قيامة "لعازر" بعد موته، وبقاؤه أربعة أيام في القبر مغطًى بأرماسه، تتقاطع مع عودة "السيد نون" إلى الكلمات، باعتبارها أدوات الكتابة، وعلاقته المركبة بها، فهي تحمل طاقة سحرية قادرة على الابتكار كما هي قادرة على التدمير، ولا يصغى إلى ما تدعوه إليه مس "زهرة" من ضرورة اتخاذ مسافة.

مستر نون

نجـوى بركات

 

إثر خروجي من القبر، ولأيّام، بقيتُ أشعر أن بلغمًا قاسيًا يتجمّع في رئتيّ ويصعد إلى ما تحت الّلسان من دون سُعالٍ حتى. هل هي فترة صمتي الطويلة، أم أنه غبار التراب الذي عبَر لفافات الأقمشة، مستقرًّا في فمي ورئتيّ؟ لبثتُ زمنا أخشى فتحَ شفتيّ، ثمّ اتّضح لي أن ما تكوّر وتجمّع وقسا، ليس بالفعل بلغمًا وإنّما كلمات تحجّرت فجرحتْ بلعومي وأثقلتْ أنفاسي. خسِرَتِ الكلماُت وقد تحوّلت إلى فصيلة الرخويّات، عمودَها الفقريّ فأضحت رخوة لزجة ومتلاصقة، تزحف تاركة في أثرها خيطًا صمغيًا كالبصاق. ذات يوم، وقد ارتفع غثياني فيّ كالموج العالي، جاءني القيْءُ متدفّقا غزيرا عاتيا، فاستفرغتُ كلّ ما في أحشائي، ثمّ كلّ ما في روحي، ثمّ كلّ ما في ذاكرتي. تقيّأتُ حبرا وورقا وقتلة وكذبة وجلّادين ... باختصار، استفرغتُ نفسي وجلستُ أنظر إليها تتلوّى في عصيرها على البلاط، تطبق شفتيها وتفتحهما كسمكة تنازع، نصفها في الماء نصفها في الهواء، تستجديني أن أرجعها إليّ، فيما أنا ناظرٌ إليها كالغائب، كالناقم، كعدوّ.

حين كنتُ ما زلتُ أكتب، كنت أحبّ الكلمات تملأ مخيلتي فلا تدّعي ولا تراوغ ولا تكذب علانية ودونما خجل، بل تتداعى، متماسكة الأيدي، كقطار، أو تقفز راقصةً منعدمة الجاذبية، متخفّفةً من أيّ وزن. لكني اليوم، أمس، أو غدًا، وقد فارقتُ الكتابة لأني ما عدتُ أحتملها- على الرغم من مقدرتي الخياليّة على احتمال كلّ شيء- أشعر بروائحها النتنة تدهمني، ويخنقني تعفّنها وسيلانُ سوائلها الصفراء. أقاوم، وأستيقظ كلّ فجر، فأستخرج من ثقوبي ما اقتحمَها واعتمل فيّ دونما استئذان، أرميه في كرسيّ الحمّام، وأدلق عليه ماءً غزيرا. ومع ذلك، يبقى يتسلّل إليّ الكثيرُ لأني، بخلاف سواي، أو كسواي ربما، لا أتقن فنَّ التحكّم وأخذ مسافة من الأشياء. تطمئنني مِسّ زهرة قائلة إنّ النتنَ هذا حقيقيّ، وأن الخارجَ هو مصدره، وتبدأ تحكي عن أزمة نُفايات لا تُجمع، ولا تعالَج بالشّكل الصّحيح، وتبقى تتراكم جبالا سوف تنهار في النهاية حتى تدفن البلادَ بمن فيها. تحكي ولا أعيرها انتباهًا إذ أركّز على تلك المسافة التي ينبغي أن آخذها وينصحني بها الجميعُ ولا أدري من أين آتي بها كي أبقيها معي كما يفعل الآخرون إذ يحملونها أينما حلّوا ليضعوها حاجزا بينهم وبين الأمور. وأفكّر أنها لا بدّ أن تكون من مادة صلبة جدا، وإلا فكيف تحمي ويُحتمى بها؟ وأفكّر أنها ولا بدّ كبيرة أو ذات حجم معيّن، وإلا ما صمدتْ وما نفعتْ. وأفكّر أنّها قد تكون شيئا افتراضيا يردع الآخرين ويوهمهم بوجوده، مثل حائط من زجاج غير مرئي وغير قابل للكسر، أو هولوغرام عازل يقي شرّ اـلبلية..ـ في مطلق الأحوال، أنا لستُ أملك تلك المسافة، كأنّي عارٍ كلّيا، لا بل أني عارٍ من دون جِلْـدٍ وأعضائي مكشوفة للعيان. أجل، هذا أنا، كائن افتراضيّ غير مرئيّ يخرقه الهواء. احمِ نفسَكَ، يصرخون بي، لا تتركْكَ هكذا مشرّعًا تميل كيفما مالتِ الأهواء. انفصِلْ يا رجل، ابتعدْ، ولا تلتفتْ إلى الوراء...

