يتناول الباحث المغربي خصوصية أصول الفعل المسرحي في المغرب، ويبين سمات ارتباطها بالنسق الثقافي العام، والذي لم يكن استدماجياً بقدر ما كان عضوياً. ويؤكد على أن فرادة طقس الفرجة تقوم على انبثاق التجربة السياسية من الممارسة المسرحية، وليس العكس

المسرح المغربي بين الفرجة والنسق السياسي

سالم اكويندي

إن ما نطلق عليه نعت المسرح المغربي، ليس إلا تلك الممارسة التي تمت بالفعل على أرض الواقع، انطلاقاً من العادات والتقاليد الاجتماعية، التي تراكمت بفعل التواجد الاجتماعي للناس. الشيء الذي يجعل هذه الممارسة تنتمي الى الموروث الثقافي الشعبي بإحالاته وتراتبيته في طقوس المقدس، وما تراكمه على مستوى الوجدان الشعبي، باعتباره نوعاً من الوعي الحسي للناس لواقعهم والتفاعل معه في مضمرات هذا الوعي، الذي تشكل بفعل الممارسة الاجتماعية للناس في حياتهم، خاصة وأننا نعلم بانبنائية هذا الوعي من جراء نشوء وتكون المجتمع المغربي تبعاً لطبيعة ساكنته، التي تمثل نوعاً من الفسيفساء في تكونها بفعل النزوح والهجرة، وتحولات أنماط الحكم التي كان عليها المغرب منذ وجود ساكنته الأولى الأمازيغ. وضمن هذا التشكل ستبرز أنواع من التعبيرات الفنية، سواء كتعبير فن القول أو تعبيرات ذات طابع فني راق، عن طبيعة هذا التشكل والتكون، بحيث تندمج هذه التعبيرات في أنواعها وتعدد ما نسميه النسق الثقافي العام للبلاد، والذي تكون هو أيضاً من وعي الناس بواقعهم الاجتماعي كثقافة وطنية في مجتمع مفتوح تحدده شروط هذه الثقافة، وإلا لما كان حديثنا عن التحول والنزوح بهذا المعنى وفي هذا المقام. 

إننا نعتبر هذه الممارسة الفنية ممارسة مسرحية بالدرجة الأولى، مادامت الممارسة المسرحية في حد ذاتها ممارسة فرجوية تحقق الالتقاء الحميمي بين الناس، سواء كمؤدين أو كمؤدى لهم داخل المجتمع، لأن ما يؤدى هو الذي يحقق طبيعة اللقاء واللحمة الاجتماعية بين الناس، ويعمل من خلال آليات الفرجة بما هي آلية سيكولوجية على تحقيق الاندماج الاجتماعي والتواصل. الشيء الذي تؤكده الدراسات الأنثروبولوجية (1) في هذا المجال، حيث قامت التجارب المسرحية لكبار المخرجين مثل بيتر بروك، وأريان منوشكين، وجيرزي غروتوفسكي على نتائج هذه الدراسات، مثلما قام به يوجينو باربا وادوارد هال وديابورا، انطلاقاً من المسعى الأول عند أنطوان أرتو في إنجاز فرجة مسرحية من هذه العادات، إذ كان ينظر الى ذلك فيما شاهده لدى شعوب جزيرة بالي بأندونيسيا. وقد تم تأكيد هذا المسعى في البحوث التي قام بها كلود ليفي ستراوس في هذا الميدان، ونفس المسعى نجده في دراسات عبدالله حمودي في الأطلس الكبير بالمغرب(2).

إن اعتبار الممارسة المسرحية المغربية ممارسة ضاربة في القدم، إن لم نقل إن لها نفس تاريخ وجود الإنسان بهذه المنطقة، مثلما هي عليه الحال باقي المجتمعات البشرية، يأتي من كون هذه الممارسة لا زال لها حضورها القوي فيما تختزنه الثقافة الشعبية، وتمدنا به على مستويات تمظهرات هذه الثقافة في سلوكنا اليومي المعيشي، ومنها أصبح المسرحيون المغاربة يستمدون موضوعاتهم وطرق اشتغالهم في بناء الفرجة المسرحية. ونذكر منها على الخصوص فرجة اعبيدات الرمى، والبساط والمداح والرواي والحلقة(3)، والتي يمثل انعقاد لقاءاتها ومواسمها فرص اجتماعية للإعلان عن حضور الذات الجمعية للناس، والانتماء لهوية الجماعة حسب مواقع تواجدها على خارطة المغرب، إضافة إلى انخراط مكونات الساكنة فيها بالحضور والمشاركة، ولا تفصل بينها فواصل السلالة والعرق أو المعتقد الديني، ما دامت فرجات جماعية ترتكز على العمل وأنماط الإنتاج السائدة وفق الوسائل المتاحة لها، حسب متطلبات الحياة نفسها آنذاك، وحسب التحولات الاقتصادية والسياسية التي تكون عليها الحقب التي مرت بها البلاد، والتي تبقى موسومة بشرط التواجد الاجتماعي للناس، علماً بأن هذا النمط من الحياة ومنتوجاته الثقافية تدخل في إرساء مدماكه القرار السياسي للسلطة الحاكمة(4).

