رحلت أيقونة الفن المغربي والعربي بعد صراع مع المرض، فنانة تركت أثرا خاصا في المشهد الثقافي والفني من خلال أعمالها الفنية المهمة، انتصار لقضايا الشعب والقضايا العادلة للأمة العربية، الفنانة المسرحية والسينمائية ووزيرة الثقافة السابقة استطاعت عبر مسار فني طويل تعاملت فيه مع كبار المخرجين المسرحيين والسينمائيين أن ترسخ صورتها الرائقة في وجدان الجمهور، أينما وارتحلت.

رحيل المغربية ثريا جبران.. «سيدة المسرح» وفنانة الشعب

الطاهر الطويل

 

رزئت الساحة الفنية المغربية، عشية الاثنين، بوفاة سيدة المسرح المغربي الفنانة القديرة ثريا جبران، التي انتقلت إلى عفو الله عن 68 عاما، بعد معاناة طويلة مع المرض، مخلفة وراءها أعمالا فنية خالدة توزعت ما بين المسرح والسينما والتلفزيون، أكسبتها محبة الجمهور الواسع، خاصة بالنظر إلى ما كانت تتسم به الفنانة الراحلة من تواضع وطيبة ونبل، وهي صفات لم يؤثر فيها المنصب الوزاري حينما تقلدت ثريا حقيبة وزارة الثقافة خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول/ نوفمبر 2007 إلى تموز/ يوليو 2009.

ونعت النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية الفنانة ثريا جبران باعتبارها «واحدة من كبار شخصيات الفن والثقافة وأحد أعلام فن التمثيل في المغرب وفي العالم العربي، حيث تألقت في العديد من الأعمال المسرحية والدرامية وعملت مع العديد من الفرق المسرحية داخل وخارج المغرب، وتعاملت مع كبار الكتاب والمخرجين والممثلين المغاربة والعرب، وبصمت مسارها المسرحي بتأسيسها وتأطيرها لفرقة مسرح اليوم كأهم تجربة مسرحية محترفة ونموذجية، والتي قادتها بحنكة وكفاءة مهنية عالية رفقة زوجها المخرج عبد الواحد عوزري ونخبة من الممثلين المغاربة.»

وأضاف بلاغ النعي أنه «كانت للمرحومة أياد بيضاء في العمل التطوعي والخيري المواطن وفي توظيف مكانتها الرمزية كفنانة تحظى بحب وتقدير الجماهير، في العديد من القضايا الاجتماعية، امتدادا لحسها الشعبي والملتزم في أعمالها الفنية ومواقفها المنتصرة لقضايا المجتمع العادلة. كما تقلدت الفنانة المرحومة منصب وزيرة الثقافة في حكومة عباس الفاسي حيث أولت اهتماما خاصا لوضعية الفنانين الاجتماعية من خلال إخراج بطاقة الفنان إلى حيز الوجود، والرفع من الدعم المالي المخصص للدعم المسرحي، وتعزيز البنيات التحتية بمسارح جديدة وغير ذلك من المنجزات.»

وبالمناسبة الأليمة نفسها، نعى «بيت الشّعر في المغرب» أحدَ أعضائه البازين، الفنانة المسرحية، ووزيرة الثقافة الأسبق، الفقيدة ثُريا جبران التي وافتها المنيّة عشيّة الاثنين في مدينة الدار البيضاء بعد صراعٍ مع المرض.
وجاء في بلاغ النعي أيضا: «تعتبر الفقيدة علامةً بارزة في تاريخ المسرح المغربي، فقد استطاعت بموهبتِها أن تحظى بمكانةٍ مُعتبرة داخل قلوب ووجدان المغاربة، من خلال الأدوار المسرحية التي جسّدتها ابتداءً من خطواتها الأولى في «المسرح البلدي» إلى جانب الرائد الطيب الصديقي، وصُولا إلى تأسيسها وإدارتها الناجحة لفرقة «مسرح اليوم»ّ، وهو ما جعل منها أيقونة مغربية، ونموذجا حيّا لتلاحم الفنان مع قضايا مجتمعه، خاصة بعد أن جعلت الفقيدة من حضُورها الفنّي والمسرحي وسيلةً للتّعبير عن آمال وأحلام المغاربة في الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم. لذلك فقد استحقت الفقيدة، وعن جدارة، عضوية بيت الشعر في المغرب، إلى جانب شعراء ونقاد الشعر وقلّة من الفنانين من رجال المسرح والتشكيل والموسيقي والسينما الذين جعلوا من الشعر أفقا لاشتغالهم الإبداعي.»

