يقدم الكاتب العراقي هذه الرواية/ المرثية لبغداد التي كانت مترعة بالحياة، فأرداها الاحتلال قتيلة تحت سلاسل مجنزرة أمريكية لا تأبه إلا بوزارة النفط، ولا يهمها أن تسحق البشر والحجر. رواية مكتوبة بروحٍ جماعية يتضافر فيها الواقعي والتاريخي والمتخيل، وتتفاعل فيها الأجناس: سينما، أوبرا، فنّ تشكيلي، شعر، ومسرح.

«على أبواب بغداد» سيرة إنسان أمْ سيرة وطن!؟

رواية الكاتب الفنّان قاسم حول

عِذاب الركابيّ

 

"الوطنُ هوَ المحلُ الهندسيّ للعقلِ الكلّي وللحريةِ العُليا" – تيري إيجلتون – فكرة الثقافة

 

"إنَّ الروائي يبني أشخاصَهُ انطلاقاً من عناصرَ مأخوذة من حياتهِ الخاصّة، وأنَّ أبطالَهُ ما همُ إلاّ أقنعة يروي مِن خلالِها قصّتهُ، ويحلُمُ من خلالِها بنفسهِ" – ميشال بوتور – بحوث في الرواية الجديدة –ص64.

الحربُ، والفقرُ، والضعفُ، والخيانة، والاستبدادُ سهامٌ غادرة، تجرحُ كبرياءَ الوطنِ، وتُدمي قلبَهُ الربيعيّ، وتُحيلُ المواطنَ إلى اسمٍ منبوذٍ (لا أحد) في اللازمان واللامكان!!

(على أبواب بغداد)* رواية الواقع! مشاهدُ جارحة لشخصيات حقيقية، عبرَ فسفور حروفٍ باهرٍ، حقيقتها المؤلمة المضنية، أنقذتها من موتٍ محتومٍ في صفحاتِ تاريخٍ – حماقة قاسية، ترتبط ُبهِ كثيراً، وتاريخ ٍمكتوبٍ (متاهة ومفاتن وطنية زائفة) – على حدّ تعبير ماريا فارجاس أيوسا، تُضيفُ لهُ سطوراً، وجملاً، وأحداثاً، وقصصاً، واقعيتها مشنقة ٌ للمواطن الذي أضحت المعاناة هويته، واسمه، وعنوانه الدائم! البطلُ الأوحد في الرواية (عبد الله) مصور في التلفزيون العراقي، ويلقّبُ بـ(عبد الله الكتفي) لكثرة ما يراهُ الناس والكاميرا على كتفهِ دائماً، وكأنّها منطادُ النجاة حينَ يصبحُ الواقع المعيش جحيماً لا تستضيف نيرانه إلاّ الصورة، وهي مصدرُ رغيفه المرّ في (وطنٍ غالٍ) مصادر حتّى إشعارٍ آخر.

و(عبد الله) هذا هو لسانُ حالِ الكاتب – الراوي، ضميرهُ وهو من قماش الفصول، ولغتهُ الطازجة التي يفضحُ من خلالِ حروفِها البركانية كلّ ما هو مسكوت عنهُ، وخادش لكبرياء الوطن، وممتهن لإنسانهِ البسيط الّذي يعقدُ حلفاً مع القهر والذلّ، ويُمكنُ لضمير الراوي الـ(أنا) (أنْ ينتقلَ في كلّ لحظةٍ من شخصٍ إلى آخرَ، وأنْ يجدَ مَنْ ينوبَ عنهُ باستمرار) – كما يقولُ ميشال بوتور .. وهذا واضحٌ من خلالِ التكنيك الروائي، وهو الأهمّ، والراوي يتنفسُ هواءً ممزوجاً بدخان الفجيعة من خلال أبطاله (عبد الله) وصديقه (محمد) والعسكري (عبد القادر) و(أمّ عبد الله) و(لنْ تكونَ للروايةِ فرصة للحياة، إلاّ إذا كانت الشخصيات حقيقية) –كما ترى فرجينيا وولف – نظرية الرواية ص182.. و(عبد الله المصور) هو الابن الوحيد لعائلته – لأمّهِ، و(بغداد) دار السلام هي امرأة فاتنة – ابنة حضارة تقهرُ الزمن وتهزمهُ، وتأخذ الكثير من عمرِ الكلمات والحجر والمدى.

