يسعى الباحث المصري هنا إلى تحليل التجربة الشعرية التي يمثلها الديوان بنصوصه المتعددة متباينة الصياغة والرؤية والبنية الإيقاعية، وطريقة تخليقها لحالة وجدانية لها خصوصيتها الفردية، ومكانها في الوجدان الجمعي، وتغلغلها في نسيج الوعي الشعبي. وكيف تمكنها المشهدية وتكثيف الصورة الشعرية من الاقتراب من تخوم المجاز والصوفية.

تمثلات الرؤية والآليات الشعرية

في ديوان «على باب غرفتكَ المستعارة»

محمد سيد عبد المريد

 

يتسم ديوان "على باب غرفتك المستعارة"(1) للشاعر المصري الضوي محمد الضوي بالحس التصويري التخييلي، الذي يبرز التمثلات الوجدانية مرتكزًا على معجم شعري نابع من القراءات والواقع، إلى الدرجة التي تجعل المعنى الشعري متعدد المدلولات؛ بسبب تراكب هذه الآليات وتعددها في النص الواحد؛ وهذا يجعل النص مشحونًا بتنوع دلالي يوجه المتلقي في المقابل إلى رؤى عديدة، والمتلقي عادة يبحث عن الرؤية الكلية التي قد لا تبين لتداخل رؤى النص الداخلية، فالنتاج الشعري المركب الذي يرتكز على غواية المجاز مع استرسال البوح يحتاج إلى محاولات تأويلية عديدة لتبيان المعنى الشعري.

تتنوع ممارسة التشكيل الشعري في الديوان، فهي تعتمد على التفعيلة بشكل رئيس، بجانب ممارسة الشكل العمودي في نصوص قليلة جدًّا، التي تتسم بتكثيفها وارتكازها بشكل كبير على البحر العروضي البسيط، فقد ورد في نصيه "وشوا به للحنين، في كل صبح يجيء ترتاب"، وأيضًا في نصه الذي يحتوي على نصوص قصيرة متفرقة "ندب مؤجلة"، يحتوي على نصين عموديين، أحدهما بعنوان "جرح اللام" وهو ينتسب إلى بحر الطويل، والآخر بعنوان "رقية" وهو ينتسب إلى بحر البسيط، وهذا يبرز خصوصية رؤيته العروضية الجمالية تجاه هذا النوع الشعري، بالإضافة إلى أنه ينسج بعض الأبيات العمودية في النصوص التفعيلية، كما في نص "نار بحوزة طائر" الذي ينتسب إلى بحر الكامل، وفي نصه الصوفي "الإشارة" الذي ينتسب إلى بحر الوافر، وهذا يبرز الكيفية الإنتاجية للإيقاع الخارجي، فمن خلال هذا التفاعل الجوهري بين العمودي والتفعيلي يفصح الشاعر عن المزيد من خصوصية العروض وحيويته الإنتاجية التجريبية، التي ظهرت في النوع التفعيلي الحداثي، وهي بحاجة إلى دراسات مكثفة للوقوف على جماليات أبعادها الصوتية المتنوعة؛ لكشف تمايزات الإيقاع العروضي بين التناسب الصارم الموروث وحيويته التجريبية الفارقة.

يتكون الديوان من خمسة عشر نصًّا، يغلب على عناوين النصوص تركيب الجملة الاسمية؛ وهذا يبرز الآلية الدلالية لتشكل افتتاحيات هذا الخطاب الشعري، في ارتكازه على هذا التركيب الاستاتيكي، وإن كانت بعض العناوين لا تمثل محورية نصوصها بشكل مباشر؛ نظرًا لاستغراقها في بنية المجاز، ولكن يجب الانتباه إلى تشكل العناوين دلاليًّا ومدى اتساقها بالنصوص.

