نجد أنفسنا بقراءة هذه المجموعات، أمام شاعر يرصد بحياد ظاهر وكأنه يقرّر إحدى الحقائق، نهايات العالم واصفاً متاهته وظلمته وفقدانه للمستقبل. والحقيقة أن الكتابة ذاتها تبدو في رؤية الشاعر بوصفها نقيضاً للحياة، أو تعبيراً عن الفراغ والتشظّي.

وديع سعادة يرصد نهايات العالم

بروح شعرية عالية

محمد السيد إسماعيل

 

لا شك في أن صدور المجموعات الشعرية للشاعر وديع سعادة أخيراً في مجلّدين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة يُعدُّ حدثاً مهماً، بعد المختارات التي صدرت له من قبل في مصر. وبقراءة هذه المجموعات، نجد أنفسنا أمام شاعر يرصد بحياد ظاهر وكأنه يقرّر إحدى الحقائق، نهايات العالم واصفاً متاهته وظلمته وفقدانه للمستقبل. والحقيقة أن الكتابة ذاتها تبدو في رؤية الشاعر بوصفها نقيضاً للحياة، أو تعبيراً عن الفراغ والتشظّي. ففي قصيدة "إنّها الكلمات الأخيرة وها أنا أهجرها"، يتجلّى هذا المعنى، في قوله "الكتابة غياب للحياة/ الحياة قد نصادفها بالمشي/ قد نصادفها بالجلوس تحت شجرة/ أو على الرصيف/ ربما تأتي سهواً بقبلة/ أو برصاصة لكن ليس بالكتابة". فالكتابة درجة من درجات اعتزال الحياة والاكتفاء بتأملها من بعيد أو على مسافة تتيح رؤيتها كاملة، وهذا ما يمنع من معايشتها أو الوقوع في أسرها والغرق في تفاصيلها. فالشاعر بهذا المعنى ليس هاجياً للكتابة، بل عارفاً بحقيقتها ومدركاً لآليات اشتغالها، فهي في الوقت الذي تلفظ متاهة الحياة وتناقضاتها، تقترب من اقتناص جوهرها. لكن الشاعر – وهذا ما يحقّق درامية القصيدة – يظلّ على حنينه الدائم لزخم الحياة المتجدّدة التي قد تأتي سهواً "بقبلة أو برصاصة"، ولا فرق بين الأمرين، فقد ارتبط القتل دوماً بالعشق في الشعرية العربية.

من أجل هذا، يحاول الشاعر الخلاص من الكلمات: "أرش على هذا الثوب الذي أرتديه سمّاً للكلمات/ وأركض مجنوناً باحثاً عن الحياة/ تسميم الكلمات هو الطريق القويم/ موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولى، لثغها الأول/ يا طالعة من فمي إنك تقتلينني". وقديماً، فرَّق دوسيسير بين اللغة والكلام، فاللغة نظام عام ثابت له قواعده الدائمة وسلطته التي ينتظم الجميع تحتها، السلطة التي تعلو الأفراد، بينما الكلام اجتهاد فردي داخل هذا النظام، اجتهاد يحمل خصوصية صاحبه.

صراع الكلمات
لكن وديع سعادة يصنع في السطور السابقة، ثنائية أخرى بين الكلمات والحياة. الكلمات التي على الرغم من إبداعيتها، أو ربما بسببها، تقتله وتحجب عنه الحياة التي "هناك" يلهو معها الأطفال وترميه من "السطح المنير إلى لُجَّة المتوهّم الغامض المستحيل". الكلمات/ الكتابة إذاً في رؤية شاعرنا "دخول في غرفة الموت/ فيما الحياة تلعب على الطرقات". وهي حالة تذكرنا بوصف صلاح عبد الصبور للمثقفين بأنهم "عصابة من أشقياء"، تحوَّلت كتبُهم إلى جبال تحجب وجه الحياة الذي لم يستطع رؤيته حقيقة إلّا بحرق هذه الكتب، وذلك لأن اللفظ مَنية وأننا لو استولدنا الكلمات من بعضها لرأينا الدنيا مخلوقاً بشعاً وتمنّينا الموت. وما يراه وديع سعادة ليس موتاً، بل قتل وتوزيع للمفاصل في الشتات ومشياً على الغيم والسقوط رذاذاً، وبهذا تتحوّل الحياة إلى مجموعة من التوهّمات. ففي قصيدة "حياة" – ولنلاحظ صيغة التنكير ودلالتها على افتراق هذه الحياة مع الحياة الحقيقية – يبدو الشاعر كأنه يبدّد الوقت بهذه الرسوم/ التوهّمات، إذ "رسم إناءً/ رسم زهرة في الإناء/ وطلع عطر من الورقة/ رسم كوب ماء/ شرب رشفة/ وسقى الزهرة/ رسم غرفة/ وضع في الغرفة سريراً ونام".

