تكشف هذه الدراسة للرواية التي نشرتها (الكلمة) في يناير الماضي عن تضافر البصيرة النقدية المرهفة مع رؤى عالمة اجتماع حصيفة، في قراءة تفتح الرواية على الواقع العربي وعوالم مهمشيه الممتدة من اليمن حتى المغرب، وعلى اشتباكها الإشكالي مع المحرمات الثلاثة: المعتقدي والسياسي والجنسي.

بين عمومية الانكفاء المحلي وخصوصية المستبد الشمولية

(قراءة في رواية باطيو بينطو) لعبداللطيف الإدريس

صباح الإرياني

عتبات الباطيو: خشبة مسرح مفتوحة على الحياة بشخوص سرابية:
يشير "الباطيو" وهي الكلمة الأولى من العنوان، في المخيال المحلي، وذلك حسب ما يظهر جليا في الرواية(1)، إلى حومة أو حارة صغيرة مبنية بنمط وبإمكانيات بسيطة على نموذج ساكنيها.. وسطها عبارة عن فناء مفتوح على مصراعيه لا تحتويه سقوف.. ممرّ وملتقى سكان الباطيو من ذوي الدخل المتدني أو المعدمين من ساكني الباطيو. إن سكان الباطيو ليسوا هم سكانه الحقيقيون، بل يدّعون ذلك ويزعمون أنهم يسكنون الباطيو "كنا نسكن في حومة باطيو بينطو، أو بالضبط جنب باطيو بينطو"(2)، سكان الباطيو الحقيقيون كانوا من بسطاء الأسبان ومن مهمّشي هذه الجالية.. أما محلّ سكنى أبطال شخوص الرواية الحقيقي عبارة عن دور وأكواخ من الصفيح (تحمل أسماء مختلفة: براكة، نوّالة، شابولة...) "كنا نسكن في شابولة، أعني برّاكة. كانت حومتنا عبارة عن مجموعة براريك مبنية بالقصدير والياجور والقصب والخشب. أما باطيو بينطو فكان يسكنه النصارى، وبراريكنا كانت تلاصقه. الباطيو حومة إسبانية من البراريك الراقية من الطراز الرفيع. كنا نفخر عندما يسألنا أحد أين نسكن، تكون الإجابة متحمسة وسريعة جدا، حتى لا نترك أثرا للشكّ: في باطيو بينطو"(3)، وبهذا يكون الباطيو عبارة عن استعارة لخشبة مسرح، حيث تدور أحداث الرواية.. ومن هنا يكون دور سكان الصفيح الذين يقيمون جنب الباطيو دورا ثانويا في مسرحية مصيرية، ويبرز ذلك جليّا عندما يتهجم سكان الأحياء الراقية على "الدابّة" بائع النعناع المتجول ليسرقوا منه حلمه أو بالأحرى مثاله الأسمى: انتماؤه إلى الباطيو، وذلك عندما سأله أحد أبناء أعيان المدينة متهكما، "مظهرا ذراعيه ورجولته وشاربه بين أصدقائه وصديقاته الذين كانوا من نفس فصيلته ومعدنه"(4) قائلا:

"ـ أين تسكن يا دابّة؟
أجاب الدابة تلقائيا بصوته الغليظ:
ـ في باطيون بينطون، هكذا كان ينطقها.
قهقه الذي قهقه وضحكت التي ضحكت.
ـ في باطيون بينطون. جميل. يعني أنك نصراني"(5)
.

وكلمة "باطيو" تشير أصلا في اللغة الإسبانية، وبالخصوص في أواخر القرن السادس عشر، إلى مكان مفتوح على مصراعيه تمثل فيه مسرحيات الكوميديا الشعبية(6).. فمن هنا يصبح الباطيو عبارة عن تورية بمفهوم مسرحي (تراجيدي ـ كوميدي).

الشخصية الرئيسية في الرواية هو السارد، سارد متفجّر ينمو بشكل حلولي ينتقل من مقام إلى مقام.. إذ يصعب حصره(7).. فهو كالزئبق.. كلما ظننت أنك حكمت قبضته تسرب من حيث لم تكن تحتسب.. تنمو حوله شخوص أخرى هي الأخرى تعرف نموا وتغيرا وتطورا بتطور الزمان والمكان وتغيرهما.. يبرز وجودهم بعلاقته بهم أو بظهورهم في مدى الحوار معه أو إليه. منهم من وجد فعليا ومنهم من ابتدعهم من رؤاه أو خياله لتوظيفهم في دلالة أو معنى "أنتم موالين الأرض؟ أنا في عاركم يا موالين الأرض. أنا لست إلا عبدا حقيرا. جئت لزيارة الولي الصالح وتبركا بمقامه الرفيع. فإذا كنتم من موالين الأرض الصالحين، فأنا أخوكم من الإنس"(8).

تحمل الشخصية الرئيسية اسما طويلا وهو "السيمو ولد السالك المفقوص".. وفي نفس الوقت نكتشف أن اسمه الأول أو الشخصي "السيمو" اسما مختزلا، مبتورا، فبهذا تصبح شخصية "السيمو" كذلك مختزلة ومبتورة، مهمشة كاسمه، منذ ولادته إلى يوم إعدامه.. فعند تحليلنا اسمه وتفكيكه يتراءى لنا أنه يحمل اسما مستعارا.. اسم أحد شخوص المسرحية، يقوم بها الشخص الذي تتحدث عنه المسرحية والذي يحمل اسما آخر في الواقع.. ويبين اسمه كذلك انتماءه الاجتماعي والديني.. بل أكثر من ذلك يقرّ انتماءه الديني.. لأنه ليس له حق الاختيار.. ولذلك يقول في الرواية أكثر من مرّة.. لأني "كنت ابن أمّي إلى حين، وكانت أمي بنت جدّي وكان جدّي زوج جدّتي"(9)، و "لأني ساعتها كنت ما زلت ابن أمّي"(10). وهذه مفارقة أخرى في الاسم.. لأن الاسم حسب المفهوم السائد (عادة) دلالة على الفرد أو الشخص الذي يحمله.. إلا أن "السيمو" بالرغم من أنه يحمل اسم أبيه كان انتماؤه يعود إلى أمّه(11).

