعد الله سوانا.

***

نطق الفحل قائلا لأيوب:

المرحومة أوصتنى بأمها، وها أنذا تحت أمرها.. الكل يعلم أن ظروفها صعبة ..

رد أيوب :

ما رأيك فى مدينتنا؟

رائعة ولكن الحرب قضت عليها ..

لم نتمكن من اللقاء فى المهجر كثيرا..أين يعيش باقى أهلك؟

أهلى ..لا تسألنى عن أحد .. اسألنى عن نفسى..

قال أيوب :

الواحد بأهله وناسه..

بحلق الفحل فى عيني أيوب قائلا:

سمعت الشاعر يقول :

الأقارب كالعقارب فاجتنبهم والدراهم كالمراهم فاغتنمهم

تبسم أيوب؛ بالرغم من عدم ارتياحه لهذا الفحل إلا أنه لم يستطع أن يرفض لفتنه طلبا أو يثنيها عن رغبتها، كان يقول لها كلنا سنخدمك يا حاجة

ترد قائلة :

لا أحد يخدم أحدا.. كل واحد مشغول بهمه..

وانتهى اللقاء بموافقة أيوب وهو غير مرتاح، فقط أراد أن يلبى رغبة أخته الثكلى ..

نظرا لكثرة العفش خصص لهما أيوب الشقة الرحيبة بالدور الثانى والتى كان يقطنها عم نعيم تاجر الخمور .

دخل العفش إلى الشقة، حجرتان نوم وحجرة صالون وحجرة أنترية، وطقم سفرة المرحومة، مع سفرة الحاجة القديمة؛ احتل زغلول الفحل الشقة الرحيبة فى منزل عائلة أيوب لكى يبدأ عهدا جديدا

***

أما الشقة الصغيرة المواجهة لشقة فتنة والفحل فقد سكنها ابن الكونستابل الذى عاد ليتزوج، كان يعمل مهندسا فى إحدى الشركات؛ كان يجز على أسنانه ويذر عينيه من آن لآخر؛ يأتى بحركات لا ارادية ويتناول بعض العقاقير؛ لم تكن له علاقة بأحد، يعانى من اكتئاب وعزلة؛ يبدو متكبرا.

***

عادت عائلة أيوب إلى شقتها بالدور الثالث، انفرد أيوب وأولاده بالشقة ليس بالشطارة، ولكن بالصبر والكياسة وإرادة الله، وقبلها النصيب كما كانت تقول له زوجته..

أما البمبوطى فقد هرول إلى المدينة مسرعا؛ باحثا عن شقة فسيحة فى شارع وسط المدينة؛ ليسكن فيها هو وعائلته ..تمنى أن يعود ليتوسع فى تجارة مخلفات السفن، كما فرح لأن يكون المقهى هو المكان المنتظر؛ فهو متسع ويليق بأن يكون مخزنا ومحلا.

طالما تمنى أن يعود إلى مخزنه الذى كان بابا لسعادته؛ طالما كان يتغزل فيه لكونه سببا فى الثروة التى جمعها من ذلك المكان" المبخت " ؛ كان يقول أثناء فترة كساده بالتهجير:

لولا القرشين اللى معانا من أيام بيت السعد، لضعنا وضاعت أولادنا ..

أسرع إلى منزل السعادة- كما كان يطلق عليه- قبل أن يستأجره أحد؛ كبر أولاده وصار لرءوف سبعة عشر عاما؛ صحبه معه لمقابلة أيوب؛ مازالت المدينة شبه مهجورة، لم يتأكد الأهالى من حقيقة الاستقرار النهائى، كل من عاد كان يضع قدما فى المدينة؛ بينما قدمه الأخرى مازالت خارجها..

عندما رآه أيوب تعجب من فعل الزمن، لم يكن قابله أثناء الهجرة مرة واحدة ، كان الشيب قد سرح فى رأسه وهبط إلى ذقنه وقد تبعثرت فيها شعيرات صغيرة بيضاء بارزة كالدبابيس؛ أصيب بمرض السكري، صار فمه كالكهف المهجور، لم يبق داخله سوى عدد قليل من أسنان عائمة بعد أن خلع معظمها، اثنتان فى الصف العلوي وثلاثة بالسفلى، انطفأت نظرته وهدأت نبراته بعد أن كان حادا قوى الشكيمة .

تعجب أيوب من فعل المرض والزمن، وكأنما أخذته الشفقة؛ رحب بالبمبوطى قائلا :

البيت بيتك ..أنت أخ عزيز.

وافق على عودته ليستأجر الشقة الصغيرة بالدور الثالث والمخزن وكذا المقهى القديم ليكون محلا ومخزنا لتجارة مخلفات السفن، ومنحه عقدا جديدا، بعد أن وافق كتابةًعلى إزالة الحائط الموجود بين المقهى والمخزن، وعقدا آخر كتب عليه:

" تعتبر الشقة رقم ستة بالدور الثالث جزءا لا يتجزأ من المخزن "

وافق أيوب على نفس القيمة الإيجارية القديمة، وهى ستة عشر جنيها قيمة الايجار الشهرى للشقة والمحل معا؛ كان جزلا وهو يفتح يده ليقبض مبلغ اثنين وثلاثين جنيها تأمينا؛ هى قيمة إيجار شهرين؛ ؛ كما تسلم مبلغ عشرة جنيهات قيمة إيجار شهر للمقهى الذى تحول أيضا الى مخزن لمخلفات السفن .

***

15

تعوّد خالد فى أوقات الصيف أن يصاحب مجموعة من الأصدقاء إلى البحر، يستأجرون قاربا؛ ويقبلون على البحر بقلوب مفعمة بالحب والتوحد والفرحة، كانت هواية صيد الأسماك تتملكه ويحبها كثيرا، كما كان يهوى من يهواها؛ حتى صار مدمنا لها؛ يوما ما؛ أيام حادث المنصة الشهير الذى قتل فيه السادات فاتحه على الأبيض الملازم الجديد عن مأمور القسم الذى نقل إلى المدينة حديثا، وقال إنه يبحث عن شقة لسكنه.

تفكر خالد قليلا وقال سوف أضع الموضوع على قائمة اهتماماتي، شكر له الأبيض اهتمامه، ورجاه ألا ينسى .

قابل خالد والده وطلب منه أن يؤجر الشقة الخالية للمأمور، رد أيوب مستنكرا:

المأمور؟ أى مأمور يا بني؟

مأمور القسم الجديد يا والدي

عندنا هنا؟ يريد أن يسكن عندنا؟!!

ابتسم خالد قائلا:

نعم يا والدى وهل نحن أقل قدرا؟

لا يا بنى ولكن..

ولكن ماذا يا والدى؟

لا توجد سوى شقتى الدور الرابع؛ والشقة الآن تحتاج إلى مبلغ كبير للتشطيب

يمكننا أن نشطبها؛ ونسكن نحن فيها يا والدى؛ ونؤجر شقتنا للمأمور..

فكرة..لكن ..

لا تحمل هما يا والدي؛ معي مبلغ يمكنك التصرف به الآن..

وأنت ..الزواج يحتاج إلى مبالغ كبيرة هذه الأيام..

لا بأس يا والدى . سوف يعوضنا الله..

اقترض أيوب من ابنه عدة آلاف، ليبدأ العمل فى تشطيب الشقة بالدور الرابع

استعجل الصديق خالدا الذى أقنع أباه بأن ينتقلوا الى الشقة ولم تنتهى مرحلة الدهانات وباقى أعمال النجارة لتصبح شقتهم بالدور الثالث خالية فى انتظار الساكن الجديد.

***

أخيرا تم كتابة عقد بملغ سبعة جنيهات شهريا قيمة إيجار الشقة رقم 5 بالدور الثالث، ذهبت مفاتيح شقة العائلة إلى أيدى المأمور بدرى خطاب.بعد يومين؛ وفى الصباح الباكر وصلت عربة لورى كبيرة ممتلئة بالعفش؛ ظل أيوب واقفا طوال النهار ليشرف على نقل العفش وليكون فى خدمة الساكن الجديد إذا ما احتاج شيئا، استمر العمال منهمكين فى نقل وترتيب العفش داخل شقة المأمور حتى أوشكت الشمس على المغيب.

أحس أيوب بتعب شديد وارهاق؛ وآلام فى ساقيه؛ قال أيوب للمأمور :

مبروك

رد المأمور دون أن يبدو على وجهه اختلاجة فرح أو بشر

شكرا...كان وجهه بلاسيكيا، بأوداجه المنتفخة ونظارته الطبية التى تملأ وجهه، وبشرته الملساء البيضاء والمشربة بحمرة تشى بخلو البال والجنوح إلى الاستمتاع البغيض؛ وكرشه الذى يتقدمه كلما وقف أو هم بحركة، راودت أيوب عكارة دهمت قلبه.

***

فى اليوم التالى نزلت زوجة أيوب لكى تبارك للعروسين على سكنى الشقة الجديدة وترحب بهما وتهنئما بسلامة الوصول، قابلتها زوجة المأمور بتحفظ غريب؛ تعجبت أم خالد من ضخامة الصالون، وحجم الثلاجة الكبيرة، وباقى الفرش الوثير .

كانت زوجة المأمور شابة فى مقتبل العمر، بينما يكبرها زوجها بأكثر من عشرة أعوام، لم تكن تحظى بنصيب وافر من الجمال؛ شعر رأسها الهائش خشن قصير؛ ولها أنف ضخم ووجه مستطيل يحوى عينين غائرتين ماكرتين وقد عبث فى أرجائه نمش وحفر وآثار لحب الشباب .

تناولت علبة سجائر موضوعة على المنضدة، مدت يدها لام خالد قائلة :

سيجارة!

ردت أم خالد متعجبة :

لا.. شكرا

أمسكت زوجة المأمور بالسيجارة؛ وضعتها على طرف فمها؛ جلست واضعة ساقا على ساق، وأشعلت السيجارة فى حركة تمثيلية؛ وهى تتفرس فى الزائرة :

لنا عمارة على النيل فى جاردن سيتى، فى ملك بدرى بيه وأخوته؛ لكن أضطررنا بسبب النقل أن نقيم عندكم

أهلا وسهلا

لم تطل الجلسة، قدمت زوجة المأمور طبقا صغيرا به قطع من الشيكولاتة، مدت أم خالد يدها وسحبت قطعة صغيرة . لم تجد أم خالد كلاما لتقوله؛ بينما ظلت المضيفة صامتة تتأمل ضيفتها؛ بين الحين والآخر كانت ترد على التليفون؛ اضطرت أم خالد أن تقوم قائلة:

لم أعرف اسمك؟

أنا ..اسمى مدام ريم

تشرفنا ..وأنا أم خالد ..استأذن أنا

مع السلامة..

قالتها وهى تلاحقها لتغلق الباب وراءها.

***

16

شقة فتنة والفحل تطل شرفتها الواسعة على الميدان، فى الصيف كانا يقضيان معظم أماسيهما فى الشرفة البحرية، يجلسان أمام بعضيهما على كرسيين صغيرين واطئين اشتراهما الفحل خصيصا لهذا المجلس، يكون الفضاء مكشوفا أمامهما، لا يبدو للسائر فى الطريق سوى رأساهما، تعوّدا على تكرار نفس الجلسة كل يوم خاصة فى عصارى الصيف وأماسيه، هناك على الطرف المواجه توجد لافتة كبيرة كتب عليها " مركز شباب المدينة "، فى الناحية الشرقية يمتد الميدان إلى أن ينتهى بشارع يطل على كورنيش الخور؛ فى الأفق تبدو كثبان رملية تستطيع أن ترى من خلالها السفن العابرة للقناة من المدخل الجنوبى عند ضاحية بورتوفيق .

فى مجلسهما كانت فتنة تنشغل وتتابع كل ما يجرى فى الشارع، تلاحظ بائع العرقسوس بزيه المميز الهفهاف وهو يحمل على بطنه قدرة معدنية ضخمة تلتمع وتنعكس عليها صور المرئيات، كان يرسل أصواته و دندناته المتتالية المنبعثة من تلكما الطبقين المعدنيين وقد تعود على التحكم فى ضرباتهما سويا بيد واحدة وبسلاسة يحسد عليها، وذلك بائع الترمس وقد تراصت القلل على عربته التى تعود أن يجرها حتى يصل بها إلى الكورنيش المواجه لبحر الخور .كانا يبحلقان فى الطريق، كأنما يسجلان أحداثه، بمرور الأيام تحولت العادة إلى نوع من الهواية، بل إلى نوع من الإدمان، ظلا يراقبان الطريق بطريقة لا إرادية ويرصدان حركة المشاة والدواب والسيارات بل وتوقيتاتها، تقول فتنة:

هذا الرجل جاء اليوم مبكرا عن ميعاده.

ربما تكون ساعته مخرفة.

أو لم توقظه زوجته من نوم القيلولة

ومن أدراك انه ينام القيلولة؟

شكله يقول هذا؛ فهو يمشى كأنما يقول يا أرض أنهدى ماعليكى قدى!!

عندما يمر بائع العرقسوس؛ كان الفحل يسأل :

عنتر وصل.. اتأخر شوية ..عاوزة عرقسوس يا حاجة؟

هات لنا عرقسوس ناعم من عند جليدان العطار وأنا أبله لك.

تستمر عيناها تجولان فى الطريق وتقول:

شوف البنت لابسة إيه يا أخى؟

إيه يا حاجة؟

إيه اللى جرى فى الدنيا؟

يبتسم قائلا:

مالها يا حاجة؟

إيه اللى عاملاه فى نفسها ده؟! ..

ينظر إليها الفحل مبحلقا :

عادى.. حاطة روج وريميل وآى لاينر.

و عرفت الحاجات دى منين يا راجل؟ إيه الآى لاينر؟

يا حاجة .علشان يجملوا العين يا حاجة !!

يمكن جالها عريس !

يمكن..

***

الفحل يعمل فى إحدى الشركات الخاصة بتموين السفن؛ صار من معالم المنزل؛ كان خادما مطيعا لزوجة خاله؛ يوم الجمعة يخرج صباحا إلى السوق ليشترى الخضار والفاكهة التى تطلبها منه فتنه، كانت تطلب منه أصنافا من الخضار تقرأ عنها فى المجلات والجرائد؛ أسماءغريبة لم يسمع عنها؛ خس الرفس وملفوف صينى وكرنب بروكسل وخس النعجة! كان يتفنن فى البحث عنها، فى الغالب لا يجد معظمهاولكنه يحرص على محاولة شرائها ويجوب السوق كله باحثا عن النادر منها؛ كان يحرص على ألا تخلو ثلاجته من أى نوع من الفاكهة، كان فى الشتاء يقول أحيانا:

نفسى فى البطيخ، اشتريت بطيخة من بطيخ الصوب .

كانت تسايره مادامت المصلحة مشتركة ولا غبار عليها .قبل عودته إلى البيت؛ يتجه إلى كشك لبيع الجرائد والمجلات، يشترى لها ما تطلبه منه؛ ثم يذهب إلى المقهى ليجلس هناك قليلا، عند آذان الظهر يذهب الى المسجد للصلاة ويعود مسرعا حتى لا تنهره فتنه بلسان حاد.

***

تحاول فتنة أن تنسى همومها، ولكنها لا تستطيع، كانت صورة المرحومة ابنتها تتصدر الصالة الكبيرة جوار ساعة الحائط الضخمة التى كانت تدق كل ربع ساعة والتى ظلت سليمة كما هى طوال سنوات التهجير، كان الوقت غالبا يمضى ثقيلا .. تحدثها نفسها وتتساءل عن معنى الحياة، فى الصباح تجلس وحيدة، تسلى نفسها بسماع الراديو كلمتين وبس، طريق السلامة، موجز أخبار الساعة الثامنة، وتدير المؤشر إلى إذاعة القرآن الكريم، وتتجول بالشقة لتقوم بأعمال النظافة، تتوضأ لتصلى الضحى؛ تمارس طقسها اليومى فى تلاوة القرآن بصوت مسموع ثم تتجه إلى المطبخ لتجهيز الغداء، تحضر صينية الأرز أو الكمون أو العدس لتنظيفه، أو ثوما لتقشيره وتجلس على سجادة أرضية بالقرب من حزمة الضوء الهابطة بكثافة من الشرفة، وتضع أمامها ما أحضرت لتقوم بعملها و تنظر إلى النور المنسكب على الأرض والحوائط وقطع الأثاث اللامعة، قائلة فى سرها :

سبحان الله ..

