يخبرنا النص باستحالة البداية، فقد تكون خنزيرًا متسخًا ينطلق حرًا في أحد ميادين مدينة "بروكسل"، رجلًا يقرر الرحيل من المسكن الوحيد الذي قضى فيه 60عامًا من عمره، رصاصةً غامضةً تنطلق في فندق مخلفة قتيلًا، وقد تكون عجوزًا يخطط للانتحارحتى ينتصر على الموت، لا حصر للبدايات، وكل بدايةٍ لها ماقبلها، وأى رواية علينا أن نتجاوز بدايتها إلى النهاية، هكذا الشكل االأكثر حيوية وإثارة، هو في جوهره بحث عن روايةٍ أخرى، أوظفرٍ متفردٍ هو جوهر ما عسى أن تقدمه الرواية كنوع.

العاصمة

روبرت ميناسه

ترجمة: سمير جريس

 

استهلال
خنزير! خنزير! هناك! رآه دافيد دو فريند عندما فتح إحدى نوافذ غرفة المعيشة حتى يلقي نظرة على الميدان للمرة الأخيرة قبل أن يغادر هذه الشقة إلى الأبد. لم يكن إنسانًا عاطفيًّا. لكنه سكن هنا ستين عامًا، ستين عامًا وهو يطل على هذا الميدان، والآن ها هو يهجر الشقة. «هذا هو كل شيء»، كانت هذه هي عبارته المفضلة؛ عندما يحكي شيئًا، أو يقدم تقريرًا أو شهادةً عن شيء، كان يقول جملتين أو ثلاث جمل، ثم يختتم كلامه قائلًا: «هذا هو كل شيء». كانت هذه العبارة، في اعتقاده، هي الخلاصة المشروعة الوحيدة لكل لحظة أو مرحلة من مراحل حياته. كانت شركة النقل قد نقلت المتعلقات الشخصية القليلة التي سيأخذها معه إلى عنوانه الجديد. «المتعلقات الشخصية» لفظ غريب، لكنه لم يترك أثرًا في نفسه. بعد ذلك حضر رجال الشركة المختصة بإفراغ الشقة من كافة محتوياتها الأخرى، لم يأخذوا معهم كل الأشياء الخفيفة أو غير المثبتة فحسب، بل انتزعوا من الشقة كل شيء، حتى المسامير، ثم فكوا كل شيء ونقلوه، إلى أن أصبحت الشقة خالية ونظيفة. كان دو فريند قد أعد لنفسه فنجانًا من القهوة مستغلًّا وجود الموقد وماكينة الإسبريسو قبل أن يُنقلا، وراح يشاهد الرجال، مُراعيًا ألا يقف في طريقهم. ظل ممسكًا بالفنجان الفارغ فترة طويلة في يده، وفي النهاية ألقى به في أحد أكياس القمامة. بعد ذلك انصرف الرجال. الشقة خالية. خالية ونظيفة. هذا هو كل شيء. نظرة أخيرة من النافذة. لا شيء بالأسفل لا يعرفه. عليه أن يغادر الشقة، لأن الوقت قد تغير. والآن رآه... فعلًا.. هناك خنزير في الشارع! في قلب بروكسل، في ميدان سانت كاترين. لا بد أنه جاء من شارع "دو لا براي"، راكضًا بامتداد السور المعدني أمام المنزل، انحنى دو فريند، ومد قامته خارج النافذة، وشاهد كيف انعطف الخنزير يمينًا عند الزاوية إلى شارع "دو فيوه مارشيه أوه جران"، تفادى الخنزير بعض المارة، ثم كاد يركض أمام سيارة أجرة.

اندفع كاي أوفه فريجه إلى الأمام بعد الفرملة المفاجئة، ثم ارتد على مقعده. لوى وجهه. كان متأخرًا وعصبيًّا. ماذا حدث مرة أخرى؟ في الحقيقة لم يكن متأخرًا، غير أنه يحرص دائمًا في لقاءاته أن يكون هناك قبل الموعد المحدد بعشر دقائق، لا سيما في الأيام الممطرة، حتى يذهب إلى دورة المياه ويعدل من هيئته بسرعة -الشَّعر المبلل بالمطر، وكذلك النظارة– قبل أن يأتي الشخص الذي تواعد معه.

صاح سائق التاكسي:

- خنزير! هل رأيته، مسيو؟ لقد قفز أمام السيارة تقريبًا!

انحنى السائق بشدة فوق عجلة القيادة، وواصل قائلًا:

- هناك! هناك! هل تراه؟

الآن رآه كاي أوفه فريجه. مسح بظهر يده الزجاج، ركض الخنزير إلى جانب الطريق، ولمع جسده المبلل في ضوء أعمدة الإنارة بلون وردي متسخ.

- لقد وصلنا، مسيو! لا أستطيع الاقتراب أكثر من ذلك. غير معقول! الخنزير كاد يقفز في السيارة! كنت محظوظًا، لا أستطيع أن أقول سوى ذلك!

كانت فينيا كسينوبولو تجلس في مطعم مينيلاس إلى المائدة الأولى بجانب النافذة الكبيرة التي تطل على الميدان. شعرت بالغضب من نفسها؛ لأنها حضرت مبكرًا عن الموعد. أن تكون جالسة في انتظاره عندما يأتي، لم يكن أمرًا ينمُّ عن الثقة في نفسها. كانت عصبيةً، وخشيت أن تكون الشوارع مزدحمة بسبب المطر، فحسبت للطريق وقتًا أطول من المعتاد. تجلس الآن أمام الكأس الثانية من الأوزو. يحوم الجرسون حولها كأنه دبور مزعج. راحت تحملق في الكأس آمرةً نفسها ألا تمسه. أحضر الجرسون دورق مياه آخر، ثم طبقًا صغيرًا به زيتون، قائلًا:

- خنزير!