بسط السيّد نون كفّه على مداها كي يتمكّن من القبض على زوايا الورقة الأربع وفي آن. كمشها وضغط ببطء، مركّزا على أصوات تكسّرٍ وأنين راح الورقُ يُصدرها تباعا. عندما تكوّرت الصفحةُ المملوءة حشراتٍ رمادية وقوائم مهشّمة في راحة يده، قام إلى الحمّام ورماها في سلّة المهملات. لو قرأت مِسّ زهرة هذا، لذُعِرتْ منه. كان حرّا قبل أن يكتشف أنها مهتمّة بما يكتبه. الآن، صورته التي في رأسها تكبّله وتُثقل عليه. فتحَ ماءَ المغسلة وغسل يديه من الرصاص وشطف وجهه بالماء البارد وتمضمض وهو يقاوم غثيانا لئيما يتجهّزُ أسفلَ المعدة، قبل أن يصعد كالصاروخ الحارق إلى قصبته الهوائية، فبلعومه، فما بين الأسنان. لا بأس. تناول الورقة من سلّة المهملات، ثمّ مزقها قطعا صغيرة رماها في حفرة قعدة الحمّام، وما هي إلا لحظات حتى شعر بأعصاب معدته ترتخي بعد انقباض، وبصورة مِسّ زهرة تعود مبتسمة مُطَمئنة. نظر في المرآة، عيناه في عينيه، دونما خوف أو توجّس أو تردّد. أحسّ بالنشاط وبرغبة في المحاولة من جديد، عدّ: واحد، اثنان، ثلاثة، ثمّ انطلق مسابِقًا نفسَه إلى حيث جلستِ الأوراقُ بيضاء:

أّيهما أفضل، الكِتاب أم الشجرة؟ الشجرة، بالطبع. الكتبُ في غالبيتها تموت، وتلك التي تعمّر قليلة جدا، وإن تكاثرت على مرّ القرون. يا الله، لماذا لستُ شجرة؟ لماذا لستُ شجرة؟ لماذا لستُ شجرة؟ أيمكنك أن تجيب؟ تطفو في رأسي العائم بالقاذورات كمجلى سُدّت، جملٌ تقفز من بين أصابعي ويديّ. هذه جملة كتبتُها سابقا وما زالت، برغم مواتي، حيّةً تبعط تحت اللسان.