تقضى باقى النهار تتسلى بقراءة الصحف والمجلات، لديها أعداد كثيرة من مجلات آخر ساعة وحواء والمصور وصباح الخير وروز اليوسف وأكتوبر، أما جريدة الأخبار فقد كانت تحرص على توصية الفحل بشرائها وقراءتها يوميا .

***

17

بمجرد تسلمه للمقهى؛ شرع الصاوى فى السيطرة ووضع يده عليه والامساك به، فى البداية جاء بالحداد الذى قام بنزع الباب القديم، وركّب بدلا منه بابا "ايطالياً"، وقواه من الخارج بشبكة حديدية أخرى، ثم وضع عدة أقفال كبيرة بدلا من القفل الوحيد الصغير، استدعى أحد المقاولين واتفق معه على أن يقوم بإزالة الحائط الفاصل بين المقهى والمخزن وعمل تجديدات ونقاشة وإصلاح لدورة المياه والسباكة .بعد يومين جاء العمال، بدءوا فى تكسير الحائط، كان عملهم بالشواكيش والمرزبات الثقيلة و الاجنات، أحس أيوب أن الضجيج يعلو كلما ارتفعت الشمس فى كبد السماء، كان يجلس فى شقته يجتر حزنا بليغا، كأنما تتوالى الخبطات على رأسه، كأنهم يهدمون البيت، لم يتحمل، خشى أن يصاب أحد الأعمدة بالتلف والضعف؛ فى الضحى ارتدى ملابسه ونزل ليرى ما جنت يداه .

حدثت مشادات كثيرة بين أيوب والعمال، يبدو أنهم كانوا يعملون بأدوات غير حادة، مما يتسبب فى جهد أعلى وقوة خبط أكبر، كان يخشى أن تهدد بإصابة الأعمدة بالضرر، كان يتكلم مع العمال ويستجديهم ويرجوهم أن يحسنوا صنعتهم، عندما تركهم إلى بعض شئونه عادوا كأن شيئا لم يكن.

***

بعد أيام من كتابة العقد، حزن زكى ولم يرتح لفعل أخيه وطيبته الشديدة بل وتهاونه مع البمبوطى؛ فكر أن يسترد المقهى بصورة أو بأخرى؛ تحدث زكى مع الصاوى فى هذا الشأن؛ رفض الصاوى تماما .

تحولت الشقة بالدور الثالث إلى مخزن للمخلفات، عندما رأى أيوب العمال يصعدون ويهبطون بصورة شبه يومية حاملين الحبال الضخمة وكراتين مختلفة الأحجام وعلب صفيح وحديد وخلافه، كانوا أحيانا يجرجرون أشياء ثقيلة وجنازير على الدرج، محدثين صخبا وضجيجا عاليا، لم يكن أيوب يتخيل أن يتحول الصاوى البمبوطى إلى مستغل مهمل بهذه الدرجة، وقت أن كتب العقد كان يظن أنه يكتبه لأخيه، لم يرتح لكلمة أخيه هذه، كان يظن أنه يكتبه لنفسه، ولكن؟ سبحان من يغير ولا يتغير!!حاول البمبوطى أن يقنع أيوب بأنه لا ضرر من هذه العملية وأن هذا هو طبيعة شغلهم، وأن لقمة العيش "عاوزه كده" .

استشار أيوب أحد المحامين الذى أسكته مرغما بعدما أقنعه المحامى بأن العقد شريعة المتعاقدين .بمرور الوقت لاحظ أيوب شقوقا وكسورا فى درجات السلم الموزايكو، أصبح الصاعد أو النازل على السلم يبذل مجهودا فى تفادى الدرجات المكسورة وعليه أن يتروى ولا يتعجل فى الصعود أو النزول .

تأذى أيوب من منظر درجات السلم المتآكلة، ذهب إلى البمبوطى قائلا له:

السلم لم يعد سلما يا حاج، الواحد ممكن يقع ببساطة ويتدحرج .

كان البمبوطى يرد عليه:

العجلة من الشيطان يا أستاذ!! الواحد لازم يطلع وينزل على مهله.

***

18

انتهى الهدوء المطلوب فى مكان السكن؛ صارت الراحة نادرة وخصوصا لأصحاب العقار، أعداد كبيرة من الرجال تتردد على الاستراحة؛ وكأنها لوكاندة كلوت بك للنوم، أحيانا ترى بعض الفلاحين باللبد والطواقى الصوف، المتنوعة الأشكال، فمنها الطويل ذات القرنين، ومنها المحبوك على الرأس، ومنها الطواقى ذات الحائط المرتفع " أم حيطة"؛ كل يوم تقريبا كان أيوب يقابل وجوها لا يعرفها؛ صاعدين هابطين على الدرج بصفة يومية، ألوان مختلفة من البشر.

كثر فتح الباب وغلقه؛ أخيرا لم يغلقه أحد؛ كأن الكل قرروا- دون اتفاق- أن يتركوا الباب مفتوحا، كانت شقة الاستراحة تظهر عارية مكشوفة، والعكس صحيح؛ ربما للتهوية أو للتسلية برؤية الصاعد والهابط على السلم؛ البعض يجلسون بالبيجامات أو الجلاليب، وأحيانا بالملابس الداخلية بالسروال الداخلى والفانلة، وخصوصا مع مقدم الصيف، يتحركون ويتجولون داخل الشقة، يسمع صوت تجشؤ، وقد يمسك البعض بعيدان الخلة لتسليك أسنانهم، يستعدون لاحتساء الشاى والتدخين، أحيانا يتصاعد صوت مزعج لأحدهم أو لتلفزيون مفتوح دون أن يتابعه أحد، تفوح روائح المعسل والسجاير وروائح أخرى، لتصل إلى بير السلم وباقى أرجاء البيت.كان الموظفون لا يتورعون عن الحركة هنا وهناك داخل الشقة بالسراويل فقط وقد ظهرت أكتافهم وبطونهم وبان شعر أجسادهم، أكثر من مرة تراهم بنت الفرارجى أثناء صعودها لإطعام الدواجن، أو أثناء نزولها من السطح؛ الباب مفتوح ومواجه لباب شقتهم مباشرة، أحيانا تشكو لأمها، أحيانا تسكت؛ ربما انتشاء لمغازلة ما؛ رأتهم الأم أكثر من مرة فى أوضاع لا تليق، تحدثت إلى زوجها، فاتحهم الفرارجى غاضبا ؛ قال له أحدهم :

الجو حار والشركة لا توفر لنا المراوح

وقال آخر سنغلق الباب

يغلق الباب ساعات ثم يفتح على مصراعه مرة أخرى

لم تفلح شكوى الفرارجى لاختلاف الوجوه التى تتواجد بالاستراحة من آن لآخر ..

شكى الفرارجى لأيوب؛ توجّه أيوب إلى شقة الاستراحة وتحدث مع الموجودين بها؛ ولكن لا حياة لمن تنادى!

أعداد كبيرة تأتى وتروح، ألوان من البشر، كلما سأل عنهم أيوب قال له عم سيد الطباخ :

كلهم موظفون بالشركة، يجيئون من بلادهم مكلفين بمهام؛ أشترى لهم الخضار وأطبخ لهم، إنها مهمة صعبة، ولكنى أحبها، أنا أفرح عندما يشبع الناس وتُملأ بطونهم.

صار البيت مفتوحا للجميع يدخله الصعيدي وابن البلد وذو اللبدة، ومرتدو البذلة الكاملة، وأصحاب الياقات المنشاة، كان أحيانا يتأمل الوجوه، يستغرب البعض نظراته إليهم؛ بمدخل العمارة تأمل أحدهم وهو يعدو مسرعا إلى أعلى، وقف أمامه وأمسك الدرابزين بيده؛ تنحنح أيوب ووجّه نظره إلى الرجل الذى توقف عن هرولته وحدق فى أيوب قائلا بحّدة:

نعم يا حاج..تلزم خدمة؟

أنا..لا.. مين حضرتك؟

بنى آدم زى ما أنت شايف ..!

أنت رايح فين؟

أنا طالع فوق

قال له أيوب مستفسرا بغيظ:

فوق على فين؟

وأنت مالك؟

يضحك أيوب ساخرا :

مالى؟ عندك حق ..أزاى يكون مالى وأنا صاحب المكان؟

باين عليك رايق!

قالها الرجل وهو يمرق إلى أعلى تاركا أيوب فى وقفته وحيدا على السلم.

***

19

رشق كيوبيد قلب بلال زكى بسهامه؛ أحب ابنة عمه ليلى بالرغم من عدم اعتقاد أيوب فى زواج الأقارب، بالإضافة إلى اختلاف طباع الأخوين زكى وأيوب وعدم التفاهم المسكوت عنه بينهما، نشأ هذا الحب مع تلاقى الصبيين فى الهجرة فى بعض الزيارات النادرة المتبادلة بين الأسرتين.

كبر بلال وتخرج فى الكلية البحرية، ساعدته الظروف وسافر الخارج فى جولة إلى أعالى البحار، ذهب إلى بلاد المشرق؛ الهند والصين، وشاهد بلاد المغرب، توقف بموانى عديدة فى أوروبا، عندما عاد من الخارج صار شخصا مختلفا، ظل ينظر فى كل ما يدور حوله وينعم النظر والتفكير فيه، لم تعجبه أشياء كثيرة، لم يعجبه البيت ولا الحارة المطل عليها البيت، ولا الجيران ولا الشقة التى يعيش فيها مع أسرته فى بيت أبيه، عندما يوضع الطعام كان يتساءل متبرما :

أين اللحم؟

عندما يضع اللقمة فى يده يقول :

الصلصة قليلة، الشطة كثير.. وهكذا ..

مع خبرته فى السفر والاحتكاك بالبشر؛ بدأت أفكاره فى التغير؛ ربما صار أكثر واقعية؛ تعود أن يدس أنفه في الأشياء اليومية التى لم يكن يلقى إليها بالا؛ حبه لابنة عمه ليلى ربما جعل تلك الفكرة نبتت فى ذهنه، صارح أباه بها، قال له :

نريد أن نخلص البيت، من عمى

رد أبوه:

تقصد إيه؟

نشترى نصيب عمى

***

فوجىء زكى بالعلاقة الوليدة بين أبناء العم، أبدى زكى عدم موافقته على ذلك المشروع؛ قال لابنه انه يريد أن يزوجه من علية القوم!

اعترض ابنه ورفض أى عرض آخر، بعد قيل وقال، قال زكى لابنه:

اسمع يابنى..سوف نضرب عصفورين بحجر!

سأله ابنه بلال:

كيف؟

سأزوجك من ابنة عمك كما تريد!

هل وافقت يا أبى؟

هذا الله وهذه حكمته

وما العصفور الثاني يا أبى؟

قال له بعد أن أخذ نفسا عميقا:

ستعرفه فى حينه يا بلال

تمت قراءة الفاتحة، لم يتعجل أيوب فى الاتفاق على ميعاد إتمام الزواج .

***

وعد زكى أخاه أيوب بأن يهىء للعروسة شقة رحيبة فى منزله قائلا له :

علىّ الشقة وعليك تجهيزها وتأثيثها؛ خمس حجرات..

فرح أيوب وأسرته بذلك الوعد، ولكنه حمل هم التجهيز وخصوصا بعدما علم بارتفاع الأسعار، عند التنفيذ احتار أيوب ووقع فى مأزق، قال له أخوه زكى:

عندى الحل المناسب

وما هو يا أخى؟ فرحّني وحياتك..

تبيع لى نصيبك فى البيت وأعطيك الثمن فورا.

***

تعجب أيوب من طلب أخيه المفاجىء، تحدث مع زوجته فى الأمر، أرادت أم خالد أن تفرح بابنتها كما قالت، ظل التردد والحيرة مخيمان على الأسرة فترة خصوصا بعدما رفض زكى أن يقرض أخاه، أو يقوم هو بتجهيز الشقة قائلا:

يكفى أنى سأعطى ابنتك شقة لن تراها ولا فى الأحلام!

***

لم يهدأ زكى حتى انتزع موافقة من أخيه أيوب على بيع جزأ من نصيبه ليتم تجهيز ابنته ليلى و زفافها؛ تعجب أيوب وحزن لضغط أخيه المستمر عليه؛ كل أمل أيوب أن يُفرح ابنته ويفرح بها؛ أخيرا باع لزكى نصف نصيبه فى البيت!

***

أقيم الفرح فى أحد النوادى الكبرى بالمدينة، بدا زكى مسرورا فى حفل الزواج، وظل يقابل المعازيم من التجار والمعارف والأصدقاء، انتشرت رائحة أنواع شتى من الدخان؛ فتحت زجاجات البيرة والخمور، تعجب أيوب وتضايق فى الوقت نفسه من هذا البذخ وتلك المظاهر الفارغة، قالت أم خالد:

كان من الممكن أن يساهم بجزأ من هذه المصروفات فى جهاز ابنة أخيه!

رد أيوب آسفا:

يحب المظاهر الفارغة ! اللى معاه قرش محيره يشترى حمام ويطيّره!

***

20

بانتهاء أحد مشاريع الشركة فى رصيف الميناء صارت الاستراحة خالية من الموظفين، لم يستطع أيوب استردادها بالرغم من كونها شركة قطاع عام؛ وبالرغم من زياراته المتكررة الى مقر إدارة الشركة بالقاهرة، دائما ما يفور دمه عندما يقولون له انها تعتبر أصلا من أصول الشركة، كلما تذكروا الشقة يرسلون بعض العمال لعمل شىء جديد أو يبدو جديدا، ربما للتأكد من عدم الإعتداء عليها أواحتلالها؛ وربما أيضا لتأكيد حيازتهم لها، ولسبب آخر مهم، فالعامل والمشرف الذى يأتى من القاهرة لابد أن يأخذ بدل سفر، وهناك مصاريف اقامة، ومصروفات للمهمة التى من المفروض أن تتم، أحيانا يبدلون قطعا من العفش، ينظفون الأرض، يزيلون الملاط من حوائط المطبخ والحمام ليبدلوه بالسيراميك، عادة يتركون الشقة دون احكام غلق الشبابيك، فى الأيام العاصفة تهز الرياح الأبواب والشبابيك التى تظل أصوات اصطدامها فى الحوائط طوال الليل، بالرغم من التنبيه عليهم لغلق النوافذ والأبواب قبل مغادرة الاستراحة؛ وأيضا للحفاظ على الشقة من ان تردم بالأتربة على الأقل، .. ولكن لا حياة لمن تنادى، أيام الرياح العواصف يظل الصفير وأصوات الأبواب محدثة خبطا متتاليا كأنما هناك عفريت وسط الظلام .. لم يترك أيوب طريقا لتخليص الشقة من أنياب الشركة الا وسلكه؛ ولكن للأسف لم تُجدِ محاولاته فتيلا؛ كانوا يعيدون على أسماعه تلك المقولة التى زهق منها "الشقة تعتير الآن أصلا من أصول الشركة"

قال له أحدهم عندما حذره أيوب من سرقة الشقة لتركها خالية :

هيه بتاعة أبونا ياعم؟

***

كلما اقتربت المواسم والأعياد؛ تبدو المدينة كأنما تتخفف من ثيابها لتبدأ فترة من الدعة والراحة، تخلو الشوارع تدريجيا من المارة؛ تهدأ الأصوات الصاعدة من الورش والمقاهي والسيارات، تخفت أصوات العربات؛ يقل عدد المشاة فى الطرقات، محلات كثيرة تغلق أبوابها، الغالبية من السكان يغادرونها؛ عائدين من حيث أتوا لقضاء إجازاتهم مع ذويهم، يستعدون للسفر إلى قراهم ونجوعهم قبل العيد بأيام، يقضون أجازاتهم خارج المدينة، تبدو الصورة واضحة للعيان، أين الذاهبون صباحا إلى مصالحهم؟ أين العائدون من أشغالهم؟ الكل فى إجازاتهم؛ رحلوا من حيث أتوا؛ الغالبية لا انتماء عندهم إليها؛ يأتون مع أقاربهم أو وسطائهم وأحبابهم للعمل؛ البعض منهم يبدو أنهم يعملون، ثم يقبضون مرتباتهم ويرحلون؛ وقد يغرفون ما استطاعوا غرفه، ويحملون ما استطاعوا حمله، ليبتاعوا الأراضي والعقارات ويشاركوا فى المشاريع المختلفة فى مدنهم وقراهم..