واستحضر الدور البارز الذي قامت به الفقيدة لفائدة الشعر المغربي عامة، ولـ"بيت الشعر في المغرب"، الذي التحقت به عُضوًا كامل العضوية منذ تأسيسه في سنة 1996، حيث أخذت على عاتِقها التعريف بالشّعر المغربي وبرموزه ووجوهه البارزة، وتقريب مُنجزه وتجاربه بمختلف تعابيرها الفنية والجمالية واللغوية إلى الجمهور المغربي والعربي والعالمي، وذلك عبر مَسْرحَتِها للعديد من التجارب الشعرية المغربية وتقديمها على خشبة المسرح، وهو ما جعل من الشّعر رافدًا هامّا لتجربتها المسرحية، وعُنصرا بانيا لخطابها الثقافي والفنيّ.

كما ذكر بيت الشعر في المغرب بالدّعم المستمر والقويّ الذي شملت به ثريا جبران هذه المؤسسة، وذلك من خلال توظيفِ صِيتها الفنّي والإنساني وقُدرتها التواصلية في نسْج العلاقات الاجتماعية، لجعلها في خدمة الشعر المغربي والشعراء المغاربة، الأمر الذي تعزّز أكثر خلال تولّيها لحقيبة وزارة الثقافة (2007/2009)، إذ سجّل بفخرٍ كبير العناية التي خصّت به الشعر ضمن سياستها العمومية، وهو ما تجسّد في إحداث جائزة خاصّة بالشعر المغربي ضمن جائزة المغرب للكتاب، ودعم جائزة الأركانة العالمية للشعر التي يمنحها بيت الشعر بشراكة مع «صندوق الإيداع والتدبير».

حزن المثقفين

وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتدوينات صاغها مثقفون وفنانون وإعلاميون مغاربة تأثرا برحيل الفنانة الكبيرة، فكتب المبدع المسرحي عبد الكريم برشيد «رحلت سيدة المسرح المغربي والعربي، وهي التي راهنت دائما على الحضور، وكانت ضد الغياب، وكانت الناطق الرسمي باسم الحياة وباسم الجمال وباسم الفرح وباسم القيم الجميلة والنبيلة، وفي آخر كلمة وصلتني منها مصورة، من خلال حفيدتي الدكتورة ياسمين بنحيون، طمانتني، وأخبرني أنها ستواصل المقاومة.»

وغردت الباحثة والفنانة المسرحية نزهة حيكون بما يلي: «وكأن الذاكرة تستجدي صورك سيدتي علّها تخفف وطأة الفقد… 1996 أول لقاء بمهرجان أكادير للمسرح الجامعي…2019 آخر لقاء بمعرض الكتاب، وبينهما لقاءات لك على الخشبات وفي المحافل والمناسبات، صوت يعلو على كل الفداحات التي تسكننا… أردتِ مسرحا يسع أحلامك، وأردنا أن نشاركك الحلم فتركتنا في زمن الوباء…»
وترحمت الباحثة والناقدة فوزية البيض على الفنانة الموهوبة والمتفردة ثريا جبران «التي غادرت مسرح الحياة هذا الزوال في هذا الزمن المغبون بعد أن بصمت بعبقريتها تاريخ الحياة الثقافية المغربية. أبهجت الجمهور الواسع بفنها من كل الفئات العمرية، والتف حولها الكل نظرا لطيبتها وتدفق نبع إنسانيتها. لكن، في أواخر أيامها فضلت الانسحاب بهدوء.»

