يستشرف الباحث الفلسطيني المرموق هنا طبيعة الخطط الجهنمية التي تسعى عبرها دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين لتغيير طبيعة الصراع العربي الصهيوني من صراع ضد استعمار استيطاني إلى خلاف ديني لابد له أن ينتهي باستيعاب «أولاد العم» داخل الجسد العربي، وربما داخل مؤسساته السياسية في المستقبل.

في العيد الماسي لتأسيسها

جامعة للدول العربية أم الإبراهيمية؟!

في خدمة بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل

جوزيف مسعد

 

بينما تعلن دول خليجية واحدة تلو الأخرى عن إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، يتطلع البعض إلى جامعة الدول العربية لتقوم بإدانة هذا التطبيع. ولكن جامعة الدول العربية لن تحقق أمانيهم. ولكي نفهم سبب عدم إمكانية الجامعة اتخاذ خطوة من هذا القبيل، يتعين علينا العودة إلى تاريخ تأسيسها. قبل خمسة وسبعين عاما. فقد تأسست جامعة الدول العربية عام 1945 بتحريض وتخطيط من بريطانيا لضمان مصالح الإمبراطورية البريطانية. وقد حرص البريطانيون على تسليم عهدة قضية فلسطين إلى الدول العربية المستقلة، لإعفاء بريطانيا من المسؤولية عما فعلته بالبلد. وبعد خمسة وسبعين عاما على تأسيسها، طرأت تغيرات عديدة على الجامعة لدرجة يصعب فيها التعرّف عليها، باستثناء دورها الرئيسي في خدمة المصالح الإمبريالية والذي بقي ثابتا دون تغيير.

في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى في فترة 1936- 1939، التي قتل خلالها البريطانيون 5000 فلسطيني وأعدموا ونفوا القادة الفلسطينيين، تزايد العداء لبريطانيا في أنحاء الشرق العربي. تجلى ذلك بشكل واضح في انقلاب نيسان/ أبريل 1941 الذي قام به رشيد عالي الكيلاني في العراق، والذي نجح البريطانيون في تقويضه بعد شهر. وفي حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 1941، قام البريطانيون باجتياح سوريا ولبنان لإنهاء حكم نظام فيشي الفرنسي هناك (الذي كان تحت إمرة ألمانيا النازية)، والذي كان قد أرسل مساعدات عسكرية إلى رشيد عالي في الربيع. وقد أجبرت هزيمة فرنسيي فيشي الجنرال ديغول المقيم في المنفى، على منح الاستقلال لسوريا ولبنان في عام 1943. وقد ضمن ذلك أن سوريا الكبرى والعراق ومصر وشبه الجزيرة العربية أضحت تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية الكاملة، حتى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من ذلك، فإن إدراك البريطانيين بأن الكارثة التي ألحقوها بالفلسطينيين من خلال رعايتهم المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني سيطارد البريطانيين في المستقبل المنظور، بالإضافة إلى قلقهم من ازدياد المشاعر الشعبية المعادية لبريطانيا في جميع أنحاء المنطقة، قد دفع بالبريطانيين إلى التفكير في كيفية ضمان استمرار الهيمنة الإمبريالية البريطانية بعد الحرب. وهكذا ولد المشروع بدعم بريطانيا لشكل من أشكال "الوحدة" العربية، وهو ما من شأنه أن يضمن إنهاء أي نفوذ لخصم بريطانيا التاريخي، فرنسا، كان لا يزال يتمتع به في الشرق العربي، ويعزز المصالح البريطانية ضد التهديد السوفييتي المحتمل لنفط شبه الجزيرة العربية، وينقل عهدة إدارة المسألة الفلسطينية لهذه "الوحدة" العربية الناشئة.