(عبد الله) يرصدُ الواقعَ، يسجلهُ بألوانٍ تسحرُ العين، وتوجعُ القلب في الآن، وهو سعيدٌ راضٍ بعملهِ: (أنا أشعرُ بالسعادةِ والاكتفاء لأنّني أقدّمُ شيئاً جميلاً لبلدي) – ص18.. و(بغداد) صديقة الكوارث المتلاحقة، والحروب المفتعلة منذ وضعت أول أبجدية للتاريخ، عبث (هولاكو) و(التتار) بقلبها الريحانيّ وحياتها، وبدلّوا النورَ بالظلام، والنهارات الكرستالية بالليالي الحالكة، وجرحوا ضميرَ نهرهِا العاشق ِ– دجلة، حينَ حوّلوا ماءَه الزلالَ إلى حبرٍ وإسفلتٍ ونفاياتٍ وموتى. .. ومروراً بحرب الخليج الأولى والثانية، وإلى سينما الرعب اليوم والموت المجاني، لا حلف لبغداد مع التاريخ، ولا مع الغزاة، ولا مع الطغاة والحكام والسلاطين. فكيف لـ(عبد الله) أنْ يصورَ مشهداً صباحياً، تؤرّخهُ قطرةُ الندى، وعطرُ النسماتِ، وأصواتُ العصافيرِ، وإغواءُ الفاتناتِ البغدادياتِ، وهو يسألُ نفسهُ دائماً : (متى أصورّ مشاهدَ ليسَتْ فيها حروب، مشاهدَ ذات قيمة إنسانية جميلة، لقدْ تعبتُ من الحرب) – ص19.

"وكلّ جهدٍ الروائي هوَ عملية سكب الذات في الشخصية التي يخلقها" – إليوت !! والكاتب – الراوي – الضمير – الذات الأخرى هو (عبد الله) تارة ً، وهو (بغداد) بكل جراحها المزمنة وحزن شوارعها تارة ًأخرى، وسيرة (عبد الله الكتفي) هي سيرة (بغداد) والعكس صحيح! والبورتريه المرسوم بدمِ القلب، ورماد الجسدِ لـ(عبد الله) هو بملامح مدينة، دوّخت التاريخ والرواة، وأنهكت كلّ حراب الزمن، وجاء يومُ الثأر منها ومن مواطنها الذي هادنّ وألّهَ حكامَهُ، وبدأ نفقُ حياتِها المظلم، حينَ تنازلت عن بهجتها، وروّضت ذاتها العالية، حينَ اقترنتْ باسم ِحاكمِها، ولا ذنبَ لبغدادَ بزلةِ قدمِ الحاكم، وصخبِ غطرستهِ، وبدلاً من أنْ تحرّرَ العدالة ُ محضراً بالخلاصِ من الحاكم، صدرَ الأمر ممهوراً ببصماتِ العالم بالخلاصِ من بغداد، ومحاربة مواطنها البسيط بكلّ وسائل الإذلال والقهر والظلم.

«تساءل عن هدف الحرب، وهلْ أنّ رأس الحاكم هوَ المطلوب أمْ المطلوب رأس الوطن؟» – ص23!! واستبدلت كلمة (التحرير) وهي ضبابية وزائفة، وبلا أبجدية بــ(الاحتلال) الهدف الأسمى. وأصبحت (بغداد) وهي تنعى شموخها، وغياب صوتها التاريخي والحضاري، وبقية المدن العراقية التي تنامُ في سرير الشمس، وتصطاف في ضوء القمر، في قبضة المحتل الطامع، قرصان العصر الحديث بلا منافس، وسقطت ورقة التوتِ عن جسدِ العالم، وصارَ العهرُ السياسي منهجاً، والفضائح بحروف كبيرة صدئة، وأصبحَ المحتل الأمريكي، وأتباعه من كلّ جنسٍ وعرقٍ ولونٍ، وحواريوه همُ الحاكمين، وهم أصحاب الأرض، وحُرّاس الأمان والعدالة والحق، وكان أول بنود العدالة والأمان إلغاء الجيش العراقي – مرجع القوة العربية، وانهار كلّ شيء، وأصبح المواطن العراقي بلا اسم، وبلا خطى، وبلا بيت، وبلا عنوان، وأيّ خطوة مريبة، أو رمشة عينٍ بريئة تصدرُ منهُ فأنّ فرقة (البلاك ووتر Black Water) الأمنية لهُ بالمرصاد.