وكذلك اسم أبيه "السالك ولد المفقوص".. ذلك الأب الذي هزمته الحياة فأصبح سالكا دربه.. ينمو خارج الإطار الزمني والمكاني لـ"باطيو بينطو" فيكون بذلك مهمشا مرتين: كأهل حومته التي تعيش على هامش "الباطيو"، وعلى هامش أهل حومته، لأنه يعيش وسط مجتمع قتله الجهل والفقر، يتقلّب حسب متطلبات الحاكم ورجل السلطة ورجل الدين.. مات مفقوصا (والفقصة بالعامية المغربية تعني الغيظ وكذلك الكآبة والحزن)، مات خانقا على حياة أهل حومته الذين كانوا يعتقدون أن كل ما يعانونه ويكابدونه من مآس وجهل وحرمان... أمر طبيعي، سوسيولوجي وديني.. شيء حتمي.. وأبو "السيمو" كان يثور على الحتمي وكل أنواع القضاء، فها هو "السيمو"، عندما اقتربت ساعة إعدامه، يصف أباه وقد فهم وأدرك كل شيء، حيث لم يعد ينفع الفهم والإدراك، يصفه قائلا في مقدمة الرواية التي هي عبارة عن وصيّة أو شهادة خطّها "السيمو" قبل إعدامه.. وهذه المقدمة التي ليست بالضرورة مقدمة.. قد تكون خاتمةً متقدمةً أو مقدمةَ خاتمةٍ: "أبي السالك، عاش أول حياته يجمع بين الضحك والبكاء والجد والهزل، كانت فيه نبتة الشعراء من غير أوزان ولا قواف، ونقلة الفلاسفة من دون حكمة، ومرح الصبيان وهو في عزّ رجولته. قاض يحكم عادلا بين الناس ضامنا حق الضعيف المهزوم في محكمة الحياة. يدافع عن المقهورين مثله بدون مقابل. لا يطلب جاها ولا عزة.. لكن كل مساعداته هذه كانت صورية"(12)، ويضيف: "كان أبي من النوع الذي لا يشتكي لأحد ولا يطلب يد المساعدة من أحد ولا يعوّل على أحد. أعترف أمامكم معرٍّ عن أناي أن أبي كان غريبا بين أهل الحومة. يقول كلاما ويقوم بأفعال يستهجنها جلّ سكانها"(13).

من هنا تكون أسماء الشخوص عبارة عن عتبات ذات دلالات تساهم في تكوين النص وإلقاء الأضواء على جوانب عديدة من خباياه.

لغة الرواية:
لن أطيل في هذا الجانب فسأدعكم تكتشفون المزاوجة الرائعة بين العربية الفصحى ولغة الأم العامية، (يعتبر الكاتب لغة الأم أو ما يسمى باللغة العامية أو الدارجة لغة الفصاحة إذ تعبر عن الحسي والشعور على كل المستويات، فهو يحاول بذلك كسر القيود المطبقة على هذه اللغة منذ العصور الوسطى). تكتسب الرواية سحرا وعبقا خاصين باستشهاداتها بالشعر والأمثال والأهازيج كما تتحلى بنسقية موسيقية تجعل القارئ يتلاشى داخل الرواية تماما.. بحيث يتحرك بحركة شخوصها وإيماءاتهم.. وكأنه بينهم أو واحد منهم(14).

عن الرواية:
في حوار مع عبد اللطيف الإدريسي عن الرواية قال متسائلا: "هل باستطاعتنا كتابة شيء يخرج عن السيرة الذاتية التي هي في حد ذاتها عودة إلى الوراء واستذكار الماضي؟؟ كأن يتخلى السارد عن هويته الآنية ويقيم مكانها هوية سابقة.. أي عوض العودة إلى الوراء.. جعل الماضي يسكن الحاضر؟". ثم يضيف: "هل بالفعل استحضرت هويتي السابقة (الطفولية)؟ أم تراجعت هويتي الآنية كرجل راشد؟"

وإذا.. فعبد اللطيف الإدريسي يبحث عن مخزونه في الذاكرة.. لا الذاكرة الفردية فقط بل في الذاكرة الجماعية الممتدة في حالتي الرجل الذي يستدعي طفولته أو الطفل الذي يستطلع خطو رشده.

تحكي الرواية واقعا داخل حي فقير في مدينة قد تبدو مغربية.. وقد تكون هذه المدينة هي طنجة، وذلك بحكم مسقط رأس الكاتب.. وعبره الراوي.. إلا أن الراوي لا يذكر ولا مرّة اسم مدينته واسم المدن المجاورة ولا اسم موطنه الأصلي، كما هو الحال في روايته الأولى سراويل المدينة(15)، بل نستنتج ذلك من إشارات وإيهامات توحي لنا بأن المدينة هي مدينة مسقط رأسه.. وبهذا مثل الباطيو تكون مدينته هي الأخرى مدينة مجازية.. استعارها الكاتب كمكان لشخوص مسرحية روايت ه.. تورية أخرى) وبهذا تكون ملامحها ترسم صورة لأية مدينه عربية.. ينبش الراوي الذاكرة الجماعية لتلك المدن حيث يصبح المألوف مألوفا (يعني الخنوع التام والاستسلام والركود) أو اللامألوف الذي قد يصبح هو الآخر مألوفا.

أبطاله.. خيول جامحة مشدودة لعربة مسننة التروس مغروسة في أرض موحلة لا تسمح لها بالحراك. نجوم ساطعة شكلت وجه الحياة.. لكنها منسية مهملة لا حول ولا قوى لها.

يخلق الكاتب مستويين للمحاورة سواء على المستوى الزمني أو الإنساني، وبينهما يكشف العلاقات الاجتماعية وتطوراتها في ذهن الفرد أو الذهنية الجماعية للواقع الذي يحكيه. وكما هي الثنائية المتخيلة بين الطفل والرجل الراشد.. فهي أيضا ثنائية مزدوجة ممثلة للصراع داخل تلك الحارة الصغيرة. ثنائية متناقضة بين.. الوعي والجهل.. الفقر والغنى.. الصحة والمرض.. كل مفهوم ينقض الأخر لكنه لا ينفيه.. وهو ما يعدم إمكانية وجود نسقية منظمة تتطور بتطور احتياجات أفرادها. فلا الجهل أصبح وعيا ولا المرض حفز الصحة ولا الفقر دفع للغنى. لقد ظل هذا التناقض يصارع نفسه في واقع الرواية.. تماما كما هو في ذهن متخيل الراوي. ليس هنا مجال للدخول في تفاصيل الحدث بقدر ما هو محاولة توضيح لديناميكية الصراع داخل الزمن كواقع كلي متراجع إليه، وداخل ذهن السارد كآن أو كلحظه تستدعي العودة إلى الوراء أو جرّ ما كان إلى الحاضر.. ببساطة.. خلق عالم داخل العالم.

