رسالة فلسطين

شهداء الحرية: الذاكرة والتاريخ الشفهي

فيحاء عبدالهادي

هل يعيش شهداء الحرية (رجالاً ونساءً)، في وجدان شعوبهم؟ وكيف يعيشون؟ هل يستحقون منا وقفة لمعرفة تفاصيل حياتهم؟ كيف فكَّروا؟ علاقتهم بمحيطهم؟ وبعائلاتهم؟ وبوطنهم؟ وبالعالم الكبير؟ ما هي أحلامهم على المستوى الخاص والعام؟ هل حققوا بعضاً منها؟

أجابت رسائل عديدة، على هذا السؤال، من خلال التعليق على مقالتي المنشورة، بمناسبة ذكرى "مذبحة دير ياسين"، والتي تحدثت فيها عن الشهيدة "حياة البلابسة. "كان محور الرسائل، التي أنشر بعضها، بعد الاختصار: تثمين الحديث عن الشهيدة، وسيرة حياتها، وأهمية تحقيق وتدقيق أسماء الشهداء، حتى يأخذوا مكانهم الذي يليق بهم، في ذاكرة شعبهم. واستنكرت رسالة من هذه الرسائل الحبر الذي أريق على المقالة، في استنكار للأهمية التي نجنيها من تدقيق اسم الشهيدة.

لفتتني كثرة الرسائل التي تلقيتها في الرد على المقالة، فيما يخص توثيق مرحلة الأربعينيات، عبر منهج التاريخ الشفوي، بالمقارنة مع قلة الانتباه إلى الكتب، التي تخص المرحلة ذاتها، والتي تنطلق من المنهج عينه، ولا تلفت نظر سوى مجموعة من المختصين، ما يشير إلى أهمية وخطورة الإعلام، الذي يمكن أن يشكل منبراً للحوار حول العديد من القضايا التي تطرح في الكتب الأكاديمية، دون أن تنال حظاً من النقاش المجتمعي.

*   *   *

السيدة د. عبد الهادي، تحياتي واحترامي،

لقد قرأت ما نشرته عن الشهيدة "حياة البلبيسي"، وكان مقالاً جيداً، ولكن هناك بعض الأخطاء وردت فيه، وهو أولاً أن الشهيدة من عائلة البلبيسي، من عائلات عمان المشهورة، والتي لها اعتبارها، وهذا ليس مفاخرة، بل هو الواقع، والشهيدة من مواليد مدينة السلط بالأردن، ووالدها: الحاج سالم البلبيسي، ولها إخوان غير اشقاء من أبيها، وكذلك لها أربع أخوات، واحدة شقيقة من الأم، أحد اخويها بعد وفاة والدها هاجر لسورية بحكم عمله بالخط الحديدي الحجازي، وكوَّن فرعاً سورياً هناك، والآخر استوطن في عمان، هو وشقيقاته الثلاث بعد وفاة والدهم، وأنجب 13 ابناً، أنا واحد منهم، أي ان حياة تكون عمتي، أخت أبي غير الشقيقة، التي أخذتها والدتها للقدس بعد وفاة جدي، كونها من عائله مقدسيه عريقة (القطب)، مع شقيقتها الصغرى هيام، وذلك ليتلقوا التعليم تحت إشراف خالاتهم، وبعدها توفيت والدتهم، واستشهدت حياة، كما ذكرت بمقالك. هذه هي الحقيقة كاملة عن الشهيدة التي أفتخر بها: "حياة سالم البلبيسي". ويطلق اللقب البلابسة على جمع بلبيسي، كما يقولون: مقادسه، أو خلايلة، وهكذا.

ملاحظه: (في دفتر النفوس لدى دائرة المواليد، مسجل بجانب اسمي: كمال محمد البلابسة)، هذه الأخطاء نتيجة ما كانت تسجله القابلة الأمية بذلك الوقت، وأظن ان هذا الأمر حصل بالنسبة للشهيدة حياة. وشكراً لك ثانية على اهتمامك، ودمت بخير وعافيه".

كمال محمود سالم البلبيسي/ ليون/ فرنسا

*   *   *

مدهش. شكراً لأنك ذكرتنا باسم علم نسوي زي "حياة البلابسة"، كتير بشعر بالأسى لما بشوف الجيل الحالي، ولا هو بالدنيا ولا عارف مين حياة، ولا حتى مهتم يعرف، بس كتير بشعر بالأمل لما بقرا شي من كتاباتك. شكراً.

