يرى الناقد المصري أن علامة الطائر في هذا الديوان تتصل ببلاغة الأشياء اليومية الصغيرة، وصيرورتها السردية الخاصة، كما تتصل بالفضاء التشكيلي الشبحي الدينامي، وبإيماءات الطائر الثقافية القديمة التي تذكرنا بشعرية صور حورس، أو بالعين المجردة التي ارتبطت هنا بالهامشي، واليومي في خطاب الشاعرة ما بعد الحداثي الذي يفكك المدلول المركزي للعلامة.

تعددية مواقع الذات والعلامة في الخطاب الشعري

قراءة لديوان «تحنيط الطائر» لهدى حسين

محمد سمير عبدالسلام

 

لعلامات الأشياء حضور جمالي – في خطاب هدى حسين الشعري – إذ تتجلى في فضاء سيميائي دينامي يجمع بين استبدالات العلامة الشعرية، أو التكوين التجريدي الاحتمالي في الوعي المبدع، أو تسجيل الصورة الحلمية في علاقتها بالذاتي، والكوني؛ ومن ثم يتداخل صوت الذات مع صيرورة العلامات، وتجددها، وتعددية مستوياتها الدلالية التي قد تومئ إلى رمزية الحلم، أو الواقع الافتراضي، أو استعارات الأشياء الصغيرة، أو الأحداث اليومية العابرة، أو استدعاء الأصوات الطبيعية المتخيلة الموغلة في القدم، أو أصوات الأسطورة الملتبسة التي تجسد القوى الثقافية المتفاعلة أو المتصارعة فيما وراء بنية الخطاب الشعري في لحظة الحضور طبقا لتصور فوكو؛ فالذات تحاول تسجيل شعرية الحدوث بمفهومه الواسع الذي يحيلنا إلى التعددية الإشارية الكامنة في بنية العلامات الأولى نفسها؛ ومن ثم فكل تجل إشاري – عند هدى حسين – يتضمن تجليات شعرية أخرى دائما، فضلا التعارضات البنيوية، أو التداخلات، أو الاحتمالات الدلالية، والثقافية الكامنة فيما وراء كلمات الخطاب، وعباراته، وطرائق اتصالها الظاهرة؛ ونعاين مثل هذه التحولات السيميائية الكثيفة للصوت، والعلامة في ديوان هدى حسين المعنون ب "تحنيط الطائر"؛ وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2020؛ إذ يمكننا قراءة علامات الحلم من داخل علامات الواقع الافتراضي، أو الفضاء الجمالي الشبحي فيما وراء العلاقات الخفية بين علامات الأشياء اليومية البسيطة التي تستنزف مدلولها الخاص في سياق تعددي ما بعد حداثي.

وتشير عتبة العنوان / تحنيط الطائر إلى حركتي التنازع، والتفاعل السيميائي في أنظمة العلامة في النص؛ فالطائر هنا شبحي، ويتصل بالأشياء اليومية، وإنتاجية الوعي، كما يتصل بجذوره الثقافية الواسعة في الذاكرة الجمعية، واللاشعور الجمعي؛ ومن ثم تتنازع في بنيته كل من التجسدات المحتملة للحضور، والحضور الطيفي الاستعاري الآخر، ويجسد أيضا التفاعل بين الجمالي، والأسطوري، واليومي في تكوين سيميائي تعددي واحد في آن.

ويؤكد خطاب هدى حسين التجريب في بنية الصوت المتكلم؛ فهو يحيلنا إلى ظهوره الآخر كعلامة فنية في لوحة تشكيلية أو كونية، أو إلى الطيف التمثيلي المتخيل، أو إلى الصدى، أو الصرخة الذاتية في حضورها الحلمي الذي ينتمي إلى الأنا بينما يتجاوزها في الفضاء الاستعاري البديل في الوعي، واللاوعي؛ وقد تحيلنا المتكلمة إلى الصوت الجمعي الذي يذكرنا بالنشوء، والصراع، والتعدد في سياق طبيعي أسطوري يوحي بتجدد إشكاليات الوجود، والهوية، وطرائق إدراك الذات في علاقتها بالحضور الظاهراتي الأول للآخر؛ ومن ثم تتجدد بكارة الوجود في الوعي انطلاقا من الموقع النسبي للصوت، وشعرية عالمه الخاص الذي قد يتعارض مع عالم الآخر، أويتداخل معه، أو يستبدله؛ هكذا يكتسب صوت المتكلمة حضورا مضافا في التمثيلات الفنية، والجمالية الأخرى في الفضاء الشعري، وتعدد مستوياته العلاماتية في النص.