كان الاجتياح البريطاني لسوريا ولبنان الخطوة التدشينية الحاسمة لهذه الخطة. وقد رعى العراق الهاشمي الجهود المبكرة لهذه الوحدة المتوقعة في تحالف (وتنافس) مع أمير شرق الأردن الهاشمي عبد الله. كان لدى عبد الله خطط كي يصبح ملك سوريا الكبرى منذ الحرب العالمية الأولى، وكان يأمل أن يحقق المشروع البريطاني الإمبريالي الجديد طموحاته هذه، لكن توقعاته باءت بالفشل. إلا أن عبد الله سيتوصل إلى اتفاق مع الصهاينة للسيطرة على الجزء الوسطي والشرقي من فلسطين في عام 1948، وقام بتنصيب نفسه ملكا عليها. أما السوريون واللبنانيون فكانوا ملتزمين بإقامة أنظمة جمهورية.

وقد دفع التنافس التاريخي بين الهاشميين والسعوديين إلى معارضة الأخيرين خطط عبد الله. وقد كان فاروق، ملك مصر، قلقا من منافسة الهيمنة العراقية والهاشمية لمصر، وكان معاديا للسعوديين الذين خاضت مصر حربا ضدهم في القرن التاسع عشر. لذلك أصر فاروق ورئيس وزرائه مصطفى النحاس على أن مصر هي من سيقود الوحدة العربية الناشئة. ونتيجة لذلك، تم التخلي عن مشروع الوحدة بين سوريا الكبرى والعراق، وعن أي شكل من أشكال الفيدرالية بين هذه الدول، حيث اعتبرت الأخيرة بمثابة تهديد لاستقلال وسيادة السلالات الحاكمة. ولم يؤيد الوحدة الكاملة سوى سوريا ورئيسها شكري القوتلي فقط. وقد وضعت الدول العربية في اجتماع لها في الإسكندرية في تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٤٤، وفقا للإملاءات البريطانية، بروتوكولا للوحدة، تم تخفيف مواده في الميثاق النهائي الذي تبنته الدول العربية كأساس لتأسيس جامعة الدول العربية في آذار/ مارس 1945. وقد تشكلت هيئتها التأسيسية من المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا ولبنان وشرق الأردن واليمن، الأعضاء المؤسسين، إضافة إلى فلسطين التي مثّلها السياسي الوطني الفلسطيني موسى العلمي.

نصت المادة 2 من الميثاق على أن "الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقا للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها. "كما تضمن ملحقا خاصا بفلسطين: "فإن ميثاق عصبة [الأمم] في ١٩١٩ لم يقرر النظام الذي وضعه لـ[فلسطين] إلا على أساس الاعتراف باستقلالها، فوجودها واستقلالها الدولي من الناحية الشرعية أمر لا شك فيه. كما أنه لا شك في استقلال البلاد العربية الأخرى. وإلى أن يتمتع هذا القُطر بممارسة استقلاله فعلا، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للمشاركة في أعماله". وقد نأت الجامعة، من خلال تبنيها لفلسطين، بالبريطانيين بشكل أساسي عن أي مسؤولية عما سيحل بالبلاد مستقبلا. وهكذا أصبحت الجامعة جاهزة لخدمة جميع المصالح التي حددتها لها بريطانيا.

وعندما تم استبدال النفوذ البريطاني بالنفوذ الإمبريالي الأمريكي في الخمسينيات من القرن الماضي، كان صعود جمال عبد الناصر والأنظمة اليسارية العربية الأخرى في الخمسينيات والستينيات قد أدى إلى تخريب الالتزامات الأساسية للجامعة لصالح أجندة مناهضة للإمبريالية. وقد شن الحكام العرب الذين يخدمون الغرب حربا شعواء على عبد الناصر كي يستعيدوا الجامعة منه، وهو ما نجحوا فيه بعد هزيمة 1967. لكن إبان ذروة سلطة عبد الناصر في عام 1964، كانت الجامعة قد قامت بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الجهاز التمثيلي الرئيس للشعب الفلسطيني. وقد قام الملك حسين، ملك الأردن، الذي عزز بحلول منتصف الستينيات صداقته السرية وصداقة نظامه وتحالفه مع الإسرائيليين، والتي كان جده الأمير عبد الله قد استهلها في عشرينيات القرن الماضي، بتحدي الدور التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية على مدى السنوات اللاحقة.