علاء أبو ضهير/ نابل

*   *   *

والله هذا المقال أساء إلى "حياة البلبيسي" أكثر مما أفادها. يا سيدتي، قبل الحديث من المعرفة بالتاريخ الشفوي، لا بد أن يتوفر للمرء القدرة على فن الكتابة والتحليل. التاريخ الشفوي ليس كما سردته "قالت وقالوا"، التاريخ الشفوي هو مادة لا بد من إخضاعها للتحليل. فبالنسبة لهذا المقال، لم نجد سوى شهادات مكتوبة بالعربية الدارجة، التي قد تؤدي إلى الإساءة، بدل فهم المعنى. هذا بالإضافة إلى خلو المقال من أي معنى تحليلي سوى: غيَّروا اسم "حياة البلبيسي" إلى البلابسة، لأننا اكتشفنا بأن ذلك ليس اسمها الحقيقي. شكراً جزيلاً، تغيير الاسم لا يحتاج إلى إسالة هذا القدر من الحبر، عدا أن بقاء اسم حياة كما تعرفه الناس أفضل، لأن أجيالاً عديدة عرفتها به، ولا داعي لهذا التغيير لأجل الإثبات بأننا عملنا تاريخاً شفوياً".

د. عموريا سليم

*   *   *

نحن على العهد. "نعاهدكِ ونعاهد شهداء القدس، وشهداء قرية "دير ياسين" بالذات، ألاّ ننسى، وأن نبقى أوفياء للقضية التي استشهدتم دفاعاً عنها. وسوف تبقى سيرتكِ، وسيرة شهداء الوطن كافة، بوصلة لنا، ونوراً يضيئ دربنا، حتى الحرية والاستقلال". بارك الله فيك على هذه التذكرة".

شادية نوفل/ مصر

*   *   *

تحياتي لك وشكراً، بحاجة للكثير من أمثالك، حتى نوفي هذا الشعب العظيم، برجاله ونسائه، وعلينا أن نسعى إلى التذكير الدائم، لأن هناك محاولات كثيرة لمحوه من التاريخ، فشكراً لك".

اسماعيل/ سورية

*   *   *

العزيزة فيحاء،

الحقائق والوثائق تتكلم. سوف أعود إلى ملفاتي. أنا واثقة أن اسم العائلة هو بلابسة، لكني سوف أتأكد من الوثائق الرسمية في "دار المعلمات"، ومن الصحف الرسمية القديمة. سوف أبحث عنها من خلال الأرشيف المحفوظ، بواسطة تقنية (المايكرو فيلم). سوف أتفحص الصحف الرسمية بعد أسبوع من "مذبحة دير ياسين". سوف أتأكد كيف كتب النعي في الصحف، في تلك الفترة التاريخية. سوف أكتب لك بعد البحث الدقيق.

كمؤرخة، لن أوافق إلاّ على ما تثبته السجلات والوثائق. بخصوص من أبدى أسفه لإسالة الحبر: عموريا، لن أجيبه على رسالته، لأن رسالته أساءت إلى الشهيدة، التي نعتز بها جميعاً. مع حبي".

د. بيان نويهض الحوت/ بيروت

*   *   *

سعدت إذ فتحت المقالة باباً واسعاً للنقاش، ليس حول أهمية تدقيق أسماء الشهداء والشهيدات فحسب، بل حول أهمية التاريخ الشفوي كمنهج بحث يعنى بدراسة الماضي، من خلال الكلمة المحكية، المحفوظة في الذاكرة، والمنقولة شفاهياً.

وبالنسبة للشهيدة "حياة البلابسة"، استمعت إلى روايات شهود العيان، ممن عاصروا الشهيدة، وقارنت الروايات بعضها ببعض، مما يوجبه اتباع منهج التاريخ الشفوي. أما بالنسبة للهجة المحكية، فأعتقد، كما يعتقد الكثيرون من المختصين في التاريخ الشفوي، أنها تضفي مصداقية على الرواية الشفوية.

كما أن المقالة بالإضافة إلى تصحيح اسم الشهيدة، وقفت لدى صفاتها الإنسانية، وهي قيمة ضرورية، كما أرى، حتى لا يتحوَّل الشهداء أرقاماً.