تفكك الذات مدلول الباب في سياق تشكيلي دينامي، يتجاوز الانفصال بين الرائي وفضاء اللوحة الذي يبدو كونيا في نص الباب؛ فالعين الراصدة للمشهد تصير جزءا من بنيته الفنية، وتحولاته، والاستبدالات المحتملة للدوال فيه؛ وكأن المتكلمة ترصد بنية الاحتجاب المعلقة في علامة الباب، والفراغ الأبيض الذي يستبدله، وما وراء الفراغ الأبيض من صور، وأصوات قيد التشكل دائما؛ فضلا عن تغير الموقع النسبي للرائية التي انتقلت من موقع المراقب إلى موقع المنتج، ثم إلى موقع العلامة التي تعاين شعرية الوجود الفني بمدلوله الواسع الذي يستنزف مركزية المتكلم، والعمل الفني المستقل باتجاه اتساع صور الوجود، وصيرورتها الإبداعية؛ تقول في نص الباب:

"وسط الفراغ الأبيض / يقف باب / مفتوح على مصراعيه / ماذا يصرع المصراع في الفراغ الأبيض / يرسم لي بابا ويتركني له / بلا منظور أقف / أمام الباب؟ / خلف الباب / الباب هنا / الآن / باب واحد / وأنا / في الفراغ الأبيض / أستقبل الصورة".

تعاين الذات المتكلمة صورة الباب ضمن تشكيل جمالي، أو كظاهرة في الوعي المبدع، ثم تحيلنا إلى باب آخر طيفي أو ملتبس بالفراغ، أو الفضاء الاستعاري الأبيض؛ ثم يبدو الباب في المستوى الدلالي والتصويري الثالث كفجوة إنتاجية للصور اللانهائية التي تستنزف بنية الاحتجاب الأولي؛ ومن ثم تحمل الصور الشعرية الجديدة المدركة ذكرى الباب / الاحتجاب، وبنية الانفتاح اللانهائي على العوالم التصويرية الخفية التي تجمع بين التجسد، والتجسد الطيفي في آن.

وبصدد قراءة مستويات حضور الدال – بصورة سيميائية – يعيد جاك فونتاني قراءة دال الضوء عند بول إيلوار – في كتاب سيمياء المرئي – طبقا للعلاقة بين كل من الشدة، والاختفاء؛ إذ يرى أن الشدة قد تتداخل مع اختفاء الأفق، وتصير هدامة؛ ومن ثم تدرك الذات العالم إدراكا جماليا حسيا يجمع بين الشعور، والغياب، وتأجيل الإدراك الحسي؛ فهو إدراك يؤدي إلى انصهار غير قابل للانعكاس. (راجع، جاك فونتاني، سيمياء المرئي، ت: د. علي أسعد، دار الحوار بسورية، اللاذقية، ط2، سنة 2010، ص-ص 77، 78).

هكذا تتخذ العلاقة بين الرائي، والمرئي تنويعات جمالية تتراوح بين الشدة، والتفكك، أو تقع بين الرؤية، والذوبان في الفضاء الاستعاري طبقا لقراءة فونتاني لعلامة الضوء عند بول إيلوار؛ وسنجد أن خطاب هدى حسين الشعري يراوح بين تجسدات الذات الاستعارية، وحضورها الذي يقع بين موقع الرائي، والتجسد الطيفي في الفضاء الجمالي / الكوني المتجاوز للأطر، كما يراوح بين الفضاء التشكيلي الدينامي، والفجوة الإنتاجية الدينامية المتخيلة فيما وراء عالم الذات المتكلمة.