فى هذه الأوقات؛ تُترك المدينة لأصحابها، يغشاها الهدوء، يتلاشى منها الضجيج، تبدو الطرقات أكثر نظافة، تختفى أكوام القمامة، وتهاجر من سمائها أسراب الغربان؛ بينما تستمر جماعات القطط والكلاب فى التجول داخل الشوارع والحوارى والخرابات، الشىء الرائع فيها هو الهدوء الذى يبدو فى ملامحها الباكية، مدينة ينهش الكل فى أعضائها، لا تجد قلبا حنونا صاحب سلطة؛ يدافع عنها ..

***

صباح يوم العيد؛ طرق شديد على باب شقة أيوب؛ كانت ابنة الفرارجى واقفة فى عجلة من أمرها؛ صحا أيوب من نومه مفزوعا وفتح الباب قالت لأيوب :بص ع السلم، نظر أيوب فوجد بحرا من المياه هابطا على الدرج؛ دخل ليرتدى ملابسه مسرعا ، أثناء هبوطه، شاهد دفقا من المياه سارحا إلى أسفل، تابعه بنظره ليعرف مصدره؛ وجده يخرج من شقة الاستراحة، كانت المياه تتدفق من أسفل الباب المغلق، نادرا ما كان يجده مغلقا بالنهار، طرق على الباب عدة طرقات، الجرس لا يعمل، لا أحد يرد، أعاد الطرق عدة مرات متتالية، لا أحد هناك ..تأكد ببساطة ألا أحد بالداخل، الكل تقريبا وجوه غريبة ومغتربة، ما العمل إذن؟ ليس لديه مفتاح، فكر فى الاتصال بسيد الطباخ؛ فهو الوحيد الذى ينتمى إلى المدينة، لم يسبق له أن أخد رقم تليفونه.

احتار أيوب فى هذا المأزق؛ قال له خالد:

نبلغ النيابة وتكون لجنة لفتح الشقة .

وافقه أيوب على رأيه؛ وفضل أن يذهب أولا إلى الحكمدار؛ ليقوم هو بالواجب

***

بالقسم، كان واثقا من مساعدة المأمور، هناك قابله شرطى على الباب

أريد مقابلة البيه المأمور..

اسمك؟

أيوب عمران، قل له أيوب صاحب البيت

دخل الشرطى، تأخر قليلا؛ ثم خرج قائلا:

البيه مشغول فى اجتماع..فوت عليه وقت تانى ..

***

أثناء عودتهما قال خالد:

وما العمل إذن يا والدي؟

هل تعرف سكن عم سيد الطباخ؟

سمعته مرة يقول إنه يسكن بكفر أحمد عبده، جوار محل فسخاني

سوف أذهب إليه

***

توصل أيوب بعد جهد إلى بيت عم السيد الطباخ، ارتدى الطباخ ملابسه مسرعا ليعود مع أيوب ليرى ما حدث، عند فتح الباب شاهدا بحرا داخل الشقة، خشى الطباخ الولوج فى المياه حتى لا يبتل حذاؤه وتتبهدل ملابسه، دخل أيوب وحده غير عابئ بشىء؛ وجد أكثر من صنبور مفتوحا على آخره، تعجب، صاح فى وجه الطباخ غاضبا:

أنتم غير أهل للمسئولية؛ شوية بهايم!

رد الطباخ متجاهلا ما سمع:

من يومين كانت الميه مقطوعة، سافر الموظفون و غادرت الاستراحة وروحت لبيتى، ولم أعد إلا معك الآن!

***

21

لتقارب الشقتين وتلامسهما أثر عجيب، عندما تخرج أم خالد إلى الشرفة؛ وتنظر أسفل منها؛ أحيانا تجد حرم المأمور تطل من شرفتها تتفرج على الشارع، ربما بقميص نوم هفهاف مفتوح الصدر، معرضة بياض كتفيها وذراعيها للشمس والهواء ونظرات المتطلعين من المارة والجيران، عندما تكون داخل المطبخ غالبا ما تتصاعد رائحة الطعام بسهولة خلال مسقط النور؛ كما أن الأصوات تصل أيضا واضحة عبر المسقط الآخر المطل على نافذة الصالة

ريم طابخة ملوخية

ريم؟

نعم . جارتنا الجديدة؟

نعم جارتنا الجديدة.. ريحة "الطشة" وصلت لنا..

***

بعد عودته من عمله يوما ، قالت له زوجته أم خالد :

يا أيوب .أريد أن أقول لك شيئا

نعم؛ ماذا؟

بعد خروجك إلى العمل، سمعت صراخا وضجيجا يأتيان من أسفل؛ يبدو إن المأمور يتشاجر مع زوجته

وهل تأكدت؟

نعم .. شتمها

ليس هذا شأننا..

كيف يا أيوب ونحن جيران؟

كل واحد حر فى بيته.

***

فى مساء نفس اليوم علت الأصوات عبر المنور، كانت نبراتها نشازا، فقد المأمور رشده عندما قال بكل جرأة:

يا دون..يا بنت الكلب .. سأقطع رقبتك وأكسر رأسك با بنت ستين...

أصرت أم خالد على نزول زوجها أيوب ليصلح بين الزوجين

أنا شايفه مجرد سؤالك عنهم، ودخولك عندهم سيحرجهم ويجعلهم يبطلوا خناقات ..

ربنا حليم ستار. مالنا نحن؟ كل واحد حر فى بيته

خليك محضر خير..

***

وراء إلحاح زوجته؛ وافق أيوب أخيرا على النزول إلى جاره ليكون محضر خير .

قال أيوب وهو يغلق الباب وراءه:

ربنا كريم..

ضغط زر الجرس، بعد قليل فتح المأمور الباب وجعله مواربا، لم يقل لأيوب : تفضل؛ كان يرتدى فانلة و شورت داخلى ونظارة طبية؛ عيناه محمرتان مرهقتان

أى خدمة؟

شعر أيوب بالحرج؛ تنحنح وقال:

لا شكرا..

فيه إيه؟؟ محتاج حاجة؟

لا أبدا ..فيه عندكم مشكلة؟

قال الرجل مستنكرا :

شكرا يا سيدى ..لا توجد مشاكل لدينا. سأبلغك عندما تكون عندنا مشاكل..

أدار أيوب وجهه معطيا قفاه – الذى يبدو فى هذه اللحظات أنه احتقن واستعرض واستطال - للمأمور الذي أغلق الباب مباشرة، شعر أيوب بالدماء تتدفق إلى رأسه وأحس بسخونة تسرى فى أذنيه وهو يسحب سافيه مغادرا، كاد يافوخه ينفجر، لام نفسه لأنه سمع كلام زوجته، ولام نفسه مرة ثانية لأنه طرق باب الجار دون ميعاد، ولام نفسه أخيرا لأنه عرّض نفسه للإهانة من شاب فى دور ابنه؛ وافق على إيوائه وتسكينه فى منزله بإيجار بخس؛ ظنا منه أنه قد يكون ابنا وسندا له فى يوم من الأيام..

***

فى إحدى الأمسيات؛ سمعت أم خالد طرقا قادما من الشارع، عندما دخلت إلى شرفتها لتستطلع الأمر؛ وجدت أحد الجنود وقد تدلى نصفه العلوي تقريبا خارج شرفة المأمور، كان ممسكا بيده منفضة خيرزان، يطرق بها السجاجيد طرقا شديدا .تطايرت الأتربة والغبار إلى شقة أم خالد التى تعجبت من المنظر؛ ولكنها ومع تكرار الأحداث علمت أن جارتها تستعين بالجنود فى قضاء حوائجها؛ تعودت أن ترى أحدهم وقد خرج من سيارة البوكس الداكنة حاملا قفصا عليه أرغفة الخبز البلدى المنتفخ الساخن..تلك الأيام كانت طوابير العيش طويلة طويلة ..كان من يحظى بعشرة أرغفة يخرج من الطابور متوجا منصورا؛ كأنما فتحت فى وجهه طاقة من نور.

***

بعد عام أنجبت ريم – زوجة المأمور- ابنتها كنزى عندما كبرت كنزى وصارت فى الرابعة؛ كانت أم خالد تراها وقد رفعها الجندى لسيارة الشرطة لتذهب إلى حضانتها؛ فى الظهيرة يعلن كلاكس السيارة عن عودتها، تجرى أمها إلى الشرفة لكى تلاحقها بنظراتها وقد حملها الشرطى لإنزالها من السيارة، ثم تسرع إلى باب الشقة لتكون فى انتظار ابنتها لتتسلمها من الشرطى يدا بيد.

***

22

دارت أيام وشهور، انطوت ليال ونهارات من عمر الزمان؛ بعد وفاة زوجها؛ بالرغم من المعاملة الحسنة التى لاقتها من أبناء المرحوم إلا أن عايدة زهقت من وحدتها فى شقتها الكبيرة البعيدة عن منزل أهلهاحيث لم يعد لوجودها لزوم فى بيت المرحوم، وخصوصا أنها لم ترزق بأطفال، طلبت من أخيها أيوب أن تعود إلى بيت العائلة بعد أن تسلمت حقها من الميراث بما يرضيها .

قالت لأيوب :

الحمد لله، أولاد المرحوم عاملونى معاملة حسنة، أعطونى حقى وزيادة من ميراث المرحوم .

سوف تكونين فى عينينا، هنا فى بيتك.

هذا عشمى يا أخى .. أريد منك شيئا يا أيوب ..

أطلبى يا أختي..

أريد أن أسكن فى الشقة المواجهة لكم

الشقة الصغيرة ..ولكنها تحتاج للتشطيب

أعرف

أعطته ما يكفى من المال لكى يشطب لها الشقة الصغيرة بالدور الرابع، وافق أيوب ممتنا، فالأولاد يحبونها وهى لا تستطيع أن تعيش معهم فى نفس الشقة كما كان الحال سابقا .

أريد شيئا آخر..

ما هو؟

أن تذهب معى غدا إلى البنك لأفتح حسابا لى .

ابتسم أيوب قائلا:

تأمرين يا أختي.

***

اقترب موسم الحج، اقترحت عايدة على أخيها أن يصطحبها لرحلة الحج، قال لها:

ولكن!

لكن ماذا يا أيوب؟

لكن العين بصيرة واليد..

قاطعته وهى تضع كفها على فمه، قائلة:

لا تقلها ، الخير موجود، المهم أنك موافق على الفكرة!

طبعا يا أختى !!

أعطته ما يكفى ليحجا معا، فرح أيوب كثيرا .

***

بمجرد أن قُرئت فاتحة خالد تمهيدا لعقد قرانه، وضعت عمته عايدة مبلغا كبيرا فى يده قائلة له:

هذا المبلغ هدية من عمتك.. قبل أن أذهب الى الحج؛ الله يعينك على مصروفات الشبكة والزواج..

***

23

فى أحد صباحات يناير؛ وأثناء عودة الحجاج ذهبت أم خالد والأولاد خالد وعلى و ليلى وزوجها لاستقبال أبيهم وعمتهم، وقد امتلأت الدنيا بالدفء والنور، استقلوا القطار إلى الميناء، أثناء وجودهم بالميناء؛ اختفى قرص الشمس تدريجيا وراء الغيوم، وخيم الظلام على الدنيا، حتى كادت الرؤيا أن تنعدم، أشعلت السيارات أنوارها، حدث برق تلاه رعد، وأمطرت السماء كما لم تمطر بهذه الكثافة منذ أعوام، استمرت الأمطار حوالى ساعة من الزمن، انقشع بعدها الظلام، وصارت العربات تسعى كأنما تسير على زجاج تنعكس عليه صور المرئيات .

جلس الناس يسبحون ويحوقلون، ويتعجبون من تلك الطبيعة الخلابة التى تتغير من آن إلى آخر، وقال خالد: سبحان مغير الأحوال.

بعد أن انتظروا طويلا على رصيف الميناء؛ فوجئوا بأيوب يخرج وحده، جالت أم خالد بنظرها حول أيوب ووراءه؛ لم تجد عايدة، تعجبت، اتجه الجميع بأنظارهم جواره وخلفه ليروا عمتهم، لم يظهر أحد؛ استقبلوا أباهم فرحين مهللين أخذهم أبوهم بالأحضان، سألوه بلهفة عن عمتهم؛ اغرورقت عيناه بالدموع؛ عاد أيوب وحيدا؛ لم يملك نفسه من النحيب قائلا:

لقد توفت هناك، دفنت بالمدينة المنورة؛ جوار الرسول ..

تقطع قلبه بين فرحته للقاء أبنائه بعد مغيب أكثر من شهر، وبين حزنه لفراق أخته التى كان مثواها الأخير بالمدينة المنورة بالبقيع .

***

صباح اليوم التالى سمع خالد صوتا رتيبا لتنقيط المياه على أرض الغرفة؛ اتجه بنظره الى السقف فوجد شروخا، صعد إلى السطح ليجد عددا من البرك الصغيرة من تجمعات المياه الراقدة على أسطح الحجرات، علم أن الفرراجى لم يأبه للأمر بالرغم من أنه المستفيد الوحيد من السطح، فهو يربى الدواجن فى العشة الكبيرة التى تأخذ حوالى نصف مساحة السطح .

***

جاء الفرارجى ليبارك و فى نفس الوقت يعزى أيوب؛ الذى قال له:

الله يبارك فيك، كنت أتمنى أن تكون مكانى بالمنزل

طبعا كلنا كنا مكانك يا حاج، ربنا يطول عمرك

السقف باش يا دواوينى ... من ساعة المطر

معقولة؟

طبعا معقولة، و كيف لا تكون معقولة وأنت لا يهمك غير مصلحتك !

***

24

تتابعت الأيام والليالي، عاد الحزن ليخيم على العائلة؛ ظلت شقة المرحومة عايدة مغلقة؛ توسعت وازدهرت تجارة زكى؛ كما تكاثرت أملاكه، صار من أشهر تجار قطع الغيار فى المدينة؛ ، يدير أعماله بالتليفون والفاكس، يخرج من بيته متأخرا كما يحلو له؛ صار أبناؤه يقومون بالأعمال كلها تقريبا، يوما صحا من نومه مبكرا واقترب من باب شقته وقد هم بالخروج، فوجىء بزوجته تقول له من الداخل:

على فين يا زكى؟

سوف أذهب إلى الشهر العقارى لأسجل نصيبي من ميراث المرحومة أختى.

أختك؟

نعم

قل لأخيك سوف نستثمرها كما قلت لك

استمرت الإجراءات أيام طوال، كان لابد من عمل إعلام وراثة واشهار إرث، يلزمه الذهاب إلى المحكمة، ثم استكمال باقى الإجراءات فى الشهر العقارى؛ بعدها توجه إلى أخيه أيوب قائلا له:

أريد مفاتيح الشقة..

لمح أيوب فى عينى أخيه نظرة اشمئزاز وتقزز ورغبة غامضة فى التشفي، وتساءل:

أي شقة؟

شقة المرحومة

لقد تعبت وشقيت فى هذا البيت وأنت تطلب ببساطة هكذا؟ ثم إنك غير محتاج يا أخى

رد زكى بغضب:

ليس هذا من شأنك ..هل تحسدني؟ أم يأكل الحقد قلبك؟

حاسد وحاقد؟ على مهلك ..ماذا بك يا رجل؟

أريد الشقة لأنى سأستثمرها

رد أيوب مستنكرا:

تستثمرها؟! وهل اكتفينا نحن من الشقق حتى تستثمرها؟ ألا ترى؟ ألا ترى أن خالدا ابن أخيك فى حاجة إلى شقة؟

عندما يتزوج خالد سوف نبحث له عن شقة !

أين؟

ليس شأنى؛ ابنك كبر ومسئول عن نفسه..