- نعم؟

تطلعت فينيا إلى الجرسون، فلاحظت أنه يتابع المشهد في الميدان مأخوذًا؛ والآن رأته. كان الخنزير يعدو في اتجاه المطعم، بخطوات سريعة مثيرة للضحك، هذه القوائم القصيرة التي تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف تحت الجسد المستدير الثقيل. ظنت في البداية أنه كلب، أحد تلك الوحوش الضخمة المنفرة التي تعلفها الأرامل جيدًا، ولكن. لا، إنه حقًّا خنزير! كأنه خارج من كتاب مصور، نظرت إلى المنخار، والأذنين، كأنهما مرسومان بخطوط واضحة، هكذا يرسم المرء الخنزير للأطفال، ولكن هذا الخنزير بدا وكأنه فرّ من كتاب رعب للأطفال. ليس خنزيرًا بريًّا. كان الخنزير متسخًا، لكنه بشكل قاطع خنزير مستأنس، وردي اللون، به شيءٌ من الجنون، شيء ينذر بالخطر. سالت مياه الأمطار على النافذة، لاحظت فينيا كسينوبولو على نحو غائم أن الخنزير توقف فجأة أمام بعض المارة، القوائم مفرودة، تزحلق، ألقى بنفسه على جانب الطريق، ثم انحرف عن طريقه، وركض مسرعًا واثق الخطوة مرةً أخرى، الآن في اتجاه فندق أطلس.

في تلك اللحظة غادر ريزارد أوسفيتسكي الفندق. عند خروجه من المصعد شدّ قلنسوة الجاكيت على رأسه وهو يعبر بهو الفندق، ثم خرج من الفندق إلى المطر. كان في عجلةٍ من أمره، رغم ذلك لم يسرع كثيرًا حتى لا يلفت الأنظار. كان محظوظًا بالمطر: غطاء الرأس، والخطوة المسرعة، كان هذا في تلك الظروف عاديًّا تمامًا وغير لافتٍ للانتباه. لا ينبغي أن يدلي أحدٌ فيما بعد بأقوالٍ على شاكلة: لقد رأيت رجلًا يهرب، عمره تقريبًا كذا، وطوله تقديرًا كذا، ولون الجاكيت.. بالطبع، يعرف اللون... التفت في لمح البصر إلى اليمين، فسمع صيحاتٍ منفعلةً، وصرخةً، ولهاثًا غريب الوقع. توقف هُنيهةً، وألقى نظرةً إلى الوراء. الآن لاحظ الخنزير. لم يستطع تصديق ما رآه. خنزيرٌ يقف بين عمودين من الأعمدة الحديدية التي تحيط بالساحة المواجهة للفندق، كان يقف هناك برأسٍ منكسٍ، في وضع ثورٍ على أهبة الهجوم، يثير السخرية بعض الشيء، لكنه في الوقت نفسه يُنذر بالخطر. الأمر غامضٌ ومحيرٌ: من أين جاء هذا الخنزير؟ ولماذا يقف هناك؟ لدى ريشارد أوسفيتسكي الانطباع بأن الحياة كلها في هذا الميدان -على الأقل ما وقع في محيط بصره الآن- قد توقفت وتجمدت. عكست عينا الحيوان الصغيرتان ضوء النيون اللامع في واجهة الفندق، عندئذٍ شرع ريشارد أوسفيتسكي يعدو! ركض مبتعدًا في اتجاه اليمين، وألقى نظرةً أخرى إلى الوراء. طوّح الخنزير رأسه إلى أعلى مُصدرًا شخيرًا، وتراجع عدة خطوات، ثم استدار، وركض عبر الساحة صوب صف الأشجار المزروعة أمام المركز الثقافي الفلمنكي "دو ماركتن". ظل المارة الذين تابعوا المشهد يلاحقون الخنزير بأبصارهم، ولم يلتفت أحد إلى الرجل ذي القلنسوة.

الآن رأى مارتن سوسمان الحيوان. كان يسكن في المنزل المجاور لفندق أطلس. في هذه اللحظة تحديدًا فتح الشباك لتهوية الشقة، فلم يصدق عينيه: يبدو أن هذا خنزير! كان في تلك اللحظات مستغرقًا في تأمل حياته، والمصادفات التي أدت به –وهو الذي ولد وسط عائلة فلاحين بالنمسا– إلى الحياة والعمل في بروكسل، كان في مزاجٍ نفسيٍّ يجعل كل شيءٍ يبدو مجنونًا وغريبًا، ولكن أن يعدو خنزير بحرية في الميدان، فهذا أمرٌ يتجاوز كل جنون، لا بد أن هذا «مقلب» من صنع خياله، مجرد انعكاس لذكرياته! ألقى نظرةً أخرى، ولكنه لم يعد يرى الخنزير.

ركض الخنزير في اتجاه كنيسة سانت كاترين، وعبر شارع سانت كاترين، وواصل عَدْوَه في الجانب الأيسر من الطريق متفاديًا السياح الخارجين من الكنيسة، ثم تجاوز الكنيسة حتى وصل إلى "كي أو بريك". يضحك السياح، بالتأكيد ظنوا أن الحيوان المنهك الذي كاد يتهاوى مجرد فلكلور، وظاهرة من الظواهر المحلية. سيبحث البعض لاحقًا في الدليل السياحي عن تفسيرٍ لذلك. ألا يطلقون الثيران عبر شوارع مدينة بامبلونا الإسبانية خلال أحد الاحتفالات؟ ربما يفعلون ذلك في بروكسل مع الخنازير؟ يا لمرح الحياة عندما يرى المرء أشياء يعجز عن فهمها، حيث لا يتوقع مطلقًا أن يفهم كل شيء!