إن أسئلة النشأة والتأسيس في المسرح المغربي تبقى أسئلة ذات طابع ثقافي فكري عام، يؤرخ بها لمراحل تنامي الوعي بالذات ورد الفعل إزاء الآخر، الذي استطاع أن يطور تجربته في نفس المجال، وفي إطار سياق شروط تحولاته الاجتماعية والاقتصادية نتيجة الارتقاء بوعيه الحسي، والذي أصبح وعياً بالواقع الاجتماعي المترجم في تعبيراته الفنية وانطلاقاً من عاداته وتقاليده، والتي هي شبيهة والى حد كبير بالعادات والتقاليد التي تكونت عندنا في نشأة وتكون مجتمعاتنا بتشكيلاتها الاجتماعية وبتعالقها بمواقع السلطة فيها، وهو ما يمكن أن نلمس بعض التباساته في واقعنا من جراء التدخل الممارس بعنف مع الشعوب، والذي يأخذ في كثير من الفترات طابعاً صراعياً، ناهيك عن صراعاته الاجتماعية الداخلية، بحيث ننسى في خضم هذا تاريخنا الاجتماعي والثقافي ولا نفتح حدوداً بين هذا التاريخ وتواريخ الشعوب الأخرى، التي نتقاطع معها وما يبقى ماثلاً أمامنا هو حدود هذا التقاطع بين التواريخ لصنع بدايات جديدة لتاريخنا الثقافي، ونغفل إننا في كل موسم أو مناسبة دينية أو وطنية نعمل على إحياء تاريخنا المنسي هذا باعتباره تركة موصولة الفعل وغير مستأنفة، وهي ما تم التأشير عليها حالياً بالعودة إلى الفرجة(5)، انطلاقاً من موروثنا الثقافي وما يحمله من حس الوجدان الشعبي، باعتبار هذا الوجدان تراثاً وخزاناً للوعي الوطني ولهويتنا، وكل عودة إليه هي عودة لإثبات الذات، ليس كرد فعل بل كواقع كان موجوداً وحاضراً بقوة، بل وما يزال مستمراً، ويعيد ترتيب حضوره في هذه المناسبات والمواسم والطقوس الاحتفالية التي تعطيه تماهيه في تقاطع تاريخه بتواريخ الآخر، الذي نريد تمثل ثقافته وفنه بقوة حضوره العسكري، والتكنولوجي وكأننا لم نكن هنا ولم تكن لثقافتنا وفننا قائمة(6).