طيب يا أخى ..خالد هذا أليس مثل أولادك؟ ثم إنك عندما اشترينا البيت لم تدفع جنيها واحدا فيه!

قاطعه زكى قائلا بعنف:

أتريد أن تغير شرع الله؟ لقد ورثت فى أخى محمود، وورثت فى المرحومة أمى، و فى عايدة..ثم أنى اشتريت منك نصف ميراثك كله، يعنى حصتى فى البيت صارت أكبر من حصتك، وكلمتي أعلى من كلمتك..فاهم؟!

رد أيوب بهدوء؛ وقد حاول أن يتماسك:

نعم ورثت ..ولكن الذى تعرفه جيدا أنى دفعت نصف ثمن البيت عند شرائه، كان هذا المبلغ كل ما أملك تقريبا، فضلت أن أضحى حتى يكون لنا بيت، ومع ذلك كتبت فى الأوراق الرسمية ثلاثة أنصبة بالتساوي بيننا أنا ومحمود والوالدة الله يرحمها ..ألا تتذكر هذا؟ وكأنهم دفعوا مثلى، وبخلت أنت ولم تدفع شيئا، بل والتمست لنفسك المعاذير كي لا تدفع قرشا واحدا! وقلت يومها أنك لا تمتلك سيولة.. ألا تذكر؟ أم تراك قد نسيت؟!

رد زكى بصلف :

كل هذا الكلام لا فائدة منه !

انا موافق على الاستثمار

سوف أؤجرها بإيجار مرتفع.

تعجب أيوب وكاد أن يفقد أعصابه لولا أنه نطق قائلا:

أنا المستأجر!

وكم ستدفع؟

عشرين

لا ثلاثين

موافق.

أخيرا رضخ أيوب حتى يطفىء غضب زكى وشهوة الطمع وحب المال لديه؛ كتب له زكى عقد إيجار شقة المرحومة بملبغ شهرى ثلاثين جنيها، كانت فى تلك الأيام مبلغا هائلا

انقلبت الآية؛ فبعد أن كان أيوب يكتب عقود إيجار للناس؛ أرغمته الظروف على أن يكتب زكى له عقد إيجار داخل مملكته التى كانت!

فتح أيوب شقة المرحومة عايدة ونقل عفشه إليها؛ ذبح زكى كبشا صغيرا جوار منزله غداة أن كتب عقد الإيجار؛ احتار أيوب فى تفسير هذا الفعل؛ أهو نتاج فرحة أم تشفّى؟!

***

25

تبدأ قصة غرام خالد أيوب أثناء عمله بحسابات زوج عمته بالمكتب الموجود أسفل البيت؛ كانت تسكن بالدور الثانى بالعمارة؛ كانت أعينهما تتلاقى عندما يرفع رأسه ليبحث عنها بعينين تواقتين .يراها حين وقوفها بالشرفة أو أثناء خروجها أو دخولها إلى البيت فى رحلتها من وإلى المدرسة .بعد عام من استشهاد السادات فى حادث المنصة الشهير، تزوج خالد من ابنة المرحوم الحاج مسعد البراهمى زوج عمته عايدة، لمّحت أخت العروس بأن الأفراح ستزداد فى بيوتهم ان شاء الله؛ فرح أيوب وأقام لهما سرادقا جوار المنزل..

ترك له أبواه شقتهما ليقيم فيها هو وعروسه أعلى شقة المأمور، وانتقلا ليقيما فى الشقة الصغيرة المواجهة لهما؛ شقة المرحومة عايدة بعد أن كتب له زكى عقد ايجار أعلى من قيمة أية عين بالمنزل!.

***

تنفلت الايام والشهور والأعوام ، أسرة خالد الصغيرة اتسعت و اينعت بها زهور ثلاث جدد : شادى ورامى وهاجر.

***

فى لحظات الهدوء تقول أم خالد كأنما تتذكر:

اللحمة زادت

رد أيوب:

كل حاجة زادت ...البنى آدم هو الوحيد الذى رخص .

والإيجارات؟

كما هى لا يمكن أن نزيد قرشا واحدا.سأحاول مع السكان. سكت لحظة وقال:

هل تعرفين يا أم خالد لم وافقت على سكن المأمور عندنا؟

لأنه يستطيع أن يدفع الإيجار؟

لا ... لأنه ممكن يخدمنا لو عندنا مشكلة مع أحد ..هذه الأيام كل المصالح تحتاج إلى واسطة؛ بدون واسطة لا أحد يسأل عنك.

هاها هذه كذبة أبريل؟

ضحك ضحكا كالبكا قائلا

اعتبريها كما تقولين..

***

يلعب الأولاد سويا؛ كنزى ابنة المأمور تشاجرت مع ابن الفرارجى؛ قذف الكرة خبطت فى رأسها، اشتكت لأمها التى فى الحال ذهبت إلى شقة الفرارجى، فتحت لها زوجته

ابنكم يحتاج إلى التربية

حقكم علينا

يعنى إيه حقكم علينا؟ ولو كانت الكرة أصابتها فى عينيها، ما الذى نستفيد؟

الحمد لله قدّر ولطف!

قدر ولطف..ألا تجدين كلاما مقنعا تقولينه؟

وتركتها وغادرت..

***

على السلم قابل المأمور وهو عائد من عمله بالبذلة الميرى، قال له أيوب مرحبا:

أهلا يا باشا ..منّور..

نظر له من وراء النظارة بتمعن:

أهلا يا حاج

كنت أريد أن أفاتحك فى موضوع

وأنا كمان عاوز أفاتحك فى موضوع

خير ياباشا

خلى الراجل الفرارجى ده يعلّم عياله الأدب

خير حصل ايه؟

ماحدش قال لك؟

لأ

أسال وأنت تعرف . وايه الموضوع اللى انت عاوزنى فيه؟

سيادتك تعلم أن الدنيا زادت والأسعار بقت نار ..

وما المطلوب؟

بعد إذنك الإيجار يزيد 2 جنيه من الشهر الجديد.. للنظافة والصيانة ونور السلم..

2 جنيه؟! أنا ادفع 2 جنيه زيادة من الأصل..

زيادة؟

نعم زيادة ..أنا سألت فى الضرائب العقارية؛ عرفت إن العوايد خمسة جنيه فقط، وأنا أدفع سبعة ..

احتد أيوب وارتفعت نبرته قليلا وهو يقول:

يا سلام.. رحت مصلحة العوائد لكى تسأل هذا السؤال؟

رد الرجل ببرود:

وماله يا أخى؟

وماله؟! لا أريد منك شيئا . سأعتبر الشقة غير موجودة أصلا بالبيت، أو كأنى اشتريت بإيجارك ربع كيلو لحمة !!

***

26

بمرور الأيام حدث رشح فى سقف حمام فتنة والفحل، باش ملاط السقف تدريجيا؛ لم يشكو أحد، دعت فتنة أخاها أيوب ليرى ماحدث بالحمام؛ توجه أيوب مع الفحل؛ تألم الرجل مما رآه؛ انفصلت قشرة الملاط عن سقف الحمام وبدت الطبقات الداخلية، حدثت شقوق غائرة فى الطبقة الأسمنتية، هبطت أجزاء كبيرة منها، بانت أسياخ الحديد بلونها الأجرب الصدئ، رشح المياه فى الحوائط أدى الى تفتتها؛ صارت قطرات المياه تحدث صوتا رتيبا عند اصطدامها بأرضية الحمام..

قال الفحل وهو ينظر فى عينى أيوب

اليوم وقعت خرطه كبيرة من قشرة السقف، سمعت الصوت وأنا فى المطبخ .. دِب!!

لحسن الحظ أنها لم تقع على أحد

الحمد لله...

لم يبلغ أحدا عما يحدث!! آه من البشر !! توجع أيوب، وسأل نفسه: هل سيكلفكم شيئا أن تقولوا، تقولوا لى أو تبلغوا المأمور الساكن أعلاكم.. فقط تبلغونا بما يحدث، هل هذه معضلة؟ هل هذا مال كفرة؟ حرام والله..؟؟!

قال أيوب متأففا:سأقوم بإبلاغ المأمور لعمل اللازم.

***

قرر ألا يقابله فى البيت خشية الوقوع فى حرج؛ ولكنه مع ذلك طرق باب شقته؛ لم يكن متواجدا؛ قالت له زوجته اذهب إليه فى القسم

فى قسم الشرطة، كان أيوب مطمئنا إلى الفرحة التى سيبديها المأمور لتوجيهه بإصلاح مافسد قبل تفاقم الضرر؛ وهو لايرضى بذلك؛ مهمته وعمله هو إحقاق الحق؛ وحل مشاكل الناس والقبض على أى ضرر وعلى المتسبب فيه...

انتظمت دقات قلبه وهدأت أنفاسه وقد توّجتها قسمات وجهه التى انبسطت استبشارا بالحق الذى سيعود إليه

ماذا تريد؟

أريد مقابلة المأمور..

اسمك؟

أيوب عمران.. قل للباشا أيوب صاحب البيت

دخل الشرطى لإبلاغ المأمور، تأخر قليلا؛ ثم خرج قائلا:

البيه سيتأخر فى الاجتماع..يقول لك فوت على سيادته وقت تانى ..

***

بالمنزل عرف المأمور المشكلة؛ ولكنه لم يرد، مرت أيام وأسابيع ومازالت المياه تتساقط من سقف الحمام على فتنة وقد أبى الفحل أن يشكو المأموركما لمّح له أيوب، ساعتها رد الفحل باستكانة:

ومن يستطيع مواجهة المأمور؟ أنت تتكلم على نياتك يا حاج!

يعنى إيه لا أحد يستطيع مواجهة المأمور؟

يعنى ممكن يلبّسه قضية!

تعجب أيوب؛ وقال:

قضية؟!

***

اقترح خالد أن يبلغ المحامى ويرفع قضية ضد المأمور ونسب الإهمال الجسيم اليه.

ضحك أيوب قائلا:

يا بنى المياه لا تطلع فى العالى ..والمحاكم تحتاج إلى مال وبال طويل..

فضّل أيوب أن يعيد فتح الموضوع مع المأمور، أخيرا وافق المأمور على الإصلاح بشرط أن يحضر أيوب المقاول وأن يكون الحساب مناصفة بينه وبين فتنة والفحل .لم يجد الاثنان بدا من أن يقبلا بهذا العرض. أحضر أيوب السباك الذى وقف ينظر إلى السقف مليا ثم مصمص شفتيه قائلا:

خسارة..

رد المأمور :

خسارة إيه؟

السقف محتاج تغيير؛ البلاطة كلها واقعة..

لم ينس المأمور تلك الواقعة؛ كلما قابل السبد أيوب يقول له:

لقد كلفتنى إيجار خمس سنوات كاملة !!

***

27

كبرت البنتان التوأمتان لمياء وضحى، العام هو 1985؛ صارتا فى عمر الزهور، حام الخطاب حولهما، فى البيت انشغال وفرحة، أناس يسألون؛ وآخرون يجيئون ويخرجون؛ صار المكان كخلية النحل، لكل شىء ثمن، عطاء الدنيا من البهجة والفرحة والاستعداد للافراح يقابله مسؤولية كبيرة فى التجهيز، تذكر الأب ما حدث أثناء تجهيز ابنتهم البكرية ليلى وما صاحبه من بيع جزأ من حصته فى المنزل، ترى كيف يدبرون لتجهيز اثنتين؟

قال أيوب لزوجته :

يا أم خالد عندى اقتراح...

نعم

نقترض من البنك بضمان حصتنا فى البيت

كما ترى ولكن من أين سنسدد هذا الدين؟

دعى أيوب أخاه ليكون ضامنا له بالبنك، بالإضافة إلى نصيبه فى العقار الذى قال له موظف البنك إن قيمة ما يملكه لا يكفى لتأمين المبلغ المطلوب اقتراضه، المبلغ كبير.

عاد الأخوان ليستأنفا حوارا حول المشكلة؛ تغيرت ملامح زكى كأنما صار شخصا غريبا، حكى له أيوب عما يشغله، قال فى نفسه: عل وعسى أن ينتشلنى ويقرضنى بدلا من البنك الذى سيسترد ماله مضاعفا بالفوائد...

حدق أيوب فى وجه أخيه كأنما يراه للوهلة الأولى، تبسم زكى مرحبا بأيوب وهو يقبض بشفتيه على مبسم الشيشة التى لا تفارق جلسته أمام المحل حتى باتت أسنانه صفراء؛ ظهر جزأ من الطاقم الذهبي بالناحية اليمنى من فمه، اضطر إلى تركيبه بعد أن فقد صفا من أسنانه منذ زمن؛ أيام الشقاوة عندما أصيب أثناء الهجرة فى مشاجرة مع أحد المقاولين لاختلافهما على مبلغ من المال، يومها سدد المقاول لكمة قويه بمقبض يده إلى فك زكى، صارت ملامحه السمراء متغضنة ذات تقاطيع حادة وقد سرحت في أنحاء وجهه بثور وهالات سوداء حول العينين، كما صار يحمل أمامه كرشا منتفخا، لا يسأم من الجرى هنا وهناك بالليل والنهار بحثا عن المال، أو عمن يدله عليه.

***

سحب نفسا عميقا واعتدل فى جلسته قائلا :

عندى فكرة يا أيوب..

قلها..

أشترى منك باقى نصيبك فى البيت.

رد أيوب مبهوتا:

نعم؟!!

لقد سمعت ما قلته..أشترى منك..

تشترى؟ لقد اشتريت، وهل تقبل أن أكون مجردا..؟

قاطعه زكى بقوله:

مجردا؟! مجرد من ماذا؟ سأشترى كما اشتريت منك من قبل، الدنيا أخذ وعطاء؛ وأنت فى حاجة إلى المال، يكفى أننى سأعطيك مالا لتفك ضيقتك وتستر البنتين، وأشترى منك بما يرضى الله ..بصراحة البيت لا يهمنى، فهو بيت قديم مسكون؛ يعنى لا يدر مالا ولا فائدة منه..

أحس أيوب بالزهق والحيرة من هذه المقابلة التى أنهاها بسرعة، ومشى فى طريقه عائدا من حيث أتى، ظل فكره معلقا بالأخّوة، نعم ! هل فقدت مضمونها فى هذا الزمن؟ ماهى بحق السماء؟ صار يكلم نفسه طوال الطريق وهو عائد إلى بيته يجر قدميه، سارحا وقد ران على قلبه حزن كثيف .

***

تركه أخوه ليفكر؛ لم يتصل به، قال أيوب لزوجته:

الرجل لا يسأل عنى ..

أخوك؟!

نعم أخى ..كما فى شهادة الميلاد.. وضحك ضحكة كئيبة.

ربما يكون مشغولا..

لا يجد دقائق ليسأل عنى؟!

المهم ..لابد أن تكون عائشا فى الدنيا

وهل أنا خارج الدنيا؟

أظن أنك فى وادي آخر ..

أول مرة تقولين هذا الكلام ..

لابد أن نهتم بمصلحة البنتين..كما اهتممت بليلى وخالد.

سوف نرفع عنا الغطاء لو سمعنا كلامه..

الله موجود رزاق الكل؛ ولا ينسى أحدا

يعنى تقصدين أسمع كلامه وأبيع بسهولة؟

بكم يريد أن يشترى؟

كما اشترى المرة السابقة

ولكن الحال تغير وتضاعفت الأسعار كثيرا!

أقول أن هذا ما سمعته منه..

من الممكن أن تسأل أحد السماسرة؛ ربما يأتى لك زبون يدفع أكثر !

***

28

الصاوى البمبوطى أرداه بخله إلى ضيق البصيرة؛ تسبب فى تكسير بلاطات السلم و رفض إصلاحها، كل صباح يجلس فى مكانه المعتاد أمام المخزن؛ ولا يقوم من كرسيه حتى تميل الشمس إلى الغروب، لم يكن يحب أن يستعمل الإضاءة الصناعية، إلا فى الضرورة، على الحوائط توجد رفوف وأدراج للحاجيات، عندما يقوم العامل بترتيب البضائع ووضعها فى أماكنها، يضع السلم على الحائط ويصعد عليه، يكون الضوء بالقرب من السقف شحيحا، خافتا، أحيانا يهبط من سلمه ليضيء النور، عندما يلمحه الحاج كان يقول له موبخا بصوته الخشن:

لا تسرج النور.