في تلك اللحظة انعطف جودة مصطفى عند الناصية وكاد يصطدم بالخنزير. كاد؟ ألم يلمسه، ويحتك بقائمته؟ خنزير؟ مرعوبًا قفز جودة مصطفى جانبًا، ففقد توازنه وسقط في الماء المتجمع في حفرةٍ صغيرةٍ. انقلب إلى الجانب الآخر مما زاد الطين بلةً. لم تكن قذارة الماء الفائض عن البالوعة ما جعلته يشعر بالاتساخ، بل ملامسة ذلك الحيوان النجس، هذا إن كانت قد حدثت أساسًا.

عندئذٍ لمح يدًا تمتد إليه، ورأى وجه رجلٍ مسنٍّ، وجهًا حزينًا مهمومًا، مبللًا بماء المطر، كان المسن يبكي على ما يبدو. كان ذلك هو البروفيسور ألويس إرهارت. لم يفهم جودة مصطفى ما قاله، لم يفهم سوى كلمة أوكي. رد جودة مصطفى: «أوكي! أوكي!».

واصل البروفيسور إرهارت حديثه بالإنجليزية، وقال إنه وقع هو أيضًا اليوم. كان مضطربًا جدًّا، فاستخدم كلمة failed أي فشل، بدلًا من fell. لم يفهمه جودة مصطفى، فقال مكررًا: «أوكي!».

عندئذٍ جاءت السيارات التي تومض بضوءٍ أزرق. الإسعاف. الشرطة. انتشر وميض الضوء الأزرق المرتعش الدوار في الميدان بأكمله. أسرعت تلك السيارات في اتجاه فندق أطلس وهي تعوي. ثم أدت سماء بروكسل ما عليها وأمطرت. بدت قطرات المطر الآن تومض بلونٍ أزرق، ثم هبت رياحٌ قويةٌ انتزعت من يد بعض المارة مظلات المطر، وقلبتها. قبض جودة مصطفى على يد البروفيسور إرهارت الممدودة ونهض. كان والده قد حذره من أوروبا.

* * *

مقتطف من الفصل الأول
مَن اخترع المستردة؟

ليست هذه بدايةً جيدةً لرواية. من ناحيةٍ أُخرى: ليست هناك بدايةٌ جيدة؛ لأنه ليست هناك بداية، سواء جيدة أو سيئة. أي جملةٍ أولى محتملةٍ هي نهايةٌ، حتى إذا تواصل الكلام بعدها. تلك الجملة تقف في نهاية آلاف من الصفحات التي لم تكتب أبدًا: ما قبل الحكاية.

عندما يشرع القارئ في قراءة روايةٍ، ينبغي عليه في الحقيقة أن يقلب الصفحات إلى الوراء بعد الجملة الأولى مباشرةً. كان ذلك هو حلم مارتِن سوسمان، أن يصبح حكَّاء لما قبل الحكاية. كان قد قطع دارسته في علم الآثار، ثم... ولكن الأمر سواء، هذا جزءٌ من الحكاية التي تسبق الحكاية، وعلى كل بداية روايةٍ أن تتجاهلها، وإلا فلن نصل أبدًا في النهاية إلى بداية.

جلس مارتن سوسمان إلى مكتبه بعد أن أزاح «اللاب توب» جانبًا، ثم راح يضغط على أنبوبتي مستردة من نوعين مختلفين. نظر إلى المستردة على طبقه، مستردة إنجليزية حارة، وأخرى ألمانية حلوة، ثم تساءل: مَن اخترع المستردة؟ مَن خطر على باله هذه الفكرة الغريبة، فكرة صنع «صوص» يغطي تمامًا على المذاق الطبيعي للطعام، دون أن يتسم في حد ذاته بطعم جيد؟ وكيف أمكن للمستردة أن تفرض نفسها كسلعةٍ جماهيريةٍ؟ إنها، هكذا قال لنفسه، منتجٌ مثل الكوكاكولا. منتجٌ لن يفتقده أحدٌ إذا لم يكن موجودًا. في طريقه إلى البيت مرّ سوسمان على فرع «دوليز» في شارع «أنسباك»، واشترى زجاجتَيْ نبيذ، وباقةً من زهور التيوليب، وسجقًّا، ومستردةً بالطبع. اشترى أنبوبتين؛ لأنه لم يستطع أن يقرر ما إذا كان يريد مستردةً حارةً أو حلوة.

والآن، ها هو السجق يئز ويقفز فوق سطح المقلاة، إذ إن الشعلة أقوى من اللازم. احترقت الزبدة، وتفحم السجق، رغم ذلك لم يهتم مارتن. جلس، وراح يحدق في دوائر المستردة على طبقه، دوائر صفراء وفاتحة قليلًا، وإلى جانبها حلقات بنية غامقة. بدت هذه الأشكال الصغيرة كأنها براز كلاب. لم يَرد في الكتب المتخصصة أن التحديق في المستردة على الطبق، في حين أن السجق يحترق في المقلاة، هو أحد العوارض الواضحة للإصابة بالاكتئاب، رغم ذلك يمكننا أن نفسر الأمر على أنه كذلك.

