في مراجعته التحليلية، يلفت الباحث المصري الانتباه لعمق الجوانب الجديرة بالبحث في شخص المويلحي المثقف ومؤلفه الشهير. ويتناول أسلوبيّة نصه وحواره مع التخييل والواقع والتراث، ويبين الكيفيّة التي عقد بها المويلحي تواصلاً جدلياً مع منطق لغة متحولة، ومراتب أزمنة اجتماعية وثقافية متباينة.

بين الأصالة والمعاصرة

«حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي

يسري عبد الغني عبد الله

تمهيد:
بداية نقول: نحن في أمس الحاجة إلى أن نعيد العظمة للعظماء. في حاجة إلى مراجعة جادة لما نكتب عنه أو نؤرخ له. بمعنى آخر، نحن في حاجة إلى إعادة كتابة تاريخنا الأدبي. نريد أن نقف أمام رواد أدبنا نترجم لهم فكرياً، ترجمة عميقة تعكس أبعاد أدبهم النفسية والاجتماعية والفكرية. نبحث في عوامل نبوغهم، ونتعمق في ملامحهم الإبداعية، دون خلفية مسبقة يُثوبها اتجاه معين نتعصب له. نتعمق في خصائصهم الفنية والأدبية، ونعيش معهم ونتعايش في صدق. نفعل ذلك ومعنا الأدوات النقدية، التي تعين على التقييم الجاد. نحيا معهم رحلتهم الإبداعية بما فيها من سلبٍ وإيجاب، فالكمال المطلق أمر محال، والأديب مهما بلغ من النبوغ فهو بشرٌ في نهاية الأمر. نحلل نتاجهم بموضوعية، وعمق ودراية أكثر رحابة ووعياً، وبذلك يُقدم لنا نحن الأجيال الصاعدة النموذج الحق، البعيد عن الأسطورية والسوبرمانيّة، دون أن نرى من يتتبع كل عيب ونقيصة، ودون أن نثور ونهاجم لمجرد المخالفة، أو بمجرد الشهرة على قبور الراحلين، وعلى الإجمال نريد إعادة رائدة لتاريخنا الأدبي، بها نضع روادنا في مكان ريادتهم الحقيقية. 

بداية الرواية العربية:
هذه مقدمة أعتذر عن الاستطراد في كلماتها، ولكن هذه الكلمات تزاحمت أمامي وأنا أبحث عن الدراسات التي كتبت عن الأديب محمد المويلحي، وكتابه الشهير "حديث عيسى بن هشام". وقبل أن ندخل إلى عالم محمد المويلحي وقصته، نقرر أن هناك آراء صائبة في مجال التأريخ لفن القصة والرواية العربية نلمح فيها الدقة العلمية دون تسطيح أو مبالغة، هذه الآراء ترى أن "حديث عيسى بن هشام"، بداية جادة وحقيقية للرواية العربية، هذه الآراء في حاجة جادة إلى التأمل والأخذ بها إذا كنا جادين بالفعل في أن نعيد العظمة إلى هؤلاء الذين أثروا حياتنا الفكرية والأدبية.

إنها آراء واعية وعميقة تضع كثيراً من الأمور الهائمة التي نلمحها في كتابات تهمش الأمور وتسطحها وتمذهبها في الكثير من الأحيان. ومن هنا كان إعجابي كقارئ وكاتب منذ أيام الشباب بهذه الآراء التي وضعت رواية المويلحي في مكانها الحقيقي، وأجدني بفضل هذه الآراء أحمل قلمي محاولاً أن أخط هامشاً متواضعاً حول رواية المويلحي الابن "حديث عيسى بن هشام".

أقول: إن جوهر الامتياز في أي أديب هو قدرته على المزج بين الفن والواقع المعاش في معادلة واعية يعبر بها عن الحياة بالشكل الفني الذي يراه ، بشرط ألا يسئ اختيار هذا الشكل أو ذلك الإطار الذي اتخذه كوسيلة تعبيرية، وهكذا كان محمد المويلحي أول كاتب عربي يعبر عن الواقع المعاش في مصر. كان ذلك في فترة كنا أحوج الناس فيها لمن يفعل ذلك على المستوى السياسي والاجتماعي والفكري، قام بذلك رغم كل النقد والانتقاد الذي يركز على سلبيات عمله. 