من مكانه ينظر إلى السماء ويشير بإصبعه إلى أعلى؛ قائلا:

الدنيا نهار.

  • رفع البضائع وترتيبها بالمخزن، كان العامل يقف أعلا السلم ليرص علب المسامير والبويات على الرف؛ أحس بنقط مياه تسقط على رأسه وقفاه، مسحها بيده، ونظر إليها متعجبا؛ نظر إلى السقف المرتفع ليرى من أين تأتى؛ تابع بنظره حتى وجد الكثير من علب وصفائح البويات وقد طالتها المياه؛ أبلغ الحاج، فى الحال توجه البمبوطى إلى مدخل البيت ليصعد إلى الاستراحة ليبلغ سكانها، لم يجد أحدا؛ صعد الى أيوب بالدور الرابع وأبلغه أن هناك رشحا للمياه من شقة الاستراحة التى تعلو مخزنه، تتسرب المياه أسفل البلاط وتسرى إلى سقف المخزن .

ارتدى أيوب ملابسه ونزل مسرعا؛ أثناء هبوطه على السلم؛ تعوّد أن ينظر إلى السقف والحوائط ولمبات الإنارة ويلاحظ نظافة السلم؛ كما يمد عينيه إلى مسقط النور ليرى ان كان هناك تسريب مياه أو خطأ ما ليتداركه، كان يحدث نفسه :لماذا لا يفكر أى ساكن مثل تفكيرى؟لماذا لا يعتبر السكان أن هذا مسكنهم وأنهم مسئولون عنه، وأنه يهمهم أن يكون سليما ونظيفا وجميلا؟

سمع صوت خرير مياه؛ أصاخ السمع لكى يحدد مصدره، رجّح أن يكون الصوت قادما من شقة الشركة، استاء لهذا؛ لا يوجد أحد الآن بالشقة، اليوم الخميس والموظفون يسافرون الى مدنهم وقراهم يوم الأربعاء، البعض منهم يعود السبت والغالبية يعودون الأحد، المسافة بعيدة؛ وهل نترك المياه تخر هكذا حتى يعودون؟ يومان أو ثلاثة؟

بسهولة خرج البمبوطى عن النص؛ فتح جاعورته بأقذر أنواع السباب والشتائم وصبها على قاطنى الاستراحة؛ لم يكن أحد موجودا بها سوى سيد الطباخ الذى توشح بصمت مريب؛ أبى البمبوطى إلا أن يتخذ موقفا رسميا؛ توجّه إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، بعد أيام تحولت الشكوى إلى الادارة الهندسية بالحى، يوميا يتابع أيوب مجرى المحضر، بعد شهر حضر أحد المحامين من طرف الشركة للذهاب الى الجلسة بالمحكمة؛ وقابل أيوب صاوى البمبوطى الذى هاجم الشركة ولعن جدودها أمام المحامى الذى ظل مكتفيا بالفرجة؛ دخل ثلاثتهم الى المخزن للمعاينة؛ تأسف المحامى قائلا لأيوب:أنت رجل طيب؛ عايش فى وادى تانى! انها شركة قطاع عام ياحاج وهى لا تحتاج الى الشقة فى الوقت الحالى؛ وليس لها صاحب؛ وأنا مجرد موظف بها؛ لا أكثر ولا أقل!

***

29

ادعى زكى أنه وقع فى حبائل الخسارة ووقّع شيكات بدون رصيد كادت أن تفتح عليه أبواب السجون؛ ذهب الى الطبيب لعمل شهادات طبية؛ طلب أخاه أيوب وتحدث معه عما انتواه بخصوص بيع نصيبه فى البيت؛ قال لأيوب:

أبيع لك نصيبى

أنت تعلم أنى لا أمتلك مالا سائلا يكفى؛ وأنا فى حاجة للمال لزواج البنتين.

أذن تبيع لى أنت!

أبيع لك؟وهل تملك مالا؟

سأتصرف

كيف تتصرف؟

رد زكى بصلافة :

البيت دخله ميت؛ وأنت فى حاجة شديدة إلى المال، السوق نايم، عرضت عليك الأمر، أنت أولى .

عاد أيوب مفكرا فى ذلك التناقض الذى يتسم به كلام أخيه؛ كيف يدعى أنه يخسر وأن عليه شيكات لم يسددها؛ وفى الوقت نفسه يريد أن يشترى نصيبى فى البيت؟ أهو يخبىء المال ويتعمد ألا يدفع مقابل الشيكات المرفوعه ضده فى المحكمة أم ماذا؟

لم يناقش أخاه فى الثمن، تكاثرت ثروة زكى واشترى بيتين ومقطورة؛ ولكن أيوب يعتقد أن المستقبل لا ينبىء بخير، غالبا سيكون المشترى غريبا عنهم؛ فهو الآن وفى تلك الأيام بالذات؛ عديم الدرهم والدينار.

بعد أن علم زكى أن أخاه يبحث عن مشتر بسعر أعلى؛ تعمد إغراءه بزيادة السعر، كما قال له إنه سيترك له الاشراف على البيت ووكّل إليه تحرير العقود وتحصيل الإيجارات والوقوف على الصيانة مقابل نسبة معينة، وافق أيوب وانتهى بهما المطاف إلى الشهر العقارى لكى تتم الصفقة سرا بينهما وتوثّق؛ فى نفس الوقت يُجرّد أيوب من باقى حصته فى البيت الذى كان ومازال مأواه الوحيد فى الدنيا.

***

فى ليلة خريفية مقمرة، وفى ضاحية بور توفيق، بنادى الشاطىء، أقيم حفل بمناسبة زواج الآنستين لمياء وضحى على الأخين مهاب وسمير نجلى المرحوم الحاج مسعد البراهمى وسط فرحة الأهل والأحباب ..

***

فى اليوم التالى للزواج كان زكى يحضر جلسة المحكمة؛ توقع أيوب أن تكون الجلسة بخصوص الشيكات؛ فكر كيف يحل مشكلة أخيه ويلم الشمل؛ وصل الى المحكمة مسرعا ليقف بجوار زكى؛ رأى القاعة مكتظة بالحضور؛ قضايا الناس ومشاكلهم كثيرة؛ تأخر القاضى فى الحضور؛ حاول أيوب أن يخفف عن أخيه اقترب من القفص وحادث زكى :

سوف نجمع المبلغ؛ لا تحمل هما

تعجب زكى وتغيرت سحنته وهو يقول

مبلغ إيه؟

الشيكات

دا موضوع تانى!

***

عندما جاء دوره قال له القاضى .

انت هرّبت؟

لا يا بيه

نظر القاضى وهو يشير بسبابته اليمنى إلى أعلى

أوعى تكذب يازكى.. يعلم السر وأخفى..هو المضطلع علينا

بعد المداولة حكم عليه بسنة سجن مع وقف التنفيذ .

***

30

تعجب خالد ولم يسترح لإطلاله والده المتكررة بنغمات حزينة عن أمور البيت، تدريجيا تناثر الكلام وفهم خالد القصة؛ عرف أن اباه صار مجردا من بيته الذى ظل مثابرا وأنفق فيه جل عمره . قرر أن يبحث عن حل جذرى، لابد أن يخرج ويُخرج عائلته من عنق الزجاجة؛ من هذا المأزق، وينتشل إخوته من أفعال هذا العم الذى لم يتورع عن محاولة مضغ أخيه وبلعه بلعا، فكر وسأل نفسه: كيف يسير العالم؟ كان هذا السؤال يلح على خالد كلما وجد نفسه فى ضائقة أو أحاطت به ملمة او شهد موقفا جللا. توصل إلى قاعدة بسيطة؛ سمعها منذ زمن: لا يفل الحديد إلا الحديد، نطقها وكررها بصوت خفيض؛ هذا العم يحتاج إلى المال ويقدسه، للأسف يقدسه، هو العجل الذى تدور حوله حياته، جمع بين أرذلين؛ البخل وهواية جمع المال، البخل أرداه وحيدا مرذولا؛ متجاهلا ومكروها من جميع الأحياء، والمال الذى هو كل آماله.. أماله إلى جحيم بغيض.. إلى شمال لا إلى يمين، إلى هاوية لا يعلم مداها إلا الله .. وهواية الجمع والتحصيل، وماذا بعد؟ الرجل صارت له تلال من المال؛ لو جلس دون عمل وانفق منها هو وأبناؤه وأحفاده حتى نهاية أعمارهم لما نفد.. يا إلهي!!!

قرر خالد أن يخرج؛ أن يسافر خارج البلاد .. بحث عن عقد عمل

أخيرا وفقه الله؛ عن قريب سيشد الرحال إلى المملكة.

***

بعد زلزال عام 1992فوجئ نوشا الحلاق بأن الشرخ اتسع؛ كلما نظر إليه كان يتعجب من المنظر، اقترب من الحائط ودقق النظر؛ تمكّن خلال الشرخ من رؤية الحبال وأرتال من علب البويات، وأشكال مختلفة من الجنازير و مخطاف بحرى ضخم موضوع فى ركن المخزن..، كانت أصوات بعض الحوارات تصل إلى نوشا ويسمعها بوضوح هو والزبائن؛ علق أحد الزبائن قائلا:

هل هناك أحد معك فى المحل يا أسطى؟

لا هذا صوت الجيران..

ظهرت شقوق متباينة الأشكال بمدخل العمارة، هناك شق يصعد طوليا على اليمين وآخر مائلا إلى جواره، وعلى اليسار هناك شق زجزاجى سارح إلى السقف؛ يالبرغم من تلك الأضرار البليغة إلا أن أيوب كان متفائلا بالزلزال، تخيل أن ما حدث سوف يجعل البيت قابلا للحصول على قرار بالإزالة؛ كما قد يدفع السكان إلى البحث عن مكان آخر أكثر أمانا، تأخر الرد عليه من قبل الإدارة الهندسية؛ مرت شهور ولم يرد عليه أحد ومع ذلك ظل متشبشا بأهداب الأمل؛ مازال السلم كما هو لم يتم اصلاحه؛ عندما تكلم أيوب مع الصاوى بشأنه قال الأخير :

ياسى أيوب وهل أنا وحدى الذى يستعمل السلم؟

ولكن الدرجات التالفة تبدأ من شقتك التى اعتبرتها مخزنا؛ حتى الدور الأرضى !

نظر صاوى البمبوطى ناحية أخرى وهو يسحب نفسه ليقابل أحد الزبائن قائلا : ولو!

يوما ما شاهد أيوب عددا من العمال داخل المنزل؛ بدأ العمال فى تفريغ شقة البمبوطى بالدور الثالث من محتوياتها؛ فرح أيوب واعتقد ان الرجل خاف من آثار الزلزال على بضاعته؛ وأنه سوف يخلى الشٌقة؛ بعد يومين فوجىء أيوب وباقى سكان العمارة بسيارة محملة بعفش تقف أمام الباب، بينما البمبوطى يقف ليشرف على إنزاله من السيارة التى أخذت مكانها أمام مدخل البيت؛ بدأ العمال فى رفع العفش صاعدين به إلى شقته بالدور الثالث، أسقط فى يد أيوب ولكنه لم يستطع أن يعترض أو يتذمر متذكرا ما خطته يده بالعقد (تعتبر الشقة جزءا لا يتجزأ من المخزن )، أبلغه البمبوطى أنه سيقيم بالشقة مؤقتا ثم يحولها إلى مخزن وقت أن يحلو له مردفا:

أنت لا يرضيك ياسى أيوب أن أعيش فى الشارع، البيت الذى أسكنه حصل على ازلة ويتم اخلاؤه من السكان بامر الحكومة، تشققت جدرانه بعد الزلزال، وهبط السقف؛ ومن الممكن أن يقع علينا فى أى لحظة .

غبطه أيوب :

بيتك؟

أيوه بيتى

ياللا شد حيلك وصلّح السلم

سلم..سلم إيه؟بأقول لك البيت طالع ازالة

ما يطلع وألا ينزل إزاله..ده مش شغلى

مش شغلك؟

أنا با كلمك عن سلم بيتنا ده..اللى انت ساكن فيه بتراب الفلوس!

***

مرت شهور ولم يتغير شىء أحد، قابله البمبوطى يوما فباغته بقوله:

يا سى أيوب متى تصلح هذه الشقوق؟ أنصحك ألا تتركها هكذا

وما الذى فكّرك الآن؟

هرش البمبوطى رأسه وقال:

حتى لا تكون مأوى للفئران والسحالى والحشرات ها.. ها..

***

تعجب أيوب من الرد الذى تفله البمبوطى فى وجهه؛ كما تعجب من قبل عندما فاتحه فى موضوع درجات السلم، كيف يفصح التغابى واستغباء الآخرين والاستكراد وقلة الحياء عن نفسهم إلى هذا الحد؟ كيف يسوّل الإنسان لنفسه أن يستغل أملاك الآخرين بطريقة غير آدمية؟ بل كيف لا يحترم فكر الآخرين وعقولهم؟ قال لنفسه: إنه لا يحترم وجودى؛ ما أبشع الظلم فى هذا العالم! حاول أيوب أن يتحايل على الموقف؛ السلم الآن لا يصلح للصعود أو النزول عليه إلا بمشقة وحذر شديدين، لو أن غريبا دخل المنزل ولم يحتط لتلك الدرجات المفتته لزلت قدمه ووقع على قفاه، ربما يصاب بعاهة مستديمة .

***

فى اليوم التالى نزل ليقابل البمبوطى، جهز كلاما ليقوله له، جهز أكثر من سيناريو للحوار، قرر أن يلجأ فى النهاية إلى الجهات الرسمية رغم كرهه لهذا المسلك، لأنه فى الحقيقة لا يطيق أن يقيم مع عدو له فى سكن واحد.

قال أيوب :

لابد أن يصلح كل انسان ما أفسده ياحاج

وهل أنا وحدى الذى يسكن البيت؟

لا ولكن الدرجات التالفة هى من مكان الشقة حتى مدخل البيت، وهذا دليل على السبب، واعتقد انك تعلم هذا جيدا ..

لقد نجحت فى أن تلصقها لى، كنت أقول أنك رجل طيب..

قصدك أهبل!

ابتسم البمبوطى قائلا:

حاشا لله!

المهم لابد أن تتبع الحق؛ تصليح السلم عليك يا أخ صاوى

لست وحدى، سأشارك فيه

ومن يقبل مشاركتك اجعله شريكا لك

إذا لم يقبل أحد فسوف لا يتم شىء!

هكذا! هل هذه هى آخرة المعروف؟

والله أنا قلت ما عندي، والحكومة تقول هذا الكلام أيضا !!

***

31

صباح أحد الأيام الشتوية؛ كانت فتنة قد انتهت من تنظيف الشقة وترتيبها كالمعتاد وجلست وحدها لتعرض جسدها لأشعة الشمس المنسكبة من الشرفة، أمامها طبق به بعض حبات البطاطس وقد أمسكت فى يدها بواحدة تقوم بتقشيرها، سمعت طرقا على الباب؛ لا أحد يأتى فى هذا التوقيت بالنهار؛ ومن المعتاد أن يحتفظ زغلول الفحل بمفتاح الشقة فى جيبه، قامت منزعجة، اقتربت من الباب صائحة:

مين؟

أنا يا نينا ..افتحى..

انت مين؟

افتحي أنا بهجت

فتحت الباب؛ وجدت أمامها شابا طويلا تبسَم فى وجهها؛ مد يده ليصافحها قائلا :

إزيك يا نينا؟

حدقت بوجل فى عينيه قائلة:

بسم الله الرحمن الرحيم

رد مسرعا ليطمئنها :

لا تخافى أنا بهجت

أنت...بهجت.. ما الذى جاء بك الآن؟ بعد كل هذه السنوات!!

قولى لى تفضل يا نينا!

قالت بتردد:تفضل

جلس على مقعد مجاور للباب؛ وقال:

لا تزعلى منى لعدم السؤال

ردت غير عابئة:

أبدا مفيش زعل..شكلك اتغير يا بهحت؛ طولت وكبرت..

اختفت وعادت حاملة زجاجة مشروب؛ تناول الزجاجة وهو يقول:

عاوز أقول لك حاجة يانينا

حاجة إيه؟!