ويمكننا أيضا قراءة علامة الباب – في خطاب هدى حسين الشعري - طبقا للمربع السيميائي / الدلالي الذي يعود إلى ألجيرداس غريماس، وأعاد جاك فونتاني تطبيقه على الشعر؛ ففي البداية يمكننا أن نلاحظ التعارض البنيوي بين كل من إدراك الوعي المبدع للظاهرة في رؤية الذات المتكلمة لعلامة الباب في الفضاء التشكيلي الأبيض، وحالة ذوبان الرائي في المرئي حين عاينت الذات المتكلمة الباب الآخر، وحضوره الفني الاستعاري الملتبس بطيفية الفراغ الأبيض، وتعددية مواقع الرؤية، وتجاورها، دون مركزية ودون انفصال بين الوعي المدرك، والظاهرة؛ وفي الجزء الأسفل من المربع السيميائي؛ سنعاين أولا حالة لا – ذوبان المقابلة للذوبان بين الرائي، والمرئي؛ وفيها نعاين التجسد التشكيلي للباب بصورة فوتوغرافية تسجيلية تؤكد حضوره المتعالي الغريب عن الفراغ الأبيض، وفي الجزء المحتمل الأخير من المربع السيميائي سنعاين حالة لا – انفصال بين الوعي والظاهرة؛ وفيها يندمج كل من الحضور المتعالي، والغياب الكامل في الباب الملتبس بالفجوة، والانفتاح الكامل على الصور الإبداعية الطيفية المتجاوزة للاحتجاب، والغياب الكامل معا.

ويمكننا أن نؤول علامة الباب – في قصيدة هدى حسين – في سياق حلمي أيضا؛ إذ يضمها فرويد – في كتابه تفسير الأحلام – إلى الأحلام الأوديبية غير المباشرة؛ ومن ثم يومئ إلى بعض رموز الهو، أو بعض النماذج المتعلقة بالأرض، والأمومة.

(Read, Freud, The interpretation of Dreams, Translated by: James Strachey, Basic Books, New York, 2010, p. 408).

وإذا تأملنا الحضور الحلمي للباب – في قصيدة هدى حسين – سنجده يمثل معبرا تشكيليا متحولا، ويومئ إلى نوع من الاحتواء الأمومي، أو إلى فعل الولادة المجازية الأخرى، أو إلى الانبعاث في فضاء أمومي أوسع يحاكي نموذج الأمومة الأولى في اللاوعي، ويعيد تشكيله بصورة سريالية فيما وراء الباب، أو في الفراغ الأبيض الحنون الذي يذكرنا أحيانا بسحب رينيه ماجريت الحلمية اللاواعية، ولكن في سياق ثراء الحضور وتعددية مواقع الذات المتكلمة في خطاب هدى حسين الشعري الذي مزج بين الروح السريالية للحلم، والتحول السيميائي، وتفكيك المركز فيما بعد الحداثية.

وتتصل علامة الطائر – في نص تحنيط الطائر – ببلاغة الأشياء اليومية الصغيرة، وصيرورتها السردية الخاصة، كما تتصل بالفضاء التشكيلي الشبحي الدينامي، وبإيماءات الطائر الثقافية القديمة التي تذكرنا بشعرية صور حورس، أو بالعين المجردة التي ارتبطت هنا بالهامشي، واليومي في خطاب هدى حسين ما بعد الحداثي الذي يفكك المدلول المركزي للعلامة؛ ومن ثم يصير فعل التحنيط – في عتبة العنوان – مفتتحا للتحول لا للثبات؛ أي يؤجل التحنيط ويستدعيه في آن؛ تقول:

"سأدفن في اللوحة / كل أعقاب السجائر التي طار دخانها / وسأصنع ثقبا لعين الطائر التي تبخرت / ثقب أزرق / يليق بمومياء مدخنة".

تبدو العين طيفية، وتقع في حالة استبدال لليومي / السيجارة، والتشكيلي / الثقب الأزرق، وتومئ – في اللاوعي الجمعي – لصورة حورس في سلسلة استبدالات الدوال التي تذكرنا بتصور دريدا للكتابة الأولى؛ ومن ثم تقع المومياء في موضع العين الطيفية خارج فضاء اللوحة المتخيلة المتجاوزة للأطر رغم حضور العلاقات المكانية التشكيلية، ولكن بصورة إبداعية مؤجلة.

وتؤكد الذات المتكلمة الحضور الفردي للذات الأنثوية، بينما تحيلنا إلى شعرية الصرخة وحضورها التمثيلي المجازي في الفراغ في نص مناجاة؛ تقول:

"ها أنا ذي أصرخ بالليل / أتخبط في دهاليز المغارات / ومتاهات جدران أسمنتية يسكنها الحمقى / أصرخ ... / المساحات تضيق، ولا تستوعب طيراني / صوتي / يرتد قويا إلي".