من هذه المنطلقات نستحضر وقائع الممارسة المسرحية المغربية في مختلف الحقب، باعتبارها ممارسة ثقافية فنية ذات وظائف اجتماعية وثقافية وتربوية، ومؤطرة للوجود الاجتماعي والثقافي، كما أن الأطر المعرفية الممارسة لهذا الفن تعتبر أطراً عضوية ضمن النسيج الاجتماعي المتكون انبنائياً في سلوك الساكنة بشكل متواتر ومتواصل على مرّ العصور، والتحولات التي شهدتها هذه الممارسة بما هي ممارسة للحياة نفسها، مما يقوي لحمة التواشج الاجتماعي والثقافي بين أعضائها وبين الساكنة، رغم تعدد وتنوع واختلاف مشاربهم السلاليّة والثقافيّة، كما أن نمط الإنتاج المؤطر كخلفية اقتصادية لهذه الممارسة تمتلك وسائل إنتاجه الطبقة الحاكمة المعبر عنها بالمخزن، حيث تندمج في هذه التسمية طبقة ملاكي الأراضي والأعيان والفقهاء والصناع التقليديون الى الحد الذي يكاد ينمحي فيه التمايز الطبقي، ولعل هذا راجع لطبيعة الممارسة الثقافية والفنية ذات الطابع الطقوسي الديني والطائفي (الطوائف والزوايا) والفقهاء والصناع التقليديون، وهذه الأخيرة تعتبر في نظرنا آليات لإعادة إنتاج نفس النسق في النظام الثقافي الناشئ، وهنا يحضر الايديولوجي بقوة ضمن الجمالي الفني وتحويله لطابع الفرجة من التكون والتلقي الى طابع الولاء، بحيث لا تحضر الفرجة إلا في حضرة الوالي الذي يأخذ رمزيته في الضريح أو الموسم. ولنا أن نستحضر هنا فرجات هرمة بوجلود (السبع بولبطاين) بمناسبة عيد الأضحى، وإمعشارن الفرجة التي يندمج في إنتاجها وأدائها العنصر العربي والأمازيغي واليهودي، كمكونات أساسية للثقافة والفرجة المسرحية المغربية، ونشير هنا الى الفرجة العيساوية والحمدوشيّة والكناوية، والتي كلها امتدادات لفرجة اعبيدات الرمى، التي اتخذت من أحواش الفن الأمازيغي بامتياز مرتكزاً لها. وكل هذه الفرجات لا تخلو من حلقات الذكر والتوسل دلالة على حضور البعد الديني الإصلاحي فيها، وهو ما يعرف في الغناء الشعبي ذي الطابع الأدائي بالساكن، وعندما نذكر الكناوي هنا فإننا لا نستثني الثقافة الزنجية، والتي يسجل حضورها في المغرب حضور الوثنية واستحضار الآلهة وأشباحها، والتي تأخذ تعبيرات مجازية في الشرفاء والأولياء، رغم أنها تقدم كفن ناسوتي يهم الناس في حياتهم وكيفية إعادة النظام الثقافي العام، والصورة الممثلة لهذا الطابع نجدها حاضرة وبشكل مادي في آلات الإيقاع. ووسائل إنتاج هذه الفرجات ذات طابع مسرحي خاصة في طقوس حفلات هرمة بوجلود: جلد الأضحية المقدمة في عيد الأضحى تعبيراً على تحقيق الرؤيا الإبراهيمية كأضحية بديل عن سيدنا اسماعيل، يصبح بديلاً لتطهير دنس الإنسان على الأرض، والذي يتخذ هذا الجلد لباساً له اعتقادا بتحقيق التطهير، أو ما يسميه أرسطو بالكثارسيس من أجل إعادة التوازن للنظام الاجتماعي والثقافي، وهذه دلالة آخرى لمفهوم الموسم بالمعنى الديني، والذي لا يقوم كطقس إلا على ما هو فرجوي، باعتبار هذا الأخير هو ما يعطي قوة ملموسة لتحقيق الصفاء والتسامح. وضمن هذه الفرجات تندرج مسرحية سلطان الطلبة كنموذج للإقرار السياسي لهذه الفرجات، والسماح بها من أجل إعادة إنتاج نظام النسق الثقافي المبني على تحالف المخزن.

ملاحظة أخرى نشير إليها هنا وهي: أن رسوخ هذه الممارسات في مناسبات دينية هو ما يعطي معنى الفرجة المسرحية المغربية، كما أننا نسجل أن طقسية المكان لها دلالتها كذلك، فساحات الأضرحة أمام أبواب المساجد تماثل، والى حد كبير، ما يمنحنا إياه ظلام المسرح وسكينته، ومواقيت الفرجة فيه بعد صلاة العشاء.

إن رسوخ هذه الممارسات المسرحية، وانبثاقها من تربة فكرية تنتمي لتشكل وتكون الثقافة المغربية، بتعددها وتنوعها واختلافها حسب طبيعة مكونات الساكنة المغربية، وفي مختلف عهودها التاريخية وانصهارها بتكوينات الدول في المغرب باعتبارها مكونات السلطة المركزية، كل ذلك جعل هذه الممارسات المسرحية، لا تخرج عن كونها ممارسات مسرحية تتم تحت نبض هذه السلطة، وتحت أعينها. الشيء الذي يجعل هذه الممارسات مندمجة بشكل أو بآخر كممارسات رسمية، أي أنها وبمشاركة السلطة المركزية فيها ممارسات الثقافة السائدة وبطبيعة الحال سيتم التخلي عن التدخل المباشر في انتظامها وقيامها، بعدما ترسخت كآليات من آليات إعادة الإنتاج النظام الثقافي العام للبلاد، باعتبارها نسقاً سياسياً. وهكذا نجد الوجدان الشعبي سيلعب دوراً أساسياً في إعادة إنتاج هاته الفرجات، بينما ستصبح آليات إنتاج النظام في حد ذاته متجهة وجهة اقتصادية وسياسية خاصة لاستتباب نظام الحكم، بينما تلعب التقاليد والعادات والممارسات الطقوسية دورها في المجال الثقافي الرمزي ومنها الفرجة، والتي لا تحضر في إطار الممارسة الرسمية، إلا كتقاليد للنظام، وهي مناسبات تجديده مثلاً الطقوس الفرجوية في البيعة والمناسبات الدينية والوطنية، لأن ممارسات هذه الطقوس وبهذا الشكل ستصبح من مضمرات المؤسسة السياسية القائمة، وأبطالها وكأنها مضمرات أسطورية(7).