يعنى بدون إحراج يانينا

خير ..تقصد إيه؟

يعنى أنا ليا حق انى أقعد معاكى

تقعد معايا؟

آه؛ على الأقل أخدمك؛ مش أنا أولى؟

أولى من مين؟

من عم زغلول

أوعى تجيب سيرة زغلول على لسانك

طيب؛ حاضر؛ أنا أعرف أن المرحومة أمي سابت فلوس ومجوهرات

اعترضت منكرة:

فلوس ومجوهرات؟! تقصد إيه؟

نعم يا نينا ..نعم!

أنت لم تكن تدرك شيئا عندما أخذك أبوك؛ ومن أخبرك بهذا الكلام الفارغ؟

أبى أبى هو الذى حكى لى ...

بعد عشرين سنة جاى تقول هذا الكلام؟ أنا لا أعرفك الآن!

هكذا !

يا نينا أنسى الفلوس والمجوهرات؛ كنت أنتظر منك على الأقل أن ترحبى بى..

قالت بلا مبالاة:

أهلا وسهلا!

لى طلب صغير يا نينا..

وما هو؟

أن أقيم معك، أنا وزوجتى فالشقة واسعة ..

الظروف تغيرت الآن ..عمك زغلول لن يوافق وأنا أيضا

زغلول لا يملك شيئا يا نينا أنت صاحبة الشقة والعفش .. والقرار أيضا !!

وأنا أقول ليس لك عندى شيء.

لا تدعيني ألجأ إلى القانون.

ارتفع نبضها واحمرت وجنتاها قائلة:

الجأ إلى القانون أو غيره ..قلت لك ليس لك عندى حاجة.

هكذا !!..حاضر.. أنا ماشى ...

ترك الزجاجة التى احتسى منها رشفة واحدة؛ على المنضدة وقام مسرعا؛

ردت مسرعة باستياء وقد احتقن وجهها وهى تغلق الباب وراءه:

مع ألف سلامة..

***

 

32

ظلت فتنة تتوشح بالسواد أعواما طوالا؛ كما كانت تحرص على أداء الفروض الخمس، بدأت تشكو من الصداع، دار بها زغلول الفحل على الأطباء، أصيبت الكلى وضعفت وظائفها، قال لهما الطبيب :

نسبة البولينا مرتفعة بالدم

كان هذا الموقف بعد الزلزال الشهير بعام تقريبا؛ أثناء جلستها المفضلة بالشرفة، هى وفنجانى شاى وطبق من المكسرات واللب والفول السودانى، كانت تجاذب زغلول الفحل الجالس أمامها على المقعد الهابط إلى الأرض..

الولد جاء الصبح..

ولد مين؟

بهجت

حفيدك؟

نعم

بيشتغل وألا لسه تلميذ؟

الله أعلم

وما الذى فكّره؟

الدنيا.. أكيد أبوه..

سرح الفحل قليلا وقال:

عاوز إيه؟

عاوز يقيم معانا فى الشقة.

لا يمكن أن يسكت لأن له حقا فى عفش أمه.

كسر حُقه..أنت اللى بتقول كده؟ لن تدخل هنا امرأة غريبة ولو انطبقت السماء على الأرض.

لهذه الدرجة تكرهينها

عاوز يجيب حوا.. عارف يعنى إيه حوا؟

يضحك الفحل ويقهقه!

يعنى مشاكل ومسئوليات

ضحك الفحل قائلا:

يا سلام يعنى أنا غلطان أنى تزوجت المرحومة؟

الأمر مختلف !

تمخضت عن ذهن الفحل فكرة جهنمية، و قال لها :

اسمعى ..أنا لا أستطيع بوضعى هذا أن أرفع عينى أو صوتى على هذا الولد

ماذا تعنى؟

لن أستطيع أن أكلمه أو أرد عليه إلا إذا كانت لى صفة قانونية

ماذا تعنى؟

لقد قلت لك لا أستطيع أن أرده ..أنا هنا كالضيف

كيف يا زغلول؟ أنت رجل البيت..

وهل أملك حتى عقد إيجار؟

عقد إيجار؟

نعم !إذا كان عقد الإيجار باسمي سوف أستطيع الرد عليه

تحيرت من أفكاره وأكمل:

لا تستغربين ..من الممكن أن تطلبى من أخيك أن يحرر لى عقدا صوريا

صوريا؟!

نعم عقد صورى حتى أبرزه للولد وقت اللزوم

قالت متعجبة من أفكاره :

يا سلام!

فى هذه الحالة سأتمكن من الرد عليه وسأقطع رجله من الشارع؛ بل من الحى كله

قالت دون تفكير:

كيف؟

سيعرف أنك لا تملكين شيئا فى الشقة، وسيسكت غصبا عنه.

أترى ذلك؟

نعم هذا عين العقل

انحدرت دمعات من عينيها، مدت يديها وجففت وجنتيها بمنديل ورقى، قال لها:

لماذا تدمعين؟ رجعنا للحنيّة مرة ثانية!

الظفر لا يخرج من اللحم يا زغلول !

لم نصل إلى شىء ...سيضايقك، وليست لى صفة للرد عليه

ألست معى فى الشقة؟

نعم ولكن لديه ميراث شرعى .

***

فى المساء اصطحبت فتنة الفحل إلى شقة أخيها أيوب، قالت له بعد أن بكت وجففت دموعها بعدة مناديل :

لا أحد يدافع عنى..

قدم لها أيوب فنجان القهوة وتبسم فى وجهها:

بخصوص ماذا؟ وهل لديك أعداء؟

لا .. ولكن الولد يضايقنى؟

من؟

بهجت..ابن المرحومة

ماله؟

أتى إلى هنا وأراد أن يشاركنا فى الشقة .

قال أيوب :

جاء ليسأل عن ميراث أمه .

ميراث أمه؟ وأنا مازلت على قيد الحياة؟!

وماله يا فتنة؟ هذا شرع الله..

أنا لا أعرف هذا الولد، لم أره ولم يسأل عنى منذ أن كان قطعة لحم حمرا.

هذا لا يعيبه ..الظروف هى السبب.

يا أيوب حلّفتك بالغالي.. لا أريد منك أكثر من عقد صورى ! فأنا لا أحب المشاكل ..

عقد صورى؟

نعم عقد صورى للشقة؛ باسم زغلول الفحل

حاضر يا أختى ..لن أرفض لك طلبا..

تبسم الفحل وهو يوقع ويتسلم صورة من عقد إيجار الشقة رقم 4 بالدور الثانى العلوى؛ وقد حرره له أيوب بمبلغ عشرة جنيهات شهريا .

***

33

عام 1994عاد خالد أيوب من اجازة سنوية، قابل عمه وتحاور معه بشأن استرجاع نصيب والده المباع، قال له العم :

وهل تقدر على ذلك؟

قال خالد :

لدىّ مبلغ جمعته بعد عام من الغربة؛ لقد دبرت عشرين ألفا..

أتدرى كم المطلوب؟

أعلم أنك اشتريت من أبى بستة آلاف

أووه أوووه كان هذا منذ زمن ..

وكم المطلوب الآن؟

اضرب فى عشرين

تعنى أنك تريد مائة وعشرين ألفا؟

نعم .

ألا ترى أنك مبالغ فى الثمن يا عمى؟

وما الذى يجبرك على الشراء؟ لا تتعب نفسك..

***

عندما أبلغ أباه بهذا الحوار؛ رد الأب قائلا :

لا تتعب نفسك يا بنى.. أنا مشفق عليك وعلى أسرتك من الغربة هون عليك؛ الدنيا لا تستأهل كل هذا العناء

لا يا أبى فقط أريد أن أطفى تلك النار المؤججة فى صدرى.. أريد أن أتحرر وأحررك من أمثال هذا العم

لا يا ابنى عمك يسير على قوانين الدنيا وأنت تريده أن يسير على قوانين الدين

وهل الدنيا تناقض الدين؟

أهلا بالدنيا إذا كانت فى حدود الدين .

***

34

صيف وخريف وشتاء وربيع، وهكذا إلى أن تراكمت السنون والدهون والأحزان وثقلت فتنة وقلت حركتها، تكاثرت عليها الأمراض وظلت تعانى من الآم المفاصل والضغط والسكر ونوبات الكلى وترسبات الأملاح والروماتيزم؛ ظل الفحل متنقلا بها من عيادة الى أخرى.

يوما فقدت الوعى؛ جاء الطبيب وأمر بنقلها إلى قسم الرعاية المركزة، استمرت غائبة عن الدنيا لمدة أيام، ظل المونيتور يرسل صوتا رتيبا لدقات القلب، شبكة أنانيب وأسلاك متشعبة فى أنحاء جسدها؛ أنبوب الرايل يدخل الأنف وآخر يحمل السوائل المغذية إلى دورتها الدموية؛ وأسلاك قادمة من ناحية الساقين والذراعين والصدر لتصل الى الشاشة الخلفية؛ بينما أنبوب ثالث يتدلى على الأرض ليجمع البول فى كيس ملقى على أرض الغرفة؛ وقد راحت فتنة فى غيبوبة عميقة.

سهر أخواها فاديه وأيوب إلى جوارها مع الفحل الذى كان يراقب الأمور بوجه بارد ومحايد؛ أحيانا يتلفظ كلاما يكشف عما يعتمل داخله:

قاربت على النهاية..

بعد قليل يقول:

ماذا يحدث بعد وفاتها لا قدّر الله؟

***

تستأذن عايدة مغادرة المستشفى؛ بينما يظل الفحل مع أيوب بصالة الانتظار أمام غرف العناية يتحدثان بصوت خفيض؛ أيوب يبث ما يعتلج فى قلبه معبّراعن قلقه وحيرته لمرض أخته ورقادها فى المستشفى!

كان أيوب يفضفض أحيانا بكل أريحية بما يجول فى خاطره؛ يقول للفحل انه يخشى أن تموت فتنة ويأتى الولد حفيدها ليثير مشاكل بخصوص الإرث؛ وقال انه أحيانا يقع فى حيرة؛ تفتق ذهن الفحل عن فكرة شيطانية؛ لم يستح أن يصرح بها لأيوب..

اسمع ياسى أيوب

نعم

تاهت ولقيناها

إيه؟بتقول إيه يا سى زغلول

الحاجة تكتب عقد بيع صورى!

الحاجة ..تكتب أزاى؟ ولمين؟

لى أو لك!

لك أو لى؟!صورى؟

أيوه

هى فين الحاجة؟ وتكتب أزاى؟ صورى!

أيوه صورى

مش فاهم

يعنى ..أفهمك أنا.اسمع يا سيدى؛ الختم بتاع الحاجة عندى فى الشقة؛ وأنا عارف مكانه؛ نكتب العقد ونختم ونبصّمها عليه.

أنا عن نفسى لا أقبل هذه الفكرة

خلاص ..براحتك؛ أنا مشفق عليك؛ خلّى الولد بهجت يسبب لك مشاكل

المشاكل عندى أهون مما تقول!

تبسم الفحل قائلا :

اسمع ياسى أيوب خليك أنت بعيد عن المشاكل؛ سيب لى أنا

المشاكل

يعنى إيه؟

الحاجة تكتب لى أنا عقد البيع الصورى!

***

تعجب أيوب من ذلك الفكرالشيطاني و لعب الفأر فى عبه. عقد بيع صورى!تبيع له الحاجة إرثها فى البيت بموجبه؛ ويضع ختمها و يأخذ بصمتها عليه من إصبعها وهى راقدة فى غيبوبتها؛ قبل أن تموت لا قدر الله كما يقول الفحل! اقترب كثيرا بفمه من أذن أيوب قائلا له بصوت خفيض.. حتى لا تحدث لكم مشاكل من الولد بهحت فى حالة وفاتها؛ كما نصحتك؛ لا قدّر الله!

أجال أيوب المسألة فى ذهنه متعجبا؛ وقال للفحل:

سيبنى أفكر!

***

35

لم تلبث أن قضت فتنة نحبها؛ قاموا بتوصيلها الى مثواها الأخير؛ قال أيوب للقدر أياد عجيبة!

لم ينتظر حتى الأربعين مثلا ولكنه سارع بعد أيام فى عمل تغييرات هائلة فى الشقة، صار الفحل بعدها يتمرغ وحده داخل الشقة الرحيبة! لم يدر أحد أين اختفى الذهب والمجوهرات والأوانى النحاسية وكل عفش وجهاز المرحومة ...

أخرج مصارين الشقة، رفع العمال العفش القديم وألقوه فى الممر الخارجى بجوار السلم؛ أثناء خروجه رآى أيوب التاريخ وتعجب، هذا الإيوان البللورى الضخم الذى كان حاضرا يوم شرائه، وهذا البوريه الذى كان ملكا لفتنة من زواجها الوحيد فى بشائرالأربعينيات، وهذه الرخامة التى تعلو البوريه لا يعرف لها الفحل قدرا، وهذه المرآة البلجيكية الأصيلة اللامعة التى تبدو خلالها الصور مبهرة، كل قطعة كانت تمثل وحدها تاريخا فى حياة فتنة وابنتها، هل ظن الفحل أن هذه هى مجرد كراكيب لا تعنى أحدا؟!...أين أنت يا فحل من هذه الأشياء؟!

***

تحير الجيران من هذه الجلبة والمجهودات التى يقوم بها ذلك الفحل الغتيت. جاء دور الكهربائى والنجار والنقاش والسباك؛ بمجرد أن ينتهى أحدهم يدخل الآخر، جهز الفحل حجرتين فى الشقة أحدهما صالونا لاستقبال الضيوف والأخرى لإقامتهم ومبيتهم فيها .

***

تعجب أيوب من تصاريف القدر، أخته المتوفاة يرثها الفحل!! تذكر أحداث الماضى وهو جالس مع زوجته أمام التليفزيون، قال لها:

المرحومة كان عندها حاجات كثيرة..

عندها إيه؟

المجوهرات والفلوس والعفش الخاص بابنتها.

مجوهرات؟ عندها مجوهرات؟

نعم؛ هل نسيت؟ أيام خطوبة ابنة فتنة كنت معهم عند الجواهرجى، اشترى لها العريس خلخال ذهب ثقيل، عيار 21، وزوجين من الأساور بالإضافة إلى الخواتم والدبل وقلادة مرصعة بفصوص ألماظ..

تعلمين أنها جاءت هنا بعفشها وعفش المرحومة ابنتها

أعرف ذلك.

تبسمت قائلة:

دنيا..سبحان الله! من هذا الفحل الذى يجلس الآن على كل هذه الخميرة؟

ترّفع أيوب عن الحوار مع الفحل والدخول فى مهاترات، لم يكن لديه استعداد لخوض معارك لا طائل من ورائها؛ قال فى سره:

وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟

***

36

كانت أم خالد تشكو من روماتيزم يعوقها عن صعود السلم، صارت تتمنى أن تسكن بأى دور سفلى، بعد وفاة فتنة؛ قالت أم خالد لزوجها:

آلام المفاصل زادت، والفحل لا يحتاج هذه الشقة الواسعة .

وهل نقول له ذلك؟

ياحبذا لو بدلنا شقتنا معه

ضحك أيوب قائلا :ياريت!

مفاصلي صارت لا تحتمل صعود السلم ونزوله ..هل تظن أن الفحل سيخدم نفسه؟

فيم تفكرين؟

سيكون فى حاجة إلى زوجة

ومالنا نحن..لا تذكري هذه الفكرة

لم؟

ربما تدخل فى عقله الباطن ويلوكها مخه ويتجنن ويعملها!!

نعم يتجنن

لا أقصد هذا ..أقصد أنه الآن رجل كبير، ثم إنه إذا جرى له شيء، وودع الدنيا سوف تخلو الشقة ونستردها أما إذا كان متزوجا...

لا يمكن استرداد الشقة فى هذه الحالة

رد أيوب:

برافو عليكى ..إذن من المصلحة أن يظل هكذا! وحيدا ..دون زواج!

***

شاهد سكان العمارة أكثر من مرة امرأة متوسطة العمر شحيحة الجمال تتردد على شقة الفحل، تعجب الجميع من أمرها، لِمَ صبر كل تلك السنوات التى جاوزت عقدين من الزمان دون زواج؟ وما الذى فكّره هذه الأيام بالنساء؟ ترى ماذا تفعل هذه المرأة داخل الشقة؟!