المستردة على الطبق. النافذة المفتوحة، المطر الغزير المتساقط بالخارج. الهواء الفاسد، رائحة اللحم المتفحم، طقطقة الأمعاء المتشققة والزبد المحترق، الأشكال الشبيهة ببراز الكلاب على الطبق الخزفي... عندئذ سمع مارتن سوسمان الطلقة.

لم يفزع. كان الصوت يشبه أن يقوم أحدٌ في الشقة المجاورة بفتح زجاجة شمبانيا. ولكن، ليس ثمة شقة خلف الجدار الرقيق للغاية، بل حجرة في فندق. بجواره فندق أطلس. يا له من اسمٍ تفخيميٍّ لهذا الفندق الصغير الذي ينزل فيه في المقام الأول ممثلو جماعات الضغط؛ يدخلونه مَحنيي الظهر، ساحبين وراءهم حقائبهم ذات العجل. من حين إلى آخر كان يتناهى عبر الجدار إلى سمع مارتن سوسمان –دون أن يكترث للأمر– أشياء لم يكن بالضرورة يريد أن يسمعها. تلفزيون الواقع، أو –مَن يعرف– ربما الواقع فحسب، شخير أو تأوهات.

ازداد المطر غزارة. تولدت لدى مارتن رغبة في مغادرة المنزل. كان قد استعد جيدًا للإقامة في بروكسل. في حفل الوداع الذي أقامه في ڤيينا، حصل على هدايا حاول أصحابها قدر جهدهم أن تكون مفيدةً ونافعةً خلال تأثيث شقته في بروكسل، ومن بينها عدة مظلاتٍ تقيه من المطر -من المظلة البريطانية كلاسيكية الطراز «لونج»، مرورًا بالألمانية «كنيربس»، ووصولًا إلى الإيطالية «ميني» بثلاثة ألوان من «بينيتون»-، إضافة إلى معطفين واقيين من المطر عندما يقود الدراجة.

جلس ساكنًا أمام طبقه محدقًا في المستردة. فيما بعد استطاع أن يقول للشرطة بدقةٍ متى أُطلقت الرصاصة، وذلك لأنه تحمس لفتح زجاجة نبيذ عندما سمع ما ظنه فرقعة زجاجة شمبانيا. كان يُرجئ الشراب كل يومٍ إلى آخر النهار بقدر الإمكان، ولم يكن يحتسي الخمر أبدًا قبل السابعة مساء. ألقى نظرةً على الساعة: كانت السابعة والنصف وخمس دقائق. سار إلى الثلاجة، وأخرج النبيذ، وأغلق الموقد، ثم ألقى بالسجق في صفيحة الفضلات، ووضع المقلاة في حوض المطبخ، ثم فتح صنبور المياه. سمع «طشطشة» المياه على سطح المقلاة الساخن. «توقَّفْ عن البحلقة في الحيطة!»، هكذا كانت أمه تنهره عندما يجلس أمام كتاب، محملقًا أمامه بنظرةٍ تائهة، بدلًا من أن يساعدهم في تقديم العلف للخنازير أو في تنظيف الزرائب.

جلس الدكتور مارتن سوسمان هناك، وأمامه طبق عليه مستردة. صب لنفسه كأسًا من النبيذ، ثم كأسًا أخرى، النافذة مفتوحة، بين الحين والآخر كان ينهض، ويقف عند النافذة ملقيًا نظرة قصيرة على الشارع، ثم يجلس ثانية إلى المائدة. عند الكأس الثالثة نفذ ضوء أزرق من النافذة ثم عَبَرَ جدار الغرفة. في المزهرية الموضوعة على المدفأة لمعت زهور التيوليب بلون أزرق منسجم مع الضوء الساطع من الخارج. رنّ التليفون. ألقى مارتن سوسمان نظرة على الشاشة ليعرف مَن المتصل. لم يجب على التليفون.

الحكاية التي تسبق الحكاية. إنها مهمة جدا، وفي الوقت نفسه تبرق مهتزة في الخلفية مثل الضوء الأبدي في كنيسة سانت كاترين، على الجانب الآخر من ميدان «فيو مارشيه أو جران» حيث يسكن مارتن سوسمان.

* * *

(...)

عندما عاد ألويس إرهارت إلى فندق أطلس، مُنع في البداية من دخوله. على الأقل فسرَ يد الشرطي الواقف على المدخل والمرفوعة في اتجاهه كأمر بالوقوف. لم يفهم ما قاله الشرطي، فهو لا يتقن الفرنسية.

كان قد رأى من بعيد الضوء الأزرق الدوّار الصادر عن سيارات الشرطة والإسعاف، فظنَّ أن شخصًا انتحر. سار ببطء في اتجاه الفندق، وعلى الفور انتابه مرة أخرى الشعور الذي سيطر عليه في الظهيرة: وكأن الخواء الذي يسقط فيه كل إنسان، إن آجلًا أو عاجلًا، قد تمدَّد في صدره وبطنه فجأة، وكأنه إعلان عن شيء أو مطالبة بشيء. منقبض الصدر، مبهور الأنفاس شعرَ أن الأمر معجزة، أن الخواء المتنامي من الممكن أن يتمدد إلى ما لا نهاية في غلالة الجسد الضيقة. الروح كثقب أسود يلتهم كل الخبرات التي مر بها طوال حياته ثم يُخفيها، ولا يعود يتمدد سوى الخواء، الفراغ المطلق، حالك السواد، ولكن دون وداعة ليلة تخلو من النجوم.

