جاء تجديد الشعر العربي كفعالية حداثية واعية، انتزعت هذا الجنس الأدبي من فلك التقليد، والمقياس الفني المتعالي على التاريخ. هذا ما تحاول المقالة تناوله، في سياق فضاء ثلاثينات القرن المنصرم في تونس، ومن خلال لملمة الآراء النقدية التي تجسد محاولات الشابي لتحقيق انطلاقة شعرية مغايرة

فأس الشابي.. من أكل كبد بروميثيوس

عبدالوهّاب الملوّح

عشية 01/ 02/ 1929 خرج الأديب والكاتب زين العابدين السنوسي من محاضرة "الخيال الشعري عند العرب" "منكمش النفس واجفها"(1)، والسبب في ذلك أن أبا القاسم الشابي قام في تلك المسامرة بنقد الأدب العربي "الذي خلدت نفوسنا منذ أمد الدراسة على أنه مقدَّس وعلى أنه المثال الأعلى الذي يجب أن يرفع له ذوو الكفاءات نتائجهم في وجل"(2)، لهذا خرج زين العابدين السنوسي صاحب مجلة "العالم الأدبي" مهتم العقل أكثر مما كان منبسطاً على حد قوله.

لقد كشفت هذه المحاضرة عن وعي نقدي يهجس به صاحب إرادة الحياة، وعي هو في الأصل نتاج رؤيا إبداعية حداثيّة متجاوزة، لم تصغها الموهبة فقط، بل بقدر ما ساهمت الثقافة الجمالية في تشكيلها، وكان للعقل دوره في ترشيدها وتوجيهها، ولئن جاءت هذه المقاربة أشبه بمقاربة أنطولوجية للخيال الشعري عند العرب ومقارنته في بعض المواضع بالخيال عند ثلة من كتاب الغرب، فيمكن اعتمادها حجر الزاوية في الرؤيا النقدية التي تعامل من خلالها الشابي مع آداب عصره فصدع برأيه فيما يتم إنتاجه أدبياً وقتها.

لم يترك الشابي ضمن مدونته النثرية المتنوعة أثراً نقدياً مكتملاً، باستثناء ما جاء في هذه المحاضرة، والتي جاءت في طبعتها الأولى سنة 1929 محدودة الكمية، لكن آراءه النقدية مبثوثة في أغلب أثاره: الرسائل والمذكرات والمقالات التي نشرها بمجلات عصره، والتي تبين عن شخصية الناقد داخله، هذا الناقد الذي لا يتوقف عن رصد الجمال والحقيقة ويتصدَّى لكل ما يراه دخيلاً على الشعر والأدب عموماً. ولعله من المهم أولاً تعرف الساحة والمجال الذي كان يتحرك ويتنفس فيه الشابي وقتها: تونس الثقافيّة في أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم. في رسالة إلى الشاعر الطبيب علي الناصر وهو من أوائل من أصدروا مجموعة شعرية نثرية "سريال" بالاشتراك مع أورخان ميسّر يقول الشابي: "في تونس اليوم نهضة تجديدية لا بأس بها لكنها مستضعفة من أنصار الجمود الكثيرين" (الرسالة مؤرخة في أوت 1930).