إن عنوان الديوان "على باب غرفتك المستعارة" يبرز آلية التركيب الدلالي الرمزي؛ إذ يتشكل من رؤية بارزة في تحديدات التركيب النحوي، الذي ينبني على الجملة الاسمية والعلاقة الإسنادية الواردة، خصوصًا مع غياب أحد طرفي الإسناد، بجانب صيغة النعت التي اقترنت بغرفة المخاطَب، وهي ليست مكانًا مغلقًا خاصًّا فقط، بل تنطوي على خصوصيات المخاطَب الذاتية، ولكن النعت حدد تمثلاتها الدالة؛ إذ إن الغرفة ليست ملكًا للمخاطَب، فدلالة "المستعارة" جعلت الغرفة ليست ذاتية خالصة للمخاطَب، وقد يتساءل المتلقي عن طبيعة الغرفة المستعارة وهل هي مغايرة للغرفة الأصلية/ الذاتية؛ مما يجعل هوية المخاطَب مشوشة وليست خالصة، وربما تدل على الاغتراب الذاتي. وبالتالي تنحرف دلالة الخصوصية في عالم المخاطَب إلى التداخل بينها وبين ما يمكن أن يكون دخيلًا عليها، فهذا التركيب الدلالي المائز يبين عن إجرائية تلاحم المكوّنات اللغوية في إنتاج العالم الشعري.

إن العنوان يعبر عما وراء اللغة الشعرية من تمثلات مضمونية، أو يتماس معها بشكل دلالي معين، وإن كان العنوان في العصر الراهن لم يعد مجملًا لمحتوى النص، وإنما يكون في الغالب عنوان نص بالداخل، أو معبرًا عن جزء مركزي من الرؤية المركزية للنص، وهي خاصية تخضع لرؤية المبدع في إنتاج العتبات النصية، وهنا عنوان الديوان عنوان نص بالداخل، وبه مقطوعة تكمل الجملة الاسمية في علاقتها الإسنادية الغائبة:

نور تقطّر مستبسلًا

بين كفين ظامئتين

وروح يؤرقها ظلُّ ريحانة في قميصكَ

نوحُ سمائك مهملةً في الصناديق.

سِرْقةُ العشق والذكريات

على باب غرفتكَ المستعارة

فمن خلال هذه النواتج الدلالية المترابطة تتمثل الرؤية الخاصة في اختيار العنوان، وهنا تبرز قيمة الآليات البلاغية، كالاستعارة والكناية؛ فتبرز المعاناة الذاتية للمخاطَب، في سياق دلالي بارز؛ كي تتعمق هذه التحيينات في السطر الأخير الذي ينطوي على النتيجة الحتمية، وخصوصية التمثل الوجداني التي يرتكز عيها في تكوين تجربته الشعرية.

يُصدِّرُ الشاعر ديوانه برؤية إنسانية خالصة مقتبسة من كتاب "تصوف" لكازنتزاكيس، وهي واردة في الكتاب تحت عنوان "السلم الثاني: السلالة"، تبرز التخلي عن جحيم الذات، والانغماس الكلي فيما هو جماعي أو إنساني، أي الانتماء الكلي للسلالة، ولقد جاءت الرؤية بصيغة شعرية عالية، ولقد كتبها موزعة على الأسطر كالكتابة الشعرية بتصرف:

وحده الذي تخلص من جحيم ذاته،

يجوعُ

عندما يرى أحد أبناء جنسه يتضور

جوعًا،

ويفرحُ

عندما يرى رجلا وامرأةً

يتبادلان القُبَل

وهذه الرؤية تتناص مع رؤية الشاعر الكلية، التي تحدد آليات الصياغة الشعرية، بما يتناسب مع طبيعة التصور الكلي للممارسة الشعرية عند الشاعر، فالتصدير من خلال قيمته الجمالية يبرز نسق التجربة الشعرية في الديوان، حيث تتخلى الذات عن انغلاقها إلى التعمق فيما هو إنساني، سواء كان ألمًا أو سعادة، فهذا التجاوب مع سعادة أو آلام الآخرين يبرز البعد الإنساني والتمثل الوجداني لتكوين هذه الرؤية.