ومن هنا ستنطبع الممارسة الثقافة العامة بالبلاد بتتبعها للسياسي أكثر من تبعيتها للثقافة العامة للبلاد، علماً أن الممارسة الثقافية كانت هي الأساس الذي قام عليه النظام السياسي، ولنا أن نعطي مثالاً بفرجة سلطان الطلبة وصلاة الاستسقاء وحفلات البيعة، ومن هنا نستنتج أن الممارسة المسرحية المغربية متأصلة في النظام الثقافي العام للبلاد، كما أن لها مرجعيات في تثبيت وترسيخ النسق السياسي العام، وما يدل على ذلك نظام الزوايا في المغرب، وكيفية إحياء حفلاتها الطقسية بين الشيوخ والمريدين، وهي ذات الطقوس التي تجمع الحكام بالمحكومين، وما يوضح ذلك على مستوى الفرجة المسرحية طقسية اعبيدات الرمى، كمنطلق فني شعبي لاندماج وتزاوج ثقافات الساكنة الأول: القبائل العربية النازحة من الشرق، إضافة لليهود المقيمين قبل وفود القبائل العربية، ومجيء الإسلام. كما وتجلى في أنواع فنية شعبية أخرى مشابهة تماماً لفرجة اعبيدات الرمى، ونعني بذلك امعشارن والهيولة. غير أن طبيعة فرجات اعبيدات الرمى وارتباطها أولاً بالطبقة الاجتماعية السائدة (الرمى، علية القوم وأعيانهم) باعتبارهم مالكين لوسائل الإنتاج في مجتمع زراعي، سيجعلهم يمثلون هذه الصفة بتحالفهم ومساندة رجال المخزن لهم، سيجعل في الفرجة الولاية لهم تنتقل بشكل آلي للأضرحة والأولياء، كرمز لبركة الولي، والتي هي بركة مستوحاة من مؤسس الدولة المغربية، وهذا راجع بالأساس للممارسة الفرجوية القائمة على المزج بين الديني والدنيوي، وهنا نستحضر معنى الأكليروس في القرون الوسطى بأوروبا ومسرح صكوك الغفران بالكنيسة، كما أن هذا المزج بين الديني والدنيوي سنجده في ممارسات فرجوية أخرى لها صلة عميقة بالممارسات الفرجوية لعبيدات الرمى، والمتجلية مع الظواهر العيساوية والحمدوشية والكناوية، وذلك بسبب انتقال ولاية الأعيان والأسياد للفقهاء والصناع التقليديين في علاقتهم بالمخزن عن طريق نظام الطوائف/ المزوار(8) وأمناء الحناطي، في مجتمع سيعرف في تحولاته بالانتقال من نمط الإنتاج الزراعي الى نمط إنتاج صناعي تقليدي غير متطور. وهذه التحولات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، والتي لها معنى على المستوى السياسي، ستؤدي بالضرورة لانتقال نموذج الفرجة المسرحية، بما هي فرجة تابعة للسياسي كما رأينا، وبالتالي جعل النظام الثقافي العام تابعاً للسياسي، وكل تعثر أو انفلات في الممارسات المسرحية المغربية يبقى رهيناً بطبيعة هذه العلاقة، وغالباً ما تكون التعثرات والانفلاتات نابعة من مطلب استقلال الثقافي عن السياسي، فيما يقوم به القائمون على الفرجة كممارسة مؤسسة ثقافياً. ومن هنا نفهم كذلك لماذا تظل الممارسة الثقافية بلا دعامة، والمسرحية الفنية خاصة مرتبطة بالمجال العام ومستتبعاته (9) .

كما أن القطاعات المسؤولة رسمياً عنها (وزارات) لا تقوم إلا بتنظيم شؤونها، وهذا ما يتجلى في تأخر القوانين والتشريعات المنظمة لها، ما دامت هذه الممارسات الثقافية مستحوذ عليها ولا يتم الاعتراف بها إلا في مقتضيات وحاجات السلطة المركزية، في فترات عظمتها أو تراجعها، لأن القطاع العامل في العام بالمعنى الحديث لا يملك قرار استقلاله، لقصور في وعيه السياسي والثقافي، ولعمليات الاستحواذ عليه في منطق الثقافة السائدة والمهيمنة، أمام ثقافة مسودة، لا تمتلك آليات إنتاجها إلا مما هو عام، ومنخرط في النظام الثقافي العام. كما أن هذا الارتباط بين ما هو ديني، كمجال مراقب، وما هو دنيوي يعيش على هامش من الحرية، عطل التوجه لمأسسة الفرجة وانتظامها فيما تفرضه تلقائية الوجدان الشعبي.