وكمْ هو مضحكٌ – مُبكي وسوداوي محزن، حينَ يخرجُ بعض العراقيين البسطاء ليتفرجوا على موكب مسؤول عسكري أمريكي في أحد شوارع بغداد، فتمطرهم فرقة (البلاك ووتر) بالرصاص من دون ذنبٍ، وتلون الرصيف دماء العشرات من الأبرياء: (مرتزقة البلاك ووتر همُ من جنسيات غير أمريكية، بلْ أنّ نسبة كبيرة من الجنود همُ مواطنون أمريكيون من الدرجة الثانية، أتوا إلى أمريكا هرباً من الفقر في بلدانهم على أمل الحصول على البطاقة الخضراء، التي تؤهلهم لنيل الجنسية الأمريكية) – ص27. وكلّ ما في أجندة المحتل الأمريكي وجنوده الهجينين ومرتزقتهِ من كل جنسٍ وعقيدةٍ، هي كراهية الآخر – العراقي والانتقام منه، تهميشه، إذاقته ترابَ الأرضِ، وصديدَ الوقت. وليسَ بينَ هؤلاء التتريين وبينَ العراقي البسيط من لغة للحوار إلا الرصاص والموت.

هوَ كانَ يحلُمُ بـ(الحرية) بعدَ حكم الطغيان، وظنّ واهماً ظامئاً متحمساً أنّ شمسها، وهي برطوبة الوقت المهادن، تشرقُ بإيعازٍ من (المحرّر) (نبي الحرية) الجديد .. من (المحتل) ولكنّه اكتشفَ الخدعة، وأكبر كذبة ألّفها العالم، لإلغاء بلدٍ من الخريطة، وهو العمق العربي، والسيطرة على ثرواته ونفطه، والعبث بحقولهِ وغاباتِ نخيلهِ التي غابت عنها الشمس، وأحرقها رصاصُ الطائرات الغادرة، ووجد المواطن نفسه أن منظره لا يعجبُ المحتل، ولهذا فأنّ موته لا يختلفُ عن موتِ حشرةٍ، ونسيانه تماماً كما نسيان أي شيء تافه، وهو في أجندة المحتل نسيان النسيان: (اليوم كانت عندي رغبة أنْ أقتلَ واحداً من هؤلاء أبناء الـ...! سأكون سعيداً لو شاهدتهم وكلّ منهم يتهاوى بعدَ أن أسدّد نحوه فوّهة بندقيتي، وتخرج نغماً كمْ أعشقهُ، نغماً يودي بأولاد الـ... ميتين في الحال، أنا لا أحبّهم، أشكالهم بحدّ ذاتها لا تعجبني، وملابسهم لا تعجبني) – ص28.

ويكتشفُ المواطن بعدَ صفعة ندمٍ، ووابلٍ ناري من الذنوب التي لم تتلوها مغفرة، أنّ هذا (المحرّر) الذي ظنّ أنهُ (مخلوق ملائكي)، ولديه خريطة كنوز اللؤلوء والمرجان و(علي بابا) بغداد الجديد، إذا بهِ غول .. تنين، وهو يعيدُ على أرض بغداد سُلالة هذا المخلوق الخرافي وقدْ انقرضت منذ زمنٍ بعيدٍ. المحتل، الغول، الطامع، الحاقد، إمبراطور البشاعة والكراهية والموت، والأحلام المقيتة المتلوّة بيقظة قاتلة: (لماذا الثروات عندهم والجفاف عندنا؟ لماذا ليسَ في بلادنا بترول؟ لماذا البترول عندهم؟ وهلْ يحقّ لهم الاستيلاء عليه وحرماننا منه؟ هؤلاء ليسوا بشراً، هم لا يستحقون الحياة، قومٌ متخلفون، بدو في صحراء) – ص29.