ها هو يقف هناك، أمام الدَّرَج المؤدي إلى مدخل الفندق، عظامه تؤلمه بسبب إجهاد العضلات المتوترة، وخلفه عدد قليل من الفضوليين محبي الفرجة. عندئذٍ قال بالإنجليزية إنه نزيل في هذا الفندق، وإن لديه غرفة، لكن ذلك لم يغير شيئًا من وضع الذراع الممدودة. كان الموقف في رأيه سورياليًّا للغاية، لدرجة أنه لن يتعجب لو ألقوا القبض عليه. لكنه لم يكن مجرد رجل طاعن في السن بدأ جسده يخذله على نحو نهائي، إنه أيضًا البروفيسور المتقاعد د. إرهارت الذي ظل طوال نصف حياته يمثل سلطة علمية. قال بحسم إنه سائح. يسكن هنا! في هذا الفندق. وهو يرغب الآن في التوجه إلى غرفته. اصطحبه الموظف إلى «اللوبي»، ثم أوصله إلى رجل في منتصف العقد الخامس يبلغ طوله نحو المترين، يرتدي بدلة رمادية ضيقة للغاية. طالبه الرجل بأن يبرز بطاقة هويته.

لماذا وقف البروفيسور برأس منكس؟ سلط بصره على البطن الكروي المنتفخ لهذا الرجل، وشعر فجأة بالشفقة. هناك بشر يبدون في وجودهم الفيزيائي الضخم أقوياء للأبد، يتمتعون دائمًا باللياقة، لا يمرضون أبدًا، إلى أن يرقدوا فجأةً وكأن البرق أصابهم، ويقضون نحبهم في عمر يقول عنه الناس: ليس هذا عمرًا يتوفى المرء فيه. كانوا يشعرون بالفخر بسبب بنيتهم الجسدية التي تجعلهم يعتقدون أنهم خالدون مخلدون، طالما أن باستطاعتهم أن ينصبوا قامتهم أمام الآخرين وأن يسيروا في الاتجاه الذي يريدونه. لم يواجه هؤلاء الناس أبدًا سؤالًا حول القرار الذي سيتخذونه إذا تقدموا في السن ومرضوا مرضًا عضالًا، أو تحولوا في غضون فترة قصيرة إلى حالة تستوجب الرعاية. هذا الرجل هش ومتعفن في داخله، وسيسقط قريبًا، لكنه لا يعلم.

قدم له البروفيسور إرهارت جواز السفر.

- متى وصل؟

- Parlez-vous français? No? English?

- متى غادر الفندق؟ وهل كان متواجدًا في الفندق بين الساعة السابعة والثامنة مساءً؟

- لماذا كل هذه الأسئلة؟

- فريق التحقيق في جرائم القتل. هناك رجلٌ لقي مصرعه بالرصاص في إحدى غرف هذا الفندق.

تؤلمه ذراعه اليمنى. فكر البروفيسور إرهارت أنه ربما لفت الأنظار؛ لأنه يمر بيده على ذراعه المرة بعد الأخرى، ضاغطًا على الذراع ومدلكًا إياه.

أخرج من الجيب الجانبي في معطف المطر الكاميرا الرقمية وضغط على زر التشغيل. استطاع أن يظهر له أين كان: التوقيت مثبتٌ على كل صورة.

ابتسم الرجل. وشاهد صورةً بعد أخرى. بعد الظهر في الحي الأوروبي، ميدان شومان. مبنى بيرليمون، مقر المفوضية الأوروبية، ومبنى يوستوس لبسيوس، مقر المركز الصحفي للمجلس الأوروبي. صورة للافتة الشارع، «شارع يوزيف الثاني».

- لماذا التقطت هذه اللافتة؟

- أنا نمساوي![1]

- آه.

تمثال «أوروبا الحلم» في شارع «دو لا لوي». التمثال البرونزي لرجل أعمى (أم أنه يسير نائمًا؟)، يقف على قاعدة التمثال ويخطو إلى الفراغ. ما أكثر ما يصوره السياح! هنا. الساعة السابعة والربع: الساحة الكبيرة. عدة صور حتى الساعة السابعة وثمانٍ وعشرين دقيقة. ثم الصورة الأخيرة: الثامنة وأربع دقائق، سانت كاترين، صحن الكنيسة. واصل الرجل الضغط على الزر لرؤية مزيد من الصور، فلم ير سوى الصورة الأولى. رجع بالصور إلى الوراء. المسيح، المذبح، وأمامه رجل يجلس على مقعد، وعلى ظهره كلمة Guinness.

ابتسم، وأعاد له آلة التصوير.

عندما دخل ألويس إرهارت غرفته، سار إلى الشباك، ملقيًا نظرةً عبر الزجاج إلى المطر، ثم مر بيده على شعره المبتل، وأصغى إلى صوته الداخلي. لم يسمع شيئًا. عندما وصل في الظهيرة، فتح النافذة على الفور، ثم مد رأسه وجذعه ليلقي نظرة أفضل على الساحة، انحنى إلى الأمام انحناءة أكبر مما ينبغي، كاد يفقد توازنه، لم يعد يجد أرضًا تحت قدميه، ورأى الأسفلت يقترب من وجهه، سار الأمر بسرعة فائقة، فدفع بنفسه إلى الوراء، ووقع على الأرض أمام الشباك، فاصطدم ساعده الأيمن بالتدفئة. جلس على الأرض ملتويًا في وضع يثير الضحك – شعر وكأنه يسقط سقوطًا حرًّا، وهو ما تجنب حدوثه لتوه، شعور قد يشعر به الإنسان في الثانية التي تسبق الموت. عندئذٍ شد قامته، وجلس على السرير، لاهثًا، ثم فجأةً اجتاحته الحماسة: إنه حرٌّ. ما زال. مستقلٌّ في قراره. وسوف يتخذ قرارًا. ليس الآن. ولكن في الوقت المناسب. سيقتل نفسه. يا له من تعبير سخيف! سيقرر بنفسه مصيره، إنسان حر! كان يعرف أن عليه أن يفعل ذلك، فجأةً عرف أيضًا أن بمقدوره ذلك. الموت –هذا ما أدركه الآن– تافهٌ وباطلٌ وحتميٌّ، مثل آخر نقطة في جدول الأعمال. كانت تلك هي اللحظة التي لا يعود يأتي فيها شيءٌ آخر. عليه أن يقفز فوق الموت. أن يقفز.