والتصدير يعد تمهيدًا أو إضافةً أو جزءًا من التجربة، التي تكونت من نصوص متعددة ومتباينة في الصياغة والرؤية، ولكنها متسقة كليًّا؛ لذا ينتج الشاعر هذا التصدير في سياق التفاعل بين الرؤية والآليات، ولقد عمق الشاعر وظيفة التصدير بدرجة عالية حين أنتج مقطوعة شعرية قصيرة تنتمي إلى الشكل العمودي، وبحرها العروضي البسيط، وتتكون من ثلاثة أبيات، وهي تتشاكل مع الرؤية السابقة في سياق التمثل الوجداني، من خلال ارتكازها الدلالي على إبراز البنية الرئيسة لهذا التمثل الملح؛ فتتضام كبنية محورية، وإن كانت الحالة الوجدانية قد لعبت على وتيرة الوحدوية في تمثل الرؤية والمعاناة، التي ترتكز على الاشتغال البلاغي في إنتاجيتها الشعرية:

سأمسك القول أن تهواك خاتمةٌ

أو أن تذل لديكَ الحبرَ والورقا

يمامةٌ فيك تبكي .. كنتَ أدمعها

ذبحتَ أفراخها .. والبيدر احترقا

ضمد جراحك منذ الآن منفردا

وتبْ عن القلب؛ قد غادرْتَه مزقا

تدور المقطوعة الشعرية حول حالة وجدانية أو عاطفية لم تستمر، وقد سببت آلامًا للقلب؛ وقد بدأها بفعل الكتابة الشعرية المتمثلة في خاتمة للقصيدة، التي تجيء في سياق معاناة الكتابة الشعرية وفي الكيفية الإنتاجية للخاتمة، والتي قد تعادل هنا الحالة العاطفية التي كانت خاتمتها موجعة، وتبدى ذلك من خلال دوال انفعالية حادة "تبكي، أدمعها، ذبحت، احترقا، جراحك، مزقا"، وبانتهاء العلاقة الوجدانية تجلت الوحدوية؛ ولشدة الآثار المترتبة على هذا الفراق، تمثلت هنا جملة الأمر "تب عن القلب"؛ لأنه صار مزقًا. والتمثل الوجداني هو مفهوم الشعر عند الشاعر؛ إذ يقول في نصه العمودي "وشوا به إلى الحنين":

الشعرُ ما الشعرُ لو لم يطرب امرأةً

ولم يؤاخِ ذبيحًا .. أو يُذب مهجا

ولم يذد عن مواعيد البنفسج مِنْ

دم الذين نُسوا في جرحهم حرجا

الشعر هذا النداء الفذ كيف نمتْ

أطرافه دون خوفٍ في دمي سُرُجا

الشعرُ وأدُ المنافي فيضُ شهوتها

والشعرُ نهْشُ نيوبٍ إن دمي نَضِجَا

من خلال هذه الرؤية المركزية، التي تتعمق في إبراز التمثلات الوجدانية المتباينة، عبر خطوط دلالية متراكبة، تشكلت في بانوراما تعريف الشعر، كما تبرز إيغال الشعر في الذات الشاعرة دون إدراك كيفية هذا الإيغال، أي تسرب الشعر إلى الوجدان، وهنا تنجلي الرؤية الخاصة بقيمة الكتابة الشعرية كتجربة وجدانية ملحة.

ومن خلال هذه الرؤية أيضًا يرتكز على الفعل التوصيلي؛ كي يتشكل التأثير الشعري بتلقائية، رغم أن الشاعر ارتكز على جماليات قصيدة التفعيلة الحداثية، التي تفترض بناءً جماليًّا تأويليًّا، يسبب بعض الشكول في التلقي لتعدد مدلولاته، وهذا ألزمه بالارتكاز على الفعل التجريبي في بعض المقاطع الشعرية، الذي تبدى بوضوح في إنتاجية التشكيل الطباعي وبعض الآليات الشعرية والسردية.