ظاهرة فلسطينية 

حياة البلابسة :شهيدة المكان والزمان 
ترحب هنا باستضافة مقالة الصديقة بيان نويهض الحوت، الكاتبة والمؤرخة، بعنوان: "حياة البلابسة: شهيدة المكان والزمان"، واضعة النقاط على الحروف، فيما يخص الاسم والسيرة والمكانة:

"المكان فلسطين. والزمان عام النكبة.

وحياة البلابسة، تلك الفتاة الباسمة دوماً.. والممتلئة حيويةً ونشاطاً، كانت زهرةَ نيسان، ووردةَ دير ياسين، وتُعرف في القرية الوادعة، بلقب "معلمة المدرسة"، وأهل القرية ينادونها كلما عادت من القدس: "يا ست حياة، افتقدنالك، يا ميت أهلا وسهلا.." ومنذ كانت المجزرة، باتت معلمة المدرسة، تعرف بـ "شهيدة دير ياسين".

وطغت حكاية استشهادها على حياتها، فاستشهادُها أضحى حياتها، وكل ما عرفناه عنها، فلم يتوقف الباحثون طويلاً إزاء تلك الشخصية النادرة، المحبة والمعطاء والحنون، تلك الفتاة التي طغى فيها الرمز على الإنسان، وما أروعها كانت من إنسان!.

والإنسان، أي إنسان، له كيان واسم وعنوان، وعنوان شهيدتنا حتى التاسع من نيسان، سنة 1948: "مدرسة إناث دير ياسين ـ دير ياسين ـ فلسطين"، عنوانٌ لا خلاف عليه، مهما غيّر الإسرائيليون من معالم القرية، ومهما حاولوا أن يمحوا بيوتها وشوارعها وأهلها من ذاكرتنا، غير أنه من غير الجائز ولا المسموح به أن تتعرض الشهيدة حياة نفسها لسيل من الأقوال حول اسم عائلتها، حتى من قبل ذويها. أهي من البلابسة أم البلبيسي؟.

صحيح إن الاسم مسألة تبدو ثانوية إزاء جوهر الإنسان، لكن أحداً لا يرضى بأن يتعرض اسمه لعامل الشك. والطريق لمعرفة الحقيقة ـ في هذه المسألة ـ طريقان متكاملان، الطريق الأول في اتباع النهج التأريخي المعروف، فماذا قال المؤرخون والكتّاب الموثوق بهم؟ وماذا تقول الوثائق؟ والطريق الثاني طريق التأريخ الشفهي، بالتوقف عند تاريخ فلسطين في عام النكبة، والمرور بكلية دار المعلمات في القدس، وبالمدرسة الابتدائية للإناث في دير ياسين، وبقرع أبواب الذين عرفوها عن كثب، من معلمات وصديقات، وسؤالهم عن اسمها يوم عرفوها، ويوم استشهدت.

أكتفي بين الكتب الصادرة عن دير ياسين بمرجعين، أولهما كتاب شيخ المؤرخين الفلسطينيين المعاصرين وليد الخالدي: "دير ياسين: الجمعة، 9/ 4/ 1948"، وقد صدر سنة (1999)، وفيه روى الخالدي ما قالته تلميذتها سكينة، ابنة عزيزة اسماعيل عطية، والتي كانت يومذاك في الصف الثاني الابتدائي، فالسيدة سكينة تقول عنها إنها المعلمة حياة البلابسة، وإنها كانت تأتي من القدس يومياً قبل إقفال الطريق الرئيسية، لكنها بعد ذلك أصبحت تنام في دير ياسين وتزور أهلها بين الحين والآخر عن طريق عين كارم الوعر. وكانت آخر لحظات شاهدتها فيها يوم المجزرة، فتروي أن المعلمة كانت تساعد النساء على الهروب، وهي ترتدي ثوب نومٍ أصفر اللون (ص 78). ويضيف داود زيدان إن المعلمة رفضت الهروب إلى عين كارم، وقالت له: "كيف أترك الناس يموتون وأهرب. أتمنى أن أقتل هنا". وأشارت بإصبعها إلى جبينها وعادت إلى القرية. ويكتمل مشهد الاستشهاد بشهادة أم عيد، زوجة محمد مصطفى عيد، فهي التي رأت المعلمة المسعفة أمام منزل عيسى أحمد عليا، تحاول إسعافه وهي راكعة إلى جانبه، غير أن الرصاص الذي انهمر من حولها أصابتها منه رصاصة في جبينها، فسقطت فوق الجريح، وكلاهما فارق الحياة. (ص 79).