هذهِ هي الحقيقة وهي (مزيج من كلّ شيء) كما يقولُ هنري ميللر .. وهذهِ هي حقيقة المحتل، لا أجندة لديه للحبّ، والكراهية دستورهُ المكتوب بلغةٍ بركانية، وبلاغة حاقدة .. تلك هي صورته، وذلك هو فعله و(الإنسانُ هو ما يفعلُ) بتعبير أندريه مالرو، هذا إذا كانَ إنساناً أصلاً: (أنا أجيد فنّ الكراهية بخاصةٍ مع هؤلاء) ص29. فهل يُمكن أنْ يقاومَ الفتى (عبد الله) نيران هذهِ الكراهية بعدسة كاميرته؟ وأي سلاحٍ هذا الذي يمتلكهُ (عبد القادر) الحالم بالانتصار، وهو لا يحبّ الهزائم، ومخازن السلاح، وأضابير الدولة، وعقود النفط، وشمس الميادين، وأضواء الشوارع، كلّها صارت مُلكاً مستحقاً، بمهادنة وتأييد العالم، للمحتل الذي أحرقَ في نهارٍ جارحٍ راية (التحرير) ورفع راية (الاحتلال) على أعمدة المبرّرات والأكاذيب والأطماع الفاضحة، ورصيد لا ينفد من الرعب والخوف والقتل: (هو الخوفُ يُسيجُ المدينة، ويندسُ في شوارعها وحاراتها، وبيوتها) ص52.

وفي لحظةِ تشظّي الكاتب – الراوي، والذات المتهدمة، فأنّ عبقرية الرواية تتجسّدُ في ظلال هذا التشظّي والانهيار الروحي، كلحظة اكتشاف و(الروائي مكتشف) كما يقول ميلان كونديرا، وهو يُسمّي، ويصفُ، وينغّمُ الألم بلغةٍ مشحونة، تتوّجها الشفافية والبساطة، لغة (قابلة للإدراك) بتعبير بارت، وهذا ما كان عليه الكاتب – الروائي – الفنان قاسم حول مُصرّاً ألاّ يتخلى عن سينمائيته المثيرة، وهو يضيء ردهاتها زمناً طويلاً، لتأتي أحداث الرواية مشاهدَ .. صوراً .. فلماً عبقرياً، بقدر ما فيه من متعةٍ فهو جارح حتّى الموت : (يا إلهي ما أقسى أنْ يرى الإنسان مدينة خاوية، سيما يرى مدينته بالذات .. بغداد خاوية، صارَ يناجيها .. أمِنَ العدل أن تبدين ساكنة ولا حراك، أنت أمّ الليالي، وزهوة الأمس، وعشيقة التاريخ، وسلالم التآلف .. أيتها الذروة .. أيّتها المتألقة .. بغداد) ص58. كمْ هو صريح وصادق الروائي المتمرّد هنري ميللر، حينَ عدّ السياسة (عالماً خبيثاً ملوثاً) في (اعترافات الثمانين)، وكانت جرأته قدْ تعدت ذلك، بسخطٍ لا مثيل لهُ، وهو يقول في روايته (ربيع أسود): (أنّ أمريكا لعنة سوداء على العالم) و(تربة شيطانية).

لأنّ السياسة بطبيعتها لا تستسيغ الحقيقة ولا تهضمها وأنها (تكن نفوراً لقول الصدق في جميع الظروف والأحوال) – كما يقول ج. م. كوتسي في روايته (يوميات عام سيء) – ص170. وهذهِ هي حقيقة بغداد، وواقع إنسانها الحالم بفردوس أرضي، آلهته المزيفون: بوش، رامسفيلد، كولن باول، وأتباعهم من القتلة والسفاحين بلا هوية .. وإذا بهِ جحيم الآخرة، وإذا بهِ حزن، ويأس، وجوع، وقهر، ومرض، وموت متعدّد الأشكال والوجوه .. وصارت بغداد تقاوم الاحتلال برئتين ناحلتين، يُربكُ نبضهما هواء فاسد، برائحة الدخان والموت والجثث في كلّ مكان، وكان سخط (دجلة) دعاءً نارياً: (حيث شحّت الأدوية في الصيدليات، ولم تعد في العراق بضائع تغطي حاجة الناس، والمرتبات ضئيلة، لا يكفي المرتب الواحد لشراء طبقٍ من البيض) ص64.