وعلى الرغم من اعتيادية هذه الرسوم التي تعكس رغباته البسيطة، فإنّ الانحراف الدلالي/ الشعري يحدث حين يشير إلى تحوّل الزهرة المرسومة إلى زهرة عاطرة بالفعل، بما يعني أن الرسم تحوَّل إلى حقيقة. لكن المفاجأة تحدث في النهاية حين يرسم بحراً عميقاً ليغرق فيه، وهي نهاية ليست في هذا العالم الشعري الذي تتكرّر فيه دوال الموت والغرق والاختفاء والتبدد. يقول في "غيوم" مثلاً: "الذين جرفتهم المياه إلى الوادي/ ارتفعوا غيوماً/ لم يمطروا/ وقفوا فوق/ نظروا إلى الأرض/ وتبدّدوا". فالغيوم تحمل المعنى ونقيضه: الخصوبة والتبدّد. لكن التبدّد كان مصير هؤلاء الذين جرفتهم المياه إلى الوادي. والحقيقة أن الموت يحتلّ مساحة واسعة في ديوان "بسبب غيمة على الأرجح"، فيتكرّر بصور مختلفة من قصيدة إلى أخرى في ما يشبه المتواليات الشعرية. هذا الموت الذي يحدث فجأة وسط الاستعداد للحياة مع فجر جديد. هكذا يبدو الأمر في "الموت فجراً"، إذ "يفتحون أبوابهم قبل أن تطلع الشمس/ يفتحون الدرفتين/ لتدخل الشمس كلها/ النسيم في الفجر/ سقى الزهور في الفجر/ حبّ الحياة فجراً". وسط هذه الأجواء الاحتفائية بالحياة يأتي الموت فجأة من خلال إشارات شعرية دالّة عليه حيث دخل – مع الفجر أيضاً – "شعاع من بين خشب الباب/ وصنع زيحاً أبيض على رموش مغلقة". إننا – هنا وفي نماذج أخرى – لسنا أمام تعاقب الحياة والموت بل تداخلهما وتجلّيهما في صور موازية مثل الصعود والسقوط كما يبدو في قوله "حاولوا في سواعدهم زرع ريش/ ليصيروا طيوراً/ وتساقطوا مثل الطيور".

تحول الأشخاص
وتتوازى مع هذه التيمة فكرة التحوّل حين يذوب شخص متحوّلاً إلى بحيرة: "هذه البحيرة ليست ماء/ كانت شخصاً تحدثتُ إليه طويلاً ثم ذاب". وكذلك تحوّل الأشخاص الذين كانوا شجراً باسقاً إلى قشٍّ ترفعه العصافير بمناقيرها، وتحوّل الحديد – أو تحويله – إلى سكاكين تفرم الشوارع كخسّ طازج. ففي قصيدة "وصل الحديد"، يقول: "إفعل شيئاً أرجوك/ وصل الحديد/ حديد يصهر ثانية لتحويله إلى سكاكين/ فالشوارع ستُفرم كخسّ طازج". في مثل هذه الحالات الكابوسية، يصبح فقدان الأمل في الحاضر والمستقبل أمراً وارداً ويصبح الماضي هو الملاذ المتوهّم. يقول الشاعر مخاطباً نفسه على سبيل التجريد: "أنتَ/ يا مَن حَسِب أنه عبر كل الأشياء/ جلست وقتاً أطول/ في مقهى الماضي". والجلوس في "مقهى الماضي" ليس انتظاراً لحلم ما، فأيّ حلم سيأتي "وكلّنا على قارعة الطريق نلملم انهيار الوجوه". بينما يظهر المستقبل غريباً متدلّياً في الوديان ويصبح الظلام مهيمناً: "أنتَ ولو كانت لك نجمة صغيرة/ ولو فتح الليل أحياناً حياته/ لأعواد ثقابك/ ستأخذ غير الضوء طريقاً/ وتطلّ في وقت غير مناسب/ على نافذة العالم". وهكذا تتوالى الدوال المكانية والزمانية في ديوان "ليس للمساء إخوة" من قبيل: الطريق – المسافات– الشوارع– الصحراء– القرية– الأيام– العمر– الذكرى– الماضي– السنوات التى تتحوّل إلى عبء تنبغي إبادته.

يقول في "شيء من هذا القبيل": "لم أحلم مطلقاً بأن ذلك قد يحدث/ مجموعة هائلة من السنوات/ وعليَّ أن أبيدها بمطرقة". ويستنجد الشاعر بحبّه الشرس المجنون قاطع الطريق أن يدع له ممرّاً لرحيله ولاعتزاله العالم. يقول مخاطباً حبَّه: "دعني بعيداً مع ورق الشجر أستلقي/ على حجر/ يمكنني أن أقعد مع صرصار/ أستطيع أن أغني لنملة/ أقرأ قصائدي". وإذا كنّا لاحظنا هيمنة الموت، فإنّ الشاعر يؤكّد – في نماذج أخرى – قوة إرادة الحياة. ففي قصيدة "حديقة" يتحدث عن شخص "قتلوه مرات عديدة/ حتى توزَّع جثثاً"، ومع ذلك "لم يكن يحصي شواهده/ كان فقط يتنزّه في حديقته الخلفية". ولا ينبغي أن نتعامل مع هذه الصورة بالمنطق المعتاد، بل بمنطق الشعر الذي يتجاوز الواقع. وهذا ما نجده أيضاً في "ضمير الغائب" الذي يتبع فيه الظلّ صاحبه وحين يطفئون الضوء، يتلاشى هذا الظلّ لكنه يظهر في الصباح، إذ رأت الخادمة – عندما فتحت النافذة – "ظلاً ينام وحده على الأسفلت". إنّه أثر الغائب أو علامته الدالة عليه. إنّ شعرية وديع سعادة تعبّر بامتياز عن مأزق الإنسان المعاصر في اغترابه وتشظّيه وصراعه مع الموت اليومي من دون أن يفقد الأمل تماماً في واقع مغاير.

 

اندبندنت عربية