يبين الكاتب في مقالته أن الصراع العربي-الإسرائيلي مرّ بكثيرٍ من المحطات والمعرجات حتى وصل إلى اتفاقيات السلام والتطبيع الأخيرة، بعد عقودٍ من "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف"؛ فيما ردود الفعل العربية غالبًا على حالها في رفض الواقع وعدم تطوير استراتيجيات جديدة فاعلة تتعامل مع المستجدات.

التطبيع: غلبة الزمن‎

يامن صابور

 

في 5 حزيران/ يونيو 1967، شنّت “إسرائيل” هجوماً “مباغتاً” على سوريا ومصر والأردن، واحتلّت مساحات واسعة من الأراضي في الدول الثلاث بالإضافة إلى ما تبقى من الأراضي الفلسطينية. انعقدت القمة العربية في الخرطوم أواخر آب/أغسطس من العام نفسه، وصدرت عنها قرارات “حازمة” عرفت باسم “اللاءات الثلاث”: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف. في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 وعلى إثر مجريات حرب تشرين/أكتوبر 1973، حط الرئيس المصري أنور السادات في القدس المحتلة، وألقى كلمة أمام الكنيست يروج فيها لنظرياته “العبقرية” تجاه سلامٍ مستدام. اجتمع قادة الدول العربية مرةً أخرى في العام 1978 في بغداد هذه المرة تحت شعار رفض اتفاقية السلام التي وقعها السادات، وقرروا طرد مصر من جنة الإجماع العربي، ومن ثم عادوا واجتمعوا في تونس عام 1979 وفي عمّان عام 1980 في قممٍ صدر عنها الكثير من قرارات الشجب والتنديد والرفض، مع تأكيدٍ لا يلين حول مواصلة الكفاح والنضال والقتال. في أيلول/سبتمبر 2020، حط وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، عبد الله بن زايد آل نهيان، ووزير خارجية البحرين، عبد اللطيف الزياني، في واشنطن وتوجها إلى البيت الأبيض حيث وقعا اتفاق سلامٍ مع رئيس وزراء “إسرائيل”، بنيامين نتنياهو. لم يصدر حتى الساعة أي إشارةٍ لعقد قمةٍ ما هذه المرة في وقتٍ صارت الضغائن بين الحكام العرب أكبر من أي مصلحةٍ مشتركة، ودمّرت الحروب الأهلية عدة دولٍ عربية، وأنهك الفساد والفشل والطغيان معظمها. وهذا كله إن لم نضع في الحسبان أيضاً تلك الدول المصطفة بانتظار دورها لتوقيع اتفاقيات سلامٍ وتطبيعٍ مشابهة برعاية “رئيس الصفقات” دونالد ترمب.

من دون شكّ، يغفل الإيجاز أعلاه الكثير من الأحداث والتعقيدات على المستوين العالمي والإقليمي، والانتكاسات السياسية في المسار الفلسطيني والعربي التي هيأت الأرضية للتطبيع الحالي، ومن أهمّها محطات “مؤتمر مدريد” (1991) و”اتفاقات أوسلو” (1993 و1995) و”مبادرة السلام العربية” (2002). ولكن هذا الإيجاز في الآن ذاته، لا يخلّ حقيقةً بجوهر الصراع التاريخي وكمّ الانهزامات المسجلة فيه. كما أنه يتساوق مع التكتيكات العربية الثابتة في التعامل مع القضية الفلسطينية منذ العام 1948 وغير المتفاعلة مع المتغيرات فيها حتى اليوم. لا يتبدى الفشل الأكبر اليوم في واقع أن هنالك دولاً عربية تسعى إلى عقد اتفاقيات سلام مع “إسرائيل”، ولكنه يبرز في عجز الرافضين لهذا الواقع إنتاج تغييرٍ في ردود الفعل – وليس حتى في الفعل – التي ما فتأت تتكرر لدى كل استسلام عربي. ولا ترتكز ردود الفعل هذه على معطياتٍ ملموسةٍ من الواقع المرفوض، بل غالباً على انعكاساتٍ رغبويّة ترسم فانتازماتٍ تجاوز عمرها اليوم السبعين عاماً.