لا يريد أن يموت كما ماتت زوجته. كانت عاجزةً في النهاية، معتمدةً عليه في أن يقدم لها...

تناول جهاز التحكم عن بعدٍ وضغط على زر تشغيل التلفزيون. خلع القميص، فرأى كدمةً على ذراعه اليمنى. واصل الضغط على جهاز التحكم عن بعد. خلع السروال، وواصل الضغط! الجوارب، وواصل الضغط! السروال الداخلي، وواصل الضغط! كان قد وصل إلى محطة Arte. فيلم كلاسيكي بدأ لتوه: «من هنا إلى الخلود». مرت عقود على مشاهدته هذا الفيلم. استلقى على السرير. قال صوت: «هذا الفيلم تقدمه لكم وكالة parship.de، الوكالة الرائدة للعثور على شريك الحياة».

* * *

(...)

هل ثمة رجل يقف عند النافذة؟ المنتقم الأسود. الشبح. الرجل الظل. بدا وكأنه شخصية من المجلات المصورة، مرسومة على جدار المنزل المهجور: كل نوافذ هذا البيت الواقع بشكل مائل أمام فندق أطلس، على ناصية شارع «دو لا بري»، كانت مظلمة، ألواح الخشب غطت واجهة عرض المحل التجاري، وعلى الألواح المُسمَّرة تطايرت بقايا ملصقات نُزعت نصفها. وبجوارها على جدار المنزل جرافيتي، وكلمات مرشوشة بالبخاخة لا يمكن قراءتها. أسماء أماكن، خط سري، رموز؟ وأمام المنزل سور معدني مؤقت يحيط بورشة بناء عليه لافتة باسم شركة «دي مويتر» التي تقوم بنقل مخلفات البناء. بالطبع يعرف مفتش الشرطة برَنفو أن هذا الشكل الأسود المؤطر بمربع النافذة في الطابق الأول من المنزل الميت ليس «جرافيتي». لكن الشكل بدا كذلك. في كل ركن من هذه المدينة هناك جدران لمنازل عليها «كوميكس» تصل حتى سقف المنزل، ومنها نسخ أو تنويعات لرسومات «هيرجه» أو «موريس»، أو حيوانات «بونوم»، أو أعمال الشباب الذين يعتقدون أنهم خلفاء أولئك الفنانين. إذا كانت بروكسل كتابًا مفتوحًا، فهي مجلد «كوميكس».

خرج المفتش برَنفو من فندق أطلس حتى يعطي تعليماته للزملاء في سيارة الشرطة، للمرور على المنازل المجاورة والسؤال عما إذا كان أحد كان ينظر ربما بالصدفة من النافذة وقت وقوع الجريمة ولاحظ شيئًا.

- العام يبدأ بداية جيدة، يا حضرة المفتش!

رد برَنفو:

- كل يوم يبدأ بداية جيدة.

خفّ المطر. وقف المفتش فاتحًا قدميه، وشد سرواله لأعلى، وخلال حديثه مع الرجال ترك بصره يتجول على واجهات المنازل المقابلة. وهناك كان يقف.. ذلك الخيال المؤطر بالنافذة.

هناك وقف حقًّا رجلٌ عند الشباك. شباك منزل آيل للسقوط. ألقى المفتش نظرة إلى أعلى، وثبت نظره على الخيال. لم يتحرك الرجل. هل كان إنسانًا، أم دمية؟ ولماذا تنتصب دمية خلف ذلك الشباك؟ أم أنه خيال خادع للبصر؟ أم رسم جرافيتي؟ ابتسم المفتش. لم يبتسم ابتسامة طبيعية، بل داخلية. كلا، هناك يقف رجل! هل ينظر إلى أسفل؟ ماذا رأى؟

قال المفتش برَنفو:

- هيا، إلى العمل! أنت تتولى هذا المنزل، وأنت المنزل هناك! وأنت...

- البيت الآيل للسقوط أيضًا؟ إنه خالٍ!

- نعم، هذا البيت أيضًا.. ألقِ نظرة إلى أعلى!

في هذه اللحظة كان الرجل الظل قد اختفى.