وهكذا حينَ يرتبط الوطن باسمِ الحاكمِ، ويصبحُ الحاكمُ هو الوطن، يغيبُ عن المواطن المقهور أنّ الوطن يغدو متاهة Labyrinth، وكلّ ما يوعدُ بهِ الحاكمُ ليسَ سوى (مفاتن وطنية زائفة) .. ولكن (ضعفنا نحنُ البشر كثيراً ما يفرضُ عليْنا طاعة القوة) – كما يقول إيتيان دي لابوسيه في مقالتهِ عن العبودية: (هلْ تعرف يا أخي عبد الله أنَّ هذهِ الحروب قدْ سبّبت لنا مشاكل حقيقية في البيئة، وانتشرت الأمراض الغريبة في العراق، الله وحده يدري عدد المصابين بهذهِ الأمراض الغريبة. فالأمراض تسرّبت إلى أرحام الصبايا والنساء العراقيات سيلدنَ جيلاً مشوّهاً) ص68-70.

ولأنَّ الخطابَ الروائي (خطاب مفتوح على جميع الاحتمالات) كما يقول إمبرتو إيكو، وأنَّ لغة هذا الخطاب (تعبير مباشر عن الصراعات الاجتماعية في أيّ مجتمع) كما يرى جورج لوكاتش .. تخرجُ اللغة من معناها القاموسي المحنط، لتصبحَ تعبيراً مؤثراً – علاقة صاخبة مع الواقع .. حزن بغداد، ووحشة شوارعها، وتشرّد إنسانها، و(الوطن غالٍ) وقد أصبحَ هتافاً بارداً، ومؤامرة المنابر الإعلامية على مواطن وسادتهُ التراب والحسرات، و(ثمة مَنْ يقف بوعي وراء هذا الخبث) .. والبيوت و(الشناشيل البغدادية) التي تحيلها الصواريخُ والقذائفُ الغادرة إلى ترابٍ ورمادٍ، وبلا ذكرى، والخوف المزمن من السلطة، و(هي إلى نكران) كما يقول أوسكار وايلد، وخرائط الحروب المفتعلة، والخيانة الفاضحة (فثمة مَنْ كانَ يتعاون مع الأمريكيين بالسرّ الكامل) ص99.

وتفكيك الوحدات العسكرية، وهرب الجنود، والضباط وقدْ رموا بدلاتهم العسكرية، واختاروا بيوتهم، كلّ ذلكَ جعلَ المواطن، متمثلاً في شخصية (عبد الله) و(الكاتب – الراوي) أنْ يختارَ حنان الأم – الأرض، (هي الحبّ) – جان ديفاس نياما، بعدَ أنْ فقدَ صورة َوحنان َالوطنِ، ولمْ يبقَ إلاّ (القتال على جبهة القلب)، بأسلحة العاطفة والدمع والعناق: (لقد فرغ الميناء وخلت القرى من ساكنيها ولمْ يبقَ مَنْ يسقي الزرع ويسقي نخيل البلاد المورقة بالتمر الشهي، بلادنا عرضة للنهب، كلّ شيء مباح للنهب، لمْ يسقط النظام فحسب، بلْ سقطت ورقة التوت من عري المجتمع الدولي) – ص114.

يرى علماءُ النفس أن (الإنسان حالة نفسية "سيكولوجية" محكومة بالخوف والأمل)، و(عبد القادر) كتلة من الخوف والأمل، فالحوار الذي دارَ بينه وبين الجندي الأمريكي (جيمي) وهو حوار غير متكافئ، وجاء ببلاغة خاوية، بينَ الضعف وهو يضعف، والقوة وهي تقوى وتتجبّر .. (عبد القادر) يتسلّح بالكرامة وقدْ أهدِرَ ماؤها الزلال، وبالوطن وقدْ أصبحَ غياباً، وبإيقاع الحضارة الذي بدا شاحباً حزيناً، وبينَ (جيمي) الذي يرى الآخر – العراقي (ماعز) و(ابن زنا)، وهو ظامئ لقتلهِ، والشرب من دمهِ حقدا وكراهية، وتأكيداً للذات الميتة، وقد تأخرَ دفنها، والعالم بقلبٍ أسفلتي يعيدُ لها الحياة: (أريدهُ حياً كيْ يدلي بالمعلومات التي تفيدنا! أجابَ جيمي: (سوفَ تحرمني أيّها القائد من متعة قتلِ واحدٍ من هؤلاء أولاد الزنا) أجابَ القائد : (أمامك الكثير، وأنتَ في الطريق إلى بغداد كيْ تشفي غليلك) ص119.