هذا هو محمد المويلحي:
محمد المويلحي كاتب صحفي وقاص، ولد في مصر ونشأ بها، وكانت له وراثة في الأدب ـ إن صدق هذا القول ـ فأبوه هو الشيخ ابراهيم المويلحي، الذي يعد من الكتاب المعدودين في عصره، عشق المويلحي الابن الأدب منذ صغره، وأقبل عليه في شغف، دراسة وحفظاً، وتأثر ببعض الرواد على عهده من أمثال الشيخ الأكبر جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده. واشتغل منذ صباه مع أبيه في تحرير صحيفة "مصباح الشرق"، وكان إلى جانب تمكنه من اللغة العربية يجيد اللغة الفرنسية، كما كان لديه بعض الإلمام باللغة الإيطالية.

ويعتبر كتاب محمد المويلحي "حديث عيسى بن هشام"، من أهم كتبه، وكانت وفاته سنة 1930م عن سبعين عاماً حافلة بالعمل الناضج بين أدب وسياسة وإدارة.

عمل المويلحي أديباً صحافياً راقياً في عصر كان الكاتب البسيط فيه موضع الاحترام والإعجاب من الناس، وكان من الناس قراء قليلون جداً، والصحافة محصورة في نشرات محدودة معروفة، والنهضة في أول بزوغها، والقوم يقبلون بشغف على كل ما ينشر ويكتب. ولكن المويلحي لم يكن يرضيه هذا التساهل من القراء والكتاب، فكان يؤكد على ضرورة أن يقرأ الناس الجيد المفيد، ولن يكون ذلك إلا بكتاب على مستوى محترم وواع، فالمويلحي صاحب نفسٍ فطرت على الأدب والفن، نفس تتمكن بسهولة من معرفة الغث من الثمين، وهو متمكن من اللغة والأدب تمكنناً جعله جدير بأن يرفع إلى مستوى الكتاب الأقدمين الجهابذة والبلغاء.

ولم يقنع المويلحي من الصحافة بأخبار السياسة العامة حتى قرنها بالفصول الأدبية المفيدة المشوقة، واتخذ عصره ميدان للنقد فعمل على تقويم ما اعوج من أخلاقه، وشذ من عاداته، شأن الأديب الكبير الفاهم لرسالته في كل مكان وزمان، وهذه الفصول الرائعة في تسلسلها واختلاف مواضيعها يتكون منها كتاب "حديث عيسى بن هشام" الذي نعيش معه عبر هذه السطور. 

الباشا يعلن البداية:
موضوع الكتاب هو أن عيسى بن هشام كان ذات ليلة يطوف المقابر للاتعاظ والاعتبار، إذ بعث له دفين يخاطبه، فعلم منه أنه أحمد باشا المنيكلي ناظر الجهادية المصرية (وزير الدفاع) على نهايات عهد محمد علي باشا الكبير، فلازمه وصاحبه، وجاء معه إلى القاهرة (كانت المقابر خارج القاهرة في ذلك الوقت)، حيث جرت لهما حادثة مع أحد الحمّارة أفضت بهم إلى دار الشحنة (الكراكول، قسم الشرطة) ثم إلى النيابة العامة، فالمحكمة الابتدائية، فمحكمة الاستئناف، ثم ألجأته الحاجة إلى المطالبة بأوقافه الكثيرة فلجأ إلى المحاكم الشرعية، ثم اضطره مرض الطاعون للهرب إلى الإسكندرية، ثم رجع إلى القاهرة، وأخذ يدخل مجالس القوم من أدباء وتجار وعلماء ورؤساء وأمراء، كما حضر الأعراس، واندس في المشارب والمطاعم يتسقط أحاديث القوم من أهل الريف والحضر، وذهب إلى المراقص يرى ما تفعله البغايا والخلعاء، وما يفعله سماسرة الأعراض والمحاسب.. إلى غير ذلك من حياة يومية عريضة مائجة بضروب العادات والأخلاق، حافلة بالأنظمة الاجتماعية.