لقد تم إضفاء الطابع الرسمي على التزام الجامعة الصوري تجاه فلسطين في عام 1974، عندما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" وأجبرت الملك حسين على الرضوخ للقرار الجديد. وقد كانت الخطة تقوم على إعادة توجيه منظمة التحرير الفلسطينية بتأن بعيدا عن السياسة الثورية، وإدخالها في تسوية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد نظرت الجامعة إلى اتفاقية كامب دافيد للسلام التي أبرمها أنور السادات مع إسرائيل في عام 1979 على أنها سابقة لأوانها، وكانت هناك مخاوف من أن تصرفات السادات التي قام بها دون استشارة الجامعة ربما أضعفت جهود الجامعة لتحقيق الخطط الأمريكية للمنطقة باستباقه للأمور. ونتيجة لذلك، علقت الجامعة على الفور عضوية مصر وفرضت عقوبات عليها وقاطعتها، كما قطعت الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر واستدعت سفراءها. ونقلت الجامعة مقرها إلى تونس واختارت تونسيا لمنصب أمينها العام، وهو المنصب الذي شغله مصريون حصريا منذ عام 1945.

رفض السادات قرار الجامعة، وقام بتجميد جميع أرصدتها المالية والبالغة 43 مليون دولار في البنوك المصرية، وصادر أرشيفها الموجود في مبنى الجامعة، ومنع موظفيها المصريين من الانتقال إلى تونس. أما الأمن المصري، فقد قام بإخضاع مسؤولي الجامعة للتفتيش المذل في المطار لمنعهم من نقل الأوراق الرسمية التابعة للجامعة، بمن فيهم عبد الحسن زلزلة (عراقي)، مساعد الأمين العام للشؤون الاقتصادية، قبل السماح لهم بمغادرة القاهرة.

وفي آب/ أغسطس 1981، قرر ولي العهد السعودي الأمير فهد أن الوقت قد أصبح مناسبا للدفع بأجندة الجامعة، وكشف عن خطته للاعتراف العربي بإسرائيل مقابل الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود ما قبل حزيران/ يونيو 1967 وإقامة دولة فلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تضمنت خطته شروطا أفضل قليلا من صفقة السادات في كامب ديفيد التي سبقتها بعامين، والتي ضمنت حكما ذاتيا للضفة الغربية وغزة لا أكثر.
في تلك الأثناء، وبعد تحييد الأمريكيين والإسرائيليين لمصر، حصلت إسرائيل على حرية التصرف في لبنان وغزوه وتدمير القوات العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فقامت باجتياح البلاد عام 1978 ومرة أخرى عام 1982، عندما نجحت في هزيمة منظمة التحرير في نهاية الصيف. وبعد هزيمة المنظمة، أعلن الأمريكيون على الفور في 1 أيلول/ سبتمبر 1982 عن خطة ريغان، التي أصرت على أن الولايات المتحدة لن تقبل بأكثر من استعادة السيطرة الأردنية على الضفة الغربية فقط مع تمثيل فلسطيني، لكن غير تابع لمنظمة التحرير، على شكل كونفدرالية، والتي بموجبها سيحصل الفلسطينيون على قدر من الحكم الذاتي، كما اتفق عليه في كامب ديفيد، ولكن ليس الاستقلال.

وقد كان رد الجامعة الرسمي على ريغان عبر القرار الذي أصدرته في قمة فاس الذي عقد بين 6 و9 أيلول/ سبتمبر باعتمادها خطة فهد (الذي أصبح ملكا في هذه الأثناء) رسميا كأساس لـ"السلام" مع إسرائيل. وقد قام الملك حسين الذي كان حريصا، بقدر ما كان جده حريصا، على حرمان الفلسطينيين من الاستقلال، بإعلان دعمه لخطة ريغان في14 أيلول/ سبتمبر 1982.