الواقع الاجتماعي للرواية:
وهو بيت القصيد في قراءتي لرواية "باطيو بينطو".. الواقع الذي تعكسه الرواية.. مدى محليته أو عالميته.. المحاور الأساسية المشكلة لهذا الواقع. يبدو هشاً كلام من يقول إن الكاتب، أي كاتب أو قارئ للفنون أو الآداب، قد يكون موضوعي الرؤية بشكل كلي. لابد أن تتدخل كثير من الوجدانيات تشكل رؤية المرء أو ربما اختياره للموضوع.. وللحق فذاك ما كان حين قرأت رواية "باطيو بينطو".

وأنا أقوم بأبحاثي الميدانية أثناء دراستي لعلم الاجتماع، وكذا في عملي بمركز الدراسات والبحوث بصنعاء، تمكنت من الاحتكاك بفئات اجتماعية ومناطق سكنية غرست في نفسي الرغبة في الغوص في عمقها والبحث فيها عن قرب.. وأحيانا أخرى كنت أتمنى لو ملكت ريشة الفنان أو قلم الأديب لأتمكن من وصف ذلك الواقع أو تصويره.

وحين قرأت "باطيو بينطو".. أذهلتني.. خالجني إحساس آني من أنها وُجدت في ذاكرتي.. هي حارة الصياد أو البونيه في مدينتي.. صنعاء! بالضرورة الاسم مختلف أي نعم.. لكن الواقع هو نفسه.. بل ربما كان أحد أحياء القاهرة أو دمشق.. أو الخرطوم أو طرابلس أو الشيخ عثمان في عدن أو... أو... فيها كلها وجدت "باطيو بينطو". لقد أشار الكاتب إلى ذلك في الرواية أكثر من مرّة: "إن الرقيب يحوم بطيفه مارا من حومتي هنا في قرن القارة إلى أقصى حي في الشيخ عثمان في قاع الجزء الغربي من القارة الأخرى"(16)... "مثلها مثل التي نجدها على جدران حمامات حومتنا، مرورا بحمامات السيدة نفيسة والسيدة زينب والسيد الحسين وحمامات حارة الفليحي وعند القليس الذي بناه أبرهة"(17).

استحضر الكاتب هويته المبكرة وعاد إلى الوراء.. لا ليكتب سيرة ذاتية مباشرة.. بل ليخلق واقعا حيا ممتدا من "حومتي هنا في قرن القارة إلى أقصى حي في الشيخ عثمان في قاع الجزء الغربي من القارة الأخرى"(18).

فهل هذا هو مغزى الرواية؟؟ أي العودة إلى طفولة "الأمة العربية" وعبرها "واقعها" لمعرفة طبيعة ذاتها الكبرى المفتتة والمتشتتة والمتناقضة الآن؟

عني عبد اللطيف الإدريسي في البحث في ذاته القومية من خلال الجزء المحلي منها... البحث في بنيتها وبنائها وهويتها. يقول عبد اللطيف الإدريسي في حوار معه: "حاولت أن أصل بسكان روايتي إلى أقصى درجة من التهميش، إلى تورية لا تخطر على بال.. شيء قد يُظن أنني قصدت به معنى آخر، وعندما نسلك طريقنا باحثين عن ذلك المعنى ونصل إليه ماذا نجد؟ نجد لا معنى!". مثل سكان الباطيو الذين لا معنى لهم.. مثل ثقافتنا.. مثل حياتنا.. مثل عاداتنا.. مثل حكامنا... مثل مشاريعنا السياسية والثقافية والحضارية... مثل... مثل... وألف مثل.

هذا حقا ما عناه الكاتب.. البحث في الجزء لكي يصل إلى الكل.. استخدم التراث بشقيه قديمه وجديده العام منه والمحلي.. الأقوال.. المعتقدات.. نمط العادات والتقاليد.. الأكلات الشعبية والأهازيج... الخ. كل ما في المجتمع أو ما يشكل ثقافته.

بتوريته، أبرز الكاتب ماهية الهوية الموجودة، لتأتي توريتها، لأنه لم يخض فيها إن كانت صالحة أو غير صالحة، إن كانت مستغلة أو مسخرة كوسيلة لكبح حركة المجتمع وحراكه وتجميده في نقطة ثابتة.. أظهر الكاتب في الرواية جدلية متصارعة للمعرفة والذات معا، من خلال ثالوث قوي العضد هو ثالوث: السلطة.. المعتقد.. الجنس.

كيف تنامت المعرفة داخل ذلك الواقع؟ أي داخل ذلك الثالوث المحرم؟ بل كيف تنامت محرماته وتراكمت وتحجّرت حتى وقفت في مرحلتها الحالية؟ أو وصلت بنا نحن إلى حالتنا الراهنة؟

أكرر.. لقد اختار المؤلف الكثير من خفايا التراث الاجتماعي كواقع للرواية بجانب السرد، ومن هنا جاءت فرادتها.. بل توريتها الخفية كما يقول.. وإن وضحت فهي العرض الشامل للعقل الجماعي للمجتمعات العربية.. "أمتنا".. في إطار ثالوثها المقدس. وقد لخصه في بداية الرواية.. يقول: "أما الهدف الأول والأخير.. قبل النزول وأثناء الحضور وحين العودة تتلخص في كلمه واحده كاملة شامله يجتمع فيها الأزل والأبد: جنس"(19). وفي السياسة أو السلطة يقول: "هذا ما ستنتهون إليه بعد ذكر كل ما سيجري من الوقائع التي تتبع.. أما الحكم فهو أبدا بيد الحاكم كما أن الأمر بيد الآمر"(20). لأنها من المحرّمات، كما جاء على لسان "السيمو": "لأن السياسة لم يكن لنا فيها دخل، لا تعنينا ولا نعنيها في شيء. كانت محرمة علينا مثل لحم الخنزير. كان جدّي يقول دائما: كل شيء إلا السياسة"(21)... ولهذا كان أبو "السيمو" يطالب أهل حومته وينصحهم بأن يشربوا الخمر: "افعلوا مثلي، اشربوا ماء الحياة لتحيوا من جديد. اشربوا البينو، الطينطو (الخمر) البلانكو، الروخو، الروسي، الدولثي، الصيكو لا يهم، اشربوا لتصحوا. عليكم بالسكر، سيساعدكم على الكلام. إنه يطلق اللسان، ويسلطه، فتفضحون بعضكم بعضا وتجهرون بأسراركم، وتصبحون فصحاء، وتهجركم العجمة واللكنة واللحن، ويرحل عنكم الجبن والغباء والبله، وتصبحون أخيرا بني آدم"(22). وعن المعتقد أو الدين.. يضيف:

"خذوا الأشياء بتريث، لأن الزّرْبة (العجلة) من جدي كما كان يقول الشيطان.