الفساد دمُ السلطةِ بدون فصيلة ولا شبيه، والجزء الأكبر من نظامها، ولوْ (لمْ يكن الفسادُ موجوداً، ما عملتِ الأنظمة) – كما يقول خوان خوسيه مياس .. وأنّ هذا الانهيار الكامل الذي طالَ كلّ المؤسّسات العراقية، وعلى رأسِها المؤسّسة العسكرية العملاقة، وقد كانت درعَ العربِ والعراق ِوحصنهما، وأنّ انهيارها هو الهدف، كيْ تكون الطفلة المدلّلة – إسرائيل في أمانٍ، سيما وأنَّ (الحفاظ على أمنها واجب قومي) كما ترى (ميركل) رئيسة وزراء ألمانيا وغيرها من الساسة وجهابذة السلطة وأصحاب القرار في الغرب. ولهذا كانَ أول قرار لحاكم العراق الجديد (بريمر) هو إلغاء الجيش العراقي، مركز القوة والخطورة في المنطقة. وتاريخه الحربي والعسكري يقولُ الكثير .. انهار مثل قطعة ملحٍ وذابت في الماء.

والكاتب – الراوي يرى انهيار الجيش متوقعاً، وتحصيل حاصل، لما عانتهُ هذهِ المؤسسة ُمن جمودٍ فكري، وإقحام أيديولوجي مفروضٍ، وإهانات كانت توجه لرموزه من الحاكم، وأصغر فردٍ في عائلتهِ: (كانَ انهيارها متوقعاً، كانت مؤسّسة عملاقة ذات كرامة وشرف، لكنّها أهينت وطعن في شرفها .. كانت عائلة الحاكم تدخلُ المعسكرات وتهين الرتب العسكرية، وتصفعُ الجنود والضباط لسببٍ أو دون سبب، ولمْ نتحرك ولمْ نتمرّد .. هذهِ المؤسسة كانَ ينبغي أن لا تزج في مشاكل البلد والحياة الحزبية، كانَ ينبغي أن تبقى وفق الأهداف الأولى لتأسيسها، وهو الدفاع عن الوطن عندما يعتدى عليه) – ص124.

وطبيعي أنْ يرافقَ هذا الانهيار، وينتج عنهُ استيقاظ الخلايا النائمة التي كانت ترقب أي زلة أو أي خطأ يرتكب في البلاد، فتنفش ريشها، وتظهر حماسَها المفتعلَ، ومفاتنها الوطنية الزائفة، رافعة ً راية الدين، فكانت الميليشيات الدينية تملأ المكان، وقدْ بدأ هذا الفيروس الخطير من شوارع بغداد، وها هوَ ينهك الجسد العربي في كلّ عاصمة عربية فتحت نوافذها مشرعة ً لـ(لربيع العربي)، بانتظار نسماته التي لمْ تكن على مواطنها إلاّ جحيما ً مستعراً، تقوده المليشيات الدينية، وهي تنفذ نصوصَ أجندة ٍأجنبية خبيثة مشبوهة: (حواجز المليشيات لا أحد يعرفُ كيفَ تشكلت بهذهِ السرعة، وبهذا التسليح والمال، ولهم مرتبات وملابس خاصة وإشارات وشعارات، وهم بدون قانون مخولون بالقتل والاعتقال، كلّها مليشيات دينية جاءت من وراء الحدود) ص126..!!

"منَ اليسير على التاريخ أنْ يصيرَ نوعاً من أنواع الطغيان" – ستندال – مقالات نقدية – ص8 وحينَ تحكمُ الظلمة، ويُمتهنُ النور، وتسنّ المليشيات الدينية أسنانها، وهي بقلوبٍ من حجرٍ وإسفلت، فأنّ التاريخ، وكلّ ما يبعث الحياة، ويزيد في عمقها وجمالها، يصبحُ في أجندة وفكر هذهِ المليشيات خطراً، شيئاً كارثياً، بدأوا بـ"كاميرة عبد الله"، حينَ عدّها كبير المليشيات إثماً وخطراً مثلها مثل السلاح وأكثر، وهو يبشّر بعصرٍ جديدٍ .. وعهدٍ (سوفَ لنْ تكون فيه لمثل هذهِ الأدوات مكان، كلّ شيء بحساب، كاميرتك مصادرة) ص135. ليبدأ عصر إطلاق اللحية، والتكبير فرحاً واحتفالاً بقتل الأبرياء من دون ذنب، بلْ ذبحهم كما تذبحُ النعاج .. فالكاميرات، والكتب، والأغاني، كلّها مفسدة في العهد الجديد .. ويسلم ويتوّج مَن يطلق لحيته و(عبد الله) عليه في الأيام القادمة أن يطلق لحيته، وإذا قُدّرَ له الحصول على كاميرا أخرى، فانهُ مرخص لهُ فقط أنْ يصورَ (أصحاب اللحى)، وهم يقيمون للقتل والذبح كرنفالاً يومياً، معلنين بأفعالهم أنّهم (تتار) جديد.

