يعود الكاتب الفلسطيني إلى الطبيعة النظرية للخطاب وبنيته وكيفية تشكيله للوعي الجمعي، ومدى تغير مساراته، وكيف يلعب الخطاب وبنيته دورا بارزا في صناعة وعي الجمهور المُخاطب، وتنشيط الأبعاد التصورية الذهنية لديه، كي يصل من تلك العودة إلى حقيقة أزمة الخطاب الفلسطيني المعاصر، ومدى حاجته الماسة لصناعة تصورات جديدة.

الخطاب: بنيته وتركيبته ودلالة ابعاده

باسـم عـثـمان

 

الخطاب: هو منظومة من الأفكار تشكلت عبر تراكم معرفي نابع من استقراء للواقع بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية، وتمحورت عبر أنساق أيديولوجية مستمدة من التصورات المنبثقة من التراث أو من الحداثة، التي تختلف في آلياتها ونظمها حسب مستوى النضج الفكري والوعي بمتطلبات المجتمع، ومدى ارتباطها بمستوى الأداء الحركي في عملية التغيير والتنمية والحضور الوجودي.

يقول الفيلسوف توماس كون في كتابه (بنية الثورات العلمية): «في كل حقبة من حقب التاريخ يكون هناك نموذج وإطار ذهني يفكر من خلاله وبداخله علماء وأشخاص ذلك العصر، هذا الإطار الذهني بمثابة (صندوق) والناس يفسرون الأشياء من خلال هذا الإطار الذهني». هذه المنظومة الفكرية التي يتحرك الناس من خلالها في تفسيراتهم وخطاباتهم يطلق عليها توماس كون: (البرادايم) أي "النموذج الارشادي" او" النموذج الادراكي" أي بمثابة العقل الجمعي والسيكولوجيا الجماعية، ويرى أنه في كل عصر من العصور، هناك "برادايم" وإطار ذهني معين ومن خلال هذا الإطار يفسر الناس كل شيء، ولا يتهاوى هذا الإطار بسهولة، وعادة يأخذ وقتا طويلا إلى أن يبدأ يختل أمام وجهات نظر أخرى. وهو ما اطلق عليه توماس كون "تحول البرادايم" أو تحول "النموذج الإرشادي والادراكي"، حيث تطرح النخب الثقافية والعلماء أفكارا جديدة مختلفة تماما عما كان سائدا، وهي ليست مجرد أفكار عابرة، بل تحول حقيقي يغير مسار الفهم العام للأمور، والذي ظل سائدا لزمن طويل.

مثال ذلك في العلوم: ما أحدثه آينشتاين في نظريته النسبية بعد أن ظلت قوانين نيوتن حاكمة إلى ما يقارب ٢٠٠ عام، عاش خلالها علماء الفيزياء بتناغم علمي مع قوانينه، حتى وصلوا إلى انسداد في تطبيق بعض النظريات تجريبيا، فقام آينشتاين بطرح سؤال بسيط لكنه خارج البرادايم "النموذج الإرشادي" السائد علميا في تلك الفترة، وهو: ماذا لو كان الخلل في النظرية الأساس التي على أساسها وضعنا فرضياتنا العلمية، وأجرينا على ضوئها تجاربنا؟ ثم خرج بنظريته النسبية إلى العالم، دون وجود أي مرجعيات علمية سابقة لها، وأحدث ثورة علمية كبيرة ما زال صداها يتردد إلى يومنا هذا.

ولعل القرآن الكريم حدثنا بطريقة ما عن "النموذج الإرشادي" أوالبرادايم حينما أشار لحركة الرفض الجماعية لدعوة الأنبياء والرسل في بداياتها من قبل الناس الذين تتم دعوتهم. وكان تعليل رفضهم أنهم يتبعون "النموذج الارشادي" الذي اتبعه آباءهم وأجدادهم، ويرفضون أي تفكير أو فكرة خارج هذا الإطار الموروث الذي اعتادوا عليه. إلا أن صراع الأفكار والوعي والمنطق والتعاقب والتراكم المعرفي مع التقادم الزمني، استطاع أن يخرج هؤلاء ومن تلاهم من أجيال من الصندوق المغلق والبرادايم الموروث، والنموذج الإرشادي للأجداد والآباء، في قوله تعالى: "إنا وجدنا آباؤنا على أمة وانا على اثارهم مقتدون". لهذا -يخيل لهم البعض من الناس- ان الاصالة والفكر الاصيل هو الدخول الى الماضي لنغيب فيه، ونعتبر ان الماضي مؤصل في الشخصية، ومعمق في الوجود، فيجب علينا ان نقدس الماضي، حتى اننا نعتبر الاخطاء مقدسات.