ـ من الذي زرب بالأكل من تلك الشجرة؟ سأل أبي.
ـ الشيطان؟ سأل مجيبا"(23)
.

ويضيف في موضع آخر: "لا تجزموا ولا تأخذكم العجلة.. إن العجلة من جدّي.. والتأني من أبي"(24).

هذه أمثله فقط.. استخدمتها لإثبات هيمنة محاور ذلك الثالوث المحرم في واقع الرواية. والذي لا تعني محورته انفصال كل محور عن الآخر.. بل دليل ترابط وتعاضد وتداخل، وهو ما سنعرض له لتفصيل أكثر.

1 ـ السلطة "السياسة":
إن البنية السياسية في المجتمعات العربية تنطوي على التنظيم الذي يملك السلطة المطلقة في إدارة الشؤون السياسية وصنع القرارات المتعلقة بطريقة إدارة البنيات الاجتماعية الأخرى. بمعنى أنه التنظيم المهيمن على كل شيء بداخل المجتمع.. إنها ثنائية "الحاكم والمحكوم والآمر والمأمور" كما أشارت إليها الرواية. تبدأ عملية الخضوع والطاعة للساسة ابتداء من الأسرة أو العائلة ومرورا بالمشيخة والعشيرة لتنتهي في قبضة القوى المتسلطة والمهيمنة على كل البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعقائدية في آن واحد.. فهي بهذا تلغي وجود الأفراد كأفراد وكيانهم مقابل المصالح الشخصية للقوى المتسلطة. فيعيش الفرد هكذا في مجتمعاتنا العربية رغم تنوع السلطة فيها، بين عمومية الانكفاء المحلي وخصوصية المستبد الشمولية.

رواية "باطيو بينطو"، ومنذ بدايتها، عرضت بوضوح كيف تكتمل عناصر الهيمنة والتهميش. فسكان دور الصفيح من شابولات وأكواخ ونوّالات المحاذين للباطيو يفتقرون لأدنى الأشياء لتحسين طرق معيشتهم ووضعيتهم.. فهذا الفناء المفتوح يكشف أسلوب حياتهم كما يكشف وسوساتهم تماما مثل المسرحية التي تعرض على خشبة المسرح.. لا مجال للسريّة هنا.. ليس هناك ما يلزم إخفاؤه.

بطل الرواية "السيمو" حاضر في الرواية من البداية إلى النهاية كشخصية رئيسية.. إلى درجة أنه يطغى بحضوره هذا على النص.. لكنه في الواقع الاجتماعي ملغي الكيان بدءا من دوره داخل أسرته "لكنّي كنت ابن أمي إلى حين".. ومتى كان ينسب الفرد (وبالخصوص في مجتمعاتنا العربية) إلى أمّه؟ الجواب يأتي سريعا كالبرق: في غياب الأب.. فالسيمو ابن لأب حاضر غائب.. فمن هنا لا يطال التهميش "السيمو" فقط بل كذلك أباه "السالك المفقوص" الذي سيموت (مفقوصا) من القهر على أبناء حومته.

ولا يملك بطل الرواية حق وجوده بشكل أولي إلا من كونه ينتمي عبر أمّه، وليس أبيه، إلى صاحب السلطة داخل العائلة المتمثلة في شخصية "الجدّ" الحاج الكبير التهامي بن رحّال. لذا فتبعيته لجدّه واجبة شرعا وكذلك اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعقائديا... ولا يحق له الارتباط بأبيه والإفصاح عن مشاعره نحوه طالما أن الشيخ الممثل للسلطة ومعه العشيرة الممثلة في سكان دور الصفيح غاضبون عليه: "أنا السيمو ابنه، أشهد أن أبي السالك ولد المفقوص كان يحبني مثلما يحبّ مُومّو عينيه (البؤبؤ للأجانب)، وأنا كذلك كنت أحبّه.. لكني كنت ابن أمّي إلى حين، وكانت أمي بنت جدّي..."(25). لأن أبا "السيمو" شخص مشبوه فيه، لأنه لا يشتكي لأحد ولا يطلب من أحد أن يساعده "كان أبي من النوع الذي لا يشتكي لأحد ولا يطلب يد المساعدة من أحد ولا يعوّل على أحد"(26). إضافة إلى ذلك كان مبدعا(27)، داخل وسط أفقه نموذج يجب الاقتداء به ويحرم احتذاؤه وإعادة كتابته، لأن كل بدعة ضلالة "كانت فيه نبتة الشعراء من غير أوزان ولا قواف، ونقلة الفلاسفة من دون حكمة، ومرح الصبيان وهو في عزّ رجولته"(28).

فرغم هذا التهميش البارز المطبق عليه إلا أنه كان "للسالك المفقوص" دور معنوي خارج عن الممارسة الفعلية.. لأنه يكون سليط اللسان عندما يكون سكران، وكان الناس يخافون لسانه السليط هذا ولئن كان تعبيرا عن وعيهم الجماعي الذي لا يجرؤون الإدلاء به.. كان وعيهم الشقي يتستر وراء الجري لتحصيل لقمة العيش.. لقد كان يخاطبهم ثائرا على وضعهم بوعي صاف... "لو كانت السلطة بيدي لأمرت أن يسكر الجميع إلى حدّ الثمالة"(29).. كانت رغبته وراء ندائه هذا أن يصل بأهل حارته إلى حالة من الوعي لما لهم وما عليهم.. لما يعانونه من قهر وظلم واستبداد، وكذلك للفساد المتفشي داخل الحارة، بسبب جهلهم، والذي تنميه السلطة عبر أعوانها، مثل شخصية "الجدّ" والمتواطئين معه: "حتى تستقيم أحوالكم ويذهب الغش والنفاق والكذب والتخرويط والشقاق والتبليغ والتواشي وازرع لي أزرع لك، حتى يعرف الناس مدى إنسانيتهم من بهيميتهم، لأنكم جميعا صغيركم وكبيركم من صنف البهائم (يعني من مقدّم الحومة إلى ما تحت)، يضع عليكم الآخرون (يعني من مقدّم الحومة إلى ما فوق) أثقالهم وأعباءهم وتقبلون هذا الوزر كالحمير وكالبغال، مزغردين ومصفقين ومهللين في خشوع وخضوع ومذلة"(30). وكان الأب يلقي خطابه الواعي هذا في حالة لاوعي، بين أهل حومته السكارى من دون خمر.. الذين خدّرتهم السلطة والمعتقد وأعوانهما: "أبي لا يتحدث هكذا إلا عندما يكون سكران"(31).