إن الممارسة الحديثة للمسرح المغربي، والتي يعتبرها المؤرخون للمسرح المغربي بدايات له، والمحددة في عشرينات القرن الماضي، وتحديداً سنة 1923، ليست إلا امتداداً طبيعياً للممارسات المسرحية المغربية، التي رأينا ترسخها وتتبعنا صيرورتها، حسب ما فرضته ظروف التواجد الاجتماعي للناس، وفي انخراطها التام مع تشكل وتكون المجتمع المغربي، في انبنائية نسق نظامه الثقافي العام. إذ نجد هذا واضحاً في تعاطي مكونات هذا المجتمع خاصة أطره المعرفية، التي كانت تتحمل المسؤولية لانتظام هذه الفرجة، حيث سيحضر في صناعة هذه الفرجة وتلقيها الفقيه والصانع التقليدي ومقدم الطائفة ومريدها. ومن خلال هؤلاء سيكون حضور المؤسسات التي ينتمون إليها مثلاً جامعة القرويين بفاس، وجامعة ابن يوسف بمراكش، وأمناء الحناطي بمختلف أنواعها مثلا الذباغة والدرازة.. إضافة إلى القيمين على الزوايا والأضرحة من شيوخ الطرق الصوفية، ورجال المخزن للسلطة المركزية، سواء كممثلين لهذه السلطة، أو حسب انتمائهم لمركزية وموقع الفقهاء، أو منتمين للزوايا والطوائف؛ بحيث سيلعب هذا الاندماج القوي في دواليب السلطة/ المخزن والانتماء الاجتماعي لأصولهم الطبقية دوراً قوياً في استمرار هذه الممارسة المسرحية، وبالتالي التعيير عن امتدادها وسريان فعلها في انبناء النسق الثقافي والنظام العام، كما سيزيدها قوة ورسوخاً الحضور والتواجد الاستعماري بالبلاد، ومن خلال فعلها الثقافي هذا ستعمل الأطر على ربط الممارسة المسرحية بالسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي ستكون عليه البلاد كقوة للمقاومة، خاصة وأن وشائج الصلة ستتدعم بينها وبين المقاومة في المشرق، لنفس التواجد الاستعماري الذي أصبحت عليه بلدانها في بدايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

إن السمة الاجتماعية والثقافية والسياسية هي عنوان هذه المرحلة في الممارسة المسرحية، كما أن سمة الامتداد التي أشرنا إليها سيجعلها ممارسة ثقافية ذات حدين: حد المقاومة الداخلية، والذي لعبته هذه الممارسة في رفع مظالم الناس ومطالبهم أمام ممثلي السلطة والأعيان بانخراطهم فيها، وحدّ تحويلها كممارسة ثقافية لمقاومة خارجية ضد التواجد الاستعماري الأجنبي، مع ملاحظة تنامي الوعي للدور الجديد لهذه الممارسة في التقائها، وتواصلها مع ما يتم في المشرق العربي. وهذا في نظرنا هو السبب الذي سيجعل الاهتمام والإنصات والاحتفاء بالفرجة والفرق المسرحية الوافدة على المغرب من المشرق، كما أن دور الفقهاء في هذه الحركة الثقافية سيكون بارزاً وواضحاً لأنها دعوة جهادية تعتمد التوعية ضد الوجود الاستعماري وضرورة مقاومته؛ ومن جهة ثانية نشر الثقافة العربية وقيمها انطلاقاً من بعدها الديني وسط الناس ومن ثمة مقاومة المستعمر.

كما أن الموقع الجغرافي للمغرب سيجعله جديراً بهذه المهمة، فضلاً عن كون المغرب من البلدان العربية التي تأخر استعمارها نظراً لوجود نزعة المقاومة لدى ساكنتها، والتي لا يمكنها بفعل هذه الممارسة الثقافية المتجذرة فيه منذ تكونه وتشكله تاريخياً، وكما أسلفنا من هذا البعد الثقافي، الذي كان يعد مؤسساً للاجتماعي والسياسي فيه حيث نجد سمة التأخر في استعماره، كانت سمة كذلك حاضرة في تأخر دخول الإسلام له، غير أن تشبع المغاربة بقيم الإسلام وقيم الثقافة العربية سيجعل منه حصناً منيعاً، ومنطلقاً لإعادة انتشار هذه القيم، وهو ما سنلاحظه في فتح الأندلس والاندماج فيه والامتداد في افريقيا.