المرجع الثاني يحتوي على مجموعة مقالات بالإنكليزية: "لنتذكر دير ياسين: مستقبل إسرائيل وفلسطين"، تحرير دانييل ماك غون ومارك إليس (1998)، ونتوقف عند مقال الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي بعنوان: "نهاية البراءة"، وسلمى صاحبة مؤسسة بروتا للترجمة ـ الأكثر شهرة في الأوساط العالمية للتعريف بالفكر العربي ـ تكتب هذا المقال بالذات بصفتها معلمة الأدب العربي في كلية دار المعلمات بالقدس، يوم كانت حياة البلابسة التلميذة المفضلة لديها، وهي تكتب بروحها وذكرياتها وإنسانيتها، وليس في استطاعة أحد أن يكتب عن "حياة البلابسة" ما لم يقرأ مقال معلمتها عنها، فيعرف كيف تحولت الفتاة الوادعة الخجول إلى صاحبة الشخصية الجريئة والقوية المعطاءة (ص25 ـ 34).

أنا لا أنسى يوماً بارداً قليلاً من أيام سنة 1946، عندما رن التليفون في بيتنا في القدس، وإذ بوالدي يخبرني أن سلمى ابنة خالتي، ستأتي لزيارتنا بعد قليل مع إحدى تلميذاتها، وطلب مني أن أفتح للضيفة غرفة مكتبته، فهي تريد استعارة بعض الكتب. ووالدي كان دائم الثقة بي على الرغم من صغر سني، وقد كنت معتادة على أن آتي له بما يحتاج إليه من رفوف مكتبته.

عرّفتني سلمى على تلميذتها: "حياة البلابسة". وقالت لي إنها تعدّ حديثاً للإذاعة. وغادرتنا سلمى، وبقيتُ مع الضيفة التي تزورنا أول مرة، وتتصرف كواحدة من أهل البيت. ما قامت مرة لتأتي بكتاب ما إلا وسألتني عن مدرستي أو مطالعاتي. الابتسامة لم تفارق شفتيها وهي تحدثني، حتى عيناها كانتا تضحكان، ما أجملهما، وكان شعرها أميل إلى الطول، ومجعداً قليلاً، وقد أبعدته عن وجهها بشريط زاهي اللون. كم تمنيت من أعماقي أن أصبح مثلها عندما أكبر.. أن أكتب، وأنشر، وأذيع الأحاديث على الراديو.

كبرتُ أنا، غير أن حياة البلابسة لم تكبر. استشهدت في أوج العمر والعطاء. وبقيتْ بالنسبة لي مَثَلاً أعلى.

آه. كان هناك سؤال في البداية؟ هل أجبت عليه؟

نعم. فالاسم المعتمد هو ما عُرفت به في القدس، وفي دير ياسين، وفي كلية دار المعلمات، وفي سجلات إدارة المعارف يوم عُينت معلمة، وفي نعيها الرسمي يوم استشهدت.

نعت إدارة المعارف الحكومية باسم الأستاذ أحمد الخليفة، مفتش معارف لواء القدس، الشهيدة حياة البلابسة، فنقرأ في جريدة فلسطين، عدد الأحد، الموافق 11 نيسان 1948، في الصفحة الثالثة خبراً مستقلاً بعنوان: "إدارة المعارف تنعي معلمة شهيدة"، وفي النص يرد اسم شهيدة دير ياسين كما هو في سجلات إدارة المعارف: "حياة البلابسة".

وهكذا، في أسبوع واحد، بينما كانت القدس تودع شهيدها القائد الكبير عبد القادر الحسيني، كانت دير ياسين تبحث عن ضحاياها لتودعهم...

لم تجِدْ دير ياسين كل ضحاياها..
لم تدفن دير ياسين كل ضحاياها..

غير أن فلسطين وجدتهم.. ففي أعماق القلوب هم.. وفي سجلات الشهداء هم.. ونحن نحيا على أمل اللقاء بهم.. وبإخوانهم من الشهداء الأبرار".

د. بيان نويهض الحوت 

بانتظار المزيد من المعلومات والتوثيق العلمي.  

faihaab@gmail.com
www.faihaab.org