هذا وقد جعل المويلحي هدفه الدائم المقارنة بين الحالة الحاضرة والحالة السابقة، حتى يتبين للقارئ الفرق الواضح بينهما، وتعمّ الفائدة، وتبدو وجوه النقص والشذوذ على علاتها. 

الحوار.. التخيل.. الواقع:
وتتخذ قصة المويلحي الحوار (الديالوج) بين عيسى بن هشام والباشا المنيكلي تارة، وبين أفراد الشعب تارة أخرى، وهو على سياق القصة المحضة تارة ثالثة، بحيث يتفكه القارئ باختلاف السياق، ويستريح إلى هذا الانتقال.

لقد اتجه المويلحي إلى المجتمع المصري ليرصد لنا أحوال الناس فيه، وألوان تصرفهم وسلوكهم، وعرض من ذلك جوانب متعددة، تتصل بحياة الطبقات أو الشرائح الاجتماعية، والطوائف المختلفة، وموقف الحكومة منهم، وسجل نظراته النقدية في قالب خاص فضله، وأسلوب خاص درج عليه.

وحين نطالع أي جزء من حديث عيسى بن هشام نلمح على الفور عيسى يحكي، والباشا يرافقه.

ونحب أن نشير هنا إلى أن الرواية تقع في رحلتين أو جزأين. الرحلة الأولى عناوينها: العبرة، النيابة، المحامي الأهلي، المحكمة الأهلية، لجنة المراقبة، محكمة الاستئناف، الوقف، أبناء الكبراء، كبراء العصر الماضي، المحامي الشرعي، الدفترخانة الشرعية، المحكمة الشرعية، قصر حفيد الباشا، الطب والأطباء، الطاعون، الوباء، العزلة في العلم والأدب، الأعيان والتجار، أرباب الوظائف، العرس، العمدة في الحديقة، العمدة في المجتمع، العمدة في المرقص، العمدة في الرهن، العمدة في الأهرام، قصر الجيزة والمتحف، العمدة في الملهى. (يقع الجزء الأول من الصفحة المرقمة بـ 1 إلى الصفحة 350 من مكتبة الأسرة المصرية).

أما الرحلة الثانية ، فعناوينها : باريس، المعرض، القصر الكبير، الأشجار الأزهار، المرائي والمشاهد، الافتراء على الوطن، خبز المدينة، المعجزة الثامنة، من الغرب إلى الشرق (يقع الجزء الثاني في الصفحات من 356 إلى 456 من طبعة مكتبة الأسرة المصرية).

نقول: إن "عيسى بن هشام" رواية تخيلية، وعيسى نفسه راوية تخيّله المويلحي، وساق على لسانه ما أراد من قصص، ومن ثنايا هذا القصص تظهر آراء المويلحي واتجاهاته وأفكاره في الحياة الاجتماعية.

والباشا هو الآخر رجل خيالي، كان عيسى في حلم، وخيل له حلمه أنه يمر بالمقابر، أو مقبرة من هذه المقابر التي أنشئت في أوائل القرن العشرين بحي الإمام الشافعي في القاهرة القديمة، وأنها انشقت وخرج منها الباشا الذي لا يعرف شيئاً عن الحياة الحديثة أو المعاصرة، وما جد بها.

لقد صحب عيسى الباشا، وأخذ يتنقل معه، يطلعه على الجديد من صور الحياة، التي لم يرها ولم يعلم عنها شيئاً، وهو بذلك يتيح فرصة المقارنة والموازنة بين أيام الباشا والأيام الحاضرة (على عهد الكاتب)، بما فيها من محاسن ونقائص.

والمويلحي عندما يعرف بكتابه يؤكد للقارئ أنه موضوع على نسق التخيل والتصوير، ولكن في قالب الحقيقة، حاول به أن يشرح أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن يصف ما هم عليه في مختلف طبقاتهم من نقائص يتعين اجتنابها، أو فضائل يتعين التزامها.

إن المويلحي حين يسجل ذلك إنما يسجله بعين الناقد الاجتماعي الذي لا يريد سوى رصد المآخذ الاجتماعية، وهو في ذلك يذكرنا باميل زولا في رصده الصريح للواقع المعاش.