كانت تونس أواخر الثلاثينيات تعيش حالة من التغير والتحول الاجتماعي والسياسي والثقافي، حيث برزت مجموعة من الأحزاب السياسية مستثمرة الجانب التعليمي والثقافي في برامجها لمواجهة المستعمر، برامج تنهض بالأساس على توعية الناس وتثقيفهم، وهي دينامو مشروع عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري التونسي، وظهرت مجلات وجرائد وجمعيات ثقافية تعني بالشأن الثقافي، كما برزت جمعيات مسرحية تقوم بتقديم عروض مسرحية، وكان لجماعة تحت السور دورها أيضاً حيث ساهمت بقدر كبير في تنشيط الحركة الثقافية، سواء فيما أصدره بعض أفرادها من نتاجات أدبية أو ما كتبوه من أغاني، ساعدت على ظهور الأغنية التونسية في مظهر تجديدي مختلف. وفي المقابل كان هناك أنصار الجمود ومنهم شيوخ جامع الزيتونة، وأصحاب الثقافة الكلاسيكية المتحجرة، والمثقفون أصحاب البلاط، وبالطبع الثقافة الاستعمارية التي كانت تنهض بالأساس على سياسة التجهيل والتعمية وعدم ركوب قطار الحداثة، غير أن هذا كله لم يمنع من ظهور حراك ثقافي هو مظهر من مظاهر النهضة الثقافيّة، بل هو ثورة فكرية على حد تعبير الدكتور فريد غازي، إذ يقول: "كان ذلك المجتمع الأدبي التونسي يعيش ثورة فكرية، لأن أفكاراً جديدة وأراء خارجة عن عالمه المألوف تسربت إليه. لقد كان كل شيء يسير إلى التجدد، إلى هزة عنيفة بدأت تعمل في كيان الفكر التونسي"(3).

في هذا الجو برز الشابي، تكوَّن وعاش وتحرك وكتب، والمتتبع ليومياته سيلحظ أن أهم الأماكن التي كان يتردد إليها هي: إدارة العدليّة، الجامعة الزيتونيّة، النادي الأدبي لقدماء الصادقيّة، مطبعة العرب، مجلة العالم الأدبي، البلفدير، دار الطلبة بالسليمانيّة.

هذه هي الإحداثيات التي كان يتحرك بينها، وهي دائرة لا تخرج عن الأدب، فالرجل كان يتنفس الأدب ويحياه وليس له من شاغل أخر غيره. في هذه الأماكن كان فتى الواحد والعشرين من عمره يكتب أشعاره ويومياته، يؤلف رسائله لأصحابه، وهذه الأماكن هي التي احتضنت غربته وتفجعاته وتلوعاته وشكواه من الزمن والناس، وهذه الأماكن هي التي شاهدت ميلاد آرائه النقدية الجريئة.

في يوميته بتاريخ الاثنين 20/ 01/ 1930، يتحدث الشابي عن رأي زين العابدين السنوسي في مقالته "الشعر، ماذا يجب أن نفهم منه وما هو مقياسه الصحيح"، يقول: ثم قال لي (يقصد السنوسي): إنك تريد أن تبعث المذهب الرمزي "سانبوليزم" من مرقده وهو "مذهب قضى عليه الزمن"، وهو نفس رأي أحد شعراء عصره يورده الشابي في يومية بتاريخ 07/ 01/ 1929. يقول الشاعر محدثاً الشابي: فأنت في شعرك من الشعراء الذين يدينون بالمذهب الرمزي: "سانبوليزم". أما الدكتور فريد غازي فله رأي مختلف تماماً، حيث يقول: والحقيقة أن فكرة الشابي "جبرانيّة" محضة، فالشابي أنجب تلاميذ جبران. نعم الشابي تلميذ جبران "لا أكثر ولا أقل"(4). بينما يراه الأستاذ أبو القاسم كرو وخليفة التليسي وثلة أخرى من النقاد رومنطيقي مجدد.

لئن تباينت الآراء بشان العقيدة الأدبية لصاحب إرادة الحياة، فإنما ذلك هو شأن كل شاعر كبير يبقى محلّ جدل، ولكن هذا لا يلغي أن منزعه الإبداعي مكتمل الرؤيا وهو ما سيفصح عن مفهوم واضح ومتين للشعر، ويؤكد نظرته لأساليب قول الشعر. فالشعر عند الشابي "ضرورة من ضرورات النفس"، و "جد صارم يتصل بأعمق أعماق الحياة"، وهو يتأتّى بذلك "الأسلوب الجميل والنسج الرصين والصناعة البارعة.. مع طرافة المعنى وعمق التفكير وحيوية الروح الشاعرة"(5).