(غادر فوراً! ومرة ثانية لا تحملُ معكَ كتباً تفسد أخلاق الناس، ثمّ لماذا أنت بدون لحية؟ عليك أن تطلقَ لحيتك، فلقد ولّى العصر الذي يُعاقبُ فيه أصحاب اللحى) – ص137.

النصّ موضوعُ اللذة – رولان بارت

ورواية (على أبواب بغداد) نصّ سرديّ بلذة ٍومتعة ٍموقظة .. وجارحة!! ينسج الكاتب – الروائي كلّ فكرة مغزولة بلحمِ جسدهِ، تضيفُ لها رؤياه ككاتبٍ وفنّان جمالاً، هو (بداية الرعب) حسب تعبير ريلكة .. غياب الوطن وضياعهُ، اختفاؤه من الخريطة نهائياً، اسم بلا جغرافيا، فقط ذكريات تربك نبض القلب، وتوهن الجسد: (لا فائدة يا بني، لقدْ حسموا الأمرَ، واتخذوا قراراً بأنْ ينهوا هذا الوطن) – ص150.. ونهاية الوطن بدأت بالنهب وسرقة المؤسّسات، وكأنّ هذا الوطن ليس لهم، ليسَ وطنهم عرباً وأكراداً، تركمان، سنة وشيعة، مللاً وطوائفَ، الوطنُ الغالي يصبحُ نهباً .. غنيمة: (يا ناس، يا عالم اتركوا السرقة بحقّ السماء) – ص162. يصاحبُ هذا الكرنفال المضحك – المُبكي زفافٌ كريه تقومُ بهِ إحدى الطوائف، وهي تستقبلُ المحتلين بالورود والأغاني، وجند الغزاة يبدون بالغي الإنسانية والعطف والحنان والكرم وهم يحملونَ في جيوبهم حلوى (لمْ يرها الأطفال في حياتهم، فيستأنسون عندما يقدمها لهم الغزاة) – ص165.. ويفاجيءُ حاكمُ العراق الجديد العالم بقرار (حل المؤسّسة العسكرية) .. وفصل المسرحية السيئة الإخراج الأخير منع التصوير والاقتراب من وزارة النفط، الكنز الذي لفّقت بسببهِ التهم، وحبكت مبرّرات الحرب، وإنهاء بلدٍ بالكامل من الخريطة (وسط مزاح اللصوص والجنود المحتلين) ص174.

عبقرية التكنيك الروائي، وإلهامها لدى الكاتب – الفنّان قاسم حول، بالإضافة إلى الكتابة انتحارهُ اللذيذ، والفنُّ – سكنهُ الدافيء الدائمُ، وما يمتلكهُ من مَلكَة هائلة من التخييل السينمائي الذي لا يجيد لعبتَهُ وكيمياءه الخلابة إلاّ مَنْ غامرَ في بحار هذا الفنّ بمركبٍ من ياقوت الروح، وريحان الرؤى، جاء اختفاء (أمّ عبد الله) موضوعياً موصولاً باختفاء بغداد – العراق، بلْ كل منهما يعني الآخر، عبرَ فانتازيا رائعة، وهي لعبة مخيلة سينمائية، وبراعة كتابة – خلاصة ذاكرة ترسم بفسفور الحروف أناساً ذاقوا ومازالوا ويلات الاحتلال، وصور الخزي والسقوط وسيل الذنوب دون مغفرة لغربٍ تواطأ ,وأسهم في صنع الأكاذيب لغياب بلدٍ نافورة مطرٍ .. وتمرٍ .. وصباحات ! ذاكرة لا تشبهُ النسيان أبداً، وأبطال الرواية يظهرون كعناصر فاعلة .. مأخوذة من حياة الكاتب، وهو يروي من خلالهم قصّته، ويُجسّد في كلّ حركةٍ من حركاتهم أحلامه ورؤاه .. براعة التخييل جاءت للجذب، والتشويق، والدهشة وقد (تحرّرت من رقابة العقل) – كما يقولُ ميلان كونديرا .. عبقريتها في الاقتراب من الواقع، بل تجسيده حتّى على هيئة (كوميديا سوداء)، وهي نتاج (الكوميديا المأساوية السياسية) التي هي (تحذير مستمر بشأن مخاطر الانحطاط البشري) – حسب تعبير فيكتور برومبرت!! (أمّ عبد الله) – امرأة بعباءة سوداء، وهي تحملُ حقيبة صغيرة زرقاء (دهستها مصفحة مسرعة، فيما كانت تعبرُ الشارع، وتساوى جسدها بالأرض، ولم تعد تعرف ملامحها، ولمْ توجدْ في حقيبتها الصغيرة هوية) – ص184.