إنه يوم الأربعاء، تعلن الرزنامة. الرزنامة تحكي وإن طُلب منها السكوت. أنا لا أحبّ الأربعاء و لَعَازَر قام يومَ سبت. لَعَازَر الذي من "بيت عنيا" التي بالآرامية تعني بيت البؤس والعناء. العالم كلّه بيت عنيا. أشعر بالعرق يسيل من جلدة رأسي، وليس الطقس حارّا ولا الشمس حارقة. منذ قليل، أنعشُت روحي وقد غسلتُ وجهي ويديّ ومسحتُها بالمنشفة البيضاء التي في زاويتها اليمنى نقاط صدأ صغيرة تنتقل، حين أقلبها، الى الزاوية اليسرى. وهذا أفعله في كل مرة يأتي دورُها أن تعلّق قرب مغسلة الحمّام. إنها المفضّلة لديّ لأني أتميّزها من المناشف الأخرى المتشابهة في ما بينها. لستُ أدري أين تراها تختفي لتعود فتظهر فجأة وكأنّ شيئا لم يكن، وكأنها لم تحتجب عنّي لأسابيع. أقبح ما في العالم هو التشابه والتكرار. المناشفُ ترانا وجوها متماثلة لا تتمايز في ما بينها، دوائر بخمسة ثقوب، أو سبعة، إذا ما احتسبنا الأذنين. المنشفة تتحدّر من فعل نَشفَ. ليس أفضل من إرجاع الكلام إلى أصوله. الكلام كلّه بات بلا أصول.

أنهض كلّ يوم من فراشي كمن ينهض من أرض معركة، من موقعة دمار، من مقتلة، وأوّل ما أفعله هو سحب شباكي من مياه النوم، ولملمة ما علق فيها من صور وأجسام وأفكار، ألقيها على الورق، ثمّ ألقي الورقَ في سلّة الحمّام، قبل أن أعيد لملمة شباكي، بانتظار ليل آتٍ لا محالة. هو الّليل الذي يأتي كلًّ ليلٍ عليّ... والّليل ملح. من كتب هذه الجملة؟ أنا ما عدتُ أكتب، ولستُ أذكر لمن هي. في رأسي غيم. في رأسي ريح وقطن. في ما مضى، كان أَحبُّ الكلمات إلى قلبي ما كان منها خفيفا نظيفا واضحا ورشيقا. وكنتُ أفضّلها بثلاثة أحرف أبدّل في ما بينها كمن يرمي مربعاتِ نرْد. ملح، حلم، لحم، محل، حمل، لمح، لحّ، حلّ، ملّ، حم، مح. ما قلّ ودلّ. ما قلّ وإن لم يدلّ. ما يدلّ لا يقلّ أبدا مهما انكمش وضاق. وكم تمّنيتُ لو أُرجع الكلامَ إلى أوّله. لو أقيمه من القبر، كما لَعَازَر ، وأسير به إلى النّور. يا ربّ، أكلّ هذا الكلام عليّ؟ سأل لَعَازَر . لمَ أعدتني إلى الّليل وما الذي فعلتُ؟

حين أكون غافلا، تمتلئ غرفتي بكلماتٍ أمضيتُ نهاري في طردها عن وجهي كالذباب. وإذ أغفو، للحظات، تروح تنزّ من أذنيّ وعينيّ ومنخريّ كما تسيل الدّماء، على غفلة وبهدوء. جسدي كلّه يتحوّل إلى مصنع يضخّ الحروف، شياطين صغيرة بأذناب صغيرة وأسنان مسنّنة حادّة وألسنة لها رؤوس ثعابين. تصرخ وتخربش وتئزّ، قبل أن يكشّها الضوءُ الخيّرُ المتسلّلُ عبر النافذة. في البداية، كنتُ كسواي غافلا، واضعًا رأسي بين الرؤوس، و لم أكن لأفطن يوما أن الكلمات هي عدوّي وأنها تتغلغل لتبثّ سُمَّها تحت اللسان. ولا دواء، لا لقاح، لا سلاح. ذرّاتٌ تتطاير في الهواء، ذبذبات تطلع من الأرض، تهبط من السماء. وباء. تكتبُ كلمةً تنهض من لا شيء، ترتدي ثيابا ويصير لها جسمٌ ووجه، ثمّ يأتي من يُحيّيها ويتعامل معها على أنها صاحبة الأمر والنّهي. أحيانا، تصنع عصابة وتبدأ تضرب كلّ ما حولها، وأحيانا حتى الموت.

هذا ما جرى لي. كتبتُ اسمًا فنهض الاسمُ من الورقة وصار رجلاً برأسٍ وقدمين...

 

* فصل من رواية "مستر نون" الصادرة عن دار الآداب. بيروت 2019