وعلى هذا الاساس، تحدث بعض الناس، عن الفكر الاصيل كما لو كان تركيزا على التخلف؟! حيث ان الماضي يحتضن الكثير من التخلف في الفكر وحركة الحياة. إننا عندما نتحدث عن الفكر الأصيل وبنية خطاباته، فأننا لن نتحدث عن ماض يحتضنه الزمن، فيما يسمى تاريخا، فقد لا يحمل هذا الماضي في بعض مواقعه وخطوطه شيئا يتأصل الانسان به، بل قد يكون شيئا في السطح وفي الشكل، وقد نجد في الحاضر كثيرا من عناصر الاصالة الفكرية في الخطاب، يجد فيها الانسان نفسه ككائن حي تتجذر فيه مسؤوليته في الوجود.

إذا: القضية ليست انفعالا ننفعل به، وليست انتماءً طائراً ننتمي اليه، بل هي حياتنا، وفكرنا هو حياتنا، لان الحياة صورة لكل مفاهيمنا التي تفرض نفسها سلبا أو ايجابا، تقدما أو تخلفا، وذلك من خلال الوجدان الذي نحمله، لذلك، لا يكون الانتماء حالة طارئة في الانسان، بل هو حالة ثابتة في وجوده، لأنك بما تنتمي تكون. اذا، لا بد لنا من ان ننطلق لنفكر أولا، وليس الفكر الذي ينطلق ليدرس الانسان في خطوطه العملية في الحياة. ان نفكر وان يكون الفكر يساوي العقلانية والموضوعية، العقل الذي يقف مستنكرا ليلتقط ملاحظة هنا واخرى هناك، فكرة هنا و اخرى هناك. ندرس كل انتماءاتنا لنعقلها ولنؤصلها في وجداننا، لأننا قد نكتشف ان كثيرا من انتماءاتنا كانت ارثاً و لم تكن فعلاً!!

والارث ليس بالضرورة ان يكون سلبا دائما، لا بد لنا ان ندرس سلبياته و ايجابياته، لان إرثا ما تركه لنا اباؤنا قد لا يكون له دور في حساب حياتنا، لأنه ارث من زمن ماض انطلق من تجربة محدودة و تحرك في افق محدود. لهذا ليس بالضرورة ان نقدس التراث بل علينا دراسته، انه فكر اناس جربوا وتجربتهم خاضعة للظروف الموضوعية التي كان يمثلها زمنهم. لذلك هم كسبوا فكرا وعلينا ان نكسب فكرا آخرا، يخضع للظروف الموضوعية التي يمثلها زمننا. والبيان الإلهي يقول: «تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم»، لها ما كسبت من فكر خاطئ أو مصيب، ولكم ما كسبتم: لان لكل جيل كسبه، و ليس بالضرورة ان يكون كسب الاجيال السابقة هو كسبنا من مسالة الارث. وقد نكسب ما كسبوه لأننا اقتنعنا به ولأننا اردنا ذلك. لا .. لان الاخرين تركوا لنا ذلك.

