يبدو أن استخدام العامية المصرية هنا، كان نوعًا من المفاوضة مع الخرس، مع الصمت، فالعامية هي لسان الأم، وهي الكلام في مواجهة اللغة كنظام ذهني، تضيق المسافة ما بين الراوي والمحكي، تتضاعف الحاجة ليقدم الكلام شروطه الخاصة، يعيش الراوي حياته "يوم ورا التانى" فقط ليقدم برهانًا حيًّا على أن أمه الميتة –التي طالما اتهمت ظلمًا أن أولادها يموتون بسبب آفة في جسمها-كانت مظلومة؛ يعيش ابنها الناجي مقاومًا الانتحار حتى لا يسقط الكلام في فخاخ ضياع المعنى.

تجربة أمى

عبد الناصر حنـفي

 

ومن الحكايات، إن قبل ما أتولد بفترة أبويا وقف مسهم في الشغل، فصاحبه سأله: "مالك سرحان في ايه؟"، قاله: "كلها شوية والعيل حييجي ويعالم حينزل ميت ولا حيقعد وسطنا شوية ويخطف حتة من روحنا ويمشي زي اللي قبله".
الاتناشر سنة اللي سبقوا ولادتي كان فيها ست اخوات جم وماتوا، أول تلاتة عاشوا من سنتين لشهور، والتلاتة اللي بعدهم سقطوا أو اتولدوا ميتين.
صاحب أبويا قاله: "ما يمكن مراتك عيانة فجسمها مبيغذيش العيل كويس، ولو نفد من ده لبن صدرها بيرجع ينقله المرض".
أبويا كعادته حكى الكلام ده لأمي، من غير ما ياخد باله إن ده إتهام ليها إنها السبب المباشر في موت عيالها زي ما ستات العيلة كانوا بيلمَّحوا، وعشان كده اتفاجئ بكلامها عن اللي حتعمله قبل الولادة، وقرارها ان لو العيل نزل عايش مش حترضعه.
أمي عكس أبويا كانت دايمًا بتحاول تحسب الدنيا على أد متقدر، ومصدقة إن الحساب والتفكير والمواجهة ممكن يعملوا مصير، أو على الاقل يغيروه، أبويا كان شايف إن الوقوف قدام المصير عبث مبيجيش من وراه غير البؤس والكافية لأن ده كله رزق وقضا ربنا .. وإن هربنا منه حنلاقيه مستنينا منين منروح، بس أمي الموضوع بالنسبة لها كان أهم من إنها تسيبه يغلبها في الكلام زي كل مرة، لأن تلميحات اهله اتحولت فجأة لاتهام بقي واقف بينه وبينها ومفروض تعيش قدامه بقية عمرها، قالت: "نجرب"، : "حنجيب منين المصاريف دي كلها؟ وحنكفي ازاي حق اللبن البودرة؟"، ..."حتدبر، وإن عاش يبقى جاي برزقه .. مش ده قضا ربنا برضك؟".
نجرَّب ..... انا كنت التجربة دي.
مفيش حكايات كتير عن اللي حصل بعد الكلام ده، غير إشارات من ستي عن إن أمي قبل ما آجي كانت مبتعملش حاجة في البيت ومقضياها لف على المستشفيات والعطارين.
إنك تبقى حابب تصنع مصير لسه متشكلش حاجة ... وانك تتحدى أو تلاعب مصير خلاص حصل وبيتكرر حاجة تانية ... بس كل ده كوم وإن التحدي ده يبقى داخل في لعبة الموت كوم تاني ... وإنك فجأة تلاقي نفسك مش مسئول عن الحياة وقدامها بس ... إنما مسئول عن اللي خده وحياخده الموت منها ... فده حاجة غير كل اللي أمي عاشته ... وأتقل كتير من اللي أي حد يقدر يستحمله ... ولما ساعات بافترض إن كلام صاحب أبويا كان غلط وإنها مكنتش عيانة وقتها وإني عشت عشان إتعاملوا مع مصيري بحرص أكبر باعتبارهم مسئولين عني أكتر من إخواتي اللي سابوهم في إيد ربنا ... بارجع تاني افكر إنها حتى لو كانت سليمة وقتها .. فاللي عانته في الفترة دي كان كفيل بأنه يوقعها في المرض.
وده اللي حصل ... جاتلها أزمة قلبية لحظة ما ولدتني، وفضلت بين الحيا والموت 3 ساعات، وبتوع الإسعاف قالوا إن السر الإلهي مشي، ومشيوا .... أبويا بس اللي بعد ما اطمن إني نزلت عايش مصدقش إن تجربتها ممكن تخلص على كده ففضل جنبها يدلك في صدرها لغاية ما فاقت.
أنا منزلتش ميت زي اللي قبلي، وده يمكن كان أول نجاح لتجربة أمي في تحدي الدنيا، وحتى أبويا إبتدى يبص بصة تانية على لعبة المصير. وعشان يوفر لي علب اللبن البودرة بقى يخلص شغله الساعة خمسة ويطلع على شغل تاني، وأمي رجع لها طموحها وكأنه منزفش أبدًا من بطنها وصدرها، واشتركت في مشروع الأسر المنتجة، وجابت مكنة خياطة تشتغل عليها في البيت .. بس المرض مأمهلهاش كتير.