تحيلنا المتكلمة هنا إلى صراع القوى الثقافية فيما وراء بنية الخطاب؛ فهي تومئ إلى العلاقات الآلية التي تؤدي إلى الصمت العبثي، وإلى تجدد ولادة الصوت الفردي في الصرخة، وإلى بنية الطائر الرمزية القديمة المستدعاة من اللاشعور الجمعي، وفاعليته الهامشية الأخرى في البنى الثقافية المتفاعلة، كما يبدو المبنى الصلب / الفضاء مستبدلا بفضاء سريالي آخر قيد التشكل في حالة تجسد الصرخة بصورة حلمية تستنزف بنية المبنى، وتوحي بشعريته الحلمية أو بولوجه فضاءات اللاوعي الفسيحة.

وتجمع علامة الشبح بين تمثيلات الذات المتكلمة، وتجليها كآخر في حوارية توحي بالتعددية الذاتية من جهة، وتذكرنا بحياة الشبح المجازية التي تعيدنا إلى شبح والد هملت مثلا في نص الشبح؛ تقول:

"ينبغي أن أدعي الموت / ليمكنك أن تجمع شتاتك من الهواء / وتقف أمامي / يا مسكين / ألهذا الحد / تخيفك مادتي؟".

تقيم الذات المتكلمة تعارضا بنيويا بين حالة التجسد، والتجسد المجازي الآخر في صورة الشبح التي تبدو كتمثيل للذات، وتتجلى كآخر في الفضاء، كما تعود إلى حياة شخصيات الأدب والسينما المجازية التي تربط بين الشبح والحياة الأخرى بعد الموت؛ كما يبدو الشبح في حالة شعرية تجمع بين الصمت، والفاعلية؛ فهو يتوارى وراء التناقضات الدلالية للرعب، والخلود، كما يقع على هامش التجسد الفيزيقي، أو يعيد تمثيله بصورة حلمية تفكك الواقع الفيزيقي نفسه في سياق ذلك الحضور الشعري الصامت في المشهد.

وقد يتخذ الصوت موقعا جمعيا يوحي ببكارة مشاهدة العالم، والموت، والانبعاث في نص اكتشاف العظمة؛ فرغم أن الصوت الجمعي هنا يحيلنا إلى صراع وجودي فيزيقي؛ فإنه يوحي بلذة الاكتشاف الشعري للوجود، وللموت، والحياة معا في المشهد الكوني؛ تقول:

"نحن عرائس الأرض السفليين .. أسمونا بالسفليين . أدركنا ساعتها أن أرضنا هي باطن رحمي ثائر لقشرة لها عرائسها".

إنها بكارة الإدراك في علاقة تمثيلات الصوت الجمعي برمزية علامة الأرض في تلك الحكاية التي توحي بمسيرة الثعابين وفي علاقتها بصراعات الوجود، وشعرية فضاء الأرض الذي يبدو حلميا، وأسطوريا، وأموميا في آن.

وقد تمسك الشاعرة ببلاغة العابر، واليومي الذي يسهم في تحويل بنية الفضاء، أو بنية الإدراك في اتجاه دلالي مغاير في الخطاب؛ فالوردة العابرة تعمق حالة الانفصال العبثي من داخل اتصال الأنا بالآخر، وصوت الكلاب يحول واقعية الواقع إلى حلم يتصل بالماضي الحضاري السحيق المستدعى من حياة الذاكرة الجمعية، ونماذجها.

تقول هدى حسين في نص وردة:

"سقطت وردة من شجرة / بيننا / وسط الشارع / بينما نمشي / ولأن أحدا منا لم يهدها للآخر / أسقطت بسقوطها / ما بيننا".

رغم ان الوردة تبدو كعلامة عابرة هامشية في المشهد؛ فإنها كشفت عن التنازع التفسيري للموقف بين كل من الصمت العبثي، وإمكانية الإهداء أو التوافقية الحلمية؛ وكأن الشاعرة تؤكد فاعلية اليومي، والعابر في عمق الهوية، والتاريخ، والموقف الإنساني النسبي الذي يخضع لمجموعة واسعة من التفاعلات بين العلامات، ومستويات الوجود.

وتقول في نص صمت:

"الصمت / زجاج / يعوي كلب / في عمق الليل / فنقول إنه يكسره".

تدرك الذات المتكلمة العواء كاستعارة توحي بتفكيك واقعية الواقع، ونقله إلى مستوى الحلم، إو إلى الماضي السحيق عبر تجلياتها على الجدران القديمة، وأصواتها الشبحية في اللاوعي الجمعي؛ ومن ثم تضع الذات المتكلمة الموقف الواقعي الوجودي في موضع التساؤل، والاتصال بفضاءات التشكيل، والحلم.

 

msameerster@gmail.com