* * *

سار مبتعدًا عن النافذة. أين سجائره؟ ربما في المعطف. كان المعطف ملقى على كرسي المطبخ، قطعة الأثاث الوحيدة التي ما زالت في الشقة. مشى دافيد دو فريند إلى المطبخ وأخذ المعطف. ماذا كان يريد؟ المعطف. لماذا؟ وقف حائرًا مسدِّدًا النظر إلى المعطف. لقد حان وقت الانصراف. نعم. لم يعد هنا شيء. لم يعد هنا شيء يمكن فعله. الشقة خالية تمامًا. نظر إلى البقعة المربعة على الجدار. هناك كانت صورة معلقة، «غابة عند بورتميربيك»، صورة لمنظر طبيعي ساحر. لا يزال يتذكر أن الصورة كانت معلقة هنا. كانت معلقة أمام عينيه طوال حياته، حتى سئم النظر إليها. والآن: بقعة فارغة. لا يرى المرء سوى أن شيئًا كان معلقًا هناك. حكاية حياة: إطار فارغ على ورق حائط لُصق هو أيضًا على حكاية سابقة. خلفه كان بالإمكان رؤية الحدود الخارجية للخزانة. أي الأشياء كان يحتفظ بها داخلها؟ ماذا يتجمع خلال حياة إنسان؟ القذارة خلفها! إنها تظهر عندئذ. غبار متراكم في شكل كريات، طبقة من الوساخة الرمادية الدهنية اللامعة. يمكنك أن تنظف طوال حياتك، نعم نظف حياتك كما شئت، وفي النهاية، عندما تخلي الشقة، تخلف وراءك الوسخ! خلف كل مكان تنظفه، وخلف كل واجهة تلمّعها. إذا كنت صغير السن، فلا تحسب أنه -عندما تُخلى حياتك فجأة- ليس هناك ما هو متعفن أو يعلوه الفطر. هل أنت صغير السن وتظن أنك لم تنل شيئًا من الحياة، أو أن ما نلته كان قليلًا؟ لكن الوسخ في الخلف هو دائمًا وسخ حياة بأكملها. لا تبقى سوى القذارة؛ لأنك قذارة، وتقبع في القذارة. لكن عندما تتقدم في العمر، فأنت محظوظ. غير أنك خدعت نفسك، حتى وإن ظللت طوال حياتك الضائعة تنظف... في النهاية سيخلون المكان، وماذا يرى المرء؟ قذارة. خلف كل شيء، تحت كل شيء. إنه أساس كل شيء قمتَ بتنظيفه. حياة نظيفة. هكذا كانت حياتك. إلى أن يظهر الوسخ. هناك كان حوض المطبخ. كان يغسل بلا انقطاع. لم يمتلك أبدًا غسالة صحون كهربائية. كان يغسل كل طبق وكل فنجان فور استخدامه. عندما كان يشرب قهوة بمفرده -وهو كان يعيش بمفرده، على الدوام تقريبًا كان يعيش بمفرده- كان يحتسيها واقفًا، بجانب الحوض، حتى يستطيع غسل الفنجان على الفور، يحتسي آخر رشفة ويفتح الصنبور، كان ذلك دائمًا فعلًا واحدًا: الغسيل، التجفيف، والتلميع، ثم إعادة الفنجان إلى مكانه حتى يكون كل شيء نظيفًا، كان ذلك دائمًا شيئًا مهمًّا بالنسبة له، حياة نظيفة، وفي النهاية: ماذا يرى المرء الآن، هناك، حيث كان الحوض: عَفَن، كريات من الغبار، وسَخ. حتى في الظلام أو في العتمة، كان المرء يرى القذارة. لم يعد هناك أثاث، لقد نُقل كل شيء، لكنه لا يزال هناك، لا يزال من الممكن رؤية الوسخ المتجمع تحت حياة مُنظَفة.

ألقى المعطف فوق الكرسي. يريد... ماذا؟ تلفّت حوله. لماذا لا ينصرف؟ عليه أن ينصرف. يولي الفرار. لم تعد هذه هي الشقة التي عاش فيها. لم تكن هذه سوى الغرف التي شهدت فترة ما قبل الحياة. أيقوم مرة أخرى بجولة؟ ولمَ؟ أعليه أن يحملق في غرف خاوية؟ سار إلى غرفة النوم. في مكان السرير كانت الأرضية الخشبية أفتح لونًا، المستطيل الذي ظهرت أبعاده بدا في العتمة مثل باب مسحور كبير يؤدي إلى غرفة سفلية. سار إلى النافذة متلافيًا السير فوق الباب الوهمي. لماذا لم يسر فوقه، لماذا ابتعد بمسافة كبيرة في هذه الحجرة الخالية حتى لا يمر به، وكأنه يخاف من أن ينفتح هذا المستطيل فعلًا ويبتلعه؟ لم يشعر بالخوف. مكان السرير كان دائمًا هنا، وهو سار من الباب إلى النافذة مثلما اعتاد طوال حياته أن يصنع نصف دائرة ويلتف حول السرير لكي يصل إلى النافذة. ألقى نظرة إلى الخارج: تقريبًا على مبعدة ذراع رأى سلم الإطفاء الخاص بالمبنى المجاور، وهو مدرسة. يطلقون جرس الإنذارة مرة في العام على سبيل التجريب، يعوي النفير، ويتدرب التلاميذ على النزول على الدرج بسرعة ونظام. ما أكثر المرات التي وقف فيها دافيد دو فريند عند هذه النافذة ليشاهد ذلك. الهروب. تمرين عليه. في متناول يده مثلما يقولون. كان السلم في متناول يده عندما انتقل للعيش في هذه الشقة. رجح ذلك كفة الشقة بالنسبة إليه. قالت البائعة إن موقع الشقة ممتاز، فوقف دو فريند عند النافذة ونظر إلى سلم الإطفاء ووافق قائلًا: نعم، الموقع جيد! فكر أنه –إذا اقتضى الأمر– بقفزة واحدة سيكون على الدرجة العلوية من السلم، ومن ثم يستطيع الهروب، في حين أنهم يظلون يطرقون باب الشقة. كان واثقًا من قدرته على فعل ذلك، لم يراوده شك، كان سينجح. أما اليوم؛ فلا يمكن التفكير في ذلك. أصبح السلم بعيدًا عن يده، لا يمكن الوصول إليه. منذ نصف قرن والأطفال الذين تدربوا هنا على الهرب هم دائمًا في العمر نفسه، دائمًا أطفال، هو وحده الذي تقدم في العمر، وفي الختام شاخ، أصبح ضعيفًا واهنًا، فقدَ لياقته. نظر من الشباك ولاحظ: لم يعد في متناول اليد. تذكر أنه كان يريد أن يدخن. عليه أن ينصرف أخيرًا، أن يختفي. سار عبر الممر، لكنه لم يذهب إلى المطبخ حيث كان معطفه وبه السجائر، بل مشى إلى غرفة المعيشة. حائرًا ظل واقفًا، يتلفت حوله باحثًا. غرفة خالية. كان يريد... ماذا كان يريد؟ مشى إلى النافذة، نعم: أن يرى هذا المنظر مرة أخرى، أن يلقي نظرة على المكان الذي قضى فيه حياة مهدرة بكاملها، محاولًا أن يعثر على «مكانه في الحياة».

