يشير كتاب نبيل بهجت إلى أن المسرح المصري لم يكن حكرا على الخشبات، بل كان متاحا للقراء على صفحات الدوريات. وبأن صيغ ووسائط العمل الفني تختلف، وتحوله إلى أدب مسرحي أكثر منه عرضا مسرحيا، لكن هذا كان إثراء للعمل، وهو ما نراه جليا في تجارب رواد الكتابة المسرحية في مصر.

مسرحيات مصرية كانت تقدم على صفحات الجرائد

محمد الحمامصي

 

قدم الثلاثي المسرحي الأشهر المؤسس والرائد في تاريخ المسرح المصري بديع خيري ويوسف وهبي وأبوالسعود الإبياري أعمالهم على خشبة المسرح وكذلك على صفحات الصحف، مدركين المرسل إليه متفرجا أو قارئا، وهذا ما التقطه الباحث نبيل بهجت أستاذ علوم المسرح في كتابه “المسرحيات القصيرة في المسرح المصري.. دراسة ونصوص” والذي جمع فيه ودرس مسرحيات الرواد الثلاثة مقدما صورة جديدة لهم.

ضم الكتاب 44 نصا مسرحيا قصيرا لكل من خيري ووهبي والإبياري، وهي نصوصٌ مسرحيةٌ مجهولة لهم نشروها في عدد من الدوريات المختلفة، ولم ينتبه إليها مؤرخو الأدب وناقدوه. وقد جاء في ثلاثة أجزاء كل جزء اختص بأحدهم مع دراسة تحليلية لنصوصه، وهو الكتاب الثاني في مشروع بهجت حيث نشر كتاباً سابقا في نفس السياق ضمن منشورات الهيئة العربية للمسرح بعنوان (تناقضات الخطاب والنص) ضم 49 نصًا قصيرًا لكتّابٍ مختلفين.

جذب القراء
بداية أكد بهجت أن هناك فرقا بين المسرح والجريدة كوسيلتيْ عرض، فالمسرح يختاره المتلقي مستسلماً لسلطته، أما الجريدة فتسعى إلى فرض هذه السلطة من جانبها، لذا فهي تلتمس وسائل متعددةً لجذب المتلقي، أولاها تتعلق بالعنوان الذي يجب أن يكون لافتاً لانتباه القارئ بشكل يطرح داخله العديد من التساؤلات التي تجبره على التوقف لقراءة النص؛ لتحليل شفرات هذا العنوان.

وقال إن يوسف وهبي لجأ إلى عدد من الوسائل لتحقيق هذا الغرض، مثل الاعتماد على ما هو مألوف في مسرحه من أجل جذب جمهوره الخاص لقراءة العمل فاختار من رصيد الميلودراما عناوين مثل “بنات الهوى” و”القدر” و”القربان” و”الكافر”، كما اعتمد على العبارات الشائعة والمعروفة التي يكررها الناس مثل “بدون كلام” و”عدة شغل” و”مكره أخاك”، وهذه العبارات التي يرددها الناس بشكل تقريري تجعل من النص حالة مألوفة ومن ثم يقبلون على قراءته، كذلك اعتمد على العبارات الموحية مثل “على مسرح الحياة”، و”الموعد”، واعتمد أيضا على العناوين الفكاهية مثل “محكمة الستات”.

ورأى بهجت أن وهبي نشر مسرحياته معتمدا على عناوين وصور تمثيلية كعناصر أساسية تسهم في خلق التشويق، وقدم من خلال هذه المسرحيَّات عددًا من الأنواع الدرامية المختلفة، منها: الميلودراما والكوميديا والمونودراما، كما كتب مسرحيَّة واحدةً دون حوار يمكن أن نعدها شكلاً أوليًّا لمسرح الصورة. وتتشابه حبكة ميلودراميَّاته المنشورة في الدوريات، حيث تدور في إطار الأسرة الواحدة، واعتمدت بشكل أساسي على المبالغات والمصادفات للتأثير على الجمهور، ودائمًا ما يدور الصراع فيها بين العاطفة والواجب.

أما عن أبوالسعود الإبياري فقال بهجت إنه نشر عددا من أعماله الدرامية في العديد من المجلات تحت عناوين مختلفة منها: مسرحية فكاهية، وقصة فكاهية، وقصة مصرية وفكاهة مصرية وفكاهة محزنة، ومسرحية مصرية ذات فصل واحد ومنظر واحد، وتمثيلية من فصل واحد.

وبالرغم من الاختلاف اللفظي الواضح في محاولاته الخاصة لتصنيف مؤلفاته آنذاك، إلا أنها جميعا جاءت كأعمال مسرحيةٍ قصيرةٍ، وتتشابه الملامح العامة لهذا اللون إلى حد كبير، فجميعها التزم الشكل المسرحي، من حيث الاعتماد على الحوار كأداة أساسية، وتبدأ الأحداث بإشارة إلى رفع الستار، ووصف المنظر، وتختم بلفظ ستار أو ستار سريع، وفرض اعتماد هذا اللون على الجريدة كوسيلة عرض لبعض الأساليب التي تضمن لها التأثير على المتلقي.