ورغم هذه النداء الواعي المخلوط باللاوعي.. لا شيء يتغير.. فحومة باطيو بينطو ما هي إلا جزء من كل، تظهر فيه سوء الإدارة السياسية وتمركزها في أفراد وأماكن محدودة.. الفوارق الطبقية الحادة والفقر وهيمنة الولاة والعسكر والمتاجرين بالدين.. وضآلة فرص الحراك الاجتماعي وتحسين الأوضاع.. العنصرية والتمييز بين كل الفئات الاجتماعية المختلطة (كراهية الزوجة لزوجها، وكراهية اليهود والعروبية وسواسة والإسبان وكراهية الإسبان لسكان باطيو بينطو وحتى كراهية الشخص لنفسه "ليس أكره فقير لفقير"(32).. "كنت أكره أن ألتقيني عبر مرآة. كنتُ ثقيلا عليّ"(33)... باختصار تبدو السياسة ومؤسساتها الرسمية بعيدة بعدا كليا عن سكان حومة باطيو بينطو.. "السياسة لم يكن لنا فيها دخل، لا تعنينا ولا نعنيها في شيء. كانت محرمة علينا مثل لحم الخنزير. كان جدّي يقول دائما: كل شيء إلا السياسة"(34).

2 ـ المعتقد:
لا أعني هنا المعتقد الإلهي أو الديني فقط بل هو الحالات المرادفة لطرق التفكير والتي تفسر الظاهر بإرجاعها إلى الأسباب الخرافية أو الأسطورية أو اللاهوتية.. التفكير المفارق الذي لا أساس للتجربة أو المحسوس فيه، بل يعتمد على كثير من التفسيرات الاعتباطية الحائرة، ونتجنب هنا الخوض في الإيديولوجيات والمعتقدات المقننة.

في "باطيو بينطو" القوة المهيمنة هي القضاء حينا (بالمعنى اللاهوتي)، وهي الزمان تارة، وهي الله في غالب إن لم يكن في كل الأحيان. يتدخل القضاء، عبر نوابه وممثليه، في حياة الناس اليومية، فهو المتصرف في أرزاقهم ومصدر عيشهم، بل في أوضاعهم ومراتبهم الاجتماعية.. فكل ما يعيشه الإنسان هو من تدبير إلهي قدّره عليه: "أنا أعرف أن حالتك صعبة وأنك ساخط على الدنيا وما فيها، ولكن لا تقنط من رحمة الله الواسعة. إن الله لا يضيع أجر الصابرين"(35)... "عيينا من الصبر.. لماذا هي دائما واسعة على القليل القليل، وضيّقة على الكثير الكثير؟"(36). يمكن أن نعلن تذمرنا من الزمان "أشتم الزمان المنحوس الذي عرفني بك"(37)... "كنّا كثيرين ممن كانوا يشتمون الزمان ويلعنون أباه ووجوده: الله ينعل بو الزمان الغداّر"(38)، لكن لا يجب مسّ الذات الإلهية.. بل العكس، يجب جعلها غاية تذكر بشكل دائم وأفق انتظار الكل من المهد إلى اللحد.. "اللهم ذكّرنا بالشهادة. قال الفقيه، يوم يحضر قاطف أرواح الشهداء وخاطف أرواح الجائفين النتنة"(39). هناك تصور معرفي خاص، لا شكّ أنه مكتسب من تنامي الماهية الأخلاقية لفكرتي الخير والشرّ.. فالمؤمنون سيأتي الملاك لقطف أرواحهم كما تقطف الورود.. وما دونهم يأتي ربّما نفس الملاك أو أحد غيره لينقضّ على أرواح هؤلاء الجيفة كما ينقضّ النسر على فريسته. والمؤمن هو بالضرورة ذلك الذي يساند الحاكم والمشرّع... لا يهمّ أن ينهب ويسرق ويبرطل راشيا مرتشيا ويشعوذ ويتزوج طفلات في مقتبل العمر ويكذب ليل نهار باسمه وباسم حاكمه وباسم دينه... الأساسي هو أن يستسلم لصاحب السلطة وألا يغضبه، صاحب السلطة هذا الذي هو الآخر يجب أن يخضع بدوره لصاحب سلطة أكثر وأقوى ودواليك.. وما دون ذلك يصبح كفرا، لا إيمان، خروجا عن الطاعة، مشبوها فيه... ومن هنا يكون الثواب والعقاب من مهام صاحب السلطة..

فإذا كان المسلم يموت فإن اليهودي والنصراني يجيف. وهذه الفكرة واردة بشكل جلي في الوعي الشعبي. فالاقتراب من اليهود والنصارى مثله مثل الاقتراب من الخنزير، نجاسة يجب تجنبها مثلما يجب تجنّب"السالك المفقوص" أبا "السيمو" الذي هو الآخر جيفة حيّة وخنزير: "المسلمون يموتون واليهود والنصارى يجيفون، هكذا كان يعلّمنا (الجدّ). ولما يجيف الحيوان نقول إنه جيفة. عندما كانت أمي تخاصم أبي، كانت تشتمه قائلة: سير يا ولد الجيفة، ظننت أن أبي كان نصرانيا أو يهوديا لمدّة طويلة. لكني اكتشفت السرّ عندما سألت أمي مرة لماذا تنعته بولد الجيفة، ردّت على التوّ: لأنه سكير بن سكير، سيجيف مثل النصارى، وسيدخل جهنّم أضاف جدّي"(40)... "مثلما كان يقول جدّي:ـ السالك المفقوص وحش نجس خنز لا فرق بينه وبين الخنزير"(41). سادت هذه الرؤية الدينية في عمق الحياة الاجتماعية، لذا نبذ اليهود في حومة باطيو بينطو رغم عيشهم فيها "لم يكن أحد يعرف أن يهود حومتنا، كانت لهم نفس جنسيتنا، ويتكلمون نفس لغتنا، ويطبخون نفس أكلاتنا، ويغنون نفس أغانينا. إلا أن كل ما كان يصلنا عنهم هو أنهم كفار، منافقون، أغنياء يجمعون الفلوس، (لو كنتم رأيتم بعض يهودنا الأغنياء لأدركتم أنكم أغنى منهم بكثير، وأن الصدقة جائزة فيهم) سحرة، يسرقون الأطفال الصغار الذين لهم خط مستمر في وسط كفهم اليسرى يفصلها طرفين، للبحث عن الكنوز"(42).