ضياعُ (بغداد) هو ضياعُ (امرأة بعباءة سوداء)، واقعُ الخيال، وخيالُ الواقع، وعبر التكنيك السردي والسينمائي معاً، يستشفُ من الخبر إنها (أمّ عب الله)، امرأة لم يُعثر لها على هوية، وبغداد – زمن الاحتلال من دون هوية وحتّى هذا التاريخ الموجع الحزين، كلّ ما يشيرُ ويُذكّر ببغداد اليوم هو المليشيات الدينية والطائفية، من كلّ عقيدة ومذهب، والسّلاح، والانفجارات، والجثث، والخوف، والرعب، والتمرينات اليومية لكلّ مخابرات العالم على أرض بغداد، والصراعات السياسية لأشباه رجال على كرسي السلطة، وهو كرسي صدئ، ومَنْ يجلس، عليه بلا إرادة، ولا رأي، ولا فكر، (بيدق) تحركه أصابعُ بدم ِ الخبث والرعب والطمع و(أسوأ عدوٍ لها هو البريء) – كما يقول كارلوس فوينتس.

تجلّت خرافة السرد في هذهِ (الفانتازيا) وهيَ تجسّدُ ضياع َدمِ (أمّ عبد الله)، ضياع َ(بغداد) على يدِ عدوٍّ أخطبوطيّ، بينَ الفرقة الأمنية (بلاك ووتر)، وبينَ (المجنزرات الأمريكية)، وبينَ (المسلحين الغرباء) من كلّ جنسٍ ومكان، وقدْ خوّلت لهم عقلية المحتل (المحرّر) القتل بسببٍ وغير سبب .. و(أم عب الله – بغداد) على قيد الحياة، حياة مؤجّلة، وروحهما معاً، مصدرُ اليقظة والحياة في (الطفلة التي فقدت القدرة على النطق وعادت إلى الكلام)، وفي الطفل الذي كانَ كسيحاً و(شاهدوه وهو يمشي)، وفي الصبية الجميلة التي دخلَ الجنّ عقلها وتاهت في البساتين و(عادت إلى الدار وحدها، ونامت في فراشها) ..!! أمّ عبد الله – بغداد هي (البذرة الخيرة في حياة الناس، وهي البديل عن الخلل الحاصل، وهي الأمل) – ص197.. هي العراق الجديد الذي تملأ جغرافيته الذاكرة، وهي الأمل حتّى وإن بدا نحيلاً، هي الحلمُ المستحيل، المتلوّ بيقظةٍ عسيرةٍ، .. وصوت الأرض التي تحنو على نخلها، وطيرها، وخضرتها، وإنسانها، حنان باتساع المدى: (لا يجوز يا ولدي أنْ تتركَ أرضكَ، وأرضَ أهلك) – ص199.

(على أبواب بغداد) رواية مشاهد .. أحداث .. لقطات عدسة فنّان لا تخون، عاشها الكاتب – الفنّان بروحٍ جماعية .. جمعت بينَ الواقعي والتاريخي المتخيل، وبينَ الحسّي والروحي، وهي رواية احتواء بامتياز! (احتواء الأجناس التي تسبحُ في فلك الرواية): سينما، أوبرا، فنّ تشكيلي، شعر، مسرح .. لتبدو الرواية (تعبيرٌ عن رؤية العالم) – حسب تعبير لويس غولدمان ..!!

 

Athabalrekabi22@yahoo.com

 

*" على أبواب بغداد" – رواية – قاسم حول – كتاب دبي الثقافية 113 – سبتمبر2014