وتحت عنوان «وزيرة من عشب الشعب»، استحضر الإعلامي الصديق بن زينة حدثا ذا دلالة، قائلا: «في ثاني اجتماع رسمي للحكومة المغربية الجديدة دخلت ثريا جبران وزيرة الثقافة في سجال مع خالد الناصري وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة. هذا الأخير اقترح إيقاف بثّ مسلسل «المعنى عليك يا المغمض عينيك» الذي كانت تبثه قناة «دوزيم» على أساس أنّ الأدوار الهزلية التي تؤديها جبران، بطلة المسلسل، قد تؤثر في صورتها وزيرةً، وقد يتضرّر منها الأداء الحكومي. هذا الاقتراح رفضته جبران، معتبرةً أنّ نظرته إلى فن التمثيل شديدة السطحية، وأن سلسلتها الفكاهية عمل إبداعي ينبع من هموم المجتمع. قبل أن تضيف أن عملها يمكن أن يساعد أفراد الحكومة في النزول من أبراجهم العاجية، والاقتراب من نبض الشارع.»

وكتب الناقد والمخرج السينمائي عبد الإله الجوهري: «ثريا جبران تغادر عالمنا مخلفة إرثا فنيا محترما، وسيرة عطرة بين الناس. صديقة الجميع ومناضلة من الدرجة الأولى. لم تتغير رغم أنها احتلت المراتب الأولى في الفن. وتولت حقيبة وزيرة الثقافة الذي سمح باكتشاف معدنها الأصيل وحبها للأصدقاء والناس قبل المنصب. ستظل ثريا في سماء ثقافتنا الفنية المغربية مهما طال الزمن نجما مضيئا للأجيال التالية.»
ورثى الممثل والمخرج إدريس الروخ ثريا جبران بالكلمات التالية: «وداعا سيدتي، وداعا يا ثريا المسرح المغربي، وداعا ايتها الرائعة، الصديقة، الفنانة، المبدعة، الرمز. لن ننساك أبدا، سنحتفظ بك في الذاكرة، في القلب. لقد سكنت فينا ولن تخرجي ابدا من دواخلنا… أحببناك لأنك منا، وعشقناك لأنك توزعين رسائل الحب لكل واحد منا. أسعدتنا كثيرا. فشكرا لك با قلب الركح ويا دقة المسرح ويا كشاف الحقيقة في ساعة الحقيقة. شكرا لك يا سيدة الشخصيات القوية والمعبرة…»

مسار فني متألق
في آخر حوار أجري معها، ونشرته الباحثة فوزية البيض بمجلة «الفنون» المغربية، استحضرت ثريا جبران محطات من مسارها الفني، فرجعت إلى مرحلة الطفولة مشيرة إلى أنها تعرفت في حي «عين الشق» بمدينة الدار البيضاء على مسابقات العدو الريفي، وعلى الحلقات الشعبية ومسرح الهواة، وخصوصا سينما الرائد محمد عصفور الذي بفضله تمكنت من اكتشاف عالم الصورة. وفي درب «بوشنتوف» وقفت لأول مرة على خشبة المسرح بفضل زوج أختها الذي كانت ترافقه منذ سن العاشرة لدرجة أن الجميع كان يناديها بثريا بنت جبران.