سعى السعوديون، الذين عبّروا عن قلق متزايد بشأن التهديد الثوري الإيراني المزعوم لنظامهم، إلى كسب تأييد ياسر عرفات لنسخة معدلة من خطة ريغان، وأرادوا منه إعادة مصر إلى الحظيرة العربية. فاستجاب عرفات لهم وبدأ على الفور بالتفاوض مع الملك حسين، وأرسل وفدا من منظمة التحرير إلى القاهرة في تشرين الأول/ أكتوبر 1982 لإجراء محادثات، وبذلك كسر المقاطعة العربية الرسمية لمصر. وسرعان ما نتجت عن سياسية عرفات معارضة كبيرة داخل منظمة التحرير الفلسطينية وداخل منظمة فتح، لا سيما عندما وافق عرفات في آذار/ مارس 1983، مع الملك حسين، على شروط ريغان باستبعاد مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية من الوفد الأردني الفلسطيني المشترك المطروح في خطة ريغان. وقد رفضت لجنة فتح المركزية هذا الترتيب ومنعت عرفات من ترسيمه. ونظرا لإحباط خطته بخدمة المصالح الأمريكية، تبرأ الملك حسين من عرفات على الفور وأنهى كل المحادثات معه.

اندلعت ثورة ضد عرفات داخل فتح، بدعم من النظامين السوري والليبي، وأدت إلى اشتباكات بين المنشقين والموالين لعرفات أدت إلى هزيمته. طُرد عرفات أخيرا من لبنان في كانون الأول/ ديسمبر 1983، تحت رعاية البحرية الفرنسية التي حمته من الإسرائيليين. وفي طريقه إلى تونس، توقف عرفات في مصر، حيث احتضن حسني مبارك، ودشن عملية إعادة تأهيل مصر، رغم أن علاقات مبارك الوثيقة مع الإسرائيليين لم تكن قد تزعزعت البتة. وأصر السعوديون، نيابة عن الأمريكيين، على أن إعادة تأهيل مصر كانت ضرورية لمواجهة التهديد الإيراني، حتى لو كانت مصر قد أضحت حليفة لإسرائيل.

وبعد أن فتح عرفات الطريق، قررت قمة الجامعة المجتمعة في عمّان عام 1987 أن لكل دولة حرية إعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع مصر. وكان المبرر الرسمي هو الإصرار السعودي على مخاطر "التهديد" الإيراني للعالم العربي، والذي فشل غزو صدام لإيران منذ عام 1980، الذي قام به صدام لحماية السعوديين وعائلات النفط الخليجية، في تحييده. فأصر السعوديون، نيابة عن الأمريكيين، على أن إعادة تأهيل مصر كانت ضرورية لمواجهة التهديد الإيراني، حتى لو كانت مصر قد أضحت حليفة لإسرائيل. ودعما للسعوديين، قام الأردن والعراق والإمارات العربية المتحدة بالدعوة علنا إلى عودة مصر. وأوضح عرفات أن القادة العرب يرصّون الصفوف في مواجهة التهديدات الإيرانية. وبذلك تمت إعادة مصر إلى الجامعة في عام 1989، وأعيد مقر الجامعة إلى القاهرة في عام 1990.

وهكذا بدأ عهد جديد في هذا العام كان من شأنه أن يغير وظائف الجامعة المحددة منذ ١٩٤٥. فعندما قررت الولايات المتحدة غزو شبه الجزيرة العربية لطرد العراق من الكويت في بداية عام 1991، لم تعد جامعة الدول العربية قائمة كهيئة تداولية في خدمة المصالح الإمبريالية الغربية، بل أصبحت مُنفّذا للأوامر والإرادة الأمريكية دون مداولات. وفي غضون ذلك، كانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي هُزمت عسكريا في عام 1982، قد هُزمت ماليا عندما أوقفت دول الخليج دعمها المالي لها بسبب موقف عرفات من الغزو الأمريكي للجزيرة العربية، وهُزمت دبلوماسيا بانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي في عام 1991.