أشاعت زوجة الفرارجى أن الفحل سيتزوج، كانت تقول لمن يسألها :

تتردد عليه كل يوم والتانى ..الأستاذ زغلول سوف يتزوج !

***

37

ليضع النقاط فوق الحروف؛ تضاحك أيوب مع زغلول الفحل قائلا:

سمعنا أنك تنوى الزواج!

ابتسم الفحل قائلا :

لا يا سى أيوب، وماذا أخذ المتزوجون؟

وما أخبار الست التى تحضر الى شقتك؟

ابتسم الفحل ونظر بعيدا وقد امتقع لونه هو يقول ياه دى العاملة ..شغالة يعنى ..

***

مرت أسابيع، جاء أيوب إلى زغلول الفحل وقال له:

يا أستاذ زغلول

نعم يا سى أيوب؟

أريد منك خدمة

تفضل .. أمرك..

الأمر لله. أنت تعرف أن الحاجة أم خالد تعانى الآن من طلوع السلم ونزوله، وهى لا تستغنى عن الخروج على الأقل لزيارة الأطباء، فإن لم يكن عندك مانع لو سمحت..

ماذا يا سيد أيوب؟

أريد أن أبدل معك شقتى

تبدل الشقة!!

نعم

هذا آخر طلب كنت أتخيله !! من الممكن أن تطلب أى شىء عدا هذا ..

تبسم أيوب راجيا:

سوف أعطيك ما تريد

أشاح الفحل بوجهه متمردا وهو يقول :

وهل قال لك أحد أنى أريد شيئا؟

لم يوافق على تبديل الشقة مع أيوب؛ وتعلل بإن المياه ضعيفة فى الدور العلوى وكما أنها تنقطع فى أوقات كثيرة و قال إن الشمس تظل ضاربة فى سقف الشقة العلوية مما يجعلها تشبه جهنم فى فصل الصيف! .

أحس أيوب بقطرات لزجة تتصبب على جبينه، أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسح به جبهته وقفاه، ترك الفحل أيوب واقفا؛ وغادره دون وداع .

***

بعد أقل من شهرين شوهد الفحل جالسا على مقعد القيادة فى سيارة تويوتا كورولا جديدة، أسفل البيت لاحظ الجيران أنه يسافر ويقضى بها صولاته وجولاته وربما يزور أقاربه وأصدقائه فى أنحاء المدينة..

***

38

يقول أيوب لأم خالد وكأنه يكلم نفسه؛ مازال الإيجار زهيدا كما هو لم "يتحرك "؛ ولكن القانون لا يسرى عليهم فى زيادة الإيجارات، بالرغم من أن المستأجر شركة وليس فردا؛ لأنهم قالوا لنا إننا استراحة ولسنا مكان عمل، ولما كانت شقتنا بالدور العلوي، فان أى ضجيج يصل إلينا بسهولة، ، منذ أكثر من شهر سمعنا أن الشركة قد رصدت مبلغا لصيانة الاستراحة وجعلها تليق بكبار الزوار كما قالوا، عندما التجأت الى المأمور لكى يجد لنا حلا قال لى ساخرا بيدفعوا الإيجار وألا لأ؟

أجبت

نعم

رد بحسم خلاص مفيش كلام تانى !

***

تصورى يا أم خالد لما رحت استخرج تأشيرة سفر عرض صديقى الذى يعمل بالقنصلية مبلغا يساوى ثلاثة آلاف قيمة الايجار الحالى لشراء الشقة، تعجبت، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة

زعق صديقى السعودي :

- كيف يا شيخ يكون البيت بيت أبونا والغُرب ما يتركونا؟ هذا مثل مصري وأنتم للأسف تحرصون على ننفيذه.

قال متحسرا :

- نعم ، تقف مكتوف الأيدي أمامهم، وعندما تتكلم فى طلب زيادة الإيجار يقولون بكل ثقة :تكلم فى أى موضوع آخر غير هذا.. لا يستطيع أحد فى الشركة أن يزيد الإيجار، لأنه سيكون فى موقف المرتشى !!

***

بعد أيام فوجئ الجميع بالعمال تأتى وبدأ خبط شديد كأنما يقومون بهدم المنزل، نزل أيوب مسرعا إلى شقة الاستراحة ليشاهد ويعرف ما الذي يجرى على الساحة؟ قابله شاب طويل القامة؛ فى نظراته نوع من المراوغة عيناه غائرتان، تلتمعان، قال له بعد أن عرفه بنفسه :

- ما هذا الخبط؟ وما تلك الأصوات العنيفة؟

- أبدا؛ نقوم بتكسير المحارة لتركيب سيرميك

دخل للفرجة على الطبيعة

- وما هذا التكسير الذى يأكل من العمود الخرساني، ويكاد يفتك به؟

- أبدا هذا تسويس قديم بالعكس نحن نقوم بإصلاحه

ونظر إلى أعلا بعدما خرج إلى الحجرة المجاورة، شاهد حفرا جديدا بأحد الأعمدة، سأل عنه فقيل:

- لابد أن يقوم الكهربائى بعمله؛ انه يقوم بتركيب ماسوريتن للكهرباء ..

رد أيوب :

ألم تكن هناك مواسير موجودة؟ أعلم أن الشقة كان فيها كهرباء بالقطع.

قال باستخفاف : طبعا، ولكن هذه خطوط جديدة

وما لزومها؟

أشار الشاب الحامل للمطرقة وهو يبتسم :

ياسيدى لنا لقمة عيش هنا .

الموضوع لقمة عيش فقط؟

قال الشاب وهو يهز المطرقة بيده :

طبعا وهل يوجد شىء آخر؟لازم نكسر ونصلح من أجل لقمة العيش.. *** قال له المحاسب ان الشقة تكلفت على الورق مبالغ طائلة؛ تعجب؛ أين صُرفت تلك المبالغ الطائلة؛ ابتسم المحاسب وقال إنها سبوبة ياحاج أيوب؛ مجرد سبوبة! وقال أيوب تنفقون مبالغ طائلة على هذا وتتركون أصحاب العقار ينظرون اليكم وهم يتألمون ويكتمون سرهم لأنهم لا يجدون أحدا يتحدثون اليه؛ لا أحد يسمعهم؛ وإذا سمعهم فإنه لا يبالى؛ يقول فى النهاية إنه نظام الحكومة ! لما يتغير نظام الحكومة نغير القيمة الايجارية؛ يا عالم يا هو أين العدل؟ إيجار الشقة لا يشترى نصف كيلو لحمة؟؟!! ولأننا فقدنا الأمل فى استئصالهم من البيت، فقد قبلنا الإصلاح والتجديد مرغمين بدلا من لا شىء .

***

39

فى عام 1996 ترقى المأمور وأحيل إلى المعاش؛ اختفى لفترة من المدينة، علم أيوب أنه فى القاهرة، بالرغم من تاريخه الذى لا يُؤسف عليه تحدث أيوب بأريحية وأبدى أسفه لحال الرجل قليلا؛ وقال:

مازال صغيرا ..

مرت الأيام وكان أيوب منتظرا أى خبر أو مواجهة من المأمور الذى لم يعد له مصلحة فى المدينة، ويملك بيتا فى القاهرة؛ وزوجته لا تحب المدينة وابنته الكبرى صارت طالبة بجامعة القاهرة، كان أيوب منتظرا مفتاح الشقة؛ ولم ينتظر منه أى شكر على سنوات الإقامة التى قضاها فى البيت بتراب الفلوس كما كان يقول هو...

أم خالد قالت له يوما:

هناك سيارة ملاكى تأتى كل صباح من كم يوم؛ يركب فيها المأمور

لم يعد مأمورا..صار مثلنا

***

قابله أيوب على السلم؛ صافحه مهنئا بسلامة الخروج من الخدمة

تعجب المأمور وقال:

من أبلغك؟ من قال لك؟

ابتسم أيوب قائلا:

كل الناس عارفة.

عموما أنا سافرت القاهرة وسافرت البلد؛ وعدت لأدفع لك الإيجار

إيجار؟

نعم؛ الايجار

ولكنك مغادر المدينة كما أعلم

معلوماتك غلط للأسف

معلوماتى غلط؟!ألم تُحل إلى المعاش؟

تبسّم الرجل ابتسامة صفراء وهو يقول:

ماعاش اللى يزعلك ياسى أيوب؛ هل كرهت وجودى معكم؟!

قبل أن يرد أيوب نزل المأمور مسرعا وهو ينظر الى الدرج :

مازلت أعمل، أنا شغال فى شركة هنا؛ لقد تأخرت على السواق.

***

40

سافر خالد مرة أخرى وقد قرر ألا يعود إلا بعد أن يجمع باقى المبلغ؛ أثناء غربته هذه المرة، ظلت شقة المأمور خالية لشهور طويلة؛ تزلّجت ساق أيوب على درج السلم المكسور وحُجز بالمستشفى مربوطا فخذه وساقه إلى طرف السرير لمدة طالت.

للمرة الثانية أحيل المأمور الى المعاش؛ هذه المرة من شركة الأسمدة، طار خالد فرحا بالخبر عندما أبلغته به زوجته أثناء محادثة تليفونية بينهما؛ أشرق وجه أيوب- وهو مازال مربوطا إلى السرير- بابتسامة كانت قد اختفت منذ وقت طويل؛ قال لأم خالد:

هى المرة الأخيرة، سوف يترك الشقة حتما

أثناء وجوده بالمدينة قدم المأمورالى أيوب الذى فرح بزيارته واعتقد أن الشهامة قد نالت حظها منه وجاء لعيادته؛ ولكن فرحة أيوب الكبرى لإعتقاده أن الرجل جاء يسلمه مفتاح الشقة أيضا؛ عندما دخل المأمور عليه الحجرة تلهف أيوب محاولا النهوض ولكنه ساقيه كانتا مربوطتان فى سريره بإحكام؛ اعتذر عن عدم قدرته على القيام للترحيب بالمأمور الذى جلس على كرسى أمامه وقال:

سلامتك..

الله يسلمك

فين خالد؟

مسافر يا باشا

سقف الحمام عندى واقع..

مش مهم ياباشا احنا نصلحه ان شاء الله

امتى؟

امتى؟ وقت مانحب!

يعنى ايه وقت ماتحبوا؟

انا لن انتظر حتى يقع سقف الحمام فوق رأسى!

رأسك؟ سلامة راسك..سيادتك مش جاى تسلّم الشقة؟

أسلم الشقة؟ تانى؟ ومن قال لك هذا؟

أظنكم لاتحتاجون الشقة الآن.

رد الرجل مستنكرا:

ومن قال لك؟

نعرف أن لكم منزلا وشقة رحيبة بالقاهرة أظن انها على النيل .

نعم ولكن هذا شىء آخر لا علاقة لك به.

رد أيوب وهو ينظر إلى السقف متألما ومتحيرا:

لا أفهم

رد المأمور:

لنا مصالح هنا

ترى؛ ما هى؟

آه..التموين.. التموين الشهرى نأخذه من هنا؛ وهناك قضية رفعتها على الشركة؛ رفعتها بدائرة المدينة هنا لأطالبها بمستحقاتى.

***

41

أثناء رقاده الطويل بالسرير أصيب أيوب بقرح الفراش التى أدت إلى حدوث غرغرينا وحمى أودت بحياته؛ لم يره خالد ولم يشهد وفاته، كان ألمه مضاعفا، كما لم يستطع أن يحضر تأبينه لحاجة العمل اليه كما أبلغه الكفبل؛ عاد بعد الوفاة بأسبوعين؛ كان يود أن يراه وقد حصل على المال المطلوب وأعاد إلى أبيه نصيبه فى البيت، لم يشهد أيوب لحظات النصر المنتظر، وتوفى دون أن يرى ابنه أو يراه خالد.

عند عودته من الخارج، تشعشع الحزن رقيقا داخل جنبات نفسه؛ جمع خالد إخوته و اشترى من عمه وفى قلبه غصة، هانت الدنيا وضمرت فى عينيه، قرر أن يسجل لإخوته مثلما يسجل لنفسه؛ للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وقال لهم: يمكنكم تسديد المبلغ حين ميسرة، فرح إخوته وشكروه وباركوا هذا الفعل الجميل؛ كما سجلوا باسمه توكيلا عنهم بالشهر العقاري.

***

مرت سبعة أعوام على وفاة فتنة، صباحا؛ أثناء اجازته السنوية؛ سمع خالد خبطات متتالية على باب شقته :

من الطارق؟

افتح لو سمحت يا أستاذ خالد

من؟

افتح لو سمحت بسرعة ..

فتح الباب ووجد السيدة متوسطة العمر والجمال، قالت متلهفة:

الأستاذ زغلول تعبان قوى ..

زغلول من؟ الفحل!

نعم ..سمعته ينادى باسمك!

سأنزل له فورا..

***

ارتدى خالد ملابسه وجرى مسرعا يقطع درجات السلم ليلحق بالفحل، رآه جالسا على مقعد وهو شبه عار؛ بملابسه الداخلية و رأسه وزراعاه مندلقان إلى الوراء، سمع له صوتا كالشخير وقد غاب عن الوعى.سأل السيدة :

ما الذى جرى؟

ردت بخوف ظاهر:

لا شيء .. فجأة وجدته يقول نفَسي؛ لا أستطيع أن ألقف نفسى ..هوا..مفيش هوا ..

أعطته السيدة سلسلة مفاتيح الفحل قائلة ويدها ترتعش :

هات له عربة الإسعاف ..

أمسك خالد سماعة التليفون ليتصل بالإسعاف

قال للمرأة :

احمليه معى لنضعه على السرير

إنه ثقيل

حاولى معى ..لا أستطيع أن أحمله وحدى

ابحثى عن أحد يساعدنا

لا أعرف أحدا هنا

هيا للنزله على الأرض

خرج خالد مسرعا ليبحث عمن يساعد فى تلك المهمة؛ فى تلك اللحظات لم يجد أحدا يالمنزل؛ عاد الى الشقة واتصل مرة ثانية بالاسعاف .

بجهد هائل استطاع أن يهبطا بالجسد على الأرض؛ تلفّت حوله فلم يجد المرأة؛ أثناء ربكته ومحاولة الاتصال؛ أخذت المرأة حقيبة يدها ولملمت أشياءها وتسللت منسحبة خارجة من باب الشقة دون أن يلحظها خالد، وقف وحيدا أمام الجسد المسجى، لم يكن حوله أحد؛ مازال الشخير مسموعا؛ بل ازداد حدّة؛ الوقت يمر ثقيلا بطيئا؛ مرت ثلث ساعة كأنها دهر بعدها حضرت سيارة الإسعاف؛ حمله رجال الإسعاف بصعوبة، ندم خالد على انشغاله بالجثة الذى أثناه عن استيقاف تلك المرأة التى زاغت واختفت فى صمت، هبطوا به درجات السلم بحذر حتى لا تنفلت منهم تلك الجثة الهائلة وتهوى على الأرض، عندما وصلت السيارة إلى قسم الرعاية المركزة بالمستشفى أبلغهم الطبيب أن السر الإلهي قد صعد إلى بارئه .

***

تمنى خالد أن يكون والده أيوب على قيد الحياة ليشهد تلك اللحظات ويعرف أخيرا أن الشقة سوف تعود إلى أصحابها، لم يكن يصدق، لم تأت نلك الأحداث فى غيرموعدها؟ فكّر حزينا وهو يقول لنفسه :

غالبا تمنحنا الدنيا ما نتمناه متأخرا!

***

قام خالد بعمل اللازم؛ أعطى رجال الإسعاف ما طلبوه من أجل إعادة المرحوم إلى شقته؛ بعد أن وصلت الجثة أمام المنزل؛ نصحه بعض الأفاضل بإتباع العقل، قال له أحدهم:

لماذا تصعدون بالجثة إلى أعلى؟ الجثة مصيرها إلى أسفل؛ قال خالد:

أردت ألا تخرج الجثة إلا وأهل المرحوم معها.

قال آخر:

تعب فى الطلوع؛ وتعب مثله فى النزول، ولا طائل من وراء ذلك..إكرام الميت دفنه يا أستاذ خالد..