وقد ساق المويلحي نقده على لسان عيسى بن هشام وهو في ذلك يؤثر منهجاً بعيداً عن المواجهة الصريحة، ولعل هذا المنهج قد أملته عليه الأحداث السياسية، فقد كان المويلحي من العرابيين، ووجه إليه الاتهام بذلك، وتم فصله من عمله الحكومي لهذا السبب. وعلى كل حال فإنه لا يمكن لنا أن نتجاهل ما في عرض المويلحي النقدي من طرافة، مصدرها امتزاج الحقيقة بالخيال في صدق وواقعية معاً. 

المويلحي يستدعي المقامة:
وكتاب المويلحي يسير على نمط المقامة التي ظهرت منذ العصر العباسي، وبالتحديد أواسطه، وهي حكاية خيالية، تشتمل على حادثة تدور غالباً حول التكسب بالأدب، وتنتهي بفكاهة أو عظة، وللمقامة بطل وهو أديب واسع الثقافة، خبير باللغة ودقائقها، وأسرارها، يجول في البلاد ليعرض ثقافته، وينال عطاء الناس، ومع البطل راوية يروي أخباره، ويكشف عن حقيقته، والبطل الذي اختاره بديع الزمان الهمذاني (أشهر من كتب المقامة) لمقاماته هو: أبو الفتح السكندري، والراوية هو عيسى بن هشام وهو الذي اتخذه المويلحي راوية له.

والمقامة ليست قصة بالمعنى الفني للقصة، وإنما هي حكاية أقرب إلى السرد منها إلى الحبكة القصصية، وإنها تحتوي على بعض المفاجآت، ونجد البطل يبرز فجأة وسط الأهوال ليقوم بدوره، وتبدو حيلته في استغلال المواقف لتحقيق مآربه. والمقامة مصدر عظيم من مصادر تعليم اللغة العربية يمد الإنسان بكثير من أساليبها القوية، ويوقفه على أسرارها، ويزوده بالكثير من ألفاظها الغريبة والمألوفة، بالإضافة إلى ما فيها من حكم وأمثال وملح ونوادر، حتى أن بعض الباحثين يسميها "القصص اللغوي".

ويذهب بعض مؤرخي الأدب إلى أن المقامات وضعت في الأصل من أجل مواجهة تيار اللحن والتغريب، الذي ظهر بسبب سيطرة العناصر الأجنبية على البلاد مثل الفرس والأتراك، ولذلك كانت تدرّس للطلاب ويطلب منهم حفظها عن ظهر قلب كمصدر لتعليم اللغة وأساليبها القوية وأسرارها وألفاظها.

ويعتبر بعض النقاد أن المقامة تعد من بذور القصص في الأدب العربي، وعلى نهجها نسج المويلحي في حديث عيسى بن هشام في العصر الحديث، وكذلك الأديب ناصيف اليازجي.

والمقامة تدل على مقدرة كاتبها وسعة اطلاعه وإلمامه باللغة العربية إلماماً واسعاً، وأسلوب المقامة له طابع خاص يخالف أساليب النثر الأخرى، ومن خصائصه: التزام السجع، والحرص على ألوان من المحسنات البديعية والإكثار منها، والاشتمال على كثير من الحكم والأمثال، مع تنوع الأساليب وووفرة الألفاظ الغريبة، والاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، وأشعار العرب، كذلك الاعتماد على أسلوب الإطناب بالترادف أو الاستطراد في الوصف، والميل إلى موازنة الجمل طولاً أو قصراً.

ولذلك قيل: إن المقامات تلقي الضوء على الحياة في العصر العباسي الذي أنشئت فيه، كما تكشف عن فقر الأدباء، واحتيالهم على طلب الرزق. ويذهب مؤرخو الأدب إلى أن ابن دريد، العالم اللغوي الشهير وصاحب معجم "الجمهرة"، هو أول من كتب المقامة، ثم جاء بعده بديع الزمان الهمذاني ثم أبو القاسم الحريري. 

هناك فروق:
ولكن الشيء المؤكد لنا أن المويلحي خرج بالمقامة إلى إطار المجتمع، ولم يحبسها في نطاق الاستجداء، واستعراض المهارات اللفظية كما صنع كتاب المقامات، إضافة إلى أنه لم يحمّل أحاديثه من اللغويات ما كانت تحتشد به المقامات، ولم يتكلف فيها من الصنعة العباسية ما كانوا يتكلفون. وبهذا جاءت أسلس وأدق.