وما نريد التأكيد عليه في هذا المقام هو الانبثاق العضوي للممارسة المسرحية وانتظام فرجاتها وتلقيها كآلية في الوعي الاجتماعي لدى المغاربة منذ نشأة وتكون المجتمع، وانخراط الفعل السياسي فيها، لإعلان دوله بمختلف أنماط الحكم فيها. الشيء الذي لا يدعو للغرابة في احتضان الممارسة المسرحية العربية الوافدة عليه من المشرق العربي والانفتاح بالتالي على الممارسة المسرحية الغربية التي استقدمها المستعمر.

إن دلالة وحضور أسماء بعض الفقهاء في الممارسة المسرحية الحديثة في المغرب أمثال محمد القري، والمهدي المنيعي، وعبدالواحد الشاوي ليؤكد ما ذهبنا إليه في تحليلنا هذا، خاصة وأن بروز هذه الأسماء في هذه الممارسة، جاء في لحظة التقاء بين امتدادات هذه الممارسة المسرحية وفي شكلها التقليدي المحلي، وانسجامها مع طبيعة انبثاقها كوعي فني ثقافي سياسي، تعبيراً عن طبيعة تشكل وتكون المجتمع المغربي حينئذ، حيث كانت هذه الممارسة ووفق طبيعتها المشار إليها بالتقليدية تعبيراً آخر عن الوعي بالذات، والإفصاح عن هذا الوعي بعفوية وتلقائية للانخراط في شرط وجودها الاجتماعي.

ومن الطبيعي أن تكون هذه الممارسة المسرحية، والتي وسمناها بالعفوية والتلقائية ممهداً لما سيلي في تطور هذا الوجود والتفاعل معه بكل ما تحمله من جديد في إطار هذه الممارسة، وهو ما جاءت الأسماء المذكورة للتعبير عنه، والتعبير في نفس الوقت عن أن الممارسة المسرحية المغربية كانت موجودة كما سبق وأوضحنا ذلك، علماً بأن الخلفية الفكرية التي تحرك في إطارها هؤلاء الفقهاء كانت خلفية سياسية نظراً لانتمائهم للحزب الشيوعي الفرنسي، وهو الشيء الذي سيحذوه فقهاء وعلماء آخرين بالانخراط في الممارسة المسرحية، والدفاع عن شرعيتها لأنهم كذلك ينزعون في ذلك منزعاً سياسياً. الشيء الذي سيجعل الممارسة المسرحية المغربية تنخرط في العمل السياسي، ونتيجة لهذه العلاقة في وجود وانبثاق الممارسة المسرحية المغربية من طبيعة التكون الاجتماعي وتشكله على أرض الواقع، بمختلف ألوان طبيعته السياسية، وحسب الدول التي أنتجها هذا الواقع، بحيث لم يكن السياسي بداية الأمر هو المتحكم في وجود هذه الممارسة، بل كانت هي المحدد له مما يجعل البعد الثقافي حاضراً وسابقاً للوجود السياسي، عكس ما أصبحت عليه الممارسة حالياً، إذ يمكننا القول أن وجود المغرب الثقافي والفني والمسرحي كان هو الوجود الأول، عكس ما نجده لدى شعوب أخرى، خاصة في المجتمع اليوناني والذي يعتبر جينالوجياً أب ومنطلق الممارسة المسرحية لدى الغرب. إن هذا الوضع في تكون وانبثاق الممارسة المسرحية المغربية، وفي عودة استئنافها كامتداد للممارسة المسرحية المغربية الحديثة، ومن نفس الأطر المعرفية والمؤسسات الثقافية والفنية في نسق النظام الثقافي العام، هو ما سيعطيها الريادة والسبق في الثقافة المغربية الحديثة، حيث سبق لنا في دراسات أخرى أن نعتنا هذا السبق والحضور القوي للممارسة المسرحية المغربية بأنها هي رأس رمح الثقافة الوطنية، وهذا ما نجده وبوضوح قوي طيلة عقود القرن الماضي وابتداء من عشرينياته.