لذا، نرى ان "البرادايم" وارهاصاته غالبا يمثل النموذج الفكري والقالب الذي يضع الناس أنفسهم فيه، نتيجة سيادة أفكار أو نظريات مدة طويلة من الزمن، تصبح مألوفة ومتعارفة وغالبا ما تتحول إلى مسلمات يتم توارثها عبر الأجيال. وهكذا يتشكل "النموذج الإرشادي" المغلق على مستوى التفكير والسلوك إلى أن نصل إلى مرحلة انسداد فكري، يعجز خلاله البرادايم السائد عن حل المعضلات المطروحة، أو الإجابة على تساؤلات اجتماعية وعلمية، ويفشل هذا النموذج مهما حاولوا تطويره من الداخل. وهنا تحدث الطفرة النوعية والتحول في النموذج الفكري من خلال طرح تساؤلات جديدة خارج البرادايم المألوف، وهوما يدفع للتفكير ضمن أطر فكرية مغايرة للمألوف والمتعارف عليه، ويصبح في حالة صراع جدلي بين ما هو موجود وما هو جديد، وكأنه معيار تطبيقي للقانون الديالكتيكي: (التراكم الكمي والتحول النوعي)، وفترة هذا الصراع قد تطول وتقصر وفق قدرة النموذج الجديد على إثبات نفسه من جهة، وقابلية المتلقي للنموذج الجديد من جهة أخري. والخروج من البرادايم القديم ليس بكل ما يملكه من علوم وفكر ومعتقدات، بل من كل ما تم عدم إثبات صحته وفاعليته، أو ما أثير حوله شبهات إقصائية، نتيجة التلاقح الفكري والثقافي والمعرفي بين الامم، ادى إلى اهتزاز النموذج الإرشادي القديم، وحصول طفرة نوعية جديدة في وعي المتلقين أدت لاهتزاز البرادايم السائد فكريا وسلوكيا.

ان القضية في عالم الفكر والانتماء والخطابة، ليست ان يكون لك شيء جديد دائما، ربما يكون لك فكر الاخرين، لكن على اساس ان يتحول ليكون فكرك بعد ان تقتنع به انت، وليس لأن الآخرين اقتنعوا به. وهكذا هي المسالة في عملية التفاعل "لنفكر معا" ولا تكون المسالة "فكروا لنا"، لان "فكروا لنا": يلغي وجودنا، و لكن "لنفكر معا": يمنحنا عمق هذا الوجود المتفاعل مع الوجود الاخر. إن الانسان الواقعي هو الذي اختار فكره ولم يتبع غيره، وهو الذي جعل قضايا الحياة والواقع المعاش قضايا هذا الفكر والانتماء، ليتأصل هذا الفكر في عمق الحياة، والانسان يؤصل انتماءه عندما يؤصل فكره، ليربطه بعقله ووجدانه وبكل ثوابت الحقيقة في الحياة.

لذلك، فإن اللغة والمفاهيم والافكار التي يتشكل منها الخطاب، لا تخرج عن ارهاصات البرادايم السائد ونموذجه، ليس فيما تشكله بذاتها كألفاظ ودلالات، وإنما في بعدها التطبيقي، ومحيطها الاجتماعي، وتأثيرات الزمان والمكان المؤثرة في صناعة ألفاظها وأبعادها الدلالية، وتشكيل بنية الخطاب. فالألفاظ التي تشكل بنية الخطاب هي صناعة أفكار صاحبها وتؤثر في توجيه وعي المتلقي بآن واحد، فهي وسيطة بين "الخطيب والمخاطب"، فهي من جهة حصيلة أفكار الاول، ومن جهة أخرى تشكل وعي وإدراك الثاني. فالخطاب وما يشمله من بنية لغوية ودلالية، لها أبعاد ودور في تشكيل التصورات وصناعة وعي المتلقي، وبالتالي تشكيل بنيته الفكرية وسلوكه الاجتماعي وبناء منظومته العقدية والفكرية.

مثال اخر في الخطاب القرآني: يقدم لنا القرآن الكريم منهجا عميقا في مواضيع مختلفة، ومن ضمن هذه المواضيع الخطاب وكيفية بنائه بناء موضوعيا وعميقا ومحققا لهدف الهداية بكافة أشكالها ، فالنظر للجانب البلاغي في القرآن وفصاحة عباراته، يتضح لنا مدى الدقة البنائية في تراكيبه وعباراته وفي استخدامات الألفاظ ومواقعها، وقد فصل الإمام عبد القاهر الجرجاني في هذا الجانب بشكل إبداعي في كتابه (دلائل الإعجاز) في علم المعاني، ووضح نظريته حول إعجاز القرآن في الفصاحة والبلاغة من عدة حيثيات وأهمها علم المعاني "الدلالات" ، كقوله تعالى في الوصف الدلالي والبنيوي والجمالي في سورة مريم: "قال ربي اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا". ويذهب الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز في علم المعاني إلى أن الكلام على ضربين: ضرب أن تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل.