ومنذ هزيمة صدام حسين في عام 2003، كثف السعوديون ودول الخليج حملتهم ضد ما يسمى بالتهديد الإيراني لأنظمتهم، وهم يصرون على أن هذا التهديد المزعوم يبرر التحالف مع إسرائيل. فإذا كانت مصر قد أعيدت إلى الحظيرة العربية في أواخر الثمانينيات كحليف لإسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني، فإن الأنظمة الخليجية وراعيها الأمريكي اليوم يصرون على أن إسرائيل نفسها يجب أن تنضم إلى هذه المجموعة، أو ربما، وبشكل أكثر دقة، أنه يجب إدخال العالم العربي إلى الحظيرة الإسرائيلية. أما أن السعوديين والأمريكيين قد أوكلوا إلى منظمة التحرير الفلسطينية وعرفات مهمة استعادة مصر في ثمانينيات القرن الماضي، فليس من قبيل المفارقة، لا سيما بالنظر إلى تفريط عرفات ومنظمة التحرير لاحقا بالمصالح الفلسطينية في أوسلو عام 1993. ورغم ذلك، فإن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، اللتين تعاونتا منذ أوائل الثمانينيات مع الأمريكيين والملك حسين وأنظمة الخليج والمحتل الإسرائيلي، كجزء من الأجندة الإمبريالية لإسقاط النظام الإيراني، قد فوجئتا في الأسابيع الأخيرة عندما اكتشفتا أن خدماتهما لم تعد مطلوبة.

ففي اجتماع الشهر الماضي لوزراء الخارجية العرب، رفض أعضاء الجامعة النظر في قرار قدمه ما يسمى بـ"وزير خارجية" السلطة الفلسطينية لإدانة اتفاق السلام الأخير بين الإمارات وإسرائيل. وقد قاد الأردن ومصر والإمارات الحملة ضد اقتراح السلطة الفلسطينية، كما كان الأردن والإمارات قد فعلا في عام 1987 لإعادة تأهيل مصر. وقد قوبل اتفاق السلام البحريني هذا الأسبوع بتـأييد مصر والأردن، وإن كان الأخير لم يؤيده بنفس الحرارة.

إن التزام الجامعة السابق للدول الأعضاء "بحماية استقلالها وسيادتها" أصبح بلا قيمة، بعدما تم التخلي بسهولة عن استقلال فلسطين والعراق لصالح القوى الإمبريالية والاستعمارية. فمن الواضح أن جامعة الدول العربية قد أوفت بالتزاماتها الإمبريالية بشكل جيد للغاية منذ تأسيسها عام 1945، ونجحت في القضاء على المحاولات الشجاعة التي قام بها عبد الناصر لجعلها تخدم الشعوب العربية، وبعد 1990/ 1991 أصبحت مجرد منفّذِة لإرادة الولايات المتحدة. قريبا، ربما ستفي بالتزامها النهائي بدعوة إسرائيل، لتصبح عضوا قياديا في جامعة جديدة وموسعة، وبالتالي تكون قد قامت بتصفية القضية الفلسطينية، التي ورّثتها لها بريطانيا، مرة أخيرة وإلى الأبد.