اختارها المخرج محمد التسولي للمشاركة في مسرحية «يوسف بن تاشفين» التي نالت عنها جائزة أحسن أداء نسائي في الإقصائيات الإقليمية لمسرح الهواة في الدار البيضاء. وبفضل ذلك التتويج تم انتدابها للمشاركة في أحد تدريبات الشبيبة والرياضة بغابة المعمورة صيف 1968 حيث التقت فنانين كبارا، ضمنهم المخرج فريد بنمبارك الذي شجعها على المشاركة في مباراة ولوج المعهد الوطني التابع لوزارة الشؤون الثقافية والتعليم الأصلي في الرباط. وذلك ما تم فعلا حيث دامت الدراسة هناك أربع سنوات (من سنة 1968 إلى 1973) تلقت خلالها دروسا من كبار الأساتذة من أمثال عبد الصمد الكنفاوي وعبد الله شقرون وغيرهما.
بعد التخرج توظفت في وزارة الثقافة، لكنها تركتها لينطلق مسارها الاحترافي؛ التحقت بفرقتي المعمورة والقناع الصغير اللتين تعرضتا معا للإجهاض لذلك عادت إلى الدار البيضاء لتساهم في تأسيس عدد من الفرق الحرة كمسرح 80 ومسرح الشعب، ثم فرقة محمد الخلفي؛ إلى أن كان اللقاء مع الفنان المسرحي الطيب الصديقي، الذي اعتبرته بمثابة الأب والأخ والمعلم الذي منحها إمكانيات الامتداد والانفتاح على دول الشرق والغرب. لقد شاركت معه في أعمال خالدة مكنتني من اللقاء بأشهر الفنانين والمؤلفين، وبإشرافه شاركت سنة 1985 في إطار فرقة الممثلين العرب في مسرحية «ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ» من تأليف الدكتور وليد سيف. في هذا العمل الكبير كانت لها فرصة الوقوف إلى جانب عمالقة التمثيل في العالم العربي كنضال الأشقر ورفيق علي أحمد من لبنان ولينا التل من الأردن وسونيا من الجزائر وقاسم محمد وسامي قفطان من العراق.

بعد ذلك جاءت تجربة مسرح اليوم التي اعتبرتها محطة التتويج بالنسبة لمسارها المهني حيث عملت رفقة زوجها المخرج عبد الواحد عوزري على جعلها ورشة مفتوحة في وجه الشباب الذين أصبحوا نجوما في ما بعد أمثال المرحوم محمد بسطاوي وعبد اللطيف خمولي ورشيد الوالي ومحمد خيي، كما شكل قاطرة لممارسي هذا الفن، خاصة خريجي المعهد العالي للمسرح.

وتعترف أن التلفزة هي التي وسعت دائرة شهرتها لدى عموم المشاهدين. كما كانت لديها مشاركات نوعية في عدد من الأفلام المغربية. لكن المسرح صار مع توالي السنين بيتها الأول، والماء الطبيعي الذي تستحم به يوميا.

كما حصلت على جوائز وأوسمة داخل المغرب وخارجه. كما حظيت بأصناف الاحتفاء من طرف الجامعات والجمعيات وبعض الوزارات. كما تم تكريمي في الجزائر وسوريا وليبيا والأردن وأمريكا الشمالية والصين.

  • حاصلة على وسام الاستحقاق الوطني من طرف العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني.
  • حاصلة على وسام الاستحقاق الوطني من درجة فارس من طرف العاهل المغربي محمد السادس.
  • حاصلة على وسام جوقة الشرف الفرنسي من طرف رئيس الجمهورية الفرنسية السابق نيكولا ساركوزي.
  • حاصلة على وسام الجمهورية الفرنسية للفنون والآداب من درجة فارس.
  • حاصلة على الوسام القرمزي للأكاديمية الفرنسية للفنون والعلوم والآداب.
  • تكريم من دولة فلسطين بمناسبة نجاح الدورة 16 لمعرض الكتاب.
  • تكريم من جامعة جورجيا الأمريكية سنة 2017.
  • تكريم من طرف منظمة الأمم المتحدة بتعاون مع جمعية ثقافات بلا حدود سنة 2018.
  • تتويج من درجة عالية في مهرجان قرطاج الدولي سنة 2019.
  • تكريم من طرف مهرجان المسرح العربي في القاهرة سنة 2008.
  • تكريم من طرف الهيئة العربية للمسرح في الرباط سنة 2015.