إن النموذج الغربي في المسرح الفرنسي، كما تعرفنا عليه في التجربة المسرحية المغربية، لم يجد سنده لدينا إلا فيما عرفه سياق هذه الممارسة المترسخة، حيث كان هدفه التحديث وعصرنة المجتمع المغربي، انطلاقاً مما هو موجود عند المغاربة، إذ يشير أندريه فوازان الى أن المغاربة يمتلكون حساً مسرحياً من خلال مرونة أجسادهم وقدرتهم على التقمص ولعب مجموعة من الأدوار. الشيء الذي جعله يركز في تداريبه المسرحية المقامة لهم على تنظيم الفضاء وكيفية ملئه، وهكذا نجده يعتمد الجانب الثقني أكثر، فضلاً عن كون مجموعة من المسرحيين المغاربة كانوا قد مهدوا الطريق بالممارسة المسرحية المعهودة لدى المغاربة على إشاعة فكر تحرري وتنويري، انطلاقاً من مواقعهم الاجتماعية كفقهاء، وعندما انخرطوا في هذه الممارسة مشبعين بالفكر الاشتراكي، نظراً لانخراطهم في الحزب الشيوعي الفرنسي أمثال محمد القري والمهدي المنيعي وعبد الواحد الشاوي، وقد ساعدهم على خوض التجربة بنجاح كون الفقهاء كانوا من قبل مساهمين في هذه الممارسة المسرحية، كما سبقت الإشارة الى ذلك، كما أن الفرق المسرحية الوافدة على المغرب من المشرق جاءت داعمة لتجربة هؤلاء الفقهاء ولكونها جاءت محملة بمثل هذه الأفكار وممارستها في المسرح، انطلاقاً من بدايات مارون النقاش التي استلهمها من الغرب وأبو خليل قباني ويوسف وهبي وزكي طليمات. وهي وإن كانت تعبر عن هذا الحس الغربي، فإنها لم تخرج عن كونها نموذجاً مسرحياً يعبر عن التجربة الميدانية الأولى للأستاذ لطفي السيد وتلميذه طه حسين فيما بعد. ولم تكن الروح المشبعة بها إلا من بنات هذه الأفكار، ومن تبعات ذلك نجد مبادرة رد الفعل ورادة فيها ضد النموذج الغربي، رغم أنها لم تخرج من صيغته الفنية وأشكالها التعبيرية في الأداء نتيجة للاحتكاك والتمرين الذي خضعت له، والى الحد الذي جعل الكثيرين من المنظرين للمسرح العربي يعتبرون هذا الفن فناً دخيلاً على ثقافتنا، في حين نجد أننا في توجهات مسرحيينا من وجهة نظر أخرى قد توجهوا، ومن داخل نفس التجربة اهتموا بالرجوع الى الحكايات: ألف ليلة وليلة والسامر والحكواتي وحفلات الزار، وهنا سيكون ليعقوب صنوع وأبو خليل قباني الريادة في مزج هذه المسرحية بما أمكنهم الاستفادة منه في الغرب على المستوى التقني، وأنهم لم يعملوا على تعريب المسرح العربي كما ذهب الى ذلك بعض مسرحيينا، وإنما قاموا بما أفصح عنه الطيب الصديقي في توجيه جان فيلار، عندما طلب منه الرجوع الى بلاده فيما تختزنه ثقافته. كما أن حضور المسرح الغربي لا يعني بالضرورة أنه مسرح النموذج الأوحد كما يظهر لدى البعض، بل إنه مسارح على حد تعبير برنار دورت. وهنا نتساءل كيف لمسرح بالجمع أن يعبر عن هموم وتطلعات طبقات اجتماعية غربية، أن يجعلنا نختصر تجربتنا الضاربة العمق في ممارستنا في خندق هذا النموذج، الذي يريدونه مسرحاً بالمفرد.