اقتنع خالد بألا يصعد بالجثة إلى الشقة مرة أخرى لأنه من غير العقل أن يصعد الشقة ولا أحد من أقاربه هناك، ولم يكن يعرف له أقارب.

نصحوه بالعودة لوضعه فى ثلاجة المستشفى حتى تتم إجراءات الغسل والدفن بعد أن يحضر أحد من أقاربه، فى مساء نفس اليوم ظهر له أقارب، فى اليوم الثانى ازدادت أقاربه، رأى خالد وجوها لأول مرة، وجوه رجال وشباب ونساء شابات ونساء عجائز يتوشحن بالسواد ..تعجب من كل هؤلاء، قال لزوجته:

أين كان كل هؤلاء؟ أثناء حياة الفحل لم نكن نرى أحدا منهم قط..!!

***

42

أول ما فعله خالد هو إعطاء سلسلة المفاتيح التى تخص الفحل إلى أحد أقاربه؛ قال إنه أخوه، وشد على يده معزيا قائلا له :

هذه هى مفاتيح المرحوم يمكنكم أن تقوموا بإجراءات الدفن وتقبل العزاء قى البيت؛ حدق الرجل فى عينيه، وتناول منه سلسلة المفاتيح قائلا:

لا بأس..شكرا..

قال الآخر إزاى ترموا المرحوم فى التلاجه كده؟ هو مالوش بيت؟مالوش أهل؟

***

تضايق خالد عند سماعه لهذه الكلمات التى تجاهلها؛ وخصوصا وقد أبت عليه النخوة إلا أن يترك لهم مفتاح شقة المرحوم حتى ينتهوا من العزاء، الحق أنه لم ينتظر منهم شكرا على ذلك .على النقيض مما توقع، سمع خالد أنهم دخلوا فى عراك ومشاجرات من لحظة دخولهم الشقة، كل منهم يريد أن يفوز بنصيب الأسد من التركة؛ فهذا أعجبته الساعة الذهبية، وذاك قلب فى جيوب ملابسه بحثا عن المال، وسيدة مسنة طلبت طقم الأنتريه من رائحة المرحوم، وأخرى أعجبها طقم "الكتشن ماشين"، أما سيارته فلم يجرؤ أحد أن يتحدث عنها جهرا فور الوفاة.

انتهت أيام العزاء الثلاثة والوضع كما هو، ومر أسبوع آخر ولم يتزحزحوا .

قابل أحدهم مصادفة على سلم العمارة، كان قد شاهده يأخذ العزاء ويتردد على الشقة كثيرا؛ سأله:

- متى تحبون أن تنقلوا عفش المرحوم؟

- لا أدرى على وجه الدقة؛ يمكنك سؤال السيد حامد فهو أخو المرحوم .

- وأنت لم أتشرف بمعرفتك؟

- أنا صهر الأستاذ حامد .

- وأين الأستاذ حامد؟

- قال لنا سيشترى بعض حاجات لابنته لأن فرحها - عقبال أولادك - قريب .

تعجب خالد من هذا المسلك؛ ولكنه أبتلع ريقه، قائلا لنفسه: الصباح رباح .

فى الغد دق خالد جرس الباب متلهفا على إخلاء الشقة، وخصوصا أنه وكيل عن إخوته؛ فهو إذن فى وضع حرج، ولكن المسئولية لا يجب أن تنسيه المروءة والشهامة.

***

فتحت له عجوز متشحة بالسواد فسألها :

- الأستاذ حامد موجود؟

- لا يا بنى؛ سافر البلد

- والمفتاح؛ أين المفتاح؟

- أى مفتاح؟

- مفتاح الشقة

- معه يا بنى؛ كل حاجة معه.

  • شكرا يا حاجه ...

قالها وعاد يجر أذيال الخيبة

***

قالت له أخته ليلى:

- كيف تترك لهم الحبل على الغارب؟

وبّخته زوجته:

- أنت تطالب بحقك، يجب ألا تتهاون معهم!

أما الأخ الأصغر على فراح يسأل المحامى ويستعجله في رفع الدعوى على هؤلاء الرعاع لطردهم، كان خالد يقول لإخوته دوما :

- عندما كان يدفع عشرة جنيهات صبرنا عليه سنوات طويلة؛ والآن لا تحتملون الانتظار أياما قليلة؟

رد على قائلا:

- المهم أنه مات وغار فى داهية ! آن الأوان لنستفيد من الشقة، ولابد من الإسراع فى طرد هؤلاء الملاعين .

***

بعد انتهاء الأربعين يوما؛ اضطر خالد إلى رفع الدعوى القضائية بصفته وكيلا عن إخوته بعد أن فاض الكيل، وبدأ هؤلاء الورثة الأراذل فى المساومة على مبالغ طائلة حتى يتركوا العين، كثر المترددون على الشقة لدرجة أن خالدا احتار فيمن يحدث ومن يترك، وتاه مفتاح الشقة بينهم، أو هكذا كانت خطتهم ، كل منهم يدعى أنه أعطاه للآخر الذى سافر إلى البلد وسوف يعود بالسلامة بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر .

***

43

مر أكثر من عام فى المحاكم؛ وانتهوا أخيرا إلى كسب القضية، فى هذا الوقت بالذات، استفرد كل واحد منهم بالأخ الأكبر ليحكى له عن مشكلاته، و يعرض عليه طلباته وهمومه

قالت أخته ليلى :

- إيجار الشقة الآن يساوى أضعاف الإيجار القديم، غير المقدم المرتفع.

أما الأخ الأصغر على؛ فقد سبق أن قال لأخيه على انفراد :

- أخذت وعدا كما تعلم من المرحوم الوالد بأن أسكن فيها حين خلوها .

ازداد تلهفا على التقاط مفتاح الشقة من خالد – بعد أن يستلمه – مقابل مبلغ من المال يدفعه سرا إليه؛ رفض خالد هذا العرض وقال لأخيه الأصغر :

- هذه ليست أخلاقنا، لابد أن يكون كل شيء فى النور .

***

أحس أن الأمر يزداد تأزما، بالرغم من إحساسه بفشل الآراء إلا أنه قرر أن يواجه الإخوة بعضهم البعض؛ حتى يعرض كل منهم فكرته على الآخرين؛ عسى أن يصلوا جميعا إلى قرار واحد، وليكن ما يكون .

استمر يؤجل هذا الاجتماع حتى لا ينشب بينهم صراع، لم يخبر أحدا منهم بوجهة نظر الآخر حتى لا تتعقد العلاقة بينهم، عندما أصبح أمام الأمر الواقع؛ وبعد أن سلمه المحامى مفتاح الشقة أخيرا، اضطر إلى عقد الاجتماع .

قال الأخ الأصغر على :

- لا بد أن تهتموا بى وتكرموني، المرحوم الوالد كان فى نيته أن يعطيني هذه الشقة فى حال إخلائها، وهذا من حقى، الغريب كان يؤجرها بعشرة جنيهات، وأظن أنى أولى منه .

ردت ليلى مندفعة :

- يا سلام !! هى الأنانية بعينها، لا تفكر إلا فى نفسك ! وتريد أن تؤجرها بعشرة جنيهات أيضا؟؟

- وهل الغريب أفضل منى؟

قال خالد :

- تريدون أن تسمعوا كلامي؛ نعرض الشقة عن طريق سمسار يؤجرها لأعلى سعر؛ لتعم الفائدة على الجميع.

رد على :

- ما معنى ذلك؟ أنتم متفقون على ولا شك ..!! أنا فى بداية حياتى العملية، ومرتبى محدود، فأنتم لا تجهلون أنى موظف حكومة، لست مثلكم أعمل فى التجارة أو أى مهنة حرة !!

شاطت ليلى :

- أنت عينك صفراء، أعوذ بالله منك ومن نقك ..

بعد أخذ ورد، انحازت الأخت الكبرى ليلى إلى كلام خالد الذى عشش فى قلبه أن أخته تحسده على ما آتاه الله من فضله كما يزعم . وقرر خالد أن يفض الاجتماع بحزم قبل أن تزداد الأمور اشتعالا، و يمسكون فى خناق بعضهم، وتصبح الأزمة فرجة للجميع .

أما التوأم فلم تحضرا؛ فكانت احداهما تعانى من آلام الولادة والأخرى مصاحبة لها.

***

قابله البمبوطى الذى فاجأه بقوله :

- مبروك القضية أعرف أنك تبحث عن ساكن محترم

- إن شاء الله يا حاج

- وهل ستجد أحسن منى؟

- لا طبعا

- اعتبر هذا وعدا

- ربنا يسهل

وأشاح بوجهه ساحبا يده بجهد من يد البمبوطى التى كانت قابضة بشدة على أصابعه

***

فى المساء عندما كان جالسا على كرسى الحلاقة، مخبئا وجهه فى جريدة؛ سارحا فى أفكاره؛ مسلما رأسه إلى نوشا المزين، تحدث نوشا بصوت كالهمس فى أذن خالد، قال له:

- لا أستطيع أن أعبّر لك عن فرحتي بقرار المحكمة!!

- من أبلغك يا نوشا؟

- لا شيء يخفى؛ فنحن عائلة واحدة، أبناء منطقة واحدة؛ وبيت واحد؛ أم لك رأى آخر؟

- لا طبعا !!

- سمعت أنك تطلب عشرين ألفا من المقدم؛ وليس لدى مانع، سأنتظر منك الرد.

انتزع خالد شبه ابتسامة، وقد لاحظ زيادة جرعة البودرة والكولونيا والاهتمام هذه المرة، و هم بالوقوف قائلا :

- خلاص؟

- خلاص ماذا؟

- خلاص الحلاقة؟

- نعيما يا أستاذ خالد

خرج من الصالون مهموما، أدركه نوشا على الباب وهو ينفض الملاءة البيضاء قائلا:

- أوعى تنسى ما اتفقنا عليه

- ربنا يسهل؛ كل شيء نصيب .

***

أوشكت إجازة خالد على الإنتهاء، لم يصل الإخوة الى حل يرضى الجميع؛ ترك الأمور معلّقة بيد القدر كما هى؛ أنهى إجراءات السفر وبعد أيام غادر البلاد.

***

44

فى عام جديد؛ وفى وقت متأخر من الليل؛ بعد دخول شهر رمضان عاد خالد من الخارج، كانت عودته نهائية؛ أبلغته زوجته أن جارهم المأمور سأل عنه، وأن الصغار والكبار قاموا بتعليق الزينات؛ ورفض المأمور المشاركة وقال انه لا ينتمى الى المدينة و لم يعد يزورها إلا نادرا، صار مقيما فى بيته بحاردن سيتى بصفة شبه دائمة، لا يأتى هنا إلا نادرا، فوجىء خالد وقال هل حقا جاء هذه المرة يريد تسليم مفتاح الشقة مثلا؟ هل صادفه وازع دينى بأن يؤدى الأمانة إلى أهلها؟ هل تحرك ضميره وصحا بعدما ترك السلطة والصولجان؟ ترى هل حقا عادت إليه رغبة فى العودة إلى العدل الذى كان من المفترض أنه قضى كل حياته الوظيفية فى سبيل إحقاقه؟ وهل قرر أخيرا التنازل عن الشقة؟! يا للفرحة !! سوف تكون سعادة كبرى لعائلتنا جميعها، سوف يفرح والدى فى مرقده، ويفرح أخى الذى صار منتظرا لشقة بفارغ الصبر، الشقة فى حد ذاتها ليست بقيمة الفرحة، ستأتى الفرحة؛ كأنما انجلى ليل بهيم وطلع نهار سعيد؛ أو كأنما زالت الغصّة، سوف يستريحون من هذه الجيرة البغيضة.

الكل ينظر إلى غيره، شاهد خالد قطة نافقة ملقاه بجوار مدخل البيت، تعمد أن يتركها ليرى هل يحملها أحد ويلقى بها فى صندوق القمامة؟ فى اليوم التالى فاحت رائحتها و وجدها ملقاه كما هى فى نفس المكان؛ تعجّب، وتذكر سرسوب المياه الهابط من ماسورة الصرف من شقة الفرارجى الذى وعد بتصليحها منذ زمن، يومها قال للسيد أيوب:

سأصلحها عندما تطول يدي أى مبلغ!!

ولم يفعل حتى الآن!

***

فى الحقيقة المأمور لا يحتاج الشقة بعدما استقر أفراد عائلته بالقاهرة وصارت كل مصالحهم بها ولم تعد لهم أية رغبة فى العودة إلى المدينة .ولكنه يريد أن يحصل على أكبر مكسب منها، كان يلوح بأنه يريد أن يعوض ما دفعه، سواء فى إصلاح أرضية الحمام وإعادة صبها بالخرسانة، ودهان الشقة مرة واحدة طوال هذا العمر، قرر خالد أن يقابله فى الضحى حتى لا يزعجه فى هذا الوقت المتأخر من عمق الليل..نصحته زوجته بأن يشترى هدية للمأمور وأن يقول له حمد ع السلامة .

***

عند صحوه من نومه؛ قرر أن يذهب أولا لشراء الهدية؛ ثم يعود ليقابل المأمور على أمل أن يخلى الشقة؛ نازعته نفسه؛ أيفرح أم يستعد للنزال؟ بدأ الخوف يساوره؛ يخاف من نفسه على نفسه؛ يخشى رعبا مشعا يتغلغل فى أفكاره؛ يشتته؛ غيّر ملابسه وخرج؛ هبط السلم وفتح باب سيارته وجلس فى مقعد السائق وأدار مفتاح التشغيل وانتظر قليلا حتى يستعد للإنطلاق

رآه يهم مسرعا خطوه خارجا من باب المنزل؛ نادي عليه :

- أين أنت يا سعادة الباشا؟ حمدا لله على سلامتك ..

نظر المأمورإليه متفحصا من وراء زجاج نظارته، كمن يتفحص شيئا غريبا، شعر خالد بأسى من تلك النظرات المستهجنة؛ تضايق عندما اكتشف شكا يطل من عينيه؛ قال بهدوء غريب:

-أنا هنا؛ لقد حررت محضرا ضدك

- محضر ضدى؟

- أمس سألت عنك ولم تعيرنى اهتماما

-عدت متأخرا فى عمق الليل

- لقد انتهى كل شىء؛ العب غيرها

- أريد أن أصلح سوء التفاهم الذى بينى وبينك

رد المأمور بعصبية ظاهرة:

- بينى وبينك المحكمة .

- لماذا يا رجل؟ نحن جيران منذ أكثر من عشرين عاما .

- لا جيران ولا غيره؛ كما قلت لك؛ العب غيرها

تفاقم الأسى فى قلبه؛ حاول أن يتنفس هواء نظيفا؛ أن يتناغم ويضبط نفسه على موجة الآخر ..لا يريد أن يفقده؛ ولا يدرى كيف يريحه ...قال :

- سوف احضر المقاول لإصلاح ما فسد

- ...

فتح باب سيارته؛ قال له:

تفضل اركب إلى جوارى..

دخل السيارة صامتا، تحركت السيارة ونطق بعد فترة صمت :

- ها ... ماذا تريد؟

فرح خالد، بداية حسنة ..

قال :

- أولا.. أين تريدنى أن أوصلك؟

- إلى المحكمة لو سمحت

- لماذا؟

صوّب فى وجه خالد نظرة نارية قائلا:

- لأرفع الدعوى ضدك؛ فقد جئت مسافرا لهذا الغرض !!"

***

انتهت

كتب:

- مجموعة قصصية بعنوان :" آه منها" عن دار قراءة 2006

- فضاءات مدينة رواية –ابداعات - الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010

- النسخة كاملة من رواية فضاءات مدينة –دار الياسمين للنشر 2012

- حكايات البالطو الأبيض " رواية" دار شرقيات2012

- يا من كنت طبيبى – رواية- قصور الثقافة 2014

- مطلوب آنسة – مجموعة قصصية-الهيئة العامة للكتاب 2017

- ليالى الآيس كريم - رواية 2018 دار العماد

- شارع الفنارات - رواية- الهيئة العامة لقصور الثقافة –الفائزون 2018

تحت الطبع :

أيامى هناك - رواية

خارج نطاق الخدمة - مجموعة قصصية