تنقل رواية "باطيو بينطو" صورة تقليدية شبه عامة وسائدة في المجتمعات العربية، لفقيه الحارة أو شيخها أو إمام مسجدها... إذ يُعتبرون المرجعية الأولى والأهم لكل استفسار أو تفسير يتعلق بالدين والدنيا معا. يسود اعتقاد راجح، تُنمّيه السلطة السياسية والدينية معا، أن هناك وسطاء بين الخالق والمخلوق.. منهم السادات والأولياء وساكني الأضرحة.. في رواية "باطيو بينطو" هذه الوساطة لا تقتصر على الرجال فقط، بل حتى النساء (لالا جميلة) لهن حظهن في هذه المهمة كوسيطات إناث لقضاء حاجيات وفك أزمات النساء.

يتشابك الموروث الديني بالموروث الشعبي بشكل مباشر في حالات كثيرة.. فمثلا من بين المعتقدات الراسخة التي يتداولها المخيال الشعبي أن تكاثر المعاقين بين النصارى سببه أكلهم لحم الخنزير "قال جدّي إن السبب في كثرة المعوقين عند النصارى آت من أكلهم لحم الخنزير، لأن لحم الخنزير يحتوي على دودات صغيرة تركب شرايين الإنسان وتتخللها متزحلقة إلى أن تصل إلى القلب وتعشش داخله"(43). هكذا يُستعمل الدين كوسيلة للسيطرة على العقل والتحكم في المخيال الشعبي وشلّ التفكير، للوصول إلى غايات وأغراض فردية محضة. وذلك مثل ادعاء "الجدّ" أنه سمع هاتفا يأمره بالزواج من طفلة صغيرة في مقتبل العمر (ص80 ـ 81)، وكذلك عندما أخبره الجنّي من أعلى الشجرة بأنه سيكون له شأن عظيم في ميدان الكرامات وحثّه على الزواج من بنت المصمودي نفس الطفلة الصغيرة "قال هذا الجني: اسمع يا ابن رحّال، نشهد أنك من المؤمنين الصالحين الورعين، وما نحن إلا مسخرين، يخبرك الولي الصالح بن الولي الأكبر، أنه سيهبك من بركته وتصبح بذلك شريفا من الشرفاء.. ستسهل لك العزامة وكتابة الحجابات وحل العقايد.. هذا سرّ بينك وبينه.. كلّما ناديته وتوسلت إليه قضيت حاجتك (قضينا نصف العمر في تلك البراكة اللئيمة بين خراء الفئران وعضّ البعوض والناموس)، واطلب من بنت المصمودي أن تخدمك وإلا سكنّاها وخرّبنا بيت أهلها"(44).. كلّ هذا من أجل تبرير شناعة فعله وجعله ضمن المقدس. أحداث كثيرة جاءت في الرواية تحتاج لصفحات عدة لوصفها وعرض أبعاد تغلغلها في مجتمعاتنا.

3 ـ الجنس:
عرف الحديث عن الجنس في التراث العربي مكانة مرموقة.. فالحكايات التي تتخلل أمهات الكتب العربية لا يمكن حصرها، وليس المجال هنا للحديث عنها وتعدادها بل فقط للإشارة للكميات الهائلة من الكتب التي تعرضت لهذا الموضوع. حتى أن أشهر مؤلّف عربي عالميا المتمثل في "ألف ليلة وليلة" يبدأ على إيقاعات جنسية: حكاية شهريار الملك المخدوع الذي اكتشف مباشرة مشهد زوجته يضاجعها أحد عبيده السود.. فقرر كثأر للرجال ولرجوليته أن ينتقم من كل النساء بوأدهن.. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا لو كانت الزوجة هي التي اكتشفت خداع زوجها الملك؟
فالجنس في المخيال العربي الإسلامي ليس إلا تلك الرابطة المقننة داخل إطار زواج شرعي يتفرّد بحفظ الجنس البشري عن طريق التوالد. وكل ما هو خارج عن هذا الرابط هو خروج عن القدسية ومن تمّ يصبح غير جائز ومحرّم. لكن هذا لا يمنع من أن مجتمعاتنا عرفت ومنذ الأزل العلاقات الجنسية الطبيعية ـ خارج إطار العادات والتقاليد والمحرم ـ وحتى غير الطبيعية كالمثلية..

ارتبط الجنس بالتحريم ولم يعامل على أنه طبيعي مثله مثل أي شيء آخر. لذا ظل الجنس في المخيال العربي يحوي التناقض المتصارع الذي يصعّد السلبي على الإيجابي.

في رواية "باطيو بينطو" يترادف الجنس فيها بعلاقة مطردة وتصاعدية مع السياسة والمعتقد، وهذا ما يميزها إلى حدّ كبير.. ف"السيمو".. الشخصية الرئيسية ينخرط في حركة سياسية إرهابية حالما بالاستشهاد الذي جزاؤه حور العين "فتح شيخي الأعمى بصري.. فهمت حقائق الأمور كما شرحها لي.. أصبحت على استعداد للسفر.. سفر لن يدوم أقل من هنيهة.. رمشة عين وتجدهن ينتظرنك في مضجعك.. أي شيء ألذ وأحلى وأغلى من هذا الذي ينتظرني.. لقد اشتقت إليكن، تنتابني رعشة ونشوة نعيميتين، بل أكثر فردوسيتين"(45)... "ما هي إلا ساعات معدودة وتبدأ حياتي الحقيقية، سأرحل وسآخذ معي من حطب جهنم ما تيسر.. سأتلاشى وتجمع الحور أطرافي وتهيئني ويبدأ عرسي الأبدي"(46). وتعكس الرواية أيضا ذلك الجانب من الجنس المقموع والمكبوت في المجتمع والمسكوت عنه.. إذ يفشل البطل في تجربته الجنسية الأولى، يشعر بعجز نتج عن خوف أوجدته ومهّدت له تلك المعرفة الخاطئة التي تلقاها في صغره والتي مصدرها المخيال الشعبي الذي يرقى داخله "النساء عندما يكنّ في الحمام يخلعن عنهن لباسهن، يعني يكن عاريات مزبّطات. يكون همّهنّ، أي فروجهن من دون سليبات.. وتعرف ماذا يحصل عندما ترى فروجهن ذكرا في مثل سنك، تجري الفروج وراءه لكي تعضّه"(47). لذا فالبطل يعايش الكبت الدائم "ابن القيّم هذا كان قطعانا (أي ظل بدون علاقة جنسية مدة طويلة)"(48). ينتج عن هذا الكبت المعرفي والتجريبي أن تحول الجنس إلى فضيلة تكبر للطمع في حياة (جنسية) أسمى، عبارة عن مدينة فاضلة مثالية تقطنها حور العين منتظرة فارسها المفدّى "ليست إلا هنيهة وتنسى حياتك اللئيمة.. حياة عديمة الوجود بين باقي الموجودات.. وسترقى في نفس الهنيهة إلى الثابت الدائم.. السرمدي.. ها أنا أراني أجامعهن واحدة واحدة.. جماعات جماعات.. ويعدن كما أتين بكرا بكرا.. بغير دم ولا نقصان"(49).