والمرتكز الرئيس للتجربة هو مرتكز التصوير الشعري؛ فمن خلاله ينتج تعبيرًا شعريًّا متجاوزًا، وكما قيل إن الشعر استعارة كبيرة، فعلى سبيل المثال، يقول عن تمثلاته الوجدانية في سياق رؤيته الذاتية:

ويحه:

هذا الفتى المنحازُ

ينحرُ

مثل أحزان الملائكةِ الصغارِ

يخبيءُ الأحلام في مخلاته .. ويموتُ

يقشّر الأسوارَ

عن ألم الصبايا الرحب

كي يصغين للأفلاك

إيقاع الحنين بفيضهنَّ

صنعن للأوجاع شبّاكًا

ويزرعن الهوى وردًا على أكتافه

نارًا بناصية القميص

وآهِ لو يفتحن

أزرار الحكاية والقميص

لضغطة الإيقاع.. صهد النهد

هنا تتكاثف الآليات البلاغية، وتسهم في تعميق الناتج الدلالي حول تمثلات الفتى المنحاز لكل ما هو إنساني، رغم أنه لم يكمل صيغة الانحياز؛ حيث حذف ما انحاز إليه، ولكنه هنا يتفاعل مع الحالة الوجدانية الضاغطة، عبر صور شعرية متتالية تدل على المعاناة الجماعية، بعد الارتكاز على معاناته الذاتية وتقاطعها مع المعاناة الجماعية، فهو ينحر مثل أحزان الملائكة الصغار ويخبيء الأحلام ويموت، وهنا الموت المعنوي/ موت الأحلام، ثم ينتج تفاعله مع آلام الوجدان الجمعي، كما أنه يرتكز على دلالات لغوية يقترن تأثيرها بتبديات الوجدان، وهي تتشكل بترابطات مبرزة للسياق، عبر آليات التصوير البارزة، فالتمثل الوجداني ينتج خصوصية هذه الآليات؛ لذلك ينساق وراء حدسه الوجداني الثوري والصوفي في كيفية إنتاج الرؤية، وهو يوضح كيف باءت ثورته الخاصة بالفشل، ثم نتيجة هذا الفشل الذريع:

سرًّا لو تمنته الكمنجةُ

ينقرُ الأضواءَ والمتصوفين

وحارقي الصدف الرتيبةِ

ثم يجري

صوب ثورته

التي ابتلعت فواكه ليله

ليموت ملتاعا وحيدا

ثم يطمع أن يزيدا

ورغم النهاية المأساوية لثورته، التي غدت هنا الثورة المضادة عبر المكوّن البلاغي/ الدلالي، الذي تمثل في ابتلاع ثورته لفواكه ليله، وهو تعبير جديد يكشف خاصية التمثل الرؤيوي في توظيف دلالات لغوية مدركة لوجدانه، بجانب تفاعيل بحر الوافر ومكوّن السجع الذي تبدى في نهاية المقطوعة، في تخصيب الناتج الدلالي، الذي يرمز إلى الحماس الثوري الذي يتمتع به "الفتى المنحاز" في استعادة ثورته الذاتية حتى لو خسر الكثير من حياته الخاصة كخسارته لفواكه ليله.

كما يرتكز الشاعر على آلية الامتداد الدلالي في السياق الشعري، الذي يعتمد على التكرار النمطي النحوي، حيث تتشكل الرؤية عن طريق تكاثف الدوال المتتالية؛ لتتناغم في خط دلالي موحد؛ إذ يقول في سياق التمثلات الذاتية المتداخلة بين الصوفية والواقعية:

أوغلتَ هنالكَ فيه برفقٍ

وبرفقٍ تفترشُ العالمَ يا اللهُ

صبيحةَ كلِّ الأيام:

شفاءً

عفوًا

ونساءً بيضًا

وترابًا وأغاني

ودمًا وصلاةً

وسوادًا يشهقُ

وبنفسج

فهنا الدلالات اللغوية التي وردت في إطار التكرار النمطي النحوي، تبرز مدى ارتكازه على إنتاج السياق الشعري بشكل ترابطي، وبخاصة حين يضع الدلالتين المتعاطفتين في سطر واحد، مثل "ترابا وأغاني" و"دما وصلاة"، فثمة رابط دلالي يؤكد عليه بين التراب والأغاني، وبين الدم والصلاة، وأيضًا في إضافة الفعل للدلالة التي تعبر عن خصوصيته في "سوادًا يشهقُ"، فاختياره للشهيق دون الزفير يبرز هذه الخصوصية التركيبية الدالة.