استحضار إبراهيم والاستعمار الصهيوني
أطلق دونالد ترامب اسم «اتفاق إبراهام» على اتفاقية التطبيع الأخيرة التي توسطت فيها الولايات المتحدة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، والتي أبرمت في 13 من آب/ أغسطس الحالي. وقد أعلن ترامب بهذه المناسبة أن "المسلمين الإماراتيين يمكنهم الآن الصلاة في المسجد الأقصى التاريخي في القدس، ثالث أقدس الأماكن في الإسلام". لكن عملية استحضار إبراهيم ومسألة الدين ليست بدعة ترامبية البتة. فعندما رعى جيمي كارتر اتفاقية التطبيع الأخرى التي توسطت فيها الولايات المتحدة بين إسرائيل ومصر في عامي 1978 و1979، أي اتفاقية كامب ديفيد بين أنور السادات ومناحيم بيغن، أعلن كارتر التالي: "دعونا نضع الحرب جانبا الآن. ودعونا نكافئ الآن جميع أبناء إبراهيم الذين يتوقون إلى سلام شامل في الشرق الأوسط. ولننعم الآن بمغامرة أن نصبح بشرا بالكامل، وجيرانا بالكامل، وحتى إخوة وأخوات."

وعند توقيع اتفاقات أوسلو في عام 1993 بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي رعى الحفل في البيت الأبيض، التالي: «بالنسبة إليهم، علينا أن ندرك نبوءة أشعيا بأن صرخات العنف لن تسمع بعد الآن في أرضك ولن تدمر أو تخرب داخل حدودك. لقد انطلق أبناء إبراهيم، نسل إسحاق وإسماعيل، معا في رحلة جريئة. ونحن اليوم ندعو لهم معا، من صميم قلوبنا ومن أعماق نفوسنا أن يعم بينهم شالوم، سلام، وبيس.»

رغم ذلك، لم يقم كلينتون باستحضار إبراهيم في خطابه في أثناء مراسم توقيع معاهدة التطبيع التي توسطت فيها الولايات المتحدة في عام 1994 بين إسرائيل والأردن، لكنه أكد أنه "في فجر هذا السلام الذي لم نشهد له مثيلا منذ جيل، فإننا نحتفل في هذا الموقع القديم بتاريخ وإيمان الأردنيين والإسرائيليين"، واقتبس آيات من القرآن والتوراة. ويبدو أن كلينتون كان قد سلم مهمة استحضار إبراهيم في هذه المناسبة إلى الملك حسين الذي أعلن بدوره: "فلنتذكر هذا اليوم طوال حياتنا ولتتذكره أجيال المستقبل من أردنيين وإسرائيليين وعرب وفلسطينيين، وجميعهم أبناء إبراهيم". وعندما توترت العلاقات في وقت لاحق بين الملك حسين وبنيامين نتنياهو في عام 1997، كتب له حسين رسالة توبيخ، استحضر فيها إبراهيم مرة أخرى؛ "إن الحقيقة المرة التي تتراءى لي هي أنني لا أجد فيك شخصا يقف بجانبي لتنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى لتحقيق مصالحة نهائية بين أحفاد إبراهيم عليه السلام كافة".

ثمة علاقة مباشرة بين عملية استحضار إبراهيم والبدعة الغربية الاستشراقية، الحديثة نسبيا، لمصطلح "الأديان الإبراهيمية"، التي تُنسب زورا إلى المسلمين، للإشارة إلى الديانات السماوية الثلاث. وبدعة "الأديان الإبراهيمية" هنا ليست سوى تحريف للطرح القرآني لفكرة «ملة إبراهيم». ومصطلح "الأديان الإبراهيمية" غير معروف باللغتين العربية أو العبرية (إلا عبر الترجمة عن الإنجليزية). والغرض من استحضار إبراهيم في هذا السياق هو تقديم الحركة الاستعمارية اليهودية الأوروبية، التي سعت إلى احتلال فلسطين وتحويلها إلى مستعمرة استيطانية يهودية، باعتبارها مسعى دينيا يهوديا وليست مشروعا استعماريا أوروبيا، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني والعربي لهذا الاستعمار الأوروبي لم تكن سوى صراع دينيّ بين المسلمين من ناحية (غالبا ما يتم في الغرب تجاهل نضالات المسيحيين الفلسطينيين الذين كانوا ولا يزالون في طليعة مقاومة الصهيونية منذ نشأتها) واليهود من ناحية أخرى، في حين أن غالبية اليهود والمنظمات اليهودية، ولا سيما الطائفتان اليهوديتان الرئيسيتان وهما الأرثوذكسية واليهودية الإصلاحية، عارضوا الصهيونية منذ نشأتها في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