أماالشاعر فهو: "ذلك الفنان الذي يكون في روحه شيء من طبع النبوة التي تبصر ما لا يبصره الناس، وتشعر بأسمى ما يشعرون، وعنصر من معنى الألوهية"(6) وفق هذه العقيدة عالج الشابي آداب عصره، وتصدى ضمن مواقف نقدية لبعض نتاجات الشعراء، وقد كان له أيضاً مفهوم خاص للنقد يورده في يومية بتاريخ: 21/ 01/ 1930. "إن رأي في الانتقاد إنه ليس شيطاناً يبث بذور الشقاق، وإنما هو ملاك يحمل سراج الحقيقة في سبيل الإنسان". ليس ثمّة اختلاف كبير بين مفهومه للشعر والنقد، فالشابي يؤمن بأن الأدب واحد إنه رسالة محملة بالقيم الإنسانية العليا يتولى الشاعر نشرها بين الناس.

من هنا بدأ الشابي يعمل بفأسه يريد أن يقتلع الجذوع، وليس الجذور كما هتف في مطلع قصيدته النبي المجهول:

أيها الشعب ليتني كنت حطاباً          فأهوي على الجذوع بفأسي

هذه الفأس التي هبطت تهشم الأصنام تحفر في أعماق الأرض الصلبة بحثاً عن ينابيع الماء الحقيقية، هذه الفأس التي ضرب بها الشابي بقوة رغم هزاله البدني فارتدت عليه أحياناً تهدم روحه وتكسر ضلوعه، خاصة وهو يتعرض لما يعتبره الآخرون مقدساً لا يطاله النقد، غير أنه لم يعبأ بأي شيء واندفع يلبي نداءات روحه المتطلعة للتجديد والمتوهجة بنور الحياة الساطع، فزعزع يقيناً ظل طاغياً أبدياً، وهز أركاناً حسبها الناس ثوابت من ذلك رأيه في الأدب العربي القديم يقول: "أن أدب مادي محض لا يعرف من عالم الخيال، إلا أضواءه الأولى وغيومه الناشئة"(7). وفي موضع آخر تصدى لأساليب القدامى في بناء قصائدهم يقول: "لكنكم واجدون من يستطيع أن ينضد لكم المجازات الزائفة والكنايات المتكلفة.. مما لا علاقة له بالروح ولا رحم بينه وبين خيال الحياة"(8). بل ذهب في مواضع أخرى لنسف أي جهد إبداعي عند بعض الشعراء القدامى يقول: "كالمصور الفوتوغرافي لا يهمه، إلا التقاط الصور والأشباح وإظهارها كما هي". وتكشف مقالاته التي صدرت في مجلات "العالم الأدبي" و "النهضة" و "الزمان" رأيه في شعراء زمنه: "أنت تسألني في هذه الطائفة التي تسميها عمداً "شعراء الاختيار"، وتريد منها تلك الفئة من النظامين التي لا تستلهم السماء ولا الأرض، ولا تستوحي الموت ولا الحياة ولكنها تستوحي الكتب والاوراق"(9).

يفرق الشاعر بين من هو نظّام للشعر، وبين من هو مسكون بالشعر حقاً، وهنا إشارة مهمة أن الشابي يعترف هنا أنه ليس بالنظم فقط يأتي الشعر، وهذه سابقة على وقته في ذلك الزمن ويذهب إلى تصنيف شعراء عصره كما يلي: "إن شعراءنا اليوم على طبقتين:

طبقة لم تكوّن لنفسها ثقافة، إلا مما يحملها إلينا الشرق من روايات ومجلات.. لا ينتظر منها أكثر من هذا الأدب الفج السخيف المهزول في روحه وأسلوبه، وطبقة كونت لنفسها ثقافة صالحة من قديم الأدب وحديثه، فكان لها الأسلوب الجميل والنسج الرصين، وقد كنا ننتظر منها طرافة المعنى ولكن لاشيء من ذلك"(10).