ولأن الدول العربية، جمهوريةً أم ملكيةً، تكاد لا تشترك سوى في أمرٍ واحد؛ القمع، فإنّه لم يعد لمن يريد الاعتراض على أيّ من تصرفات حكومته من ملجأ سوى منصات “السوشال ميديا”. وبعد لاءات قادة العرب الثلاث صارت “اللاءات الهاشتاغية” تُعدّ بالمئات في قناعةٍ تكاد تترسّخ لدى البعض بأن التغيير ينطلق حقاً من صورةٍ أو بضعة أسطرٍ تُترك في فضاءٍ افتراضي متلاش. وفيما “إسرائيل” تخطط وتعمل باستراتيجية النفس الطويل، صار العرب يعملون باستراتيجية “السوشال ميديا”، حيث يعيش المنشور لخمس ساعاتٍ على “فيسبوك” ولا تعيش التغريدة على “تويتر” أكثر من 20 دقيقة.

أما الوقائع الصلبة فهي في مكانٍ آخر تماماً. دول المواجهة مع “إسرائيل” أربعة؛ سوريا ولبنان والأردن ومصر. وقّعت الأخيرتان اتفاقيات سلام وتطبيع منذ سنوات، فيما الأوليان تقبعان اليوم في دمارٍ شاملٍ طال الاقتصاد والمجتمع والمستقبل التنموي. دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، هي إمارات “بيزنس”، ولم تختبر ما اختبرته جمهوريات الطوق من أحداثٍ وخضاتٍ سياسية، ولا يجب أن تقيّم بالمعايير نفسها. “هبّةٌ شعبية” تقلب الأنظمة وتنقض الاتفاقيات هي الرهان الذي يسود اليوم بين معظم منتقدي “اتفاق إبراهيم”. وُقّع “اتفاق كامب ديفيد” عام 1978، ووقّعت “معاهدة وادي عربة” عام 1994 ولمّا تحصل بعد تلك الهبّات المرتجاة. لا ينفي هذا رفض كثيرين في البلدين الصلح مع “إسرائيل”، ولكن العاطفة الشخصية ليست صانعة القرارات.

بحسب بيانات البنك الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في مصر في العام 1967 5.6 مليار دولار أميركي ووصل في العام 2019 إلى 303 مليار دولار. وعلى الرغم من تقاربه مع الأرقام في “إسرائيل” التي بلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها 4.03 مليار دولار في العام 1967 و395 مليار دولار في العام 2019، إلا أن تعداد السكان فيها يبلغ حوالي 9 مليون نسمة في مقابل ما يزيد على 100 مليون نسمة في مصر في العام 2019 بعدما كانت تسجل حوالي 32 مليون نسمة في العام 1967 في مقابل حوالي مليونين ونصف في “إسرائيل” للعام نفسه. أما الإمارات العربية المتحدة فيبلغ ناتجها الإجمالي حوالي 421 مليار دولار مع تعدادٍ سكاني يقدّر بحوالي 9.7 مليون نسمة، 12 في المئة منهم فقط من المواطنين. وفي العام 2020، يتأرجح الأمن الغذائي في سوريا ولبنان في مستوياتٍ خطرةٍ وكذا الأمن المائي فيهما وفي مصر. النزيف البشري مستمرٌ في هذه البلاد من دون هوادة. وفي عصرنا هذا، تُعدّ “إسرائيل” من الدول المنتجة للتكنولوجيا باستثماراتٍ تبلغ مليارات الدولارات، وتحاول الإمارات العربية المتحدة بدورها لعب دور المنتج للتكنولوجيا ولو كان ذلك عبر “شراء” العقول والكفاءات المصممة لها. أما سوريا ومصر مثلاً فهي من الدول المستهلكة تماماً للتكنولوجيا. ولا يمكن، في جميع هذه الدول، إغفال عوامل غلبة الميزان المعطوب ما بين الانفجار السكاني والناتج المحلي الإجمالي، وغياب المشاركة الشعبية الفعليّة في الحكم، وتبنّي سياسات كم الأفواه، وانعدام الكرامة والحريات الإنسانية الأساسية، وتفشّي الصراعات الدينية والمذهبية.

ليست هذه الأوضاع التي باتت سُنّة الحياة في دول الطوق، وما هي سوى غيضٌ من فيض، أكثر طبيعيةً من عمليات تطبيع العلاقات مع العدو التاريخي. تغيير هذه الوقائع والأرقام هو ما ينتج شعوباً قادرة على التغيير ومهيّئة لقبول اتفاقيات حكوماتها أو رفضها. أما الشعوب التي لا تجد خبزها كفاف يومها فلن يشغلها سوى تأمين ذلك الخبز، كما أن الشعوب التي أُتخمت خبزاً حلواً مستورداً لا تريد انقطاعه، وهي جميعها ليست في وارد التفاوض من موقع القوة.

 

(نقلا عن موقع أوان)