هنا علينا أن نذكر أن الدعاية الصهيونية التي تبنت الفكرة البروتستانتية والمعادية للسامية بأن يهود أوروبا ليسوا أوروبيين بل هم أحفاد العبرانيين الفلسطينيين القدماء، ومن ثم فإن استعمار اليهود الأوروبيين لأرض الفلسطينيين لم يكن إلا عملية "عودة" اليهود إلى ديارهم، وأن الفلسطينيين أهل الأرض الأصليين، هم في الواقع المستعمرون الحقيقيون، ليست إلا حجة مسروقة من الاستعمار الأوروبي، كما هو الحال مع معظم الحجج الصهيونية الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك، زعم المستعمرين الفرنسيين البيض في الجزائر بأنهم هم السكان الأصليون للجزائر التي حكمها أسلافهم المزعومون من الرومان، وأن استيطانهم في البلاد هو في الحقيقة عملية استعادة أراضي الإمبراطورية الرومانية. وقد رأى الكاتب الفرنسي لوي برتران في أواخر القرن التاسع عشر بأن المستعمرين الأوروبيين للجزائر هم بمنزلة "بوتقة لاتينية حملت تراث الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا، وما قاموا به هو استعادة أرض كانت من حقهم".

ويتم استحضار إبراهيم في هذه السياقات كغطاء للاستعمار الصهيوني، ولتغليف هذه الحركة الاستعمارية الاستيطانية المفترسة بهالة دينية، ولتقديم نضال الفلسطينيين الأصليين ضد الاستعمار على أنه صراع ديني بين «أبناء إبراهيم»، فليس من المستغرب أن يتبنى هؤلاء القادة العرب الذين التزموا بالصهيونية ذات اللغة، لأن جوهر تأييد الصهيونية هو الاتفاق على طمس طبيعتها الاستعمارية، بحيث تصوّر كل مقاومة لها على أنها تحيّز ضد اليهود، أو حتى ضد المحبة الأخوية التي فرضها إله إبراهيم على البشر. أما الجهود السعودية والبحرينية والإماراتية في العقدين الماضيين لرعاية ما يسمى بـ"الحوار" بين الأديان و"التسامح"، فهي جزء لا يتجزأ من استراتيجية إعادة كتابة التاريخ الاستعماري للصهيونية، باعتباره "صراعا دينيا" لا غير.

دعونا نضع جانبا هذه المحاولة لإضفاء الشرعية على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني من خلال إعادة صياغته على أنه صراع ديني وأخوي جانبا، ولنقيّم عملية استحضار إبراهيم وفقا لشروطها المزعومة. فلنفترض أن هدف هؤلاء القادة الإمبرياليين الأمريكيين والطغاة العرب غير المنتخبين من استحضار إبراهيم في سياق القضية الفلسطينية هو تحقيق غاية تصالحية، لدمج الأديان في منطقتنا تحت المظلة الواسعة للأخوّة الإبراهيمية، على أمل تقديم مشروع تصالحي في خضم صراع يطغى فيه الدين على الجوانب السياسية. إذا وضعنا جانبا للحظة هذه الخطوة اللاتسييسية، التي تصرف الانتباه عن الماضي والحاضر الاستعماريين لهذا "الصراع"، وتتجنب مجمل مسألة العدالة وإنهاء الاستعمار بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن عملية استحضار إبراهيم ستتعثر من تلقاء ذاتها، وليس فقط نتيجة عملية اللاتسييس هذه.