رغم قدم منهاج اللغة وفخامة ألفاظها عند المويلحي فهي عربية أصيلة لا تشوبها التراكيب الأجنبية، ولا نجد فيها رخاوة الألفاظ العامية، ولو أن المويلحي نسّقها على الطريقة القديمة أو بعبارة أوضح لونها فصارت عصرية النهج، لكان كتاب المويلحي إلى يومنا هذا أحدث ما تنتجه القرائح لاتساع مداه ووفرة مادته وخصوبة موضوعاته، لأنه لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم عنها.

فبينما نرى المويلحي يقابل بين أرباب الرياسات في عهده والعهد السابق له، نراه يملي القواعد الواجبة على الرئيس، ويدل على مواضع الاحترام له، وما ينفي الاحترام عنه... فإذا مرض واستطب تناول موضوع الطب وواجبات الأطباء فعقد درساً مستفيضاً جليلاً... وإذا اعتزل للاعتكاف على الأدب أطرى الأدب إطراءً جميلاً، وأظهر محاسنه، وأنه لا جمال للحياة إلا به... وإذا حضر العُرس وسمع الغناء عقد للغناء فصلاً شائقاً ممتعاً... إلى آخر ما هناك من هذه الفصول القيمة التي تملك على القارئ المستوعب عقله وفكره. 

ذوق المطالعة:
على أنه مهما تجرد المويلحي من نفسيته في كتابه وجعله على ألسنة غيره فهو واضع فيه من نفسه شيئاً كثيراً، وعلى هذا يتضح لنا من كتابه أنه كان يعلي من مقام الشاعر العباسي أبو الطيب المتنبي بنوع خاص، وكان يكثر الاستشهاد بأبياتٍ من الشعر العربي منها أبياتٌ للمتنبي، ولكن أغلبها لأبي العلاء المعري الذي أحبه المويلحي وتأثر به.

وفي الجزء الأخير من الرحلة الأولى نرى نثره متأثراً إلى حد كبير برسالة الغفران لأبي العلاء المعري في بعض فقراته، وكنا نتمنى لو سمح المقام بتقديم الشواهد لقابلنا بين الفقر وأظهرنا موضع المطابقة.

هذا من حيث ذوق مطالعاته، غير أن سجعه أسهل وأخف وأبسط من سجع الهمذاني والحريري واليازجي في بعض المواقف، ولكنه ربما تعقد في البعض الآخر، وعصيته جمله في مواقف شتى فاستعاض عنه بالترسل ولكن على مضض. والمويلحي موفق في كثير من ملاحظاته الاجتماعية، وإن غلب عليه الإجمال في الانتقاد، وتناول الموضوع في سطوره الكبيرة ـ كما يقولون ـ فلا يدقق في التفصيل ولا ينفذ إلى الجهات الدقيقة، لأنه يريد الإلمام بجملته، ولأنه عالي النظر تتسع حوله دائرة الحياة.

وفي الكتاب فكاهة كثيرة ونكات شتى، وأقاصيص رشيقة الروح تدل على كثير من الدعابة البريئة في نفس المؤلف، كما أن فيه استشهادات قرآنية كثيرة جداً، وأسانيد تاريخية وأدبية تبرهن على وفرة علم المويلحي وبعد مطالعته، ونضوج ثقافته. 

الحوار بين المويلحي والشدياق:
نريد أن نعرض لهذه الطريقة التي سلكها المويلحي لنرى كيف اهتدى إلى طريقة الحوار والقصة، لينتقد بها عادات العصر وأخلاقه، والتي خلا أدبنا القديم منها ومن أمثالها. وقد يقول قائل: ألم تقرأ كتاب الأستاذ أحمد فارس الشدياق والذي عنوانه "الساق على الساق"؟ نقول: نعم قرأنا هذا الكتاب للشدياق، وهو عالم متمكن في اللغة والأدب، ولد سنة 1804م، وتوفى سنة 1887م، وهو لبناني الأصل، ومعاصر لـ "حديث عيسى بن هشام" أو يسبقه بقليل. وكتابه المشار إليه لغويٌ بحت، وشخصيٌ جداً، وفيه النكتة اللاذعة واللفظة القارعة، محشوٌ بأوصافٍ بذيئة تخجل القارئ الحي. أما حديث عيسى بن هشام فإنه راقي الأدب، جم النزاهة، يرمي إليك بالنكتة المستملحة، والطرفة البالغة في ثوبٍ من الإباء والغضب العنيف على انتهاك الأخلاق، فليس إذن له علاقة بالساق على الساق للشدياق، وإن كان بعض وجه للتقريب بينهما. 