إن صيغة المسرح بالمغرب لم تكن نمطا من أنماط آليات الاستدماج الاجتماعي ضمن مفهوم الثقافة السائدة، وهذا لا يتأتى إلا في مركزية السلطة وتمركزها مثلما تعرفنا عليه. في تجربة الممارسة المسرحية المغربية، والتي تبقى مرتبطة بفترات محددة تشهد على هذا التمركز، وهو ما قام به أرسطو بعد مائة سنة على الممارسة المسرحية اليونانية للتقعيد لمفهوم الاندماج الاجتماعي فيما عرفه مجتمعه من تحول سياسي، وكأنه سنّ نموذجاً لتراجيدية، التي هي بمثابة نظام للإكراه الاجتماعي، وبالشكل الذي يوضحه أوغستو بوال. في حين نجد تماهي الممارسة المسرحية المغربية، ومنها العربية مع نبض الوجدان الشعبي، وهو الشيء الذي استقطب السلطة المركزية/ المخزن وما شابهه على الاقتراب من هذا النبض، وجعله نبضاً مستدمجاً. وهنا نفهم معنى دور الفقهاء في الانخراط في هذه الممارسة، لأن الرهان كان على هذه الفرجات، وتأثيرها على الوجدان الشعبي في تأطير المجتمع، واستدماجه ونقد النموذج الوطني، المعبر عنه في مجموعة من الأدبيات السياسية بالمواطن الصالح. ونفس الشيء نلاحظه على التوجهات الحديثة في تأطير الممارسة المسرحية، واحتوائها تحت أجراء سياسة الثقافة الشعبية، ومستخرجاتها مثل التربية الشعبية، والتي عملت الشبيبة والرياضة كقطاع حكومي على الاهتمام بها في ميدان سياستها المتبعة في بدايات الاستقلال السياسي للمغرب. وبهذه التوجهات سيعيد المسرح دوره كآلية من آليات الاندماج والتنشئة الاجتماعيتين، وهنا سيظهر بوضوح الدور التربوي للمسرح باعتماد مفهوم المسرح بمعناه الواسع، أي ذلك المفهوم الذي يعني أن المسرح هو جوهر عصره، لأنه يستمد منه ليس مفهومه فقط ولكن بشكل انبنائه وتكونه باعتباره فناً عضوياً ينبثق من ذات الممارسة الاجتماعية. الشيء الذي يجعل منه غاية ووسيلة في نفس الآن، أي أنه ممارسة للتعبير عن الذات والإفصاح عن مكنوناتها، لأن الإنسان ومن خلال انشغاله بممارسة العمل يمارس حياته في شموليتها، وهذا ما تم توضيحه في الممارسة المسرحية المغربية، والتي جاءت متواشجة مع هذا الاهتمام الذاتي، وجعل هذه الممارسة ممارسة للحياة ذاتها. الشيء الذي عبرنا عنه بالوجدان الشعبي، ووجدنا تجلياته في الغناء الشعبي، بل إنه داخل في إطار هذه الحياة التي كان عليها الإنسان مند بدء الخليقة حيث كان انبثاق الفن المسرحي من الرقص كأداء حركي تعبيراً عن أحاسيس الوجود، أما الفعل الدرامي فلم يكن إلا أداء كلامياً ينطوي عليه الغناء والإنشاد، وهذا ما ينعت في التجربة اليونانية بالشعر العامي (الأيامبو)، وفي التجربة المغربية بـ (البروال) كمقطع شعري عامي في متن العيطة غير المركبة، كما أنه يتجلى في التجربة العربية عموما بـ (الموال)، وقد أعطى هذا الاعتبار في الأداء الكلامي للدراما حق نعته من قبل روم لاندرو بالمداح أو الكوال، ويتجلى بأكثر وضوح في قصائد الملحون أو المألوف في التجربة المغاربية.

إن ارتباط التجربة المسرحية المغربية ومنها العربية بالنسق الثقافي العام، لم يكن ارتباطاً استدماجيا بقدر ما كان ارتباطاً عضوياً وهذا ما حاولنا تلمسه في هذه الدراسة، والتي لم يكن هدفها إبراز الارتباط السياسي كنسق ونظام ثقافي عام بالمسرح، بل إبراز انبثاق التجربة السياسية من الممارسة المسرحية وليس العكس. 

باحث مسرحي من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ نشير في هذا الصدد للدراسات التي قام بها يوجينو ياربا حول المسرح والأنتروبولوجيا، وكذلك بعض الدراسات الأنثروبولوجية للمجتمع المغربي لعبدالله حمودي.
(2) ـ عبدالله حمودي "الضحية وأقنعتها" بالفرنسية.
(3) ـ انظر روم لاندرو "دراسات في المسرح والسينما"، والدكتور حسن المنيعي "أبحاث في المسرح المغربي"، وعبدالله شقرون "فجر المسرح المغربي".
(4) ـ انظر عبدالله حمودي "الشيخ والمريد"، ونورالدين الزاهي "الزاوية والحزب".
(5) ـ نشير هنا إلى أن بناء الفرجة المسرحية بالمغرب كان خاضعاً للنموذج الغربي في التجربة المسرحية الحديثة للمسرح.
(6) ـ في هذا الإطار نشير إلى أن تجربة الأطر الفرنسية، في نهاية فترة الاستعمار، كانت تنطوي على ترتيب وتنظيم ما هو موجود، وما يملكه المسرحيون المغاربة من تجارب من جراء تمرسهم على أداء فرجاتهم الاجتماعية.
(7) ـ انظر كتاب الدكتور محمد معزوز "الأسطورة ومضمرات البطل".
(8) ـ انظر عبدالله حمودي "الشيخ والمريد" وكذلك "الضحية وأقنعتها"، و كتاب الدكتور محمد معزوز "الأسطورة ومضمرات البطل".
(9) ـ انظر قانون الحريات العامة.