ألقى نظرة إلى أسفل على الضوء الأزرق. لم يفكر في شيء. شعر بالبرد. كان يعرف لماذا. لم يفكر حتى في أنه يعرف، وأن الأمر لا يستحق عناء التفكير فيه. العلم القديم يكمن داخله. هذا شيء لم يكن يحتاج إلى أن يُصاغ في رأسه. دون أن يتحرك أرسل النظر إلى عربات الشرطة في الشارع، انقبض قلبه، ثم انبسط ثانية. الروح تهز كتفيها.

أثناء عمله معلمًا كان دائمًا يريد أن يقلع تلاميذه عن استخدام الجمل الفارغة من المعنى المليئة بـ«قال لنفسه».

ولكنهم لم يقلعوا عن ذلك. يظن الأطفال فعلًا أن الناس عندما يكونون بمفردهم لا يفكرون إلا في عبارات تبدأ بـ«قال لنفسه» أو «قالت لنفسها». ثم يحدث تصادم بين «قال لنفسه» و«قالت لنفسها» لتنتج عبارات على شاكلة «قال» أو «قالت». أما الحقيقة فهي أن السكون التام يتمدد حتى داخل الرؤوس تحت قبة السماء الكافرة. إن ثرثرتنا ما هي إلا صدى لذلك السكون. انقبض قلبه شاعرًا بالبرودة، ثم انبسط. انقبض، وانبسط. أخذ شهيقًا، ثم أطلق زفيرًا. كم هو قوي نبض الضوء الأزرق! يا لَنبض الضوء الأزرق!

في تلك اللحظة سمع جرس الباب. ثم خبطات قبضة على باب الشقة. سار إلى المطبخ، وارتدى المعطف. ثم مشى إلى غرفة النوم. تتالت الخبطات من الخارج على الباب. صنع دافيد دو فريند مرة أخرى نصف دائرة حول السرير عندما سار إلى النافذة. ألقى نظرة إلى الخارج. لا شيء في متناول اليد. جلس على الأرض، وأشعل سيجارة. الخبطات. الدق.

* * *

هوامش
*الكاتب
وُلد روبرت ميناسه في فيينا عام 1954. درس الأدب الألماني والفلسفة والعلوم السياسية في فيينا وسالزبورج، ونال درجة الدكتوراه عام 1980 بأطروحة عن «نمط الانعزالي في الوسط الأدبي». بعد ذلك قام ميناسه بالتدريس ست سنوات: في البداية أستاذًا للأدب النمساوي، ثم أستاذًا زائرًا في معهد نظرية الأدب بجامعة ساو باولو. يعيش ميناسه منذ عودته من البرازيل عام 1988 في فيينا متفرغًا للكتابة الأدبية وكتابة المقالات في نقد الثقافة.

حصل على عدة جوائز، من أهمها «جائزة الكتاب الألماني» (2017) عن هذه الرواية، وكذلك جائزة ماكس فريش من مدينة زيوريخ (2014)، وجائزة هاينريش مان من أكاديمة برلين للفنون (2013)، وجائزة مدينة آخن الألمانية (2018) عن مجمل أعماله.

*المترجم
درس سمير جريس الألمانية وآدابها في القاهرة وماينتس بألمانيا، وترجم من الألمانية نحو خمسة وعشرين عملًا من الأعمال الأدبية المعاصرة، منها: "وكان مساء" لهاينريش بُل (نوبل 1972)، و«عازفة البيانو» لإلفريده يلينك (نوبل 2004)، و«الوعد» لفريدريش دورنمات، و«حلم» لأرتور شنيتسلر، و"دون جوان" لبيتر هاندكه (نوبل 2019). ألّف كتابًا عن الكاتب الألماني جونتر جراس (نوبل 1999) بعنوان «جونتر جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي».

حصل على عدة جوائز عربية وألمانية تقديرا لترجماته.

 

*صدرت الرواية عن دار آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة 2019

 

 

[1] يوزف الثاني (1741 – 1790): الابن الأكبر للامبراطورة النمساوية ماريا تيريزا. حكم "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" من 1765 – 1790، وكان أول حاكم للامبراطورية من أسرة هابسبورج-لوترنيجن. ويعد يوزف الثاني نموذجا للحاكم المطلق المتنور، وقد أجرى في أثناء حكمه إصلاحات عديدة، منها إلغاء نظام الرق. (المترجم)