من ليون ريبو إلى عبد الله النديم:
وبهذه المناسبة نذكر عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، والشاعر الكاتب الثائر الذي كان ينشر في جريدته "الأستاذ" بعضاً من القطع الأدبية الانتقادية في محاورات بين رجل وامرأة، أو بين رجل ورجل، أو بين امرأة وامرأة، يتناول فيها بعض العادات بالتقريع والتنديد، ولكنها كانت عبارة عن محاورات لا رباط عضوي بينها، ولا تتسع في تسلسلها لمثل ما اتسع له "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي.

ونذكر هنا أنه في فرنسا، وفي عام 1843م ظهر كتاب مؤلفه كاتب فرنسي يدعى ليون ريبو عنوانه "جيروم باتورو يبحث عن مركز اجتماعي في مجتمعه". وإذا نظرنا إلى الكتاب وجدنا مؤلفه يرسل بطله باحثاً في الهيئة الاجتماعية، ناقداً معترضاً أنظمتها، مندداً بكثير منها، وهو يتسع في بحثه فتتعدد موضوعاته، وقد شاع هذا الكتاب الفرنسي شيوعاً كبيراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومما لاشك فيه أن هذا الكتاب وما فيه وصل إلى عبد الله النديم، وإلى محمد المويلحي. لقد كان إعجاب القراء الفرنسيين به كبيراً لدرجة أن مؤلفه ليون ريبو عاد سيرته الأولى مرة ثانية عام 1848م، ونشر كتاباً آخر بعنوان "جيروم باتورو يبحث عن أفضل جمهورية". ومن المعروف أن عام 1848 م شهد انقلاب الملكية في فرنسا، وقيام الجمهورية الثانية، وشاع أيضاً هذا الكتاب شيوعاً كبيراً.

وهذان الكتابان يصلحان كمصدر لطريقة النقد الاجتماعي المعتمدة على أسلوب المحاورة، أما فصول المويلحي فشبيهة كل الشبه بالمقامات التي ظهرت في أواسط العصر العباسي، فعيسى بن هشام هو راوية مقامات الهمذاني، كما أن الحارث بن همام هو راوية مقامات الحريري، وكما أن سهيل بن عباد هو راوية مقامات اليازجي. 

عن الرجل وإبداعه:
وفي ختام هذا الموضوع أحب أن أذكر بعض النقاط التي أراها مهمة في أي حديث يتناول محمد المويلحي وكتابه حديث عيسى بن هشام:

1 ـ كان المويلحي أحد أبطال ثورة عرابي الشباب، وأحد الذين حكم عليهم الإنجليز بما حكم به على زعماء الثورة، وهو الإعدام شنقاً، ثم خفف الحكم إلى طرده من الوظيفة ونفيه من مصر.
2 ـ للمويلحي مخطوطات ورسائل عديدة مهمة لم تنشر حتى الآن رغم فائدتها للأدب والأدباء.
3 ـ كان المويلحي أديباً متطوراً متجاوباً مع التيار الأدبي الحديث في عصره.
4 ـ كان المويلحي رائداً من رواد النثر الفني، وهو علم من أعلام المدرسة الحديثة التي نهضت بالأسلوب والمعاني، لذلك تأثر به الكثير من الكتاب.
5 ـ تدل آثاره الأدبية أنه حمل لواء النهضة النقدية في عصره، وكان له أكبر الأثر في النهوض بالنقد الأدبي والاجتماعي، كما كان باعثاً للنقد الكاريكاتوري في العصر الحديث.
6 ـ كان للمويلحي جهوداً لغوية ضخمة داخل مجمع اللغة العربية وخارجه، وكشف عن ثروة كبيرة من الألفاظ والمصطلحات، كان قد تقدم للمجمع ببعضها فأقرها، ولا تزال تعيش معنا إلى الآن، ولم يسعفه الوقت للتقدم بالبعض الآخر.
7 ـ كان قدوة في الكتابة الصحفية في عصره، وأثر أسلوبه في الأسلوب الصحفي أكبر الأثر، كما كان رائداً من رواد المقالة الإنسانية والأدبية.
8 ـ إن "حديث عيسى بن هشام" من تأليف محمد المويلحي وحده بعيداً عن كل شبهة ظن أو تأويل.
9 ـ إن طبعات "حديث عيسى بن هشام" كلها طبعات ناقصة، حيث أنها لم تضم كل ما كتبه المويلحي من حلقات، في جريدته "مصباح الشرق"، لذلك يجب إعادة طبعه كاملاً بعد أن تضاف إليه المقالات التي قضت الظروف السياسية بإبعادها عن النشر.
10 ـ حديث عيسى بن هشام رواية فنية اجتماعية في قالب المقامة، وهي باكورة العمل الروائي في الأدب العربي، وهي ليست مقامة أو كتاب تاريخي كما يقول البعض.
11 ـ القارئ للرواية يستطيع أن يلمح نوع الحكم الذي اختاره المويلحي لبلادنا، وهو الحكم الجمهوري الديمقراطي، كما أنه نادى بإلغاء الألقاب، وإذابة الفروق بين الطبقات، وهاجم النظام الرأسمالي المستغل، وطالب بإلغاء الامتيازات الأجنبية، ورفع الحماية عن البلاد، والتحرر من القوانين الأجنبية.
12 ـ كان مبدأه في الإصلاح الاجتماعي هو التجربة العملية، والقدوة والنزاهة، وتجسيم العيوب الاجتماعية لتقلع عنها النفس فتنبت بذور الفضيلة.
13 ـ كان لرواية المويلحي التأثير الكبير الذي أحدثته في الروايات التي جاءت بعده، في نفس الوقت الذي كان أثر المويلحي بأسلوبه المتميز واضحاً في الكتاب المعاصرين واللاحقين له.
14 ـ السخرية التي امتاز بها المويلحي في أسلوبه لم تكن نابعة من حقد أو تبرم، أو ضيق بالعيش، ولكنها كانت نتيجة فهم عميق للمجتمع. 

خاتمة:
وبعد: نقرر أن "حديث عيسى بن هشام" كتاب خالد سوف يبقى ما بقي الأدب العربي، ويذكر صاحبه بالفضل لأنه صور أخلاق عصره، فكان نعم الشاهد على هذا العصر، كما أن الكتاب خير معين للمؤرخ والأديب والباحث... كتابٌ كانت له اليد الطولى على الفكر والمفكرين، كما كانت له المنزلة العليا في تاريخنا الأدبي والفكري. 

المراجع:
(1) ـ
عبد اللاه عبد المطلب، المويلحي الصغير: حياته وأدبه، 1985م.
(2) ـ أحمد أمين، النقد الأدبي، 1952م.
(3) ـ أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي، 1953م.
(4) ـ أحمد فارس الشدياق، الساق على الساق، 1919م.
(5) ـ أنيس المقدسي، محاضرات عن اليازجي والبستاني، 1956م.
(6) ـ بديع الزمان الهمذاني، مقامات بديع الزمان، 1958م.
(7) ـ أبو القاسم الحريري، المقامات الأدبية، 1313هـ.
(8) ـ حسين توفيق العدل، تاريخ الأدب العربي، 1902م.
(9) ـ حلمي مرزوق، تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث في مصر، 1966م.
(10) ـ حنا فاخوري، تاريخ الأدب العربي، 1953م.
(11) ـ شوقي ضيف، المقامة، 1924م.
(12) ـ طاهر الطناحي، مقدمة حديث عيسى بن هشام، 1956م.
(13) ـ علي الراعي، دراسات في الرواية المصرية، 1964م.
(14) ـ غمر الدسوقي، في الأدب العربي الحديث، 1964م.
(15) ـ محمود حامد شوكت، الفن القصصي، 1956م.