وربما لهذا التصور، أصدر الشابي رأيه في شعر صديقه الحليوي. حيث يقول في يومية بتاريخ: 21/ 01/ 1930. "أنني أعجب بكتابة هذا الصديق الأديب التي لا تخلو من فكرة ناضجة وأسلوب حيِّ، وان كنت لا أعجب بشعره". وكذا كان رأيه في قابادو الذي لم يكن يعتبره شاعراً مهماً، فيقول في يومية بتاريخ: 05/ 02/ 1930. "فقد كان صاحبنا يعتقد أن قابادو أشعر الشعراء جميعاً". وهو نفس رأيه في شعر المازني الذي يعتبره أضعف من العقاد، أما العقاد فقد كان الشابي يُجلُّ شعره كثيراً، وهذه من مفارقات الشابي الذوقية؟؟!.

وكان على الشابي أن يتلقى الضربات نتيجة آرائه هذه، ضربات نالت من مشاعره وأحاسيسه. ومن ذلك ما كان من ردود فعل بخصوص محاضرة "الخيال الشعري عند العرب"، حيث يذكر في يومية بتاريخ: 20/ 01/ 1930. "حتى عدَّها بعض الجهلة زندقة وكفراً".

هكذا تم تكفير الشابي لمجرد آرائه في الأدب العربي، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى تجريحه وإيلامه حيث يورد رأي أحدهم في يومية بتاريخ: 07/ 01/ 1930. "إن أمير الشعراء مثلاً لا يفهم من شعر أبي القاسم الشابي شيئاً... إنني لا أفهم من فن أبي القاسم الشابي ومراميه إلا قليلاً".

هذا ما دفع صاحب النبي المجهول أن يهتف بائساً: أحسست باليأس والقنوط يستحوذان علي وقلت في نفسي كما قال يوليوس قيصر حين لعبت به السيوف: "وحتى أنت يا بروتوس؟!" تأذى الشابي من مجايليه، وممن لم يحاولوا فهمه، وممن كانوا متحجري العقول والفكر، الذين أولموه لليأس والغربة، وزادوا من آلام قلبه. كان قد أدرك أنه سارق النار، وأنه الذي خرج في الريح يحلبها، وتسلق أشعة الشمس يملأ من لهيبها سلالا سيوزعها بين الناس، وكان أن تمت معاقبته، غير أنه بعكس الأسطورة ليس النسر من يأكل من كبده أليس هو القائل:

سأعيش رغم الداء والأعداء          كالنسر فوق القمة الشمَّاء

من الذي أكل إذا كبد بروميثيوس؟؟!

(ربيع قفصة 2009)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ زين العابدين السنوسي، تقديم الطبعة الثانية من الخيال الشعري عند العرب، الدار التونسية للنشر، 1983، ص 13.
(2) ـ نفس المرجع السابق، ص 14.
(3) ـ محمد فريد غازي، الشابي من خلال يومياته، ط2، الدار التونسية للنشر، 1987، ص 77.
(4) ـ نفس المرجع السابق، ص 49.
(5) ـ ستينية الشابي كتاب صادر عن وزارة الثقافة التونسية من مقالة بعنوان "الشعر والشاعر عندنا" للشابي ثبتها محمد الحليوي.
(6) ـ نفس المرجع السابق.
(7) ـ مرجع مذكور، الخيال الشعري...، ص 109.
(8) ـ نفس المرجع السابق ص 108.
(9) ـ لصوصية الشعر، بقلم الشابي، جريدة الزمان، س 6، 04/ 04/ 1934.
(10) ـ مرجع مذكور، ستينية الشابي... من مقالة بعنوان "الشعر والشاعر عندنا" للشابي.