وهذا لأنه حتى لو لم تكن الدعوات التكاملية والتصالحية بين "الأديان" تهدف لصرف الانتباه عن الجوانب السياسية لـ"الصراع" بهذه الطريقة، فإن مثل هذه الاستحضارات لا يمكن أن تكون ذات مغزى، إلا إذا كان هذا الصلح المفترض بين هذه الأديان، التي يُزعم أنها متصارعة، جزءا من الحياة والممارسات اليومية، والطقوس، والأعياد، والأعراف، والسلوك المجتمعي. فإن مناشدة هذه العوامل التكاملية في مثل هذا السيناريو، قد يكون له بالفعل تأثير في إثبات أن "الصراع" القائم زعما بين هذه "الأديان"، هو جزء من التلاعب السياسي الزائف والملفق، ومن ثم علينا التخلي عنه.

لكن ما نجده في عملية استحضار إبراهيم هو العكس تماما؛ حيث إن الواقع المعاش للماضي والحاضر الاستعماري هو واقع المعاملة الوحشية العميقة والمستمرة والمعتادة التي يتعرض لها شعب من قبل شعب آخر. ففي حالة اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، لم تكن هناك، وليست هنالك قواسم مشتركة للعيش معا خارج تاريخ احتلال المستعمرين اليهود الأوروبيين للأرض، أكثر مما كان عليه الحال في واقع السود والبيض في جنوب أفريقيا في أثناء الاستعمار ونظام الفصل العنصري. أما بالنسبة إلى المستعمرين اليهود العرب، فما تبقى من ذكرياتهم عن القواسم المشتركة في العيش بينهم وبين جيرانهم العرب المسلمين والمسيحيين في تلك البلدان العربية التي جاء منها اليهود العرب إلى فلسطين، فهي ذكريات منفصلة تماما وغير ذات صلة بالعلاقة الاستعمارية التي أقامها اليهود العرب مع الشعب الفلسطيني، شأنهم في ذلك شأن اليهود الأوروبيين. فاستدعاء إبراهيم في هذا السياق الاستعماري ليس استدعاء لواقع مُعاش، بل هو استحضار لأمر وهمي ومزيف، يراد به تحويل اليهود المستعمرين في فلسطين، التي وصلوا إليها منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر كغزاة مستعمرين، إلى سكان فلسطين الأصليين.

لقد كانت هنالك محاولات متعددة الجوانب منذ أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم لإعادة صياغة الاستعمار الصهيوني على أنه ليس كولونياليا على الإطلاق. كانت إحداها الزعم بأن المقاومة الفلسطينية المعادية للصهيونية ليست أكثر من تعبير عن "صراع بين قوميات متنافسة"، أو أنها صراع قديم بين شعبين "ساميّين" ("الساميون" هو تصنيف أوروبي عنصري اخترعه مستشرقون أوروبيون في أواخر القرن الثامن عشر) تعود خصومتهما إلى آلاف السنين، أو أن طبيعة ما يجري بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين الأصليين هو مجرد «نزاع»؛ والأخير مصطلح لا يستخدم أبدا لوصف النضالات الجزائرية أو الزيمبابوية أو الكينية ضد الاستعمار الاستيطاني، على سبيل المثال.

وليس استحضار إبراهيم هنا إلا آخر وأحدث هذه المحاولات لإعادة كتابة الواقع الاستعماري المروع للصهيونية وإسرائيل عبر تصوير هذا الصراع على أنه خلاف ديني بين الإخوة. وبينما قد يكون بعض القادة العرب قد قبلوا بهذه الصيغة، إلا أن الشعب الفلسطيني المستعمَر يثبت في مقاومته اليومية للاستعمار الصهيوني المستمر لأراضيه، أن لا استحضار إبراهيم ولا استحضار أي نبي آخر سيجعلهم يقتنعون بأن ما يتعرضون له من نهب استعماري واستيطاني هو مجرد خلاف بين الأديان.