الكلام الساقط، كما جاء في الرواية، هو لغة الجنس.. "وهو الكلام المتداول والقاسم المشترك بين أبناء الحومة نتعلّمه تدريجيا بالموروث في ساحة الحومة. أعني روض الأطفال عندنا، وفي ورشات الشباب في ساحة المدرسة الخارجية وسراديب حومتنا وأماكنها المظلمة وما أكثرها. وبعدها يتخصص كل حسب شعبته في نوع من أنواع الكلام الساقط الذي يناسب اختصاصه"(50).

استخدمت الرواية كثيرا من الألفاظ الجنسية والمتداولة شعبيا وشبه عامة في المجتمعات العربية. فمثلا في تسمية الأعضاء الجنسية أو العملية نفسها نجد (قضيب، زبّ، فرج، نكاح، نهود..)، للسبّ أو التحقير (قحبة، قحاب، زامل، مخنث، زانية، عاهرة، فاجر، فاجرة، باغيات، فاحشات، شواذ، لوطيين، ابن الحرام،...)، ألفاظ جنسية للمدح (حور، بكر، حورية، محصن، حور العين، حياء، حشمة، خجل، الحشومة...). يلاحظ في تلك الألفاظ التراوح المستمر ما بين المباح والمحرم والمكبوت والظاهر والمقبول والمستهجن أو المرفوض.. وكما سبق القول وأعيد في أكثر من مكان تقدّم رواية "باطيو بينطو" نموذجا لهذا الامتزاج العلائقي الذي يستحيل فصل أحده عن الآخر.

خاتمة:
التراث الشعبي، وأي تراث كان، هو الصورة البارزة للوعي الجماعي لأيّ مجتمع، أيّا كان نوعه.. بل هو الطريق لمعرفة الخصائص والمكونات التي تميزها عن غيرها من المجتمعات. بعد هذا تأتي الفنون والآداب المعقلنة لتبرز تلك الخصائص وتطرحها للنقد موضحة مدى ديمومتها أو استمرار هيمنتها. قد لا يكون للفنون والآداب القدرة على نقض ذلك الموروث، إلا أنها تعتبر وسيلة لعرضه.. بل ويمكن أن تكون عامل تحفيز للمخيال الجماعي للنظر إليه بعين نقدية.

هذه الرؤية عرضها الكاتب المغربي في روايته "باطيو بينطو"، جاءت أحيانا علنا على لسان أبطال روايته، كما جاءت ضمنا أو بتوريات يجب عصرها مثل زيت الزيتون. هذه الرواية وسيلة لإعادة النظر فيما تغلغل في ذاكرتنا وما تقوقع في مجتمعاتنا من موروث لم نستطع الخلاء منه ويصعب التخلي عنه.. موروث أعاق تطورنا وأحكم القيد على قدراتنا الفعلية لتحليل ذواتنا من خلال هرمها المعرفي والمترابط: السياسة ـ المعتقد ـ الجنس.

عن طريق هذا التحليل قد نصل إلى إرساء قاعدة نقدية تضع الأسس للتحرر من هذا الاستلاب للوعي الجماعي والذي تعاني منه المجتمعات العربية. كما أنه يساعد على التكيف الإيجابي والتلاؤم مع حضارة اليوم ومواكبتها، وغرس قيم للوحدة الجماعية من خلال الوعي والتقدم والديمقراطية..

تقول الناقدة العربية الفذة يمنى العيد في أحد أحاديثها ما معناه "نكتب ونحكي الحكاية، ويمحو الزمان الزمان، لكن يبقى المكتوب والمتخيل"(51).