الخطاب السياسي والبرادايم:
إذا، "البرادايم": نموذج وإطار ذهني يفكر من خلاله وبداخله أشخاص عصره، هذا الإطار الذهني بمثابة صندوق والناس يفسرون الأشياء من خلال هذا الإطار الذهني، ويقع في هذا المأزق البرادايمي عادة كل الخطابات وفي مقدمتها الحزبية والاجتماعية والسياسية، حيث تكون بنية الخطاب من حيث الألفاظ والنظم مولدة لدلالات تخضع في سياقاتها المعرفية "لبرادايم" الحزب وسياسته المعرفية والفكرية، فتكرس معرفيا تحيزات تتناسب ومراد الخطاب، وتتكرس هذه البراداميات المعرفية أكثر كلما كان الخطاب ذو رمزية خاصة كتلك الرمزية القدسية المتصلة بالدين أو بأهداف دينية أو بالسياسة العامة والرمزية السياسية، وقد يخضع الخطاب إلي برادايم الجمهور ليصنع ويبني خطابه منه، وهو ما لا يمكنه من معالجة أي أزمات داخلية سياسية كانت أو معرفية، بل هو يكرس ما هو موجود دون طرح مفاعيل وتساؤلات اعمق مما هو موجود – كما هو الحال في الحالة الفلسطينية وسياسات "المواقع الثابتة" او سياسات "الامر الواقع وموازين القوى الراهنة"، وما يشكل هذا من أزمة معرفية وفكرية وسياسية، ويؤدي مع التقادم إلى مهادنة الواقع أو تزييفه، وبالتالي يكون تشخيص حل الإشكاليات العالقة سياسيا أو معرفيا، - وفق الخطاب المراد- مبني على مجموعة من الخوارزميات المعرفية المضللة أو غيرالدقيقة، يختلط بها الواقع مع الوهم المعرفي لاستنباط الحلول.

الخطاب السياسي الفلسطيني:
لذلك نجد هناك خللا واضحا وجليا في الخطابات السياسية الفلسطينية ذات التعبيرات الايديولوجية الموجه الى الجمهور من كافة الاطياف السياسية، وذلك لعدم مقدرتها على تشكيل خطاب سياسي جماهيري خارج "النموذج الارشادي" المألوف وبنيته الإصلاحية في المرحلة الراهنة، وهو ما قد يشكل أزمة ثقة وتعايش وتواصل بين جهة الخطاب السياسي، ومكونات المجتمع ومثقفيه وجمهوره، وهذا ما نلمسه في واقع الحال من جملة الاستياء والتنكر لدى الجمهور الفلسطيني من مجموع البيانات والخطابات الموجه اليه، كبوادر حل واقعي ومنطقي لازمته الداخلية، وصون قضيته وحقوقه المشروعة. هذا يعني، أن بناء الخطاب السياسي في الحالة الفلسطينية يتطلب دقة بالغة وعميقة في دلالته وبنيته وأهدافه وروافعه الاستنهاضية، وخاصة القوى اليسارية منها، ليشكل حالة ثورية على الواقع الفلسطيني "المألوف" وخطاباته التقليدية والمهادنة لما هو قائم، والتي تكتفي بالنقد الاعلامي الإصلاحي دون التغيير الجذري.

إذا، يلعب الخطاب وبنيته دورا بارزا في صناعة وعي الجمهور المُخاطب وتنشيط الأبعاد التصورية الذهنية لديه، بل أيضا يساهم في صناعة تصورات جديدة تشكل قاعدة بيانات لصنع معارف وحلول، في حال تكاملت قاعدة البيانات التصورية بالأدلة وشكلت تصديقات ملموسة، حتما سيكون لها دور كبير في توجيه السلوك المجتمعي والجماهيري اجتماعيا وسياسيا. لنحاول ان نعيش معنى الواقع وتجربته ونستحوذ على استخلاصاته، لا ان نعيش معنى "الارث في الفكر وحقيقة الواقع"، علينا ان نبدع قناعاتنا في كل شيء لنمتلك وضوح الرؤية، نعرف ما نريد ونقرر ما نريد.