أنا تجربة أمي اللي افتكرت إنها نجحت وانتهت بولادتي عايش.... قبل ما تستوعب إن حياتي بقت تكرار يومي للتجربة دي مع المصير والموت، ونجاحها المتكرر إنها تقوم تبص عليا بالليل وأنا نايم فتلاقيني باتنفس، أو إني بالنهار أفضل أتحرك وألعب .. وأتكلم ... عشان تطمن إن المرض مبيتسربش لجسمي.
تجربة أمي كانت عذاب خالص لقلب مريض بيتوقع دايمًا إن كل يوم بيعدي حتى لو نجح في إنه يبعد الموت فده بيحصل عشان اليوم اللي بعده يقربه تاني ...
نجاح التجربة دي يوم بعد يوم كان معناه إنها أخيرًا قدرت تتحدى الموت والمصير المرعب اللي أبويا كان طول الوقت بينسحب قدامه ... وإنها قدرت رغم كل حاجة تروح لدنيا جديدة ومختلفة هي اللي مختاراها .. بس من جهة تانية النجاح ده كان معناه تأكيد متواصل لاتهامها إنها كانت السبب في انعدام مصير ولادها اللي ماتوا قبلي ... وأتخيل انها ارتضت ولو بلا وعي ألم شعورها المزمن بالذنب مقابل حياتي.
إنما في الآخر .. تحدي أمي المستمر للمصير والموت خلى المرض يزحف أكتر لصدرها، والسنين اللي بعد كده حتتحجز كتير للعمليات كل ما تروح تكشف، ودكاترة مستشفى الأزهر اللي لسه راجعين من بره حيفتحوا قلبها أكتر من مرة ويجربوا فيه جراحات جديدة.
تجربة أمي بالشكل ده كانت اقسى وأبشع من إنها تستمر كتير بدون ما تقربها باستمرار من نهاية مصيرها اللي حصل بعد حداشر سنة من مجيي ..وبنفس الطريقة اللي تمت ومكملتش ساعة ولادتي: أزمة قلبية دامت لساعات ... بس المرة دي جسمها مكنش عنده نفس القدرة على المقاومة، وبتوع الاسعاف قالوا للعيلة ارحموها من البهدلة .. وأبويا جه متأخر!
...
الطفل يتيم الأب بيبقى دايمًا عايز يروح للي براه ويطمن إنه موجود أو في انتظاره بحيث ممكن يطلب منه اللي هو عايزه أو بيحلم بيه، أما الطفل يتيم الأم فمش مطمن يروح لحد لأنه بيستنى اللي يجيله زي ما هي كانت بتعمل، ومش واثق في قيمة إنه يطلب أو يطالب بحاجة تيجي أو متجيش لأنه اتعود منها إنه ياخد الهبة قبل ما حتى يعرف إنه محتاجها، وعشان كده الطفل اللي من النوع ده دايمًا عايش لحظة انتظار جواها وحدة داخلية بتتحول مع الوقت إلى فراغ موحش وموجع في الروح، ولو الفراغ ده متملاش في بدايته بحاجة أو بحد بيفضل يزيد لغاية ما يقفل على نفسه حتة محدش من اللي حواليه يعرف يدخلها ولا حتى يشوفها بسهولة.
فاللي بيحصل لغيري حصل لي، باستثناء إن الحتة دي اتملت بقلق جاي من لحظات وحكايات مكنتش في وقتها مفهومة ... ويمكن مناطق منها لا زالت كده لغاية دلوقت، وده غالبا اللي خلى حتة الوحدة الموحشة دي متنفعش تبقى مينا هادية لحالة "انتظار اليتيم" زي ما ممكن تكون لغيري، لأن القلق وعدم الفهم قدام الحاجات اللي ملياها كانوا دايما بيطردوني لبراها ويرموني للدنيا.
ورغم كده فالحاجة وأربعين سنة اللي مروا بعد موت أمي كانوا حريصين على إن الوحدة دي ان مزادتش متقلش، وانتهزوا فرص كتير عشان يختبروا بقسوة كل اللي ورثته واتعلمته منها ومن أبويا، والأوقات اللي كان بيبقى عندي كل الأسباب اللي تخلي الدنيا مكان ميصلحش للحياة كنت بابقى متقطع ما بين انسحاب أبويا من استقبال المصير عن طريق إنه يغمض عينه ويغطس في الدنيا أكتر وأكتر بحيث يسيب للمصير ده عبء إنه يجري وراه ويلاقيه، وبين مواجهتها العنيدة دايمًا لمصيرها وإصرارها انه أيًّا كان اللي حيحصل فلازم يكون ليها قدامه تجربة فيها قرار وفيها محاولة.
بس حتى لما كان مبيبقاش في إيدي غير كبرياء المهزوم قدام الدنيا واللي مبيسمحش عادة إلا بقرار واحد ينهي كل حاجة، كنت في اللحظات ما قبل الأخيرة بحس إن القرار ده ميخصنيش لوحدي، وأن شجاعة أو حتى نبل الاعتراف بالهزيمة وإنهاء التجربة هو شيء لا يقارن بخسة إني أكون السبب في هزيمة أمي النهائية والقضاء على تجربتها وحرمانها من رهانها اللي جه وقت مكنش عندها غيره .. وهو إن التجربة دي تستمر يوم كمان ... وبعده يوم كمان.

انا كنت نتيجة لتجربة أمي ... اللي منحتني الحياة.
أنا لا زلت تجربة أمي ... ويمكن ده اللي مخليني مستمر عايش .. يوم ورا التانى.