شاعرة وناقدة وعالمة اجتماع يمنية، تقيم في السويد
جوتنبرج 2009

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ نشرت مجلة الكلمة الالكترونية القيمة في عددها الخامس والعشرين (يناير 2009) الذي استهلت به سنتها الثالثة رواية بعنوان "باطيو بينطو" للروائي المغربي عبد اللطيف الإدريسي. المؤلف كاتب مغربي مقيم في فرنسا.. من مواليد 1957 بمدينة طنجة.. أستاذ باحث يدرس اللغة العربية وآدابها والحضارة الإسلامية بجامعة مونبلييه الفرنسية. حاصل على دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه من جامعة باريس 8. صدر له :
سراويل المدينة، عن دار ميريت القاهرة 2008. (طبعة أولى، دار القرويين بالدار البيضاء سنة 2003)
متاهات متقاطعة، "سلسلة أبجد"، دار القرويين، الدار البيضاء 2005
باطيو بينطو، قيد الطبع 2009
قصائد رفات آخر ملاذ مجموعة شعرية نشرت في مجلة الكلمة، العدد التاسع (سبتمبر 2007)
بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة والأعمدة الشعرية التي صدرت في مختلف الصحف والمجلات العربية إلى جانب العديد من الدراسات عن الحضارة العربية ـ الإسلامية باللغة الفرنسية.
(2) ـ ص. 38
(3) ـ ص. 38 ـ 39
(4) ـ ص. 38
(5) ـ ص. 39
(6) ـ كانت العروض الكوميدية الأولى في إسبانيا تقام في أفنية "باطيو" المنازل والفنادق.. الشيء الذي كان له تأثير على بناية المسارح الأولى في إسبانيا في نهاية القرن السادس عشر، حيث كانت (كوراليس دي كوميدياس) عبارة عن أماكن مغلقة غير مغطاة، عبارة عن باحات مستطيلة تتوسط المنازل وفي أقصى الساحة توجد الخشبة التي يحيط بها المتفرجون من ثلاث جهات. انظر المسرح الإسباني في القرن السادس عشر وكذلك (corrales de comedias).
(7) ـ يثير الناقد والكاتب المغربي محمد غرافي في مقاله "سراويل طنجة السردية" نفس الملاحظات عندما يتطرق إلى أسماء وشخصيات رواية سراويل المدينة "إن الواقع الاجتماعي الذي يرصد تفاصيله الراوي بدقة ليس جديدا في الرواية المغربية خاصة والعربية عامة. لكن طريقة رصده هي ما يميز نص السراويل. لا تهم الأسماء. ولا حتى المهن التي تشغلها شخصيات أخرى في الرواية، مادام يجمع بينها انتمائها الاجتماعي الذي يحدد سلوكاتها ومصائرها. فالسارد البطل المتسكع قد يكون هو نفسه المهندس الزراعي الذي يشتغل أيضا سائق طاكسي في القاهرة، أو شابا عاطلا، أو ذاك المتسول الأعمى الذي لا يعرف حتى الراوي نفسه إن كان أعمى حقا. ثم ما معنى العمى؟ "نحن بأعيننا ولا نرى شيئا" يعلق الراوي (ص. 31)". انظر "سراويل طنجة السردية" ، عن : رابطة أدباء الشام، على الموقع التالي:
http://www.odabasham.net/show.php?sid=22076
(8) ـ ص. 75
(9) ـ ص. 6
(10) ـ ص. 38
(11) ـ "لا توجد أية علاقة بين الرسم الموشوم واسمه. فالاسم يمكن أن يكون مجرد حشو، وفي هذه الحالة يحمل اسم الرسم نفسه للمكان المعين من الجسم الذي ينتسب إليه، مثلا الصدر، ووشم اللحية. إن أمامنا هنا اسما مضاعفا يحجب في الوقت نفسه لعبة مسطحة ومزدوجة. وهذه اللعبة أكثر مقاومة على التحليل، ومتمادية في الخدعة. من منهما يرتبط بالآخر، الرسم أو الجسم؟" عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، منشورات الجمل، ترجمة محمد بنيس، بغداد ـ بيروت، 2009، ص.95.
(12) ـ ص. 6
(13) ـ ص. 6
(14) ـ يرى محمد غرافي أن الحكي في رواية سراويل المدينة (وكذلك في باطيو بينطو) "لا يرقى إلى مقامه الجمالي دون انتشاله من المألوف في تقنيات الكتابة الروائية العربية لغة وأسلوبا. ولذلك تنفجر اللغة هنا بكامل ثقلها الرمزي والبلاغي في حرية تلغي الحدود ما بين الفصيح والعامي، ما بين العامية المغربية والعامية المصرية، ما بين استحضار للشعر القديم والشعر الحديث والزجل والمثل الشعبي، ما بين إحالة إلى محمد عبد الوهاب منشدا لا تكذبي لكامل الشناوي أو الهوى والشباب للأخطل الصغير وأخرى إلى شخصية الرحالة ابن بطوطة وشخصية عبد الرحمان المجذوب وأشعاره في النساء. النص يستقي متعته أيضا من أسلوبه الساخر الذي عهدناه عند عبد اللطيف الإدريسي منذ مجموعته القصصية متاهات متقاطعة". انظر "سراويل طنجة السردية" ، سبق ذكره.
(15) ـ "لأن فضاء المدينة المعنية في النص يكاد يكون هو نفسه حيثما وليت وجهك في البلدان العربية، فإن السارد لم يتردد أن يشير بين الفينة والأخرى إلى أوجه الشبه بين مدينته ومدن أخرى (كالقاهرة أو اليمن) لا يذكرها بالاسم بل بأسماء أحيائها المعروفة : "رائحة مركبة طازج مثل تلك التي تتنعم بها في الحسين والإمام الشافعي والسيدة نفيسة والفسطاط..." (ص. 15). "آلهة من لحم ودم تزين الكراسي كزملائهم في لؤلؤة الحسين والفيشاوي وفي شوارع صنعاء المفتوحة والمغلفة.." (ص. 18). يعلق السارد على هذا التشابه الصارخ بين فضاءات المدن العربية : "تعجبت متسائلا إن كانت هذه المدن قد وقعت اتفاقية توأمة" (ص. 15)". انظر "سراويل طنجة السردية" ، سبق ذكره.
(16) ـ ص. 47
(17) ـ ص. 88
(18) ـ ص. 47
(19) ـ ص. 9
(20) ـ ص. 10
(21) ـ ص. 19
(22) ـ ص. 37
(23) ـ ص. 10
(24) ـ ص. 72
(25) ـ ص. 6
(26) ـ ص. 5
(27) ـ "كان أبي رجلا مسالما، يحلف كثيرا ويتكلّم قليلا ما عدا عندما يكون سكران. لأنه عندما يكون سكران، هات ما عندك للفرجة وللفرح والمرح. يطلق للسانه العنان. يكشف عن عيوبنا، يعني عيوب زوجته وأبيها وأمّها"، ص. 32
(28) ـ ص. 5
(29) ـ ص. 18
(30) ـ ص. 34 ـ 35
(31) ـ ص. 35
(32) ـ ص. 16
(33) ـ ص. 22
(34) ـ ص. 19
(35) ـ ص. 11
(36) ـ ص. 11
(37) ـ ص. 11 ـ 12
(38) ـ ص. 12
(39) ـ ص. 23
(40) ـ ص. 24
(41) ـ ص. 38
(42) ـ ص. 19 ـ 20
(43) ـ ص. 17
(44) ـ ص. 76
(45) ـ ص. 95 ـ 96
(46) ـ ص. 96
(47) ـ ص. 57
(48) ـ ص. 30
(49) ـ ص. 13
(50) ـ ص. 27
(51) ـ أثناء ندوة أقيمت في الجزائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، منشورات الجمل، بغداد ـ بيروت، 2009
يمنى العيد، في معرفة النص، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1985
محمد غرافي، "سراويل طنجة السردية"، عن المجلة الإليكترونية: رابطة أدباء الشام، 2008
محمد عمارة، التراث في ضوء العقل، دار الوحدة بيروت، 1980
عبد الله العروي، أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت
شيتولين، المقولات الجدلية وقوانينها، دار دمشق، 1986
علي زيعور، صياغات شعبية حول المعرفة والخصوبة والقدر، دار الأندلس، بيروت،