ولفت نبيل بهجت إلى أن الإبياري لجأ إلى عدد من الوسائل لتحقيق هذا الهدف، منها الجمع بين المتناقضات في هذه العناوين مثل: “أخ للإيجار” و”مدموازيل جاموسة” و”موعد مع الصدفة” و”ترفيه مؤبد”، فالأخوة تتعارض مع الإيجار، والمدموازيل تتعارض مع الجاموسة، والموعد يتعارض مع الصدفة، والترفيه يتعارض مع المؤبد. مثل هذه العناوين من شأنها إثارة ذهن المتلقي، وحثه على القراءة؛ لمحاولة فهم العلاقة بين هذه التناقضات.

وعمد الإبياري إلى بعض العبارات الشعبية فجعلها عنواناً لدرامياته مثل: “فرحة ما تمت”، و”عريس الهنا” “وش تعب”، كما اعتمد أيضاً على بعض العبارات المألوفة التي يكررها الناس بشكل تقريري في بعض المواقف، ليربط بين خبرة المتلقي والنص، من ذلك: “غلط في الحساب” و“النمرة غلط” و”رد شرف” و“نيرون يحرق روما”.

ولجأ أيضاً إلى العناوين الموحية، مثل “ليلة الدخلة” و“لوكاندة السعادة”، ليثير بها فضول البعض، وأحياناً كان يكتفي بجعل العنوان مقدمة للنص، مثل “امسك ناظر وقف”، و”المرأة دائما” و”أراجوز ومؤلف وفكرة”. وفي جميع الأحوال كان يحرص على إيجاد علاقة تفاعلية بين النص والعنوان لتحقيق المصداقية مع القارئ. وإضافة إلى العناوين اعتمد الإبياري أيضاً على الصور كبديل لخشبة المسرح ولتحفيز المتلقي على تفسير ما تحمله الصور بالقراءة. وقد تنقل لنا الصورة أكثر المواقف إثارة كالاهتمام بالموضوعات العامة، ونقد المجتمع، والتقريرية والمباشرة، والإرشادات المسرحية.

نصوص بالشراكة

وقدم بهجت نصوص بديع خيري: “كشكش عضو في البرلمان”، و“كشكش ليلة الفرح”، و“فاطمة وماري وراشيل”، و“جت سليمة”، و“اللي يخاف منه”، و”قلوب حسب الطلب”، و“اللص الكبير”، و“الغريم”، و“صديق للإيجار”، و“ملاك جهنم”، و“أصابع القرد”، و“السكوت من دهب”، و“العصر الحديث”، و“خدم وأسياد”، و“حارة سيبويه”، و“تجربة”، و“العاقل”.

تناول بهجت قضية “التأليف المشترك” بين نجيب الريحاني وبديع خيري كمدخل لقراءة إبداع بديع خيري، ووصل إلى أنه “ليس هناك مانع من أن يقترح الريحاني على بديع فكرة مسرحية معينة أو يعطيه اسم مسرحية أجنبية لو اقتبسها بديع فستحقق أرباحاً هائلة، فالمطلوب تفصيل العمل على الفرقة”.

ولكن الذي يمسك بالقلم ويكتب هو بديع. وهذا ما ذهب إليه يوسف حلمي، وهو ناقد عاصر الحركة الفنية لمسرح الريحاني منذ بدايتها تقريباً، واحتك بالوسط المسرحي احتكاكاً مباشراً حيث عمل محرراً للصفحة الفنية في جريدة “كوكب الشرق” التي كان يرأس تحريرها طه حسين.

يقول يوسف حلمي “أعتقد أن دور نجيب الريحاني في كتابة المسرحيات لم يكن إلا وضع اللمسات الدقيقة هنا وهناك حسب ما اكتسب من خبرة أربعين عامًا من الاحتكاك بجماهير المسرح، أما الأساس والبناء الكلي فكانا من نصيب بديع خيري الشاعر الموهوب والفنان الكبير المتواري دائماً خجلاً وتواضعاً وراء العبقريتين الكبيرتين: سيد درويش ونجيب الريحاني”.

وقد أكد هذا الرأي الناقد محمد شكري في مقاله عن تاريخ المسرح عندما أقر بأن بديع خيري هو مؤلف فرقة الريحاني، كما أكده لنا بديع خيري في وصيته الأخيرة للناقد محمد علي حمادة.

أما عن دور نجيب الريحاني في هذه المسرحيات، فينقل بهجت عن محمد علي حمادة قوله “وفهمت من الحديث الذي دار بيننا تعقيباً على ذلك بأن دور الريحاني لم يكن يعدو اقتراح بعض الإضافات أو الاختصار هنا أو هناك، وكان كرجل مسرح يزن كل عبارة وكل لفظ، ويردده فيما بينه وبين نفسه، كأنما يلقيه على المسرح وأمام الجمهور، وبعبقريته الفذة وإحساسه المسرحي العميق كان يقترح على زميله وصديقه بديع ما يراه في هذه النواحي، ثم يكتب بديع المسرحية من أول كلمة إلى آخر كلمة دون أن يخط الريحاني أو يملي حرفاً فيها”.

أما ما منع بديع خيري من التصريح بهذه الحقيقة في حياته وجعله يتركها وصية تُذكر بعد موته فهو وفاؤه الشديد لنجيب الريحاني، وخوفه من أن يكون رده في هذا مساس من قريب أو بعيد بصديق عمره ورفيق حياته، وهذا ما أكده لنا ناقد معاصر في مقاله “المؤلفون المسرحيون وكيف يكتبون رواياتهم” عندما قال عن بديع خيري “الأستاذ بديع خيري، هو رجل كتوم شديد الحياء، محال أن تعرف منه شيئاً عن طريقته في كتابة رواياته”.

 

(عن "العرب" اللندنية)