كما أن آلية التكرار يتم توظيفها أيضًا في شكلها المحوري، أي تجسد محورية النص، كما في نص "على باب غرفتك المستعارة" والذي يكرر فيه دال الاحتياج "سأحتاج" بشكل محوري، وهنا تتنوع أشكال الاحتياج الذاتي، التي تعبر عن متكامنات الذات،؛ لكي تتضح الرؤية الكلية في اتساقها/ سياقها الدلالي، فدلالة غرفة تعبر عن العالم الذاتي، وبالتالي لأنها مستعارة يبدو فعل الاحتياج بارزًا وملحًّا.

ويوظف مع هذا التكرار آلية الحوار، الذي ينوع الأسلوب ويمنحه حيوية دلالية مائزة في بنية تشكيله، وبخاصة أنه يؤنسن الخوف ويجعله الطرف المحاور له، بعد أن يظهره الشاعر بشكل مجازي في سياق جوهرية العلاقة التي بينهما، ولقد تنوعت الصياغة في إبراز الأشكال الاحتياجية بين الرمزية والمباشرة، ولكنها اتسقت جميعها في مسارها الدلالي المرتبط بخصوصية الذات، عبر صيغة السؤال والإجابة في تشكيل الحوار، حيث يسأله الخوف فيجيب:

-وماذا ستحتاجُ؟

-لا لم أقررْ

سوى أنني

ربما احتجتُ ناصيةً..

أرزعُ القمحَ فيها

وأبكيه حين أجرّحه..

ليعودَ..

يعودَ كما كان مثلي ..

وأحتاجُ شعرًا ..

وناسًا يُحبونَهُ..

يصحبون مقاطعَه للحدائقِ

ويخفونه في الوسائدِ

بالليلِ

يسَّامرونَ

على ناره..

يدهنون به واجهاتِ البيوتِ

يشكل هذا التركيب الشعري خصوصية التمثل الوجداني في إنتاج الرؤية الشعرية، فهنا يرتكز على الانغماس في الوجدان الجمعي، وأن تعلو قيمة الوجدان أو الشعر إلى درجة تعيد الشعر إلى سابق عهده، في تغلغله في نسيج الوعي الشعبي، وإن تمثلت هذه الرؤية في الآليات التصويرية الرمزية إلا أنها فعلت المشهدية الشعرية في تشكيل صياغتها. كما يكثف الصورة الشعرية في تحركها المجازي؛ وتصبح الرؤية الذاتية شديدة الخصوصية في إنتاج البنية الشعرية:

أنا كدت أنسى ..أنا...

حدثوا الماءَ عني..

إذا ما سقطتُ

قبيلَ بلوغي مباهجَهُ

في يديْها..

وعن قدميها..

إذا مرَّ من هاهنا فاتحونَ

ولم ينحنوا للبياض الجريح..!

فهذا الشغف ببنتٍ بأحزان اسمها دارْسي، تكرر اسمها عدة مرات ولم يشر الشاعر إليه، ولكنها صنعت حالةً وجدانيةً عارمةً في سياق النص، فمن خصوصية اسمها إلى المجازية المتكاثفة في طرح تشكلات الرؤية، كما أن وصفها ببنت أحزان أسست للحالة الوجدانية كيفية التحرك الدلالي والاشتباك الفعلي بين الذات الشاعرة وحضورها الجوهري، فمن خلال هذا الشغف والتناغم الحيوي ينتج سياق النص.

كما تتشكل خصائص الذات من خلال ارتكاز الشاعر على المفارقة الشعرية، في تبيان خصوصية الرؤية، حيث تبرز المعاناة الذاتية بوضوح شديد:

-وجدتُ يقيني ألا أموتَ وحيدا..

فيطلق في جثتي أصدقائي

وأهلي الكلابَ

ويصنعُ أطفالُهم من عظامي

غبارَ مدافعهم

والنكاتِ التي يخلعونَ على عتباتِ

البيوتِ مساءً.

وهنا نلاحظ التضام الجوهري بين المجازي والواقعي في تشكل الصورة الشعرية، فمن خلاله تتضح القرائنُ الدلاليةُ المصاحبةُ لدلالةِ الصورة الشعرية، كما أن الآليات اللغوية في تشكلها، تتعمق في إجرائية التعبير، موسعة لمدركات الممارسة اللغوية في مسار الدلالة الشعرية؛ مما يجعل التحقق الشعري مصطبغًا بصبغة تجاوزية لفحوى الدلالة، فيقول على سبيل المثال، عبر آليتي التقابل والتجنيس الناقص:

وأسرَّ في أهداب بنت جاورتنا نظرتين

أسرَّ في أهداب بنت جاوزتنا نظرتين

فآليتا التقابل والتجنيس الناقص في "جاورتنا، جاوزتنا"، يكون التغيير في الجملة من حيث الشكل، يتمثل في حرفي الراء والزاي، ولكنه تغيير جذري في سياق الجملتين الشعريتين، ومن هنا تكتسب اللغة حيويتها في مسار تشكيلها التركيبي الدلالي والإيقاعي.

كما تتجلى خصوصية الذات بشكل واضح، في رؤيته الشعرية التي ترتكز على آليات التشكيل الطباعي والتنويع الأسلوبي، من محاورة أو تكرار أو وضوح الصور الشعرية:

سوف أرحل شيئًا فشيئًا

ولن تشعروا..!

صدقوني:

فقط ربما

حينما لا تطل على جرح شاة دموع نبي

وتربيتةٌ، وغناءٌ نؤومٌ

ووحلٌ أسيف..

سوف يفصح هذا الفراغ:

فتىً ما.. هنا قد تذرى

وأصبح لا شيء لما بكى

وحنا ربه

وتولاه:

خوفًا على الماء

والنائماتِ

وفيروزَ

أشفق منه الإلهُ على حزنهِ

والشحاريرِ

أشفق منه على بسملاتِ الصحابِ..

وآمالهم

والتئام الخريف.

ثمة رؤية ممتدة في النص الشعري السابق، وخاصية الامتداد تمتاز به هذه التجربة الشعرية، في توظيف السياق الشعري، الذي يكتنز رؤية النص، والتي تمثلت هنا في المعاناة الذاتية/ الاغتراب، حيث تتنبأ الذات الشاعرة بالرحيل التدريجي، والذي لن ينتبه إليه المخاطبون، ولكنه سيترك فراغًا كان يملؤه، حينها فقط سينتبهون إلى الفراغ دون معرفة صاحبه، وهنا تبرز العلاقة الجدلية بين الذات والآخر، ويبرز الفراغ معبرًا عن طبيعة هذه العلاقة الجدلية، فهذا التوظيف للفراغ الذي خلفته الذات يتبدى محوريًّا في تشكيل الآلية التصويرية، ثم يطرح مغايرة الذات وخصوصيتها في اللحظة التي يتولاه فيها ربه؛ لينتج سياقًا مغايرًا.

كما يوظف آلية السؤال في التعبير عن معاناته الميتافيزيقية، بجانب آلية التشكيل الطباعي المتمثل في علامتي الاستفهام والتعجب:

كم يا رب استقتُ العودةَ!

قل يا رب متى العودةُ؟!

وكذلك في التعبير عن بعض أحلامه الرومانسية العادية التي يحلم بتحقيقها، في سياق المباشرية الحادة والبساطة العادية:

هل يا رب سيكفي ما بقي من الوقت هنا

لأقبِّلَ فيه- ولم أفعل هذا من قبلُ-

هل..

ياااا الله!!

وأحضن كفيها

في الشارع!!

وأرافقها للسينما

وأضفرُ بيدي مُلكَ ضفائرِها البني المنهكِ

وهذه المباشرة تكسر جماليات قصيدة التفعيلة، وتقترب من جماليات قصيدة النثر، وهذا الاقتراب أو الممارسة تمثل بشكل أكبر في نصه "كل الأطفال سمر"، وهذا التداخل بين خصوصيات هذه الجماليات بحاجة إلى المراجعة والمساءلة؛ حتى لا تفقد القصيدة التفعيلية دهشتها الخاصة.

وتتمثل الصوفية بشكل بارز في نصه "الإشارة"، التي تتبدى واضحة من خلال عتبة النص المستمدة من المعجم الصوفي، وتتشكل في هذا النص رؤى عديدة متسقة ومستمدة من العالم الصوفي، ولكن تبرز رغم ذلك خصوصيات الذات؛ لتتشكل الجدلية بين الذاتي الواقعي والصوفي، وما يمكن أن يتعمق في تمثلات العالم الصوفي، عبر الحدس الصوفي المعقد والمرتبط بما عُهد عليه التصوف:

وربَّ ارتابَ شيخي فيَّ

غادرني على بابٍ

وشى أصحابَهُ للذاكرينَ بوحشتي

وأنا الذي خفتُ انتباهَ الذاكرينَ

لوحشتي

ولوحشتي..

إن فعل الارتياب هنا يمثل خاصية دلالية ينطلق سياق النص منها؛ لتتجلى لنا تمثلات الذات، فنرى سياقين يندمجان معًا ليشكلا سياق النص، وهما الذاتي والصوفي؛ فالصوفية تمنح الذات هنا حيوية التعبير عن مدركاتها ومعاناتها الذاتية، التي تبدت بوضوح في دلالة "وحشتي" وتكرارها في المقطوعة السابقة، والتكرار هنا يشكل دورًا وظيفيًّا مائزًا في تخلق المعاناة الذاتية، مع آليات التشكيل الطباعي والسؤال وعلامة التعجب والتناص:

أموتُ لكي أموتَ

ولا أعودَ إلى عذاباتي

ويوجعني نديمي

حين يُنبئني:

سيقبضُ عاشقٌ بعدي

على خمري التي في "الكهف" و"الأعلى"

فتكشفُ عن ترائبها

وتبكي بين أضلعهِ..!

فهل دُسَّتْ لجسمٍ آخرٍ روحي

لأشقى مرةً أخرى؟!!

أعودُ أموتُ

كي أحيا

أعودُ أموتُ كي أحيا "أعود أموت"؟!!

إن هذا التشكيل اللغوي والدلالي يبرز خصوصية التركيب الدلالي، ويعبر بوضوح عن المعاناة الذاتية، بشكل صوفي متغلغل في إبراز خصوصية الروح، حيث يبدأ المقطوعة بتناقض دلالي يبدو للوهلة الأولى أنه استطراد أو لغو بلا قيمة، ولكنه حينما يشكل سياق المعاناة الذاتية، يتبدى للمتلقي أن الموت هنا راحة من عذابات الذات الخاصة، ويتبدى القلق واضحًا في نسق الاستفهام، حين يعبر عن حضور روحه في جسم آخر؛ ومن ثم تتكرر العذابات مرة أخرى؛ وهذا يجعل التقارب والتفاوت بين الموت والحياة؛ وكأن الحياة موت والموت حياة، وهو اضطراب نتج عن العذابات الذاتية باقتدار، عبر وظيفية التكرار والتقابل الدلالي.

كما يوظف الشاعر آلية التقابل الدلالي، في إبراز مدى المعاناة الوجدانية:

ربي

كم أضناني البعدْ

القرب

الحب

رغم أن التقابل الدلالي "القرب والبعد" استهلكه الشعراء، وهذا الاستهلاك يقلل من قيمة الدهشة المطلوبة لتحديث الرؤية، وإن كان الشاعر يراه ضروريًّا في رصد العلاقة.

ومن أشكال الاستهلاك أيضًا في هذه التجربة، حينما يوظف أسطورة سيزيف في نصه "جرح اللام":

يرى البنت جناتٍ ينوءُ بلوغُها

و"سيزيفُ" محنيًّا يعضُّ جبالَهْ

فلا الصخرةُ انفتتْ ولا هو بالغٌ

ولا الكاهل المحنيُّ حطَّ رحالَهْ

وهذه الرؤية التي تناولت مأساة سيزيف بشكل مباشر وحاد، لم يضف الشاعر بعدًا جديدًا لها؛ ومن ثم تفقد الكثير من دهشتها المطلوبة، والتي لن تتكون إلا عن طريق التجديد في أبعادها أو تناولها شعريًّا